مسؤولية الإنسان عن وجهته في الحياة من خلال القرآن الكريم
عبد السلام محمد الأحمر
مقدمة ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية توفير عدة وجهات متباينة، ونصبها رهن حركة الإنسان في الزمان والمكان، وعند كل منعطف من منعطفات الحياة الكثيرة، وكل هذه الوجهات اختيارية، ونفس الإنسان هي وحدها من تقرر أين تتجه، دون أي إكراه أو إلزام، حتى تكون هي التي تلتزم عن رغبة ومسؤولية، لأنها مكافأة على الاختيار الصحيح ومعاقبة على الاختيار الخطأ. ولا يمكن تناول قضية الوجهة الإنسانية، المؤطرة بتحمل الإنسان لأمانة الاستخلاف، بعيدا عن مسؤولية كل إنسان عن وجهته في هذه الحياة، مما يهون من شأن مهمة اختيار الوجهة، ويقصر نتائجها على ما يمكن أن يحصله الناس من مكاسب مادية عاجلة، ومتع دنيوية عابرة، بذريعة أنها النتيجة الوحيدة التي يمكن قياس مدى تحققها في عالم الأرض. أولا: معنى الوجهة من منظور استخلاف الإنسان في الأرض 1) مفهوم الوجهة استعمل لفظ الوجهة ابتداء للدلالة على اتجاه مكاني، جاء في المعجم الوسيط (الوجهة) الْجَانِب والناحية والموضع الَّذِي تتَوَجَّه إِلَيْهِ وتقصده وكل مَكَان استقبلته والقبل وَشبههَا ووجهة الْأَمر وَجهه”[1] وفي معجم اللغة العربية المعاصرة، وُجْهَة ووِجْهَة، مَوضِعٌ تقصُدُه، كلُّ مكان استقبلته كالقبلة ونحوها “كانت وِجْهته مكَّة المكرَّمة- وفي القرآن الكريم، “وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا”. ووجهة الأمر: وجْهُه “قدّم وِجْهة نظره- يتبنّى وِجْهة نظر” ضلَّ وجهةَ أمره: لم يهتدِ إلى مقصده- وجهة نظر: رأي، طريقة تصوّر الأمور والنَّظر إليها لإبداء الرَّأي فيها.[2] ويقصد بالوجهة التصور الشمولي لحقيقة الحياة ودور الإنسان فيها، وهو ما يعني أيضا وجود محاولة لتقديم تفسيرات منسجمة مع هذا التصور، الذي ينشأ عن توجيهات الوحي أو اجتهادات العقل البشري. إذ تتميز الحياة بقدرتها على استيعاب أفهام الناس المتضاربة في نظرتهم لقضايا الوجود الإنساني على الأرض، ومشاكله الحارقة والمثيرة للجدل والاختلاف. فهي إذن وجهة للروح، الموجهة بدورها للجسد، والمحركة له في اتجاه مختار من لدنها، ومفضل عندها على ما يشبهه أو يختلف معه، من الاتجاهات الأخرى التي يسلكها أناس آخرون. فكل وجهة تتشكل في ظل مرجعيتها المحددة، التي تستمد منها مبرر وجودها ومقومات فاعليتها، بحيث كلما ازداد الإيمان بالمرجعية ترسخت الوجهة، وارتفع الاقتناع باتباعها. ومن هذا المنطلق يناسب اعتماد المفهوم العام للوجهة، باعتبارها منظومة فكرية تروم تقديم مقاربات معينة لإشكالات الإنسان تجاه معضلات الوجود. 2) تبين الوجهة مسؤولية استخلافية يمكن تأطير قضية الوجهة، باعتبار أن الغاية من استخلاف الله للإنسان على الأرض، هي ممارسة ما منحه من الحرية، التي يختار بها وجهته في الحياة ويتحمل مسؤولية اختياره في الدنيا والآخرة، إيمانا به تعالى واتباعا لدينه، أو كفرا به وإعراضا عنه. قال تعالى:{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38،39]. فالنهاية التي تتوقف عندها وجهة الإنسان الخليفة، بعد خوض غمار الابتلاء في الحياة الدنيا، باتخاذ وجهة موجهة لحركته على الأرض، هي المثول بين يدي الله المستخلف للحساب الشديد، المفضي إلى أحد المصيرين إما نعيم الجنان أو عذاب النيران. وتوعية بني آدم بهذه الحقيقة هو لب الوحي، الذي كلف الله رسله عليهم السلام بتبليغه لأقوامهم، حتى يعرفوا إلى أية وجهة يتوجهون، في مشاعب الحياة، ويتحمل كل شخص مسؤولية اختيار وجهته التي لا تخرج عن كونها اتباعا لدين الله أو جحودا له وتنكبا لهديه، كما تكون وجهة من لم يتصلوا بخبر السماء، إما اهتداء بتوجيهات الفطرة والعقل أو مخالفة لمقـتضياتها وأحكامها، وهذه الفئة الأخيرة غالبا ما لا تتجاوز وجهتها حدود الموت ومواراة التراب. ويمكن حصر محددات الوجهة في العوامل التالية: 1ـ الفطرة فقد فطر الله الإنسان على التوق إلى معرفته وعبادته، وأكد القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، وقد اختلف في معنى الفطرة، فقال ابن جزي: “والمراد به (أي الدين) دين الإسلام، لأن الله خلق الخلق عليه، إذ هو الذي تقتضيه عقولهم السليمة، وإنما كفر من كفر لعارض أخرجه عن أصل فطرته… ومعنى أن الله لا يبدلها أي: لا يخلق الناس على غيرها ولكن يبدلها شياطين الإنس والجن بعد الخلقة الأولى”[3]، ودليل من فسروا الفطرة بالإسلام هو حديث: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”[4] حيث قال جماعة من العلماء وأهل اللغة: الفطرة فى هذا الحديث: الخلقة التى خلق عليها المولود، أي خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة[5]، وقد يعترض على فطرية الإسلام في النفوس، بتوافر الكفر والإلحاد في الواقع البشري إلى جانب الإيمان بالله وتوحيده، الأمر الذي يدفع نحو اعتبار الفطرة هي قابلية النفس للتفاعل مع مختلف أدلة الوحي، بالتقبل والتسليم كما بالرفض والاعتراض. لكن مما يدعم اتجاه غلبة قابلية الإيمان في الفطرة، ما ورد في الحديث القدسي، من قول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم.. وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم الذي أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا..”[6] وهو ما يعني بأن القلوب كلها مفطورة على الإقرار بوجود الله، أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بإله غيره. ويسند هذا الفهم أن كلمة الحنيف في أصلها اللغوي تعني المائل، كما أن المسلم الذى يتحنف عن الأديان، أى يميل عنها إلى الدين الحق.. والحنيف فى الإسلام: هو الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه[7]. يمكن إذن القول بأن بني آدم يخلقون موجهين بالفطرة، إلى الإيمان بالله والإسلام له، والتسليم بحقائق الدين وارتضائه وجهة لهم في الحياة، دون أن تفرض الفطرة ذلك عليهم، وتفقدهم حريتهم في اختيار غيره. لهذا خاطب الله رسوله ومن خلاله كل المؤمنين، بأن يقيموا وجوههم للدين حنيفا، فيميلوا عن كل الديانات والمذاهب الأرضية إلى الإسلام المنزل عليهم، لأنهم جميعا يخلقون دون تبديل أو تغيير لفطرهم المائلة خلقة لمعانقة الحق متى لاحت أمامها علائمه، وتضافرت دلائله. 2ـ التفكر في آيات الله في الأنفس والآفاق يقود التفكر في النظام الذي يحكم النفس البشرية، وكل الكائنات التي يبلغها علم الإنسان وإدراكه، إلى الإيمان الجازم بأن وراء هذا النظام البارع الدقيق خالق واحد لا ثاني معه، قادر عليم حكيم. وهذه الآيات الباهرة الشاخصة في ذات كل إنسان، والمنتشرة في البيئة الطبيعية المحيطة، لا تملك وحدها حسم وجهة إيمانية عامة، لكل من يلاحظها ويقف على بعض صور الإتقان والإعجاز فيها، بل قد تؤولها النفس الجاحدة في اتجاه أزلية الكون ونفي حدوثه، أو ترجع ما تكتشفه من دقة الصنع إلى فعل الطبيعة، أو أي تفسير آخر لا إيماني. {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]. ولذلك فإن غاية ما يتحقق لمن يطيل النظر فيها، هو تهيؤ النفس وتوجهها لقبول خبر الوحي عن الله وعن دور الإنسان في الحياة، وحقيقة الدنيا والمصير الذي ينتج عنها بعد الموت. وقد يتوصل الباحث في مختبره إلى حقيقة وجود الله، واتساع قدرته وعلمه، لكن طريقة بحثه لن تفلح في جعله يحرر إجابات علمية صحيحة لما يطرحه من تساؤلات، وما يتبلور في ذهنه من إشكالات، فيظل مفتقرا إلى توجيهات الوحي، التي تمكنه من استثمار مناهج بحثه المادية المحضة، لتصديق مضمون الوحي والالتزام بهديه. لذا فإن التفكر في آيات الأنفس والآفاق، غالبا ما يدفع النفس لقطع خطوات نحو الوجهة الإيمانية، فبذلك تشهد نصوص القرآن العديدة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]،{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. فالاستدلال بالآيات المنشورة على صحة وجهة الدين، يعد بالأساس مسؤولية النفس، التي إذا ضعفت إرادتها، أو انعدمت رغبتها في طلب المعرفة بخالق الكون والكائنات، استغرقتها الغفلة عن تلك الآيات، وعشي بصرها عن توجيهاتها البينة وإشاراتها الواضحة، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]. فالإنسان لا يتمكن من بناء الوجهة المحققة للسعادة في الدنيا والآخرة، إلا بحسن الاعتبار والنظر في كتاب الله المنشور، الذي هو الكون في كل امتداداته، وبعميق الفهم والتدبر في كتابه المسطور، وهو القرآن بكلماته المعدودات، كما أن كلا منهما يوجه النفس للاستفادة من آيات الآخر، والتوليف بين جميعها، لترسم وجهة الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي. 3ـ العلم كل علم صحيح سواء كان وحيا منزلا، أو معرفة عقلية مؤسسة على النظر والتجربة، فإنها تسهم بقدر معين في تسديد وجهة الإنسان نحو الله ونهجه القويم، وتتوفر في ذات الآن على قابلية استخدام النفس لها في إنكار الغيب وتكذيب الرسالات السماوية، بحيث لا يمكن للعلم أن يفرض حقائق الإيمان على النفس وهي كارهة، وإنما يأخذ تأثيرها في النفس اتجاه الوجهة، التي تختار تعزيزها وترسيخها، من خلال المعلومات المتاحة نقلا وعقلا. وأكثر ما تعظم مسؤولية النفس، في تحديد وجهتها بكامل الحرية في مجال المعارف، التي لا تتقيد بالتجربة المخبرية، “الذي يشمل المعتقدات الغيبية بشكل أساسي، وما يطلق فيه العنان للخيال والأذواق والمشاعر والظنون والأهواء، من الإبداعات الفلسفية والأدبية والفنية، والتاريخ والسياسة والاجتماع، وكل ما يستعصي على التجربة العلمية وما يدور في فلكه من دراسات وأبحاث، وما ينسج في إطاره من نظريات ورؤى وتصورات، بحيث يتسع مجال الحرية أمام النفس في إثبات ما يساير مبادئها واختياراتها في رحاب الحياة، ونفي ما يتعارض معها، ويكون مستندها في كل ذلك إرادتها الطليقة، التي تقبل بها وترفض، دون أن تستطيع هذه المعارف أن تمارس عليها سلطانا حاسما، يحول بين النفس والانحياز لتوجهها الثابت أو الطارئ، من فهوم وإدراكات وأفكار تعد شخصية بامتياز”[8]. بل إن اعتماد نتائج العلم الديني أو الدنيوي منفردين ومجتمعين، إنما يسمح برسم وجهة شمولية يغلب فيها توجه بارز، على غيره من التوجهات الأخرى الممكنة، إذ ما من توجه إنساني في تصور الحياة وغايتها، إلا يقابله توجه أو توجهات متعارضة معه، يكون لها دور فعال في تمحيص الوجهة المختارة وتأكيد الميل إليها على الدوام، فعندما يتجه الإنسان مثلا صوب الإيمان ويجعل منه وجهته المحسومة، تواجهه شبهات الكفر والعصيان، التي من شأنها زحزحته كليا أو جزئيا عن وجهته، بحيث تتعزز على امتداد الممارسة الإيمانية اعتقادا وعبادة وأخلاقا، مسؤوليته عن تثبيت وجهة الإيمان والاستمرار على نهجه. فقد اقتضت حكمة الله تعالى، أن تكون منظومة الكفر المحتوية على شياطين الجن والإنس، والشهوات الممنوعة والشبهات والأهواء، وأنواع الباطل والمحرمات وكل الانحرافات الاعتقادية والسلوكية.. مواجهة لمنظومة الإيمان، المشتملة على الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله وكتبه، وعلى الفطرة والهداية والاستقامة والصلاح، وكل القربات والطاعات والاعتقادات الصحيحة والعبادات والأخلاق الفاضلة، وكل الفرائض والسنن والمنهيات الشرعية، بحيث تتدافع مكونات المنظومتين في النفس البشرية وتتمخض عنها وجهة بحسب ما يغلب عليها من عناصر الانقياد لأوامر الشرع واجتناب منهياته، أو عكس ذلك تماما. فالسالك لوجهة الإيمان غالبا ما يجمع في سلوكه أعمالا صالحة وسيئة، فيسمى مصلحا أو مسيئا حسب الأعمال الغالبة في ممارسته، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]. وتتحدد وجهة المكلف يوم الحساب تبعا لما يرجح كفته من حسناته وسيئاته، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8-9]. وتبيينا لوجهة الإيمان، يتحدث القرآن غالبا عن أوصاف المؤمنين، الجامعة بين فعل المأمورات واجبات ومندوبات، واجتناب المنهيات محرمات ومكروهات، فيصفهم بحب الله ورسوله، وفعلهم للصالحات والمكارم الأخلاقية، المشكلة لحقيقة الإيمان، ويقرنها بذكر أوصاف مكملة لحقيقة الإيمان، والتي إذا لم تتحقق في المؤمن زاغ وانحرف عن وجهة الإيمان، مثل بغض الشيطان وأوليائه، والاجتهاد في ترك الأعمال المنكرة، والقبائح والمفاسد والآثام، التي تمثل الوجهة المعاكسة تماما لوجهة الإيمان وملته. يقول تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11]. 4ـ التوبة إذا كان المؤمن الخطاء بطبعه، عاجزا عن إدراك تمام الإيمان، وأعلى درجات اليقين والإحسان، كما يحصل له أحيانا أن يتدنى إيمانه ويضعف يقينه، ويشوب سلوكه بعض التقصير، ويقع منه زلل وإفراط وتفريط المذمومين شرعا، وغير ذلك مما يعد مخالفا بقدر معين لوجهة الإسلام، التي ارتضاها وانخرط فيها بصدق وإخلاص، وجاهد نفسه قدر المستطاع على التزامها، فإن الشرط في صحة وجهته، هو استفراغ الطاقة في السير على نهجها، وألا يألو جهدا في استباق الخيرات، والاعتزاز بالانتماء للدين الحق، وعدم ابتغاء بديل عنه، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. وتعد الإنابة إلى الله والتوبة بعد الخطايا، من أنفع الوسائل في تصحيح السير على الوجهة الإسلامية، وانقاذ النفس من الاسترسال في الزيغ عنها، بالتهاون في العزائم وتضييع الواجبات، ومقارفة الكبائر والمحظورات. فالتوبة سلوك إيماني متواصل لتصحيح الوجهة، وإرجاعها إلى منهجها واتجاهها القويم حينا بعد حين. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:17- 18]، وفي الحديث: “إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، وأتوب إليه”[9]. والتوبة لا تتم وتكون مقبولة عند الله، وماحية للذنوب ومطهرة للنفس من أدرانها ورجسها، حتى يستشعر الخاطئ مسؤوليته الكاملة عما اقترف من آثام، ويلوم نفسه عن تقصيرها في حق الطاعة الواجبة لله سبحانه. فلو ارتكب الإنسان كثيرا من المعاصي، وسدر في العماية طول عمره، ثم تاب توبة نصوحا في آخر عهده بالدنيا، لردته توبته إلى وجهة الاستقامة والانقياد التام لشرع الله وهديه، ولوجد أن مغفرة الله أوسع من ذنوبه مهما عظمت في عينه. وخير شاهد على مكانة التوبة في الحفاظ على الوجهة وتقويم انضباط المكلف بها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له”[10]. فوجهة الإسلام تستوعب أخطاء السالك، وتسمح له بتصحيحها كلما استشعر مسؤوليته عن زيغه وضلاله، وبادر بالتوبة الصادقة، التي ترتقي به أعلى درجات الهداية والصلاح. يقول ابن تيمية: “وليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة”[11] فإذا استطاع الإنسان أن يتدارك انحراف نفسه عن التزام مسار الوجهة الإيمانية، بالتراجع عن أخطائه وضلالاته وتفريطه وتقصيره قبل الغرغرة، فإن استشعاره لفداحة الجرم في حق نفسه واستهانته بحق الله عليه، وأنه وحده المسؤول عما جناه وواقعه من مخالفات لمراد الله تعالى، قمين برد وجهته إلى الله وإدخاله في سلك المغفور لهم، الناجين من عقاب ما عملوه من خطايا قبل التوبة. فعن معاذ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة “[12] قال المهلب: “لا خلاف بين أئمة المسلمين أنه من قال: لا إله إلا الله، ومات عليها أنه لابد له من الجنة، ولكن بعد الفصل بين العباد ورد المظالم إلى أهلها”[13]. وهذه الأحاديث كلها سردها مسلم رحمه الله في كتابه فحكى عن جماعة من السلف رحمهم الله منهم بن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي، وقال بعضهم هي مجملة تحتاج إلى شرح ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها، وهذا قول الحسن البصري، وقيل إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك.[14] ثانيا: الوجهة باعتبارها نتيجة تفاعل التوجيه الإلهي مع الإرادة الإنسانية. 1) الوجهة الإنسانية بين التسيير والتخيير لا يخرج حال الإنسان عن وجهتين تسييرية وتخييرية، فأما الوجهة التسييرية فهي التي ألزمه الله بها وقهره عليها، وجرده من حرية تغييرها، مثل إخراجه من العدم إلى الوجود آدميا وليس حيوانا أو نباتا أو جمادا، وخلقه في صورة وجنس معينين وبقدرات وخصائص نفسية وجسمية محددة، وفي زمن ومكان ومن والدين لم يتخير شيئا من كل ذلك. وتحديد الأجل والرزق قبل الولادة، فلا يملك فيهما زيادة ولا نقصانا، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تستبطئوا الرزق، فإنه لن يموت العبد حتى يبلغَه آخرُ رزق هو له، فأجمُلوا في الطلب: أخذ الحلال وترك الحرام”[15]. فما يدخل في دائرة الوجهة التسييرية، يلزم الإنسان أن يجيد استثماره في إحسان الاختيار، واستخدامه في بناء وجهته التخييرية، المحصورة داخل دائرة الاستخلاف في الأرض، وتحمل مسؤولية التكليف بإقامة الدين في النفس والحياة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. فأول ما يلزمه هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والتسليم بما قدره الله عليه خيرا وشرا، فيحسن الظن بالله، ويتلقى قضاء الله فيه وفي الحياة من حوله بالرضى التام، ويترك التسخط والاعتراض فيما خفيت عليه حكمة الله فيه، ويسخر ما حكم به قدر الله عليه في الاحتكام إلى أحكام شرعه، والامتثال لأوامره ونواهيه، وجعل وجهته هي الإقرار بالعبودية الكاملة لله وعبادته مخلصا له الدين، وابتغاء لرضاه والفوز بنعيم الآخرة. إن الوجهة التخييرية المتاحة أمام البشر، تقتضي منهم تحمل مسؤولية الاختيار بين التعرف على الله ودينه، والسير على نهج الإيمان والعمل بهديه، أو اختيار عدم الإيمان بالله وبدينه، واعتماد غيره من المناهج البشرية الأخرى. فالله تعالى لما حكم بجعل الإنسان خليفة عنه، ومسؤولا عن الوجهة التي يختارها منهجا عاما لحركته على الأرض، خلق فيه قابلية التوجه إلى إحدى الوجهتين: وجهة الإيمان بالله التي يرتبط فيها بخالقه، يعبده ويستعين به لهدايته وإحراز خيري الدنيا والآخرة، ووجهة رفض الإيمان بالله وحصر مصدر المعرفة والتوجيه في نتائج المجهود العقلي والخبرات الأرضية المختلفة، فقال سبحانه:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10]،{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2-3]. وانطلاقا من إرجاع توجهات البشر على الأرض إلى وجهتي اتباع نهج الوحي أو الاستغناء عنه باتباع نهج العقل وحده، يمكن اعتبار أن “استخلاف الله للإنسان محصور داخل دائرة حريته، التي سمح له الخالق الحكيم أن يختار بها ما يشاء، ويأتي ضمنها بالأسباب المقدورة له، والتي لا تعدو في حقيقة الأمر كونها تأكيدا للاختيار المعبر عنه، إذ يتولى الله تعالى تيسير فعل الإنسان لتلك الأسباب، ويسخرها له حتى تفضي إلى نتائجها المعلومة”[16]، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:4-10]. فعندما يقرر الإنسان بمحض إرادته وفي إطار مسؤوليته الاستخلافية، أن يختار الوجهة المؤطرة بالنقل، أو تلك المؤطرة بالعقل، فإن الله تعالى يقبل منه ممارسة حريته، وييسر له تحمل مسؤولية التوجه إلى الوجهة المختارة. 2) توجيه الله للسالكين لوجهة الآخرة كل إنسان آمن بالله وعزم على سلوك دينه، ووضع نصب عينيه نيل النجاة من عذاب جهنم والظفر بنعيم الجنة، ثم اتبع منهج الشرع في تزكية نفسه، والإصلاح في الأرض على أساس ما نقله الرسل عليهم السلام، وما بلغوه لأقوامهم بالقول والعمل، فإن الله يبارك له توجهه وييسر له انتهاج دينه ما واصل مجاهدة نفسه على الالتزام بتقوى الله، والوفاء بأداء أوامره واجتناب نواهيه. فقد أخبر الله بأنه مع المؤمنين به، ينير سبيلهم في ظلمات الحياة، وييسر لهم أسباب الهداية والفلاح، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9]، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16]، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة:257]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وبناء على كون الهداية من فعل الله الذي يمنحها لمن أخلص القصد في طلبها، وخطا خطوات أولى على دربها، فإن المؤمن يسأل الله الهداية لصراطه المستقيم، في صلواته المفروضة والمسنونة وهو يقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 5-7]، فالاستقامة على الوجهة قدر الوسع، وملازمة الضراعة بالدعاء الخالص لله للثبات عليها، محقق لعون الله وتوفيقه وهدايته، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. ومن تبصير الله للمسلم أنه يرفع وعيه بثقل المسؤولية التي يتحملها في سبيل الاهتداء بتوجيهات الدين الحق، وصون إيمانه من التراجع والفتور، ويجعله كيسا فطنا يعلم جيدا بأن الله إذا وكله لحوله وقوته فإنه سينحرف ويزيغ عن وجهة الله، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148]. قال ابن عطية: “المعنى: لكل صاحب ملة وجهة هو موليها نفسه”. إلى أن قال: ” ثم أمر تعالى عباده باستباق الخيرات والبدار إلى سبيل النجاة، ثم وعظهم بذكر الحشر موعظة تتضمن وعيداً وتحذيراً”[17]، فكلما لزم المكلف فعل الطاعات والمسارعة إلى الخيرات، وسكن نفسه الحذر من المحاسبة على التفريط في الاستقامة على الوجهة، كان ذلك خير ضمانة للحفاظ عليها، والفوز في نهايتها برضا مولاه والخلود في جنته. فالسالك لطريق الآخرة بعزم وحزم يتحرك في وجهته تحت توجيه الله ومراقبته ورعايته، فيُثبِت الإيمان في قلبه ويعينه على فعل الصالحات ويزينها في قلبه، ويبغض له المعاصي ويحميه من الوقوع فيها، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7-8]. ثم إن الله يمحص إيمان المؤمنين، فيختبرهم مرة بعد أخرى، ليعلم الصادقين في الاستقامة على وجهة الله والدار الآخرة ويعلم الكاذبين، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3]، وتكون ابتلاءات الله للمؤمنين حسب درجة إيمانهم أفرادا وجماعة، ولوكان أحد يُقبل إيمانه دون ابتلاء لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار، الذين لاتخفى تضحياتهم في سبيل إقامة الدين ونشره بين الأنام، ومع ذلك خاطبهم الله تعالى ومن خلالهم جميع المؤمنين بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214]، فالمسؤولية الإنسانية على طريق الوجهة، تبلغ أوجها عندما تأخذ صورة الابتلاءات الشديدة، التي يرتقي بها السالك على درب الإيمان، إذا صبر واحتسب واستنار بنور العلم بالله، وأدرك طبيعة السير إليه، وفهم حكمة الله في اختبار أحوال عباده، واستقبل معاملة الله له بالرضا والتسليم، ولم يضق صدره بها أو يهتز يقينه في حسن العاقبة دنيا وأخرى. أما إذا ضعفت نفسه أمام الفتن، وتسرب إلى نفسه الشك في صواب وجهة الإيمان بعد سيره فيها من قبل، فإنه يرتد على أعقابه خاسرا منتكسا. {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:22-25]. فالفتن تكشف صدق أهل الآخرة، ومدى حرصهم على الاستمرار في وجهة الإيمان، ومدى استعدادهم للتضحية بكل غال ونفيس في سبيل ملازمتها والحياة في إطارها، وعندئذ يصمد أصحاب اليقين في وعد الله للمحسنين، أمام محك الامتحانات والابتلاءات، ويتراجع ضعيفو الإيمان بالله وينقلبون على أعقابهم خائبين. 3) توجيه الله للسالكين لوجهة الدنيا ينقسم أهل الدنيا إلى فئتين تختلفان في نوع الحركة والمنهج، وتتفقان في الغاية النهائية من سعيهما وهي تعلق الهمة بابتغاء الحياة الدنيا. 1ـ المنكرون للوحي وهذه الفئة تعتمد في بناء معتقداتها ومختلف تصوراتها لحقيقة الإنسان والحياة، على العقل وما راكمه استخدامه من تجارب ومعارف وخبرات عملية، والتي مهما بلغت من الاتساع والتطور فإنها تظل عاجزة عن اقتحام مجال الغيب، الذي لا تُعلم حقائقه إلا من طريق الوحي، ولقد وصف الله حال هذه الفئة بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6-7]، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]. فهؤلاء غالبا ما تكون إراداتهم المسبقة، وإصرارهم على رفض الوحي، محددا أساسيا لمواقفهم بعد ذلك من كل آية كونية أو قرآنية، ومن كان هذا حاله يستعصي عليه إبصار الأدلة المتضافرة على صدق الوحي، وصحة وجهة الدين تبعا لذلك، {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146]. وإقامة للحجة عليه وتحميله كامل مسؤوليته عن وجهته إزاء الإيمان، فإن الله يرسل له إشارات دالة على خطإ وفساد وجهته، من حيرة واضطراب نفسي، وتخبط في الفكر والسلوك، ونتائج مادية محسوسة مخيبة للتوقعات، لعله يتدارك وجهته بالنقد والتصحيح، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]. فإن أبى إلا الغي والإعراض عن الحق وسبيل الرشد، و لم يبادر بترك العناد والإمعان في الضلال والصدود، فإن الله تعالى يبتليه بتزيين أفكاره في عينه، فيراها هي الحق وفصل الخطاب، ويصيب نفسه العجب والغرور بآرائه واختياراته، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف:103-105]،{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182، 183]. فقد ينعم الله على الفاسق بنعم كثيرة من صحة وأولاد ومال وجاه، حتى يظن بأن الله راض عن عمله أو أنه غافل عما يعمل، والله تعالى إنما يستدرجه من حيث لا يشعر، ففي الحديث: “إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ”[18]. 2ـ المنحرفون بعد الإيمان قد يتعرف الإنسان على الوجهة الإيمانية، ويستقيم عليها ردحا من الزمن، ثم ينحرف عنها باتباع الأهواء والشبهات والشهوات، وربما اختلت في فكره حقائق العقيدة واضطرب سلوكه، وحاد قليلا أو كثيرا عن وجهة الهداية، ليسلك وجهة أخرى على هامشها ومختلفة عنها. ومن هذه الفئة الذين كانوا من أهل الإيمان الصادق، فارتدوا عنه وخالفوا نهجه، لفساد قصدهم منذ الدخول فيه، أو فساد تصورهم لحقيقته، أو لمجرد انحرافهم بعد صحة القصد والتصور، لعجزهم عن الاستمرار في طريق الله والصبر عليه إلى النهاية. فقد بين القرآن بأن انحراف الإنسان من وجهة حق إلى وجهة باطل، لا يكون دائما بسبب الجهل، أو قيام موانع شديدة، وضغوطات قاهرة، وإنما يكون باختيار واع تتحمل فيه النفس المسؤولية الكاملة، ثم يتولى الله بعد ذلك توجيهها إلى الوجهة التي عزمت التحول إليها. ويتضح هذا التفاعل بين إرادة الإنسان وفعل الله في نفسه بالهداية أو الإضلال، في آيات منها: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، فلو افترضنا وجود سلطان حاسم، لعوامل خارج ذات الإنسان، توجهه نحو الإيمان فيؤمن، أو نحو الكفر فيكفر، دون تدخل نفسه بإرادتها الحرة، لما كان معنى للتكليف الاستخلافي المفضي للثواب والعقاب، لذلك يقرر القرآن مسؤولية الإنسان فردا وجماعة عن وجهته الاعتقادية والسلوكية في آيات عديدة:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل، فاختاروا الضلالة على الهدى[19]. {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17]. ففي مجال ممارسة التدين، يكون فعل الله دائما تابعا لاختيار الإنسان، وما يريد تحصيله من خلال فهمه للدين، وعمله على وفق ذلك الفهم، فمن آمن بالله واتبع هدي دينه هداه الله وأنار بصيرته، ومن جحد وعاند وخالف هدي الله زين الله له توجهه واختلال فهمه، إلى أن يتبين له سوء تقديره واضطراب سعيه فيقرر التراجع عنه تلقائيا إلى الرشد والصلاح، أو يستمر في مسلكه، حتى ينهي حياته كما بدأها في غيه وضلاله.[20] بل إن الله تعالى بعد إمهال الخاطئين من المؤمنين، وتوالي عظاته وتنبيهاته لهم لعلهم يرجعون، يطمس على قلوب المتمادين في الفسوق والعصيان، فلا يستطيعون بعد ذلك تدارك أنفسهم بالتوبة والإنابة إلى الله، وهذا ما يستحث النفس على نبذ التراخي في تعجيل التوبة وترك التسويف واستمراء العصيان، قبل حصول الختم على القلب وعمى البصيرة، والذي يعد نتيجة مستحقة لإمعان النفس في الغي والضلال، وعدم انتهاز فرصة الإمهال لتصحيح المسار، والأوبة إلى الرشد وسبيل الفلاح، وهذا ما يجب أن يحذره السادرون في الانحراف عن هدي الله، والمغترون بحلمه سبحانه مع المسيئين، والذي لا يسوغ للعاقل أن يحمله على تهوين مسؤولية النفس عن أحوالها، وفتح المجال أمامها للاسترسال في العماية. يقول تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22-23]، فقد يأتي على الإنسان زمان يكون قرر فيه وجهته الضالة بشكل نهائي، بحيث لا يمكنه الاستجابة لدواعي الهداية والصلاح، وإذا استجاب فإنه لا يلبث أن يتراجع من قريب إلى سابق موقفه المتسم بالرفض والجحود. 4) مسؤولية النفس البشرية عن تحديد الوجهة كل محاولة لإلقاء الإنسان بمسؤولية اختيار الوجهة التي هو عليها، على جهات خارجة عن ذاته، مثل تربية الأسرة والثقافة السائدة في البيئة الاجتماعية، والتعرض لإكراه أو تهديد من طرف السادة والكبراء، فهي مردودة عليه وغير معتبرة في المنظور القرآني. فقد توالى تأكيد مسؤولية الإنسان عن الوجهة التي يختارها في الحياة في أكثر من موضع في القرآن، ومن ذلك: 1ـ حدود تأثير التربية الوالدية في النشء. لا خلاف في كون تربية الوالدين للصغير ترسخ في نفسه كثيرا من عقائدهما وأخلاقهما، ونمط سلوكهما في شتى المجالات. كما أكد الحديث النبوي، “ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”[21]، فتأثير تربية الوالدين في أبنائهما على دينهما غالب ومعلوم، ولكنه ليس حاسما بحيث يلغي حرية الأبناء في رفض دين الوالدين، والدخول معهما بسببه في نقاش وانتقاد واعتراض، كما كان حال إبراهيم وهو فتى مع أبيه آزر، فقد عاب على أبيه وقومه اتخاذ أصنام آلهة اعتمادا على فطرته السليمة وعقله الوقاد، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]. كما ساق لنا القرآن الكريم ما يؤكد حرية الإنسان، تجاه التربية التي يقدمها له الوالدان والمربون. فضرب مثال ابن نوح عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل، وأوتي ما خص الله به رسله من القدرة على التأثير في عامة الناس، بله الأبناء الذين ينشؤون في رعايتهم، حيث اختار الابن الإعراض عن وجهة أبيه، وما تقوم عليه من الإيمان الجازم بالله وبصفاته العظمى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45-46]، أوضح القرطبي، أن ابن نوح هذا كان كافرا ويظهر الإيمان، فكشف الله حقيقة أمره بعد غرقه. فتربية الوالدين في الصغر لا تحسم اتجاه الإنسان بعد البلوغ، وإن كانت قد تساهم في تحديده بقدر كبير، عندما يتلقاها الشاب بالرضا ويختار الاندماج الطوعي فيها. مما يعني وجود هامش كبير لإعادة النظر في مضمون التربية الأسرية خاصة والاجتماعية عامة عندما يبلغ الطفل سن التمييز[22]. والذي يمكن استخلاصه بهذا الصدد، هو كون النفس الإنسانية هي الحاسمة في تحديد الوجهة، فتختار تغليب حكم العقل ودوافع الفطرة نحو الإسلام لله، على تربية الوالدين عند مخالفتها لنهجه، أو تختار تعطيل حكم العقل وتوجهات الفطرة، بتغليب مضمون التربية الأسرية المنافية لها، وإيثار الانسجام مع مقتضياتها التصورية والسلوكية. 2ـ حقيقة التأثر بالوجهة المنقولة إلى الخلف عن سلفه يصرح المشركون وعبدة الأوثان، بأنهم يتبعون الوجهة التي كان عليها آباؤهم، وأنهم متمسكون باعتقاد صوابها ولا يشكون أدنى شك في صلاحيتها، وأنهم يؤثرونها على غيرها من الاتجاهات والمعتقدات الوافدة عليهم، وقد أبدوا استعدادهم للتضحية في سبيل التشبث بوجهة الآباء بنفائس أموالهم ومهج أنفسهم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان:21-22]. وقد يكون للعذر وجه من الاعتبار عند اتباع الجيل الحاضر لوجهة الجيل الذي سبقه، حال غياب أي اعتراض عليها، يعتمد أدلة وحججا معقولة، تدعو لإعمال الفكر الناقد للموروث، وتفحص الأسس التي يرتكز عليها، أما مع وجود رسالة إلهية قائمة على الحوار والإقناع الفكري، وبيان عيوب الاعتقادات العرفية والاتجاهات الفكرية القديمة، فإنه يغدو محض تقليد أعمى لتراث الأجداد، دون إرادة التمييز بين الحق والباطل. وكل جيل لاحق يتحمل مسؤولية مراجعة تراث الأجداد للإبقاء على ما فيه من حق وصواب وتنقيته من الضلالات والخرافات، وتجديده في اتجاه إحقاق الحق وإبطال الباطل، ودعم محاولات التحرر من الأغلال المكبلة لحرية العقل والمعيقة لمسؤولية الانخراط في المجهود التصحيحي دون تردد. إن تغيير الكيانات البشرية لوجهتها عملية مستمرة، قد تعرف تقدما نحو الأحسن أو تقهقرا نحو الأسوأ، وكل فرد يتحمل مسؤولية فردية للإسهام في تحديد وجهة التغييرات المجتمعية الجارية، والتي تشكل بالضرورة حصيلة للتغييرات التي يحدثها كل واحد في نفسه بمبادرته الشخصية، أو تفاعلا مع مبادرات تغييرية يدعو لها رواد مصلحون أو مفسدون، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، والمؤمن مسؤول عن الانخراط في التغييرات الصالحة داخل المجتمع ومواجهة التغييرات الفاسدة، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا.”[23] والمسلمون جماعة وأفرادا، مسؤولون جميعهم حاكمين ومحكومين، عن الحفاظ على وجهة الإسلام سليمة من كل الانحرافات، ومطالبون بترسيخ الانتماء إليه، وتجديد فهمه وممارسته على مدى الزمان والمكان، وذلك عن طريق القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] فهذا الواجب رفعه بعض العلماء إلى درجة ركن سادس للإسلام، إذ هو الضامن لاستمرار القيام بجميع الأركان الخمسة، ولعل لهذه المكانة المتميزة في حفظ الدين والامتناع من الزيغ عنه، والارتداد إلى الكفر وضياع وجهة الإسلام، ورد ذكره في القرآن مقدما تارة على الإيمان بالله[24] ومقدما في هذه الآية عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. 3ـ مسؤولية اتباع دعاة الضلال لا يمكن للإنسان أن ينسب وجهته الضالة لأطراف خارجة عن ذاته، لأن الله تعالى جعل أمر الهداية والضلال بيد المكلف أبدا، وإن تعرض لضغط أصحاب القوة والسلطان من الحكام والعلماء وعلية القوم عموما، وبدا أن النفس اضطرت لاتباعهم طمعا في مكاسب مادية مغرية أو خوفا من إيذاء لا يحتمل. فالقرآن الكريم يثبت في مثل هذه الحالات مسؤولية الإنسان عما يتعرض له من تضليل يفد على ذاته من بعض القوى النافذة في البيئة المحيطة، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:27-33]،{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21]{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. كما يتبرأ الشيطان يوم القيامة ممن تعرضوا لغوايته، التي لم تكن قادرة على التأثير فيهم لولا تقبل أنفسهم لها واستجابتها الطوعية لها، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]. وتبين آيات أخرى نزوع النفس للتملص من مسؤوليتها عن انحرافاتها عن هدي الله، وسعيها الحثيث لإلصاق زيغها بجهات أخرى بل أيضا بمشيئة الله وإرادته، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، فكل محاولة لتملص الإنسان من مسؤوليته عن وجهته، تتناقض تماما مع حقيقة استخلافه في الأرض، والذي من مقتضياته الأساسية تسخير الله له نفسه يفعل بها ما يشاء هداية وضلالا، وما في السماوات والأرض يستخدمه في الصلاح أو في الفساد حسب الوجهة المختارة. خاتمة إن بحث قضية وجهة الإنسان في الحياة من خلال القرآن، وربطها بمسؤوليته الكاملة عن اختيارها وارتضائها، في ظل تعدد العوامل الدافعة دوما للميل عن كل اتجاه إلى غيره، يجعلنا نستنتج بأن البشرية تسير كلها على وجهة واحدة مبينة أيضا في القرآن، هي وجهة الاستخلاف الموحدة بين جميع الآدميين، والقائمة على أساس حرية الإنسان في اختيار وجهته في الحياة، وثبوت مسؤوليته بين يدي الله عن مدى التزامه بمقتضياتها الاعتقادية والسلوكية. فهذه هي الوجهة الوحيدة المشتركة بين جميع البشر عبر الزمان والمكان، والتي تتفرع عنها كل الوجهات التي مع تنوعها وتعارضها، يمكن إرجاعها إلى اثنتين أساسيتين هما وجهة الإيمان بالله واتباع هدي دينه، ووجهة رفض الإيمان بالله وتأسيس المعارف والمناهج الحياتية بعيدا عن توجيهات الوحي الإلهي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] – إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، دار الدعوة، (2/ 1016). [2] – أحمد مختار عبد الحميد عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة. عالم الكتب، ط1، 1429هـ / 2008م، (3/ 2409). [3] – ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، تحقيق: الدكتور عبد الله الخالدي- بيروت، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، ط1، 1416هـ. (2/133). [4] – رواه البخاري في باب الجنائز، ومسلم في باب القدر وأحمد في مسنده: ج 3 ص 435. [5] – ابن بطال، شرح صحيح البخارى، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم الرياض، مكتبة الرشد، ط2، 1423هـ / 2003م، (3/ 370). [6] – ابن حبان، صحيح ابن حبان، ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1408هـ / 1988 م (ج2/ص 426). [7] – موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – مصر، ص: 245. [8] – الأحمر، عبد السلام، جولات تفكر في مسؤولية الفكر، منشورات ميثاق الرابطة، الرباط، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1، 1433ھ/2012م، ص129. [9] – مسند أحمد، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ – 2001 م، (ج13/ ص204)، [10] – صحيح البخاري (4/ 174). [11] – ابن تيمية، دقائق التفسير، تحقيق: د. محمد السيد الجليند- دمشق، مؤسسة علوم القرآن، ط2، 1404ھ، (2/ 222) [12] – مسند أحمد، مرجع سابق (ج36/ ص 443)، وصححه الألباني، في تصحيح الاحتجاج بالقدر لابن تيمية. [13] – ابن بطال، شرح صحيح البخارى، مرجع سابق، (ج 3/ ص236). [14] – النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392ھ، (ج1/ص 220-219). [15] – ابن حبان، صحيح ابن حبان، ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1408هـ / 1988 م، (ج8/ ص 32). [16] – الأحمر، عبد السلام، استخلاف الإنسان في الأرض- نحو رؤية قرآنية كلية، ضمن القرآن الكريم ورؤية العالم، مسارات التفكير والتدبير، سلسلة ندوات علمية (07)، الرباط، ط1، 1436ھ/2015م، ص 308. [17] – ابن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، بيروت، دار الكتب العلمية – ط1-1422هـ، (1/ 225). [18] – رواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في الكبير وصححه الألباني. [19] – البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي- بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1- 1418 هـ. (ج5/ ص69). [20] – الأحمر، عبد السلام، استخلاف الإنسان في الأرض- نحو رؤية قرآنية كلية، ضمن القرآن الكريم ورؤية العالم، مرجع سابق، ص 310. [21] – رواه البخاري في باب الجنائز، ومسلم في باب القدر وأحمد في مسنده: ج 3 ص 435. [22] – انظر، الأحمر، المسؤولية أساس التربية الإسلامية، مطبعة طوب بريس، الرباط، ط1، 1428ھ/2007م، ص 45. [23] – الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق بشار عواد معروف- بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1998م، (3/ 432). وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال الألباني: ضعيف، ويصح وقفه على ابن مسعود. [24] – في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]