جهاد النفس أساس كل جهاد


كلمة تقديمية للمسير الدكتور حفيظ غياط عضو المكتب التنفيذي لمركز الأمانة.
      الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين أجمعين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
      أما بعد، أيها الحضور الكريم، أبارك لكم حلول هذا الشهر الكريم، شهر البركات والقربات والرحمات، وكعادته يغتنم ” مركز الأمانة للأبحاث والدراسات العلمية” فرصة هذا الشهر الفضيل لتنظيم مجموعة من الأنشطة العلمية التربوية المباركة، فشهر رمضان المبارك محطة عظيمة من محطات تزكية النفس، والارتقاء بها طلبا للفلاح الذي وعد الله به عبادهُ المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [سورة الشمس:9، 10]، وشهر رمضان كذلك مضمار للتنافس في الطاعات والقربات، من خلال تقوية الصلة بالقرآن الكريم، والصلاة والقيام والإنفاق والجود والذكر  والدعاء وغيرها من صنوف الطاعات والأعمال الصالحة، وكلها يحتاج إلى جهاد ومجاهدة وصبر ومكابدة، ومدار ذلك على تهذيب النفس حتى تستقيم وتحصل الطمأنينة والسعادة، فيرشد سعيُ العبد وتزكو نفسه، ويبلغ مقام “المتقين” ﴿لعلكم تتقون﴾، لكنها مجاهدة من نوع خاص يمارسها الصائم بوعي ورُشد ورضى، فيعي مقصودَه وغايته، ويسعى إليها مستعينا في ذلك بربه الكريم، كما يعي  عدوه  الذي يصده عن الصراط السوي، فتكون حركته قاصدة وسلوكياته على بصيرة، وعينه على الهدف والجائزة، قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
      ولبيان أهمية جهاد النفس وكونه أساساً لكل جهاد، يقدم لنا الأستاذ الفاضل عبد السلام محمد الأحمر عرضا افتتاحيا للأنشطة الرمضانية تحت عنوان: جهاد النفس أساس كل جهاد، وقبل ذلك نقدم تعريفا مركزا بالأستاذ المحاضر..
تعريف مركز بالمحاضر:
أولا: المهام الأساسية
ـ رئيس مركز الأمانة للأبحاث والدراسات العلمية.
ـ عضو المكتب التنفيدي والمجلس الأكاديمي بالرابطة المحمدية للعلماء.
ـ خبير تربوي خارجي سابق لدى منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة.
ـ مفتش التعليم الثانوي سابقًا بأكاديمية القنيطرة، المغرب.
ـ عضو مؤسس للجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية وعضو مكتبها الوطني سابقًا ومؤسس مجلة تربيتنا والمدير المسؤول عنها سابقًا.
ثانيا: المؤلفات
1ـ كتب شخصية
ـ كتاب الصيام والتربية على التقوى – مطبعة المعارف بالرباط 2003 وطبعة ثانية رقمية منشورة بموقع مركز الأمانة (ترجم إلى الفرنسية في طبعتين).
ـ كتاب: المسؤولية أساس التربية الإسلامية، ضمن سلسلة “كتاب تربيتنا رقم4” (نونبر 2007).
ـ دليل تأليف الكتاب المدرسي في مجال التربية الإسلامية نشر الإيسسكو 2014.
ـ المجلد السابع بعنوان: “دليل المقاصد التربوية لمرحلة البلوغ وبداية الشباب” ضمن موسوعة الأدلة المقاصدية التربوية للمراحل العمرية، المشتملة على (08 مجلدات) والمنجزة بتعاون بين مركز مقاصد للدراسات والأبحاث بالرباط ومركز قراءات للشباب بجدة، في طبعتين 2016 و2017.
ـ جوﻻت تفكر في مسؤولية الفكر. نشر الرابطة المحمدية للعلماء 2012.
ـ كتاب: ثقافة الأمة الوسط، نشر المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، طبع 2009.
ـ دليل الأئمة والمرشدين الدينيين خارج العالم الإسلامي نشر الإيسسكو 2013، ترجم للإنجليزية والفرنسية.
ـ كتاب “موقع منظومة القيم في بناء نظام تربوي أصيل” مساهمة شخصية ضمن مشروع إسلامي لإحياء نظام تربوي أصيل بدولة قطر (لم يطبع).
2ـ كتب بالاشتراك
ـ كتاب التربية الإسلامية لمستوى الأولى ثانوي ـ دار النشر المغربية ـ الدار البيضاء، 1994.
ـ كتاب فضاء التربية الإسلامية لمستوى الأولى ثانوي إعدادي ـ مطبعة المعارف ـ الرباط، 2004.
ـ كتاب التربية الفكرية في سياق النهوض الحضاري المنشود، المعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الأولى 1442هـ / 2021م.
ثالثا: إنجازات ثقافية مختلفة
    أنجز عدة مقالات وأبحاث وحوارات منشورة بجرائد ومجلات ومواقع إلكترونية وله مشاركات في برامج إذاعية وتلفزية وطنية وأجنبية.
النص المنقح للمحاضرة: جهاد النفس أساس كل جهاد
مقدمة
      لقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون ممارسة الاستخلاف بكل أنواعه، سواء كان في دائرة النفس أو خارجها في رحاب الأرض، متوقفة على مدى ممارسة جهاد النفس، وعلى أساسه ممارسة كل أنواع الجهاد المشروعة لمختلف الأعداء من الجن والإنس وغيرهما من معضلات الحياة الدنيا، كالجهل والمرض والفقر، بمعنى أن الإنسان يجاهد نفسه وبنفسه، في إطار ما فرضه الله عليه من الابتلاء في هذه الحياة، من خلال مواجهة أعداء أشداء ليس من مواجهتهم بد، وأشدهم عليه نفسه التي بين جنبيه، كما قرر رب العزة في قرآنه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53].
      ففي هذه الآية تقرير بأن النفس تأمر بالسوء والفجور، أكثر من أمرها بالتقوى. كما كشف الله لنا من طبيعتها المزدوجة، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10]، لكن بملازمة جهادها ومجاهدتها يتراجع أمرها بالسوء، ويحل محله أمرها بالرشد والصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
أولا: المجاهدة وممارسة الاستخلاف
      إن النظر في وقائع الاستخلاف، يؤكد بأبلغ بيان بأن غاية الله من استخلاف الإنسان في الأرض، هي ابتلاؤه بمجاهدة نفسه وتزكيتها، وتقويم اعوجاجها وزيادة قدراتها على التزام الصلاح، ونبذ الفساد بداخلها وفي خارجها، على امتداد الحياة وفتنها ومسؤولياتها المختلفة. ونوضح ذلك من خلال الوقفات التالية:
1ـ وقفة مع نزوع النفس نحو الفساد
      ويستفاد النزوع البشري إلى الفساد وسفك الدماء، من قول الملائكة حين أخبرهم الله بأنه سيجعل في الأرض خليفة، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
    فقد شاءت حكمة الله تعالى، أن يخلق في النفس البشرية ميلا للفساد وسفك الدماء، لكي يبتليها بمجاهدة ذلك في نفسها ابتداء، وفي محيطها انتهاء، ورتب سبحانه نجاحها في مجاهدة الفساد في الواقع، على نجاحها في مجاهدته في النفس، والسيطرة على ما بها من نوازع الباطل والانحراف.
     فالنفس لا تخلو من التعرض إلى سطوة الزيغ والغي المنبعثين من داخلها، وكذا الظلم والغواية وكل الانحرافات المفروضة عليها من خارجها، وكلما اجتهدت وجاهدت ما بها من ميل إلى الضلال والفساد في نفسها، كفاها الله وأعانها على الانتصار في جهادها لما يفد عليها من ذلك داخل البيئة الخارجية. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
2ـ وقفة مع نشأة العداوة بين إبليس وآدم
     لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون العداوة، التي أبان عنها إبليس تجاه آدم وحواء وذريتهما عند الاستخلاف، حافزا قويا على جهاد إبليس، والتزام الحذر الشديد من تلبيساته ووساوسه وفتنه، وهي عداوة ظالمة من اتجاه واحد؛ وهو إبليس دون أي سبب يحمله عليها من جهة آدم، وكان أول تجلياتها رفض السجود لآدم مع الملائكة امتثالا لأمر الله، [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى  فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى]، ثم واصل عداوته وأكدها بالوسوسة، [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى  فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى].
     ولقد تمادى إبليس في عداوته لآدم وحواء ونسلهما، فأقسم أن يغوي ذريتهما إلا القليل منهم؛ {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62].
      ونرى بأن آدم وحواء لم يوفقا منذ الوهلة الأولى، في جهاد إبليس عندما زين لهما الأكل من الشجرة، لكنهما جاهدا أنفسهما عندما سارعا إلى إعلان التوبة من عصيان أمر الله باجتناب الأكل من الشجرة، وعندما نسبا مسؤولية مخالفة أمر الله إلى نفسيهما.
     فرغم أن إبليس كان له دور بارز في حملهما على مخالفة الأمر الإلهي بتزيناته، فإن آدم وحواء لم يبررا خطيئتهما بوسوسة إبليس، وبأنه أقسم بالله بأنه ناصح لهما؛ وإنما أقرا بمسؤولية الأكل من الشجرة المنهي عنها وحملاها إلى نفسيهما، فجاهدا بقوة نزوع النفس لاتهام غيرها بالمسؤولية الكاملة عن زيغها وانحرافاتها، والاجتهاد في تبرئتها من كل أخطائها الواضحة والخفية على السواء.
     وفي هذا الاعتراف بظلم آدم وحواء لنفسيهما، إقرار بعداوة النفس الإنسانية لنفسها؛ بما يعني أن الشيطان اقتصر دوره على الوسوسة والتزيين دون أن يمتلك سلطانا قاهرا عليهما، وهذه الحقيقة هي التي أكدها إبليس خلال حدث الاستخلاف كما بين القرآن:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39 – 43].
      فالعدو الأخطر الذي يواجهه بنو آدم المستخلفون في الأرض، هو من دون شك ولا ريب النفس الأمارة بالسوء، بحيث إن الانتصار عليها يعين في تحقيق الانتصار على أي عدو غيرها، سواء كان العدو شيطانا أو إنسانا.
     كما نستخلص مما تقدم، بأن جهاد النفس هو البلسم الشافي والعلاج الفعال لكل وهن ونقص، يطرأ على أي جهاد نخوضه تجاه النفس ذاتها، أو أي عدو سواء كان شيطانا أو إنسانا أو شيئا آخر.
3ـ جهاد النفس في ممارسة الابتلاء بالأمانة ومسؤولياتها
    تعتبر النفس المجال الأول لممارسة الابتلاء بالأمانة العظمى، التي تحملها الإنسان مباشرة بعد استخلافه، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] وهذه الأمانة تشمل جميع تكاليف الدين وأعباء الحياة المختلفة.
     فالأمانة ممارسة قلبية أساسا، كما أن الابتلاء بها يستهدف دوما امتحان الإرادة القلبية، والكشف عن قوتها أو ضعفها صدقها أو كذبها. ففي القرآن {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال: 70]. وفي الأحاديث الصحيحة (إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعْمَالِكُمْ)[1]، وحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى الحديث..)[2]، وحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)[3].
     فالجهاد الذي يخوضه الإنسان، حينما يتصدى لأي عمل صغير أو كبير، يجري أولا على مستوى النفس ليحدد قصدها منه؛ هل تريد به وجه الله أو غرضا آخر؟ ولذلك كان أهم أعمال القلوب ما يستقر فيها من إرادات وتوجهات، وأنها هي التي تحسم حقائق الأعمال، والفوز بأجرها وثمارها على نحو معين.
ثانيا: جهاد النفس الأمارة بالسوء
     فالنفس هي العدو الأكثر فتكا بالإنسان من أي عدو آخر، لأنها أمارة بالسوء، حيث أثبت لها القرآن هذه الصفة، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف: 53]، والناس أمام أنفسهم قسمان: قسم ملكته نفسه وقادته، فهو لها عبد مطيع، ينقاد لها حيث تقوده، ويسير خلف رغباتها حيث تريد، وقسم ظفر بنفسه وملكها وقهرها، حتى صارت مطيعة ومنقادة له، تكون حيث يضعها، وتنتهي عما نهاها عنه، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 37- 41].
     وعن أنس، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: ” ليس عدوُّك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة، وإذا قتلته كان لك نوراً، أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك”[4].
     والنفس إنما تكون عدوة لصاحبها، عندما تأمره بالسوء فتقوده إلى ما يجر عليه عذاب الدنيا والآخرة، بحيث تتفوق على كل الأعداء وما يمكن أن يتسببوا فيه لعدوهم من أضرار ومكاره، ولكنها إذا اهتدت واستقامت جلبت لصاحبها أعظم نفع في الدنيا، وأبقى سعادة في الآخرة.
     فالنفس إذا جاهدتها على الاستقامة على دين الله قادتك إلى الجنة، وإذا اتبعت أهواءها قادتك إلى النار. قال ذو النون المصري: “لا تصحب مع الله تعالى إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة”[5].
    فعلى الإنسان أن يلزم أعلى درجات اليقظة مع نفسه، بحيث يتخذها مطيته إلى الفضائل والدرجات العلى، ويحذر تلبيسها عليه وغدرها به عندما يهمل مجاهدتها، ويغفل عن محاسبتها وتقويم عوجها.
     فالطبيعة المزدوجة للنفس تؤكد مسؤولية الإنسان عن حالها عند كل ابتلاء، هل يختار ما ركبه الله فيها من الميل إلى حب الفضائل والطاعات ومكارم الأخلاق، أم يختار الانسياق مع ميلها الشديد إلى الدنايا والجرائم والمنكرات، وليس لأحد أن يتذرع بطبيعتها هذه، لنفي مسؤوليته عن طريقة استخدامها في غيه ورشده.
     إن مسؤولية الإنسان عن أفعاله وبالأحرى نياته الحاملة عليها، تتأكد وتتعزز بممارسة الاختيار الحر، الخالي من القهر على نهج محدد، فهو عندما يميل مع أمر النفس بالخير، لا يسلم له ذلك ولا يستحق عليه الجزاء الأوفى بإحسان، إلا بعد مواجهته لأمرها له بالسوء والانتصار عليه، وحسم إرادته بإيثار الصلاح على الفساد والفضيلة على الرذيلة، وعندما يميل مع أمر النفس بالسوء، يفعل ذلك وبإمكانه أن يسلك نهج الاستقامة والصلاح، الذي يمكن أن تندرج فيه النفس، إذا صدقت وأخلصت في ابتغاء مرضاة الله، والتي قد تصير مع المجاهدة ملاذا للنفس وغاية المنى عندها.
     فأكثر حالات جهاد النفس تتعلق بإنشاء الإرادة وحسم الاختيار، لأن النية الباعثة على العمل لا تثبت على حال إلا بملازمة مجاهدة النفس، وذلك قبل العمل وعلى امتداده وبعد الفراغ منه، ومن ثم فإن أوسع مجال الابتلاء الصعب هو الإرادة، بحيث إذا تأكدت عزيمة المرء سعى في تحقيقها بكل ما يملك من جهد ووقت، لكن هذه العزيمة قد تقوى أو تضعف أو تنقلب مع الأيام أو تنعدم تماما، ولذلك كان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيّتي إنها تنقلب عليَّ)[6]، ويرى الفضيل بن عياض أن النية هي حاصل غاية الله من الآدميين: فقال: “إنما يريد الله عز وجل منك نيتك”[7] وذلك لكون العمل – مهما عظم أو صغر – لا يعدو كونه تأكيدا للنية المنشئة له.
ثالثا: جهاد النفس قبل جهاد الشيطان.
     وتتجلى خطورة عداوة الشيطان، في كونه يرى الإنسان ولا يراه الإنسان، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، وورد في الحديث (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)[8]. وقد حمل بعض العلماء هذا على حقيقته وهو الراجح، وحمله آخرون على الاستعارة، أي بالوسوسة والإغواء.
    فخفاء الشيطان بذاته عن نظر الإنسان وسمعه ولمسه، يكرس مسؤولية النفس، التي تصير فيها وساوس الشيطان مندمجة تماما ضمن اختياراتها ورغباتها، بحيث يصعب فرزها عنها بسهولة، وهذا ما يكرس مسؤولية النفس عن جميع أفعالها وإراداتها، بما فيها تلك التي تدخل في دائرة وسوسات الشيطان وتزييناته، وذلك لأن الشيطان لا سلطان له على النفس، حتى تأذن له وتفتح له أبوابها، وتقبل تزييناته وتنصاع لتلبيساته ووسوساته، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. فليس لأحد أن يتذرع بغواية الشيطان له، إلا من يريد أن يتملص من مسؤوليته الثابتة عن جميع أعماله القبيحة، كما هو الحال عن أعماله الحسنة.
ولذلك فإن الشيطان بعد أن يتأكد من إقبال المكلف على الذنب، وانجذاب نفسه طوعا إليه، يتبرأ منه ليحمله وحده مسؤولية زيغه وعصيانه، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]. فهذا التبرؤ يحصل في الدنيا قبل يوم القيامة.
رابعا: جهاد بني الإنسان وتكون عادة على نوعين:
النوع الأول: جهاد المسلمين بعضهم لبعض
     إن علاقة المسلم بالمسلم قائمة على الأخوة الإيمانية، والمحبة والتعاون على البر والتقوى والمناصحة والمناصرة، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، فهذه الآية ربطت الولاية بين المسلمين التي هي التعاون والتكافل عامة، ربطتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي التعاون على أمور الدين قبل أمور الدنيا حيث لا تصلح الدنيا إلا بصلاح الدين. ولا يمكن النهوض بالدين والدنيا معا إلا بصدق المحبة وتمام الأخوة بين المؤمنين، مشفوعة بالمناصحة المعبر عنها في الآية بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يتطلب القيام به جهادا مستميتا للنفس، وترويضا دائما لها على مكابدة النصيحة، التي هي مهمة شاقة على النفس، تلجئها إلى مخاطبة الناس بما يفتقدون الاستعداد اللازم لسماعه وتقبله، والخضوع لما ينطوي عليه من الحق والنزاهة، ومخالفة أهواء النفس الجامحة، والاعتراف بذنوبها وتقصيرها في تحمل الأمانات، وأداء المسؤوليات على وجهها الصحيح.
     فمن لم ينجح في جهاد نفسه، وإلزامها الائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، أنى له أن يقدر على الاضطلاع بأداء واجب الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، لغيره داخل الأسرة والمجتمع على حد سواء.
    قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، وقد مثل رسول الله المؤمنين بالجسد الواحد في تماسكه وتضامنه، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”[9]. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم”[10]، فالإسلام دين السلام الذي يتحقق بين المسلمين فيما بينهم، قبل أن يمتد خارج دار الإسلام، ليعانق الناس كافة، ما لم يظهر منهم البغي والعدوان. ففي الحديث: “المُسلِمُ مَن سَلِمَ المسلمون مِن لسانه ويده، والمُهاجِرُ مَن هجَرَ ما نهى الله عنه”[11]. وعن أنس رضي الله عنه: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”[12]. فالإيمان يمنح الأمن النفسي والاجتماعي، وكذا الإسلام يمنح السلام النفسي والسلم الاجتماعي. وفي الحديث، “كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ، دمُهُ، ومالُهُ، وعِرضُهُ”[13]، وحديث “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”[14]. ولقد اعتاد المغاربة أن يصفوا بالكفر من ليس في قلبه رحمة، ولا شفقة لإخوانه المسلمين خاصة ولغيرهم من بني الإنسان عامة، وللحيوان بشكل أعم.
     فعندما تطرأ العداوة بين المسلمين، من حيث هي نتيجة طبيعية لفشو التهاون في القيام بالواجبات، وما يترتب عليهم من المسؤوليات، فيخونون الأمانات، ويتعدون حدود الشرع العاصمة من الآفات والمنكرات، فيقعون في الذنوب والمعاصي والمخالفات المتوالية لتعاليم الدين، ويستدرجون إلى الاستكثار من الزيغ، ومعاكسة ما تأمر به تعاليم الإسلام.
     فما من أمر شرعي إلا ونجد القيام به يقوي أواصر الأخوة والمحبة والتعاون بين المسلمين، وما من نهي شرعي إلا ويكون ارتكابه مؤديا من قريب أو من بعيد، إلى نشوء العداوة والتنازع بين المؤمنين، ويجعل البغضاء بينهم تحل محل المحبة والوئام، فقد بين لنا ربنا هذه القاعدة العامة فقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، فمن المعلوم أن الإحسان عربون الكرم، وحري أن يثمر المحبة في نفس من سلفت منه الإساءة، وقد قيل الإحسان يملك الإنسان، في حين أن السيئة تزرع الأحقاد والضغائن والكراهية في النفوس.
     وأما في المنهيات والمحرمات مثل الخمر والميسر، فقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
     فيصبح بعضهم يكيد لبعض، ويكون بعضهم سببا مباشرا وغير مباشر، في إلحاق الضرر الكبير بإخوانه في الدين والملة، وقد يحتد بين المسلمين صراع بل قتال عظيم! ولهذا حذرنا رسول الله من هذه الحال في أحاديث عديدة، منها الحديث السالف: “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
النوع الثاني: جهاد من يختلفون مع المسلمين في الدين.
     ويكون هذا الجهاد واجبا مشروعا، عندما يحصل اعتداء مسلح سافر على الدولة الإسلامية، ويتطلع إلى تهديد أمنها واستقرارها بل ودينها وسيادتها ووجودها، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، ولهذا كلما تمسكت الأمة بدينها واعتزت بما يمثله من حق وهداية وخلاص للإنسانية جمعاء كلما أثار ذلك عليها حنق وحسد المبطلين الذين لن يهنأ لهم بال حتى يروا المسلمين تائهين عن دينهم مكتفين منه بالمظاهر الزائفة والمحدثات الماسخة لحقائقه وجوهره؛ {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].
     ومع ما يشكله العدو الخارجي، من خطر داهم على أمن أهل الإيمان واستقرار دولهم، فإن عداوة المسلمين لأنفسهم تعد الأكثر إهلاكا والأشد دمارا لكيانهم، ومن ثم فهي أولى بالحذر منها والاجتهاد في قطع أسبابها، وتجنب عواقبها الوخيمة على وحدة الأمة وتماسكها، وحشد قوتها في مواجهة عدوها الخارجي، الذي قد يبطش بها في هذه الحالة ويهزمها شر هزيمة.
    ولهذا أوصى الله المؤمنين بلزوم جهاد النفس بالحفاظ على الوحدة، وعدم الفرقة ونبذ التنازع والاختلاف، فقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. ففي هذه الآية امتزج جهاد النفس بجهاد العدو، وقدمت ممارسته قبيل لقاء العدو، وذلك من خلال الثبات وذكر الله، والطاعة وترك التنازع والتزام الصبر.
     ويعتبر جهاد النفس على الالتزام بهدي الدين والوقوف عند حدوده، جهادا أكبر من مواجهة العدو الخارجي. فقد ورد في بعض كتب الحديث: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب”[15]  
     وهذا الحديث وإن كان فيه ضعف، فهو صحيح في معناه، فالجهاد الأكبر هو جهاد النفس، لأنه جهاد يمارسه المكلف في مواجهة كل ابتلاء بالليل وبالنهار، وعند كل أمر أو نهي، وفي السراء والضراء، في المتجر والمصنع والمدرسة والمحكمة، وداخل الأسرة وفي الشارع، وفي المكتب ومقر العمل.
     إن جهاد النفس ومجاهدتها هو أساس الانتصار في الجهاد الأكبر، المستمر في كل وقت وحين داخل الأمة، كما هو أساس الانتصار على العدو الخارجي، ولذلك نجد القرآن يقدم الكلام عن الجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس، لأن الجهاد المالي أشد على النفس المحبة بطبعها للمال حبا جما، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. فانتصار المسلمين في الجهاد الخارجي رهين باستقامة قلوبهم على هدي الله، فيستحقون عون الله ليس لكثرة عددهم ووفرة عدتهم، وإنما لانتصارهم على أنفسهم أولا وإخضاعها لتوجيهات الله تعالى في كتابه وسنة رسوله.
     كما أن انتصارات المؤمنين في معاركهم ضد أعدائهم من الكفار، قد يسبقها أحيانا ظلم عظيم وبطش كبير، وطغيان وغطرسة من العدو، قبل أن يكتب الله النصر لعباده الصالحين، الذين صبروا واحتسبوا وتضرعوا إلى الله واستنصروه، ولم ييأسوا من قرب فرجه ونصره وتمكينه، بعد كل ما لاقوه ابتلاء لهم، هل يثقون في بالغ حكمة الله وفائق عنايته بعباده الصالحين، وتحقق انتقامه من الظالمين وانتصاره للمؤمنين عاجلا أو آجلا، أم يطول عليهم الأمد، ويتسرب الشك في إحكام التدبير الإلهي إلى قلوبهم، يقول تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ  وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 4، 5]،  فانتصار رسول الله وصحابته في معركة بدر، جاء بعدما نكل المشركون بالمسلمين وحاصروهم في شِعْبِ أبي طالب، وقاطعوا التعامل معهم، وضيقوا عليهم وقتلوا منهم ما قتلوا، لكن بعد ذلك بفترة تقع معركة بدر الكبرى التي أيد الله فيها المسلمين بنصره المبين، فقال تعالى مؤكدا أن النصر كان بقدرته وتنزل ملائكته، ولم يكن بعدد المقاتلين المؤمنين وعدتهم المتواضعة: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 17، 18].
     وفي غزوة أحد انتصر المسلمون في البداية، لكن  الرماة الذين كانوا على الجبل خالفوا تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بألا يغادروا موقعهم المحدد، سواء انتصر جيش المسلمين أم انهزم، فما كان منهم إلا أن نزلوا يجمعون الغنائم، لما انكسر جيش قريش فانقلب النصر هزيمة مؤلمة، ليُعَلم الله الفئة المؤمنة بقيادة سيد الخلق، أن أخطاء النفس هي الأشد خطرا على الجيش من غيرها، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
     وعندما قوي عدد جند المسلمين في غزوة حنين وأعجبتهم كثرتهم فقالوا: “لا نغلب اليوم من قلة[16]” فانحرفت النفوس عن تمثل حقيقة أن النصر من الله أساسا حال استقامتها على هدي الدين، وليس بكثرة العدد والعدة؛ فكانت الهزيمة في الابتداء درسا قاسيا، ولما زال عنهم العُجب بعد الانكسار والفرار من ساحة المعركة، أنزل الله ملائكته فنصرهم، ثم نزل القرآن معاتبا ومذكرا، ومؤكدا لقاعدة جهاد النفس قبل جهاد العدو، {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25، 26].
     وكان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، مثالا للقائد الذي انتصر في جهاد نفسه قبل أن ينتصر على الصليبيين، ويحرر القدس بعد زهاء قرن من احتلاله، فقد عرف بزهده وعبادته وتقواه وإنفاقه لماله في سبيل الله، بحيث لم تجب عليه الزكاة يوما، وذلك لاستنفاد كل ماله في الإنفاق التطوعي، بحيث لما مات لم تتجاوز ثروته فرسه وسلاحه وخيمته ودينارا واحدا، ويحكى أنه كان يتفقَّد أحوال الجند ليلاً، فوجد خيمة بِها عددٌ من الجند يقرَءون كتاب الله ويَقُومون الليل، فقال: “من هنا يأتي النصر”. ومرَّ على أُخْرى، فوجدها نائمة، فقال: “من هنا تأتي الهزيمة”.
خامسا: تحالف النفس مع العدو بارتكابها للذنوب.
     إن الذنوب وسائر المعاصي والآثام تضعف اتصال النفس بالله الذي منه يستمد النصر وبيده الخزي والانهزام، مما يوهن قدرتها على الثبات عند مواجهة خطر الأسر والقتل في المعارك الخارجية، ويجعلها في وضع متحالف مع العدو، وأقوى أسباب الهزيمة والانكسار.
     وخير من لفت النظر لهذه الحقيقة الخليفة العادل عمر بن الخطاب عندما كتب إلى سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما- ومن معه من الأجناد، منبها وناصحا ومحذرا.
أما بعد؛
1- فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضلُ العدّة على العدوّ، وأقوى المكيدة في الحرب.
2- وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوّكم، فإنّ ذنوب الجيش أخوفُ عليهم من عدوّهم، وإنّما يُنصر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عدَدَنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلاّ ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا.
     واعلموا أن عليكم في مسيركم حَفَظَة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله؛ ولا تقولوا إن ّعدوّنا شر منا فلن يسلّط علينا وإن أسأنا؛ فربّ قوم سلّط عليهم شرٌّ منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفّار المجوس {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 5]، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم[17].
    وهذه الرسالة وإن تكلم العلماء في إثبات نسبتها الكاملة لعمر رضي الله عنه، فمضمونها صحيح تعددت شواهده من القرآن ومن السنة؛ كما في الحديث: ( إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ )[18].
    فدل ذلك على أن لمعاصي العباد أثرا، في تسليط عدوهم عليهم، ونيلهم منهم؛ وأن أعظم ما ينصر به المؤمنون على عدوهم، نجاحهم ابتداء في جهاد أنفسهم قياما بأوامر الله ومفروضات شرعه، والتزاما بأداء الأمانات وتحمل المسؤوليات على وجهها الصحيح، واجتنابا للسيئات والمنكرات ومختلف المظالم، وكل المهلكات المدمرات لكيان الأمة وتماسكها ووحدتها.
ولأجل ذلك: بوب الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد من صحيحه:
” بَابٌ: عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ القِتَالِ”، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: ” إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ “
وأورد في هذا الباب أيضا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 2 – 4][19]، فهو يقصد دلالة هذه الآية على عاقبة ذنب فصل العمل عن القول، وأثره في وهن النفس وتخاذلها، مما يجعل صف المسلمين في مواجهة العدو، مرتبكا وغير متماسك ومهددا بالتصدع والانكسار. وذكر الشيخ ابن تيمية قولا متداولا في هذا المعنى: “إنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً؛ وَلَا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً”[20].
وفي الختام يمكن صياغة الاستنتاجات التالية:
1ـ اتجاه الاعتقاد إلى كون كل فرد مسؤولا عما توجد عليه الأمة الإسلامية من صلاح وقوة واستقامة، كما هو مسؤول عما توجد عليه من انحراف وضعف وتخلف.
2ـ اعتبار كل إنسان داخل المجتمع، ممارسا لجهاد النفس في معركة الجهاد الأكبر، ضد أهواء النفس ونزواتها وشهواتها وشبهاتها، فمن جاهد نفسه بحزم وعزم فقد أبرأ ذمته أمام الله، وجاهد في الله حق جهاده، ومن اتبع أهواءه وأطلق العنان لنفسه في المعاصي والجرائم والفواحش والآثام، فقد خان الله وخان رسوله، وخان المسلمين وخان نفسه أيضا، وجلب لأمته الخزي والعار والتخلف، وساهم في ضعفها وتأخرها وشقائها وانهزامها في معركة البناء، كما في معركة الدفاع عن الإسلام والمسلمين والثبات في صد عدوان الغزاة لبلاد المسلمين.
3ـ يجب على الأفراد مع الاجتهاد في إصلاح أنفسهم، أن يقوموا بإصلاح غيرهم، مبتدئين بأقاربهم وأسرهم وأصدقائهم، لكي يكافحوا المنكر والانحراف والفساد في واقعهم، ولا يدعونه يقضي على الاستقامة والصلاح في المجتمع خاصة والأمة عامة، مما يعرضها إلى خسران معاركها التنموية ابتداء ومعاركها العسكرية مع أعدائها في الخارج انتهاء.
4ـ كل من لازم جهاد نفسه على إتيان الطاعات وترك المعصيات، كان ناصرا لله بحسن ممارسته لدينه وضراعته بين يديه، فاستحق نصر الله لقومه وبلده ولو لم يشارك عمليا في ساحة القتال لعذر شرعي، ففي الحديث: “لقد ترَكْتُمْ بالمدينةِ أقوامًا ما سرتُمْ مسيرًا ولا أنفقتُمْ من نفقةٍ ولا قطعتُمْ من وادٍ إلَّا وَهُم معَكُم قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يَكونونَ معَنا وَهُم بالمدينةِ؟ قالَ: حبسَهُمُ المرضُ”[21]
كما أنه يكون مساهما بفعالية في بناء هيبة المسلمين ورفع مستوى مهابتهم في صدور أعدائهم، فلا يملكون حينئذ الجرأة ولا الشجاعة على التفكير في غزوهم، مما يجلب للأمة الأمن والسلام، ويدفع عنها عدوان المعتدين.
 والحمد لله أولا وأخيرا.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] – رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه، وعرضه وماله، رقم: 2564.
[2] – رواه البخاري كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ رقم1.
[3] – رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه رقم: 52.
[4] – (أخرجه: الطبراني في الكبير). وأخرجه البيهقي في (الزهد الكبير)، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة.
[5] – موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: مامون بن محي الدين الجنان، دار الكتب العلمية، 1415/1995. ص 135.
[6] – جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، تحقيق الأرناؤوط، 1/70.
[7] – المصدر نفسه 1/71.
[8] – رواه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب هل يدرأ المعتكف عن نفسه، رقم: 2039.
[9] –  رواه البخاري، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: 2586.
[10] – رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان وأن إفشاء السلام سببا لحصولها، رقم: 54.
[11] – رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، رقم: 10.
[12] – رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم: 13.
[13] – رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله …رقم: 2564.
[14] –  رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، رقم: 65.
[15] –  ينظر: المحاضرات والمحاورات للسيوطي ص 304، والترغيب والترهيب للمنذري 1/284، ورواه الخطيب البغدادي بلفظ: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه، هكذا ذكره الثعلبي بغير سند، وأخرجه البيهقي في الزهد من حديث جابر، قال «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة. فقال: قدمتم بخير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» قال: فيه ضعف، وذكر بعضهم أن هذا: من رواية عيسى بن إبراهيم عن يحيى بن يعلى عن ليث ابن أبى سليم، والثلاثة ضعفاء، وأورده النسائي في الكنى من قول إبراهيم بن أبى عبلة، أحد التابعين من أهل الشام.
[16] المغازي، المؤلف: محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله، الواقدي (المتوفى: 207هـ)، تحقيق: مارسدن جونس، الناشر: دار الأعلمي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1409/1989، 3/890.
[17] –  العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1404 هـ، ص 117/1.
[18] – رواه النسائي، كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف، رقم: (3178).
[19] انظر صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب عمل صالح قبل القتال.
[20] – مجموع الفتاوى، المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ)، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1416هـ/1995م، 28/146.
[21] – رواه البخاري، كتاب المغازي، رقم: 4423.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى