الوظيفة الإصلاحية لمقاصد الشريعة الإسلامية بين الجويني والشاطبي وابن عاشور

الدكتور محمد بن عبد القادر الفيلة

المقدمة
      الحمد لله رب العالمين وبه أستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد،
     فإن البحث في مقاصد الشريعة أصبح في زماننا هذا قبلة للباحثين من المتخصصين في ميدان العلوم الشرعية ومن غير المتخصصين، نظرا لغنى الدرس المقاصدي وتشعبه وتقاطعه مع قضايا فكرية وإنسانية متعددة، يطرح بعضها تحديات كبرى أمام العقل الإسلامي، ويسائله في كثير من الأحيان في الثوابت والمسلمات.
    وإذا كان الجامع بين المفكرين على اختلاف اتجاهاتهم وتخصصاتهم هو ما يعيشونه من واقع تخلف الأمة، وتقهقرها، ومحاولتهم للبحث في علل ذلك وسبل رفعه، فإن الاختلاف بينهم يبدو كبيرا وشاسعا على مستوى نتائج التشخيص، واقتراح الحلول الكفيلة بالخروج من حالة الارتهان التي يعيشها العقل المسلم.
    فبينما يرى المتخصصون في العلوم الشرعية أن (النص) وما بني حوله من القواعد سلطان على كل جهد عقلي وفكري، يبحث في واقع الأمة ويتلمس المخرج من الأزمة، فإن فريقا آخر من الباحثين المتقحمين لمجال الدراسات الشرعية يرون أن لا خروج للأمة مما هي فيه إلا بالارتماء في أحضان (الحداثة) و(العقلانية والتمرد على سلطة (النص) في ما يشبه محاولة إعادة الإنتاج للنموذج الأوربي.
      وإذا كان الفريق الأول قد توجه تلقاء مقاصد الشريعة منذ المحاولات الإصلاحية الأولى، في العصر الحديث معلقا عليها آمال إعادة الإحياء لروح الأمة ثم جسمها، وساعيا إلى محاولة التوفيق بين واردات الحضارة الأوربية الفاتنة وما بين أيديهم من ركام التراث. فإن الفريق الثاني اعتبر أن اللجوء إلى مقاصد الشريعة إنما هو تكرار لنموذج فقيه (عصر) (الانحطاط الذي دفعته ضغوطات زمنه إلى تشكيل عقلية تبريرية هدفها تسويغ واقع التخلف، حرصا منه على الحفاظ على الضروريات) ولو بشكل صوري فقط، ذلك أن ضغوط عصر الانحطاط قد حملت فقهاءه أكثر من أي وقت مضى على إبداء نشاط تأويلي زائد اعتبارا لما تتطلبه ظروف العصر العصيبة من ابتكار مختلف وسائل التكيف مع المحظورات وإيجاد تبريراتها الشرعية» ([1]).
      وبذلك يبرز اللجوء إلى (مقاصد الشريعة) هروبا من الواقع، وحرصا على حفظ المظهر على حساب الجوهر. فبدل أن يتجه العقل المسلم نحو مساءلة أسباب الأزمة بغرض اجتثاثاها توجه نحو ما أفرزته ظروف الأزمة كي يتكيف معه، بل ويكيف معه الشريعة أيضا ([2]).
      ولئن سلمنا لهؤلاء بمنطق (تكيف الفقيه مع ما يمليه عليه الواقع، لأن ذلك هو عين الواجب انطلاقا من مبدأ تغير الفتوى بتغير الواقع وانطلاقا من مبدأ تراتبية المقاصد؛ فإن قولهم بكون اللجوء إلى المقاصد أملته طبيعتها التبريرية مجرد ضرب في عماية وتجن لا مسوغ له.
      نعم إن ظهور المقاصد علما قد تزامن إلى حد كبير مع ظروف الانحطاط)، ولكن ذلك ليس مبررا للقول بطبيعته التبريرية، بل على العكس من ذلك فإن مقاصد الشريعة كانت مفر فقهاء الأزمة، خاصة الأعلام منهم، لتقديم الوصفة العلاجية لحالة الارتهان التي فرضها عصر الانحطاط على العقل المسلم.
      إن الذي دفع أعلام أزمنة الانحطاط إلى إبداع فكرة المقاصد هو في الحقيقة الطبيعة الإصلاحية لمقاصد الشريعة من حيث كونها وسيلة لضبط الفهم والحيلولة دون تسلل تحريفات الغالين وانتحالات المبطلين وتأويلات الجاهلين إلى البنيان المتين لفقه الدين. وإن إطلالة سريعة على مسار علم المقاصد منذ بداية بروز البوادر الأولى لتشكله علما قائم الذات مع الجويني أبي المعالي، مرورا بإرساء دعائمه على يد الشاطبي، وانتهاء بمحاولة توسيع آفاقه مع ابن عاشور كفيلة ببيان دور علم المقاصد في تقديم الوصفة العلاجية / الإصلاحية والإنقاذية لما عاشته الأمة في أزمنة انحطاطها وما كان لها من أثر في إمداد فقهاء تلك الظروف بأفق أوسع لفقه الشريعة كفيل بتجاوز إكراهات الأزمة.
على أن اختيار هؤلاء الثلاثة ليس اعتباطا وإنما لكونهم «من العلماء المبرزين في هذا المجال، لكل منهم مقامه المتميز، وريادته وإمامته لمن بعده (…) فمن خلال التوقف عند هؤلاء الأعلام الثلاثة مع الالتفات إلى من سبقوهم ومن لحقوهم، مؤثرين ومتأثرين، نستطيع أن نسجل أهم المحطات في نشأة الفكر المقاصدي وتطوره ([3]).
كما أن ظروف هؤلاء الأعلام السياسية والاجتماعية تشابهت إلى حد التطابق من جهة ما ألم بالأمة في أزمنتهم من ضعف السلطة السياسية، وضعف التكوين العلمي في العلماء، وسيطرة الجمود والتقليد عليهم، وشيوع ظاهرتي الخلاف والتحيل وغير ذلك.
وإذا كانت حدة تلك المشاكل والأزمات تختلف من زمن إلى آخر، فإن لجوء هؤلاء الأعلام إلى مقاصد الشريعة في ظل ما كان يعتمل في أزمنتهم من عوامل الأزمة دليل على الطبيعة الإصلاحية لمقاصد الشريعة.
ولئن كان تتبع مسألة (السمة الإصلاحية لمقاصد الشريعة) يتطلب وقتا أطول وجهدا أعمق فإن غاية هذا البحث محاولة بيان سياق نزوع هؤلاء الأعلام الثلاثة ([4])لمقاصد الشريعة والبواعث المنتجة والمكونة لتلك الرؤية المقاصدية التي تميزوا بها، محاولا إبراز نقاط التلاقي بينهم، وتجميع خيوط يؤدي بنا نسجها إلى تكوين فكرة عن الدور الإصلاحي الذي اضطلعت به مقاصد الشريعة في رؤيتهم التجديدية، مع الحرص على إبداء الفوارق بين سلوك كل واحد منهم، وإبراز أشكال التفرد عند كل واحد من هؤلاء في استغلاله لمقاصد الشريعة لتصور الوصفة العلاجية لأوضاع الأمة المعيشة أو المتوقعة.
وعلى ضوء ذلك جعلت مبنى هذا البحث من مقدمة وهي ما نحن بصدده ومباحث ثلاثة خصص كل مبحث لعلم من هؤلاء الرواد الثلاثة ثم خاتمة
والله نسأله التوفيق والسداد ومنه نطلب العون والإمداد
المبحث الأول: الجويني وحالة الاستثناء
1ـ السياق العام
انطلق الجويني رحمه الله من افتراض خلو الزمان من السلطتين السياسية، والدينية، وانقراض المفتين وحملة الفقه، ونقلة المذاهب، محاولا تصور ملاذ المتمسكين بالدين في مثل هذه الظروف؛ فقدم رؤية إنقاذيه مبنية أساسا على مقاصد الشريعة من أجل تجاوز حالة الفراغ تلك.
قال رحمه الله: «إذا خلا الزمان عن المفتين وعن نقلةٍ لمذاهب الأئمة الماضين، فماذا يكون مرجع المسترشدين المستفتين في أحكام الدين؟ (…) ملاك الأمر في تصوير هذه المرتبة، ألا يخلو الدهر عن المراسم الكلية، ولا تَعْرَى الصدورُ عن حفظ القواعد الشرعية، وإنما تعتاصُ التفاصيل والتقاسيم والتفريعُ، ولا يجد المستفتي من يقضي على حكم الله في الواقعة على التعيين. فإذا لاح للناظر تصوير هذه المرتبة، فنحن بعون الله تعالى نقدم على الخوض في مقصودها الخاص أمراً كلياً في قواعد الشريعة، يقضي اللبيب من حسنه العجب، ويتهذب به الكلام في غرض المرتبة، ويترتب ويجري مجرى الأم والقاعدة والملاذ المتبوع، الذي إليه الرجوع فنقول: لا يخفي على من شدا طرفا من التحقيق أنَّ مآخذ الشريعة مضبوطة محصورة، وقواعدها معدودةٌ محدودة؛ فإن مرجعها إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، والآي المشتملة على الأحكام وبيان الحلال والحرام معلومة، والأخبار المتعلقة بالتكاليف في الشريعة متناهية. ونحن نعلم انه لم يفوض إلى ذوي الرأي والأحلام أن يفعلوا ما يستصوبون؛ فكم من أمر تقضي العقول بأنه الصواب في حكم الإيالة والسياسة، والشرع وارد بتحريمه؛ فلسنا ننكر تعلق مسائل الشرع بوجوه من المصالح، ولكنها مقصورة على الأصول المحصورة، وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسالك الاستصواب ([5]).
يبدو لقارئ ما خطه الإمام الجويني أنه ينطلق في ذلك من مجرد الافتراض، في ما يبدو منه توقعا للأسوأ، أو على الأقل، عملية استباقية لحدوث ما توقعه من أزمة انقراض الفقهاء، في ما يمكن أن نسميه (حالة الاستثناء)؛ بيد أن المتبصر بدوافع الجويني، خصوصا لمن طالع ما كان يعتمل في واقعه من متغيرات، وما كان يعصف بالأمة في إبانه من نكبات، يدرك أن الإمام الجويني يكتب ما يكتب، وعينه على ما آلت إليه أوضاع الأمة من تراجع على المستوى الحضاري سببه ضعف السلطان، وما رافق ذلك من ضعف حملة الشريعة في نظره، وقصور فهمهم عن مجاراة التطورات المتلاحقة؛ فقد: «عم من الولاة جورها واشتطاطها، وزال تصون العلماء واحتياطها ؛ وظهر ارتباكها في جراثيم الحطام واختباطها، وانسل عن لجام التقوى رءوس الملة وأوساطها، وكثر انتماء القرى إلى الظلم واختلاطها!. فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتهم بغتة فقد جاء أشراطها ؟؟» ([6]) فإذا انضاف إلى ذلك أن «معظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب متضمنه كلام من مضى، وعلوم من تصرم وانقضى» ([7]). زاد الوضع سوءا.
2ـ المداخل الإصلاحية في رؤية الجويني المقاصدية
إن ما رام الإمام الجويني تأسيسه لم يكن أبدا ترفا فكريا ناجما عن فكر انعزالي توقعي بقدر ما كان منطلقا من مكابدة للواقع بكل تفاصيله، وبحث حثيث عن المخرج مما ألم بالأمة من أزمات، فلم يجد لذلك من مخرج سوى التمسك بالمبادئ العامة، والمقاصد الكلية اليقينية.
إنه (تخيل) أو (افتراض) بدأت عناصره ومعالمه الواقعية تظهر في عصره بموت الأئمة، وعدم وجود من يخلفهم سوى رجال يتسمون بسماتهم، ولكن غاية علمهم «مسائل خلافية، أو فصول ملفقة وكلم مرتقة في المواعظ»، فلما علم الجويني «أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه لانقرض علماء الشريعة، ولا تخلفهم إلا التصانيف والكتب التي لا يقدر أحد بفعل التراجع الزمني أن يستقل بفهمها»، قام بجمع هذه الفصول فقال «جمعت هذه الفصول وأملت أن يشيع منها نسخ في الأقطار، فلو عثر عليها بنو الزمان عند التياث الظلم، وتراجع الساسة والعلماء، لأوشك أن يفهموها، لأنها قواطع ثم ارتجيت أن يتخذوها ملاذهم ومعاذهم» ([8]).
إن ما يقدمه الجويني مشروع إنقاذي شامل يتميز بحضور مفاهيم رئيسة مؤطرة لنظر مقاصدي عميق لا تعرف تداولا أعمق إلا بعد مرور أجيال متطاولة ينمو فيها الوعي المقاصدي ويزداد ويتبلور في شكل نظرية مقاصدية متكاملة على يد الشاطبي
وإن حديثه عن كليات الشريعة وعن مراتب المقاصد من حيث هو مدخل لتحصيل القطع واليقين بدل الإغراق في الفروع المذهبية التي لن تغني جمهور الأمة في وقت خلو الزمان من حملة الفقه ونقلة المذاهب، سعي منه (لتحويل المرجعية العلمية من جمهور العلماء المنقرضين إلى جمهور الأمة والجماعة) ([9]). وآنئذ لن تغني المظنونات والخلافات شيئا لأن السبيل الوحيد لضمان وحدة الجماعة المسلمة حالة ذهاب العلماء، هو التوحد على أساس من القطعيات التي تسلم بها العقول وتذعن لها الأفهام لكونها مبنية على أصول مستقراة تماما كقواعد العقائد التي هي مشتركة بين كافة المسلمين وفي متناول إدراكهم قال رحمه الله: «فإن قيل: لا يتوصل إلى هذه الدقائق إلا مدرب في مأخذ الحقائق، فكيف يدركه بنو الزمان الشاعر عن علماء الشريعة؟ قلنا: إن ثبت أن ما ذكرناه مستنده القطع، فعلى أهل الزمان بذل المجهود في دركه، فإذا فرضنا بقاء أصول الشريعة، فمن أجلاها علم بني الزمان بأن ما يتصور الوصول إلى الاستيقان فيه في الشريعة، فيتعين التوصل إليه، ورب شيء مدركه القطع، وفي دركه عسر وعناء، وهذا كالقول في قواعد العقائد، فإنا إذا أوجبنا العلم بها فقد يدق مدركها، ويتوعر مسلكها، ولكنها إذا كانت مستدركة بأساليب العقول تعين السعي في إدراكها» ([10]).
يمكن بناء على ذلك إذ القول بأن «الجماعة الإسلامية ستعوض السلطة العلمية المتراجعة… يساعدها في (ذلك)… وقوفها على المقاصد الشرعية الكلية المستدركة بأساليب العقول والمساعدة على التكيف والتقلب في أمور المعاش، وعلى الخروج من دائرة الظن والاختلاف إلى اتساع مجال اليقين والاتفاق» ([11]).
سعي الجويني إذا إلى البحث عن القطع واليقين في كليات الشريعة ومقاصدها، هو نفس ما بنى عليه الشاطبي نظره المقاصدي جملة بحيث صدر به كتاب الموافقات في المقدمة الأولى منه وهو عين ما توجه إليه ابن عاشور في كتاب المقاصد مما يوضح بجلاء أن هؤلاء الأعلام هم بحق سلسة مترابطة يجمع بينهم هم واحد هو التماس المخرج لما تعانيه الأمة زمن الأزمة.
ولئن كان الجويني رحمه الله انطلق في ذلك من مجرد توقع حالة الانهيار التام في بنيان الأمة فإن ما كابده الشاطبي وابن عاشور كان تحقق كثير مما توقعه الجويني.
المبحث الثاني: الشاطبي ومحاولة الإنقاذ الشامل
1ـ الشاطبي وتأسيس علم المقاصد
بينما يجمع كل الدارسين على أن رائد الفكر المقاصدي، ومبدع نظرية المقاصد هو الإمام الشاطبي، ليس اختراعا، ولكنه يرجع إليه الفضل في جمع شتات ما كان متفرقا منها، وإفرادها بالتأليف؛ بأن خصص لها جزءا من كتابه عنوان التعريف (الموافقات)، فإن البعض ([12]) يسعى جاهدا لمحاولة نزع الريادة عن الشاطبي والتقليل من شأن ما أجمع عليه غيره، بأن ما توصلوا إليه لم يكن عن دراسة، وإنما « نقل أصحابها عن الشاطبي نفسه([13])….. ولا يخفى على من يتأملها أنها تنقل عن مصدر واحد، أو أن بعضها ينقل عن بعض، وليست آراء ناتجة عن نقد تاريخي للمقاصد وتطورها، كما أنها ليست ناتجة عن دراسات مقارنة ([14]).
وقد استند الباحث في دعواه تلك إلى ما بعض ما قرره الإمام محمد الطاهر بن عاشور مدعيا أنه هو «… وحده الذي نبه إلى أن المقاصد ظهرت قبل الشاطبي، على هيئة لمحات وخطرات متناثرة، مثل قول عمر بن عبد العزيز: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) ومثل قول مالك رضي الله عنه: (إن دين الله يسر)…»، وحاول بالمقابل الصعود بتأسيس المقاصد إلى التابعي إبراهيم النخعي([15])
والحقيقة أن الإمام محمد الطاهر بن عاشور، وإن حاول التقليل من شأن ما رام الشاطبي فعله من خلال القول إن الشاطبي تطوح في بعض المسائل إلى تطويلات…. وأن محاولته تأسيس أصول الفقه على القطع لم تأت بطائل، فإنه اعترف له بالريادة في انفراده بالتأليف في فن المقاصد الذي غفل عنه الأوائل، حسب عبد الله دراز محقق الموافقات، فقد قال الإمام محمد الطاهر بن عاشور مثنيا على جهد الإمام الشاطبي والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين، هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي ؛ إذ عني بإبرازه في القسم الثاني من كتابه المسمى ( عنوان التعريف بأصول التكليف في أصول الفقه)، وعنون ذلك القسم بكتاب المقاصد »([16])، ولست أدري كيف فاتت هذه الإشارة الباحث أم أنه أغفلها.
كما أن أصالة فكرة المقاصد في الفكر التشريعي عند المسلمين لا ينكرها أحد؛ ذلك أن المتقدمين، وإن كانوا لم يفردوها بتأليف، ولم يعنونوا بها في كتبهم، فإنها كانت دائمة الحضور عند كل علماء الشريعة خصوصا منهم الفقهاء والأصوليين
2ـ المداخل الإصلاحية في مقاصد الشاطبي
أ ـ السياق العام
يمكن القول إن محاولة الشاطبي تجديد علم أصول الفقه جاءت من مدخل مقاصدي، مما جعل جهده التجديدي عنوانا على مرحلة جديدة دخلها البحث في علم أصول الفقه، حقيق أن يطلق عليها المرحلة المقاصدية). وإن كان جهده التجديدي لم يلق متابعا يبني على ما أسسه الإمام ويزيد الفكرة المقاصدية وضوحا ونضوجا.
أما السياق العام الذي ولدت فيه محاولة الشاطبي التجديدية، فهو انهيار خطير في بناء الأمة، من جهة الإيمان، ومن جهة السلطان.
وأما من جهة السلطان فقد عاشت الأمة خلال منتصف القرن السابع الهجري حدثا خطيرا جدا تمثل في سقوط الخلافة العباسية واستيلاء التتر على بغداد وقتل الخليفة المعتصم سنة 650هـ وبذلك تم الإجهاز على ما تبقى من مسمى الدولة العباسية. وفي بلاد الأندلس نشطت خلال القرن السابع الهجري ما سمي بحركة الاسترداد فكان مدا قويا كاسحا زاحفا نحو محو أثر الوجود الإسلامي في الأندلس ([17])، ولم يأت منتصف القرن السابع الهجري القرن الثالث عشر الميلادي حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى، كلها سقطت في يد إسبانيا ولم يبق من تراث الدولة الإسلامية بالأندلس سوى بضع ولايات صغيرة في طرف إسبانيا الجنوبي، وأخذت الأندلس عندئذ تواجه شبح الفناء ([18])
أما على مستوى تدين الناس فقد عرف إطباق الفكر الطرقي الخرافي على ربوع الأمة، مع ما صاحبه من زهد في العلم والتعلم، حيث اكتفى أهل الطرق بالشعارات والطقوس المخترعة واستلبوا عقول الناس بما زينوا لهم من الباطل والخروج عن الشريعة تحت مسمى الأحوال والباطن والمكاشفة وغير ذلك.
وقد شجع العامَّةَ على الاستهتار بالدين والتلاعب برخص المذاهب، والتخير بين أقوال المذهب الواحد، أو المذاهب المتعددة، فساد الأقوال الفقهية نفسها، (…) مما تجلى في تسيب الفتاوى والأقضية، وسقوط هيبة العلماء عند العامة ثم انفتاح باب التلاعب بحدود الله على مصراعيه أمام الخاص والعام.
إن ما بدا وكأن الجويني يتوقعه من حالة الانهيار العام في بنيان الأمة نتيجة ظهور بوادره الأولى من انحلال السلطان، وضعف أهل العلم، أصبح في زمن الشاطبي أمرا معيشا؛ يكابده الشاطبي صباح مساء، مع هبة للعدو ترنو للسطو على آخر مواقع الإسلام والمسلمين في ديار الأندلس.
ب ـ مداخل الإصلاح في الفكر المقاصدي عند الشاطبي
لقد جاء مشروع الشاطبي الإصلاحي، من حيث هو تجديد أصولي، مبنيا على مقاصد الشريعة فيما يشبه من حيث الفكرة ما توقعه الجويني، لكن مع فارق كبير في الجوهر، فإذا كان الجويني يقدر خلو الزمان من أهل العلم ونقلة المذاهب، ويقترح لذلك حلا قائما على أساس الاعتماد على المقاصد الكبرى للإسلام بالقدر الذي يحفظ به تدين الناس ولا ينهار به الوجود الإسلامي، على الأقل على مستوى الأفراد من خلال الحفاظ على ما لا بد منه، (الأصول والمقاصد الكبرى)، فإن منهج الشاطبي قام على أساس تربوي، يهدف ضبط مقاصد المكلفين إلى مقاصد الشارع، في ما يشبه عملية تطهير شاملة للوجدان الإسلامي من سيطرة الخرافة وشطحات الصوفية، وكذا تنقية العقل من سيطرة المنطق الصوري، الذي يحصر جهد المكلف في الحرص على أداء صور الأفعال مع إغفال الباطن.
إن جهد الشاطبي /التجديدي الإنقاذي يمكن إلى حد كبير وصفه بمحاولة لإعادة اللحمة بين العقل والقلب، بعد أن حدث بينهما فصام حاد بدأت بوادره الأولى مع الإمام الغزالي، والذي تجسدت فيه حقيقة هذا الفصام بشكل جلي، بل إنه كان من المنظرين لها، فلما نهضت في نفس الشاطبي همة الإصلاح «بقي حائرا في اختيار المنهج الذي يتوخاه في إصلاحه، وكانت حيرته بين مذهبين هما: مذهب إخوان الصفا ومذهب الصوفية، ولكنه عدل عن المذهبين معا؛ فقد رأى عند إخوان الصفا نزعة نظرية، تفصل الفكر عن العمل ورأى عند المتصوفة طريقة بعيدة عن الصواب، حيث يتجهون إلى الباطن، ويعرضون عن الفكر والواقع معا، فاتجه إلى منهج يجمع بين النظر والعمل، ويصلح الظاهر والباطن فكانت الشريعة بمقاصدها منطلقه في الإصلاح»([19])
لقد ناسب المدخل المقاصدي في تجديد علم أصول الفقه حاجة الشاطبي وأهل زمانه، ذلك أن «ضبط النية – وهي أمر معنوي غير مادي ولا ظاهر – لا يمكن تحصيله بقوانين الأصول، التي تأسست أول ما تأسست على ضبط علل من شأنها أن تكون (ظاهرة)، أي لها أثر مادي محسوس هو معروف من شروط العلة عند الأصوليين، فوجب البحث عن مقاييس أخرى، ومفاهيم أخرى، فكان إذن استقراء مقاصد الشارع، وهي أمور معنوية لأنها الحكم لا مظناتها، وهي قد تظهر وقد تخفى، لمعنويتها. فنحت الشاطبي منها مقاييس- كانت مصدرا لقواعد شتى، هي المبادئ أو الأصول الأربعة… القصد (الابتدائي) و(القصد الإفهامي و (القصد التكليفي)، ثم (القصد التعبدي) أو (الامتثالي). فكانت هذه الأدوات الإجرائية التي سيضبط بها أبو إسحاق النيات البشرية يحكم عليه بالصحة والبطلان بالمفهوم المقاصدي الخاص به… فيكون منها قصد موافق)، و(قصد مخالف) ويكون منها (قصد الحظ)، و(قصد التعبد)» ([20]).
إن محاولة الشاطبي التجديدية لعلم أصول الفقه من خلال مقاصد الشريعة تعرض علينا في الحقيقة….. نظرية في التربية والإصلاح الاجتماعي، أو بتعبير أدق نظرية في منهج (تجديد الدين)… أفلح رحمه الله – بناء على هذا المنهج وهذا التصور- في صياغة مواجيد القلب في مصطلحات العلم» ([21]).
إن جهد الشاطبي في التجديد المقاصدي للمنهج الأصولي محاولة لإعادة بناء وترميم الأمة الإسلامية، فيما يشبه عملية استباقية تحول دون الانهيار التام، فهي وإن كانت تختلف مع محاولة الجويني من حيث الرؤية والتفاصيل فإنها تشترك معها اشتراكا عضويا على مستوى السياق والبواعث بالقدر الذي جعل الرجلين يهرعان معا إلى مقاصد الشريعة، التي تستطيع وحدها استيعاب الرؤية الإصلاحية (الإنقاذية) للأمة.
وإذا كان الشاطبي أحد نماذج فقهاء الأزمة، (عصر الانحطاط حسب تعبير عبد المجيد الصغير)، فإن سلوكه الإصلاحي لم ينح أبدا ذلك المنحى التبريري الذي حاول الدكتور الصغير تعميمه على كل فقهاء الأزمة، الذين انتهت بهم تجربتهم السياسية –حسبه- منذ وقت مبكر، «إلى القول بشرعية المتغلب على أن يكون مستبدا عادلا) ثم ألجأتهم ظروف الانحطاط وتراكم أسبابه، وتزاحم مظاهره إلى تعديل موقفهم، واضطرتهم مرة أخرى إلى الفصل بين ذلك الوصف التركيبي الغريب، الجامع بين الاستبداد والعدل! حيث أصبح الإلحاح على ذلك الوصف في عصور الانحطاط ضربا من الخيال، وطمعا في محال ما دام الهدف الذي صار يطمح إليه الجميع ينحصر في مجرد التوفر على رجل السلطة (المستبد) القادر على حفظ البيضة، ومواجهة المخاطر العسكرية المتلاحقة داخليا وخارجيا. أما العدل فإن ظروف الانحطاط والتراجع لم تعد تسمح بالحديث عنه كقاعدة سلوكية، أو شرط لا يتخلف في الممارسة السياسية». لذلك سعوا إلى محاولة إضفاء المشروعية على الحاكم المتغلب وإن كان مستبدا ظالما مقابل حمايته للبيضة» ([22])
لقد برز الشاطبي في شكل الاستثناء على الأقل مما حاول الدكتور الصغير تعميمه، وظهر في ثوب الفقيه الحق الذي يريد إعادة الأمور إلى نصابها، ويسمي الأمور بمسمياتها. وهكذا انتهى الشاطبي في محاولته الإصلاحية في شقها السياسي إلى أن «السياسة نابعة من الإسلام ذاته، وأن الحاكم ينبغي أن يسوس المسلمين بأحكام الدين، وأن يتجه عمله كله إلى إقامة مصالحهم، وعلى الأمة أن تتكفل برزقه وكل ما يلزمه من مالها الذي رصدته لمرافقها العامة» ([23])
كما برز عنده مفهوم البدعة كأحد المفاهيم المركزية التي رام من خلالها تنقية الإسلام مما علق به فكان إصلاحه «سلفيا ينهض على إحياء السنة وإماتة البدعة والعمل بأصول الإسلام وشريعته على النحو الذي كان عليه المسلمون الأولون زمن الدعوة المحمدية وزمن الخلافة الراشدة، وبذلك فقد أعاد لمفهوم الاقتداء بالسلف مدلوله الحقيقي، عوض ما ساد في زمن الانحطاط)، حسب الدكتور عبد المجيد الصغير، من بروز تجل آخر لمحاولة حفظ تراث السلف، تمثل في شيوع الحفظ واستبداله بالفهم، مع القول بسد باب الاجتهاد، خشية تغير الصورة المثلى للموروث الناجم أساسا عن شيوع الفتن وضياع الملكات وإعلان إغلاق باب الاجتهاد، الذي ازداد الفقهاء بواسطته تأكيدا على حرمة الخروج على الموروث، بقصد تثبيت صورة ذلك السلف، وحفظها من أن تشوبها شوائب عصر الانحطاط»([24])
لقد كانت دعوة الشاطبي مدوية ومعلنة ومتوجهة بإلحاح «إلى كافة العلماء المسلمين في عصره أن يظهروا سنن الدين على أصلها، وذلك بالعمل بها، وأن يجاهدوا ما استطاعوا في إماتة البدع بتركها، وتبصير الناس بحقيقتها، والنهي عنها. فهذا وحده يتم إحياء الدين الصحيح، ويقضى على ما شوهه من الأهواء الباطلة» ([25]).
بل إن الشاطبي يرتقي في فهمه العميق درجة أبلغ من مجرد تحميل العلماء مسؤوليتهم في الصدع بالحق، حينما يحمل الأمة جميعها مسؤولية «فساد الحكم، حين تولي الأمور من ليس أهلا لها»؛ ذلك أن «من كان قادرا على الولاية فهو المطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها، مطلوب منه إقامة القادر عليها» ([26])
غير أن ذلك الانفراد الذي تميز به الشاطبي، لا يعني بحال كونه منعزلا عن الواقع منزو في برج عاجي، بعيد عما يعتمل في محيطه، بل إن إرادته في الإصلاح فرضتها أساسا الظروف الاجتماعية المحيطة به كما سبق أن بينت بالقدر الذي فرضتها عليه أزمة الاستدلال في عصره، وعجز علم أصول الفقه، بما كان عليه عن تقديم السند لما يريد الشاطبي تأصيله، وشيوع ظاهرة الاختلاف التي استهلكت مجهودات الفقهاء والأصوليين، وهددت نظام الأدلة الشرعية، وهو الأمر الذي وعاه تمام الوعي، ودفعه للسعي لتلمس القطع واليقين في علم أصول الفقه، وهو ما صرح به في بداية المقدمة الأولى لكتاب الموافقات.
إن الذي ساهم في تميز الشاطبي عن فقهاء عصره، (عصر الانحطاط)، هو وعيه بمقاصد الشريعة، فإذا كانت الأزمة الاجتماعية في بعديها الديني والسياسي موجها لفكر الفقيه المقتدر على الغوص على الأمراض الحقيقية التي يعانيها بدن الأمة، فإن مقاصد الشريعة تسهم في «إبرة المغناطيس التي توجه ربان السفينة»، في توجيه ذهنية الفقيه نحو صياغة الحلول الشرعية لمشكلات الواقع، وتحول، بالتالي دون غبش الرؤية واختلاط سلم الأولويات.
شكلت مقاصد الشريعة إذا في نموذج كل من الجويني والشاطبي مخرجا من حالة الانحطاط الواقعة أو المتوقعة ومفزعا للخروج من حالة الارتهان، التي يعانيها الاستدلال، من خلال تقديم فضاء أرحب لتلمس القطع واليقين المفضيين إلى التقليل من الاختلاف.
يكشف ذلك بوضوح نوعا من الاستمرارية بين مواقف الشاطبي وموقف إمام الحرمين الجويني، الذي مثل حالة متفردة، والذي أدرك هو الآخر، ولو منذ زمن بعيد هذا الانحطاط الشامل و (افترض) إمكانية وقوعه، فصرح في وضوح كبير بضرورة الربط بين مفهوم المقاصد الشرعية الكلية (اليقينية) وبين كل محاولة للخروج من هوة الانحدار السياسي والفكري الذي كان يترقب وقوعه والذي باتت بوادره الأولى بادية للعيان.
يبدو ذلك واضحا بجلاء في جهدي، الرجلين فإلى أي حد لعبت مقاصد الشريعة هذا الدور في رؤية الإمام محمد الطاهر بن عاشور؟
المبحث الثالث: الطاهر بن عاشور: استئناف وظيفة المقاصد وتوسيع أفاقها.
1ـ بين ابن عاشور والشاطبي
رغم العبقرية التي انفرد بها الشاطبي، وجعلت منه الشخصية الفذة التي استطاعت تجاوز الإكراهات الاجتماعية والثقافية والفكرية التي يفرضها عصر الانحطاط، وتقديم نظرية متكاملة في الإصلاح، فإن إبداعه الأصولي ذلك لم يكتب له الانتشار وظل حبيس دفتي الموافقات والاعتصام وكان عليه أن ينتظر زهاء ستة قرون، إلى أن بدأت الحركة الإصلاحية في تلمس المخرج من الأزمة التي غرقت فيها الأمة.
فقد وجد الإصلاحيون ([27]) أنفسهم أمام منعرج خطير، تمثل في المفارقة القائمة بين التخلف الذي تعانيه الأمة الإسلامية على جميع الأصعدة، وبين ما يزخر به دينها من مقومات النهوض والتقدم. ومع قناعة هؤلاء المصلحين أن المخرج مما هم فيه لن يكون مبنيا إلا على الإسلام، لقناعتهم الراسخة بصلاحه لكل زمان ومكان؛ وفي غمرة بحثهم عن إمكانية الملاءمة بين مقتضيات الإسلام وبين مستجدات العصر برزت إشكالية الموقف من مكتسبات الحضارة الغربية، التي بلغت مستوى كبيرا من التقدم، جعلت من الاستغناء عن منجزاتها أمرا مستحيلا. فلما وقفوا على ما قرره الشاطبي من أن الدين غايته جلب المصالح ودرء المفاسد (اتضح لهم ما يأخذون من الحضارة الغربية وما يتركون فتنادوا بأن يأخذ المسلمون الصالح منها ويتركوا الفاسد» ([28]).
فكان كتاب الموافقات للشاطبي هو المفزع، وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة، وصور الحياة المختلفة المتعاقبة» ([29])
وقد بدأ هذا التأثير بالشيخ محمد عبده (ت: 1905م)، الذي يقال إنه كان أول من نبه العلماء والطلاب بالمشرق إلى الشاطبي، وإلى أهمية كتاب الموافقات، وقد كان حظه الإهمال قبل عناية محمد عبده، به حظ معاصره ابن خلدون قبل أن تلفت الدراسات الغربية الأنظار إليه» ([30]).
على أن الفقهين اللذين أسهما في عصرنا بكل وضوح في إبراز أصالة الموافقات على خير وجه، هما الشيخ الطاهر بن عاشور والشيخ عبد الله دراز، أولهما بتأليفه لكتابه المستلهم من (الموافقات)، والثاني بنشره وتعليقه الذي أصحبه به ([31]). وهما معا من المتأثرين بالإمام محمد عبده.
وإذا كان عبد الله دراز لم يتجاوز في تعليقاته محاولة بيان مراد مؤلف الموافقات
فإن محمد الطاهر بن عاشور أخذ على نفسه مهمة إعادة صياغة نظرية المقاصد بشكل يراه أكثر إحكاما من غير إنكار الإفادة من شيخه الشاطبي، دون أن يفوته توجيه انتقادات تجاوزت في بعض الأحيان حد (الاعتدال) والإنصاف في رأي بعض الدارسين، فيما رأى البعض الآخر أن انتقادات الطاهر بن عاشور تلك، لم تتعد محاولة تسويغ تأليف كتابه (مقاصد الشريعة) ولإخفاء كثرة الاعتماد على الموافقات، حرص على أن يبرز في كتاب الشاطبي انه «تطوح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود» ([32]).
وأيا ما كان دافع الإمام محمد الطاهر بن عاشور في انتقاده للموافقات، فإن أثر الشاطبي يبدو واضحا في كتاب (مقاصد الشريعة) مع وجود فوارق بين الرجلين من الناحية المنهجية والمعرفية وكذا من حيث الرؤية الكلية المؤطرة للمقاصد الشرعية.
وإذا كان ليس من غرض هذا البحث الاسترسال في إجراء أوجه المقارنة بين الشاطبي وابن عاشور، فإننا سنكتفي بإصدار حكم عام منين على تصريح ابن عاشور نفسه بأنه يقتفي آثار الشاطبي، وذلك يفيدنا للجزم بأن محاولة هذا الأخير يمكن اعتبارها إلى حد كبير، تطويرا لإبداع الشاطبي، واستئنافا للدور الذي ينبغي لمقاصد الشريعة أن تسهم به  في تحقيق هيمنة الدين على حياة الأمة من خلال تجديد فهمها له، وتجديد العمل به، وتجديد الدعوة إليها.
على أن الذي ينبغي لنا أن نلوي العنان صوبه هو محاولة بيان سياق الركون المقاصد الشريعة في تجديد المنهج الأصولي عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، تأكيدا على الدور الإصلاحي الذي لعبته المقاصد من الجويني إلى الإمام ومداخل ذلك الإصلاح المؤسس على مقاصد الشريعة.
2ـ مداخل الإصلاح في الرؤية المقاصدية عند ابن عاشور
أ ـ السياق العام
يمكن حسب الدكتور إسماعيل الحسني، أن نميز في حياة الإمام محمد الطاهر بن عاشور بين مرحلتين تاريخيتين اثنتين:
الأولى مرحلة الاحتلال الفرنسي المباشر، وتبدأ من سنة 1298هـ – 1881م لتنتهي سنة 1363- 1956، وتميزت بجملة من التحولات الكبرى التي عرفتها تونس وغيرها من البلاد الإسلامية، مثل ضعف الإمبراطورية العثمانية، وتكالب الدول الاستعمارية على بلدان العالم الإسلامي([33])
والثانية مرحلة الحصول على الاستقلال السياسي التي ابتدأت سنت 1363هـ /1956م، وانتهت بوفاته سنة 1393هـ / 1973م، وتميزت بما يأتي:
الإجهاز على التعليم الزيتوني، وحل أوقافه.
فصل تونس عن الفضاء الإسلامي والعربي واتُّجه إلى إحياء التراث القرطاجني، وحتى الروماني، وقزم التاريخ العربي الإسلامي، وهمشت المسألة الدينية إلى درجة الاستهزاء بمكوناتها في الخطب الرسمية، وفي المؤسسات العلمية، وتم التنظير لما سمي بالشخصية التونسية، والأمة التونسية، وترسخت في الأذهان صورة سلبية جدا عن بقية العرب، وأصبح التونسي يتحرك بعقدة استعلاء تجاه العرب» ([34])
والواقع أن المرحلة الثانية بدت متأثرة بالمرحلة الأولى، إن لم نقل أنها امتداد لها، لكن بشكل أكثر خطورة؛ ذلك أن المستعمر لم يخرج إلا بعد أن خلف على البلاد والعباد (الأقوياء الأمناء)، الذين سيخدمون مصالحه، بل سيكونون دون مبالغة، أكثر حرصا على ذلك من المستعمر نفسه.
وبذلك يبدو أن الظرف التاريخي الذي عايشه الطاهر بن عاشور من حيث السياق العام، شبيه في أبعاده من ذاك الذي عاصره الشاطبي، وبدا الجويني في ثوب المتوقع له، بعد بدو بعض إرهاصاته، لكنه من جهة ثانية أخطر من ذلك بكثير.
فإذا كان ما عاناه الشاطبي في مجمله ضعف للسلطان، مع انتشار مطبق للبدع والخرافة جعلت المتمسكين بالدين متمسكين برسوم رثة، يخالون أنها من الدين وما هي منه، فإن الوهن لم يتسلل إلى ثقة المسلمين بدينهم وشريعته ومع انحراف المسلمين عن الفهم السليم، والعمل الصحيح، فإن التزامهم العام بالإسلام أسلوبا للحياة لم يتزعزع والسبب في ذلك، في تقديري، راجع إلى أن الصراع بين المسلمين وبين عدوهم، تجرد في شكل صراع عسكري، يروم به العدو) استرجاع ما (ضاع من أرضه، ولم يكن (العدو)، آنئذ، يمتلك ما يقارع به المسلمين فكريا، ولم يكن لأسلوبه في الحياة بريق يغري غيره بالدخول فيه.
ولعل ما يوضح ذلك عجز الغزاة عن تذويب المسلمين في ثقافتهم، حتى بعد أن استولوا على الأرض، فلم يجدوا من مخرج لذلك، سوى اللجوء إلى أقصى درجات (الإرهاب) والعدوانية لثني ما تبقى من المسلمين عن دينهم، تمثل في التنكيل بالمسلين، ونصب محاكم التفتيش للقيام بذلك الدور الشنيع.
في المقابل، فإن ما عايشه ابن عاشور، بالإضافة إلى السيطرة العسكرية التي فرضها المستعمر على معظم أرجاء الأمة، في ما عرف بتقسيم تركة الرجل المريض)، وما أعقبه من الإعلان الرسمي عن سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، وإجهاز الأتتركيين على ما تبقى من الإرث الحضاري لجامعة المسلمين، كان هجمة شرسة قادها دهاقنة الاستعمار، وذئاب المستشرقين، تروم تشكيك المسلمين فيما بين أبديهم من الدين وتنسج حبالا من الشبه تطوق بها ثقة المسلمين بموروثهم الثقافي، وتصور لهم أن التقدم رهين بمجاراة الأوربيين بالتخلص من ربقة الدين مع حرص شديد على إيجاد نوع من الصراع الموهوم بين الدين و(التطور).
يوازيه في المقابل، جهل مطبق لدى شرائح واسعة من أبناء الأمة بمحاسن دينهم، وذوبان كثير منهم في واردات الحضارة الأوربية. كما أوجد المستعمر طبقة مثقفة تدافع عن مشروعه وثقافته، باستماتة منقطعة النظير، تفوق في بعض الأحيان -كما قيل آنفا – حرص المستعمر نفسه.
أما العلماء وحملة الشريعة، فإن جهلهم بمقاصد الشريعة جعلهم على مسافة غير يسيرة من فهم حقيقتها، فهم أقرب إلى جلب المضار منهم إلى جلب المصالح، وإذا تكلم هؤلاء باسم الإسلام، تكلم حول ما يعتقده هو كونه إسلاما العائد إلى ما وقر في ذهنه من التباس مفهوم الإسلام بالمذهب؛ فتتعدد الآراء وتتشعب ولا سبيل إلى تحقيق التقارب بينها ([35])
إن خيرة هؤلاء -حسب الإمام – «إذا جمعتهم المجامع الجدلية مع غير المسلمين، أو المترددين (من أبناء المسلمين في فائدة التدين يخالون الإسلام بمثل ما يخالون أديانا ونحلا أخرى، فلم يستطيعوا حوارا، وغلبوا على نغص وعي بالغرض»([36]) الناجم عن جهلهم بمقاصد الشرع، وعلله وغاياته. وعن تصاريف أحكامه، في ما هو أكبر من دائرة الأفراد.
فبالإضافة إلى الضعف العلمي المطبق، الذي يعانيه هؤلاء، والراجع إلى فساد نظام التعليم، وانحطاط الهمم وضعف الديانة، فإن إطباق التقليد عليهم، بما رسموه لأنفسهم من الحدود المذهبية جعل الخلاف بينهم مستشريا. ونتيجة لما يعانيه علم الأصول من النقائص التي تواردت عليه عبر مسيرته الطويلة، فإنه عاجز تماما عن تقريب وجهات النظر بينهم، وغير قادر على حسم الخلاف الذي وإن كان خلافا فقهيا الأصل فيه أن تحتمله الشريعة، إلا أن جريانه على أساس المكابرة وغمت الحق، جعله أشبه أن يكون خلافا في أصول الدين المحذر منه في القرءان الكريم. وهو جنس الخلاف الذي ظهر في الأمم قبل الإسلام واستدعى بعثة الأنبياء والمرسلين لإزالة دواعيه.
ب ـ مداخل الإصلاح في مقاصد ابن عاشور
في ظل تلك الظروف إذا، برز الإمام محمد الطاهر بن عاشور في ثوب الفقيه المتبصر بحاجات الأمة، وبحقيقة مرام الأعداء، والذي قد بلغ من الوعي بمقاصد الشريعة وغاياتها، ما أهله ليندب نفسه للدفاع عن الإسلام؛ وكأني به رأى بنظر ثاقب ما يحاول المستعمر فرضه على الأمة من ثقافته، وتسويقها على أساس أنها نهاية ما يمكن أن تصله البشرية من الرقي والصلاح، مع سعي حثيث للربط بين حالة التخلف التي تعيشها الأمة، وبين ما تتمسك به من الدين.
وقد جمعته المجامع مع بعض من هؤلاء وهؤلاء، وعلم مقدار الخطر الذي يتربص بالأمة، فكان جهده الإصلاحي متجها في منحيين
الأول: إقناع المسلمين بصواب ما بين أيديهم، وقدرته على حل ما يعترضهم.
والثاني: رد كيد هؤلاء الغزاة المتسترين بعالم الأفكار، الذين يريدون سلب الأمة هويتها، وتقديم النموذج الغربي على أساس أنه الأصلح.
لقد كان ذلك وعيا مبكرا جدا من الإمام بعولمة ثقافية ستذيب المسلمين وتحللهم إن لم يتفطنوا لها، فانبرى بقلمه ولسانه منافحا عن أحقية الشريعة في قيادة البشرية ومصححا لمفاهيم كثير من أبناء الأمة، ممن خدعوا ببريق الأفكار الواردة، التي تولى تسويقها المستشرقون، وصادفوا جهلا من المسلمين بمحاسن دينهم.
هكذا إذا، برز نزوع الإمام محمد الطاهر بن عاشور نحو مقاصد الشريعة، كمخرج من حالة الأزمة التي تعيشها الأمة؛ وذلك ظاهر بجلاء في معرض حديث الإمام عن الدافع الذي حدا به لتأليف كتاب (مقاصد الشريعة) الذي ليس سوى خصوص «البحث في مقاصد الشريعة الإسلامية والتمثيل لها والاحتجاج لإثباتها، لتكون نبراسا للمتفقهين في الدين، ومرجعا بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار ودربة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف» ([37]). وهو أيضا إمداد المسلمين بقاعدة تشريعية متينة تغيثهم «ببلالة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث، واشتبكت النوازل من خلال البحث ضمن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب»، التي يرى الإمام «أنها الجديرة بأن تخص باسم الشريعة والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تصاريف المصالح والمفاسد وتراجحيها مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية، لحفظ نظام العالم وإصلاح المجتمع» ([38]).
وتلك أهداف عظيمة لمن تأملها، خاصة في وقت «صدمت المسلمين عموما، المقابلة الماثلة مع الحضارة الغربية التي تعرفوها من غارات المد الامبريالي، ثم كثافة وسائل الاتصال الحديثة» ([39]). والتي أوقعت في نفوس بعض المسلمين إضافة إلى حملات التشكيك المسعورة، توهم الضعف في الجانب الثقافي العائد إلى ما بين أيديهم من الدين الذي شبوا عليه؛ وأورثهم ذلك شبه هزيمة نفسية دفعتهم إلى الانبهار بالثقافة الوافدة، ثم الانصهار فيها.
وهكذا «تجردت المجادلات بين أبناء الأمة في فريقين:
أحدهما هو أقرب إلى الكفر، بما يعلنه من احتقار للدين ونسبة أزمة الأمة إليه، وتخلفها إلى تعاليمه وشريعته.
وثانيهما: فريق يقاوم ذلك عن عي وجهل بحقيقته وسمو شرائعه، فهم أقرب إلى اختصاره في زاوية من الحياة لا تتجاوز تعرف عقيدته وتفاريع أحكامه الخاصة بذات المكلف، أو المتعلقة بمعاملاته» ([40])… «وهؤلاء يسيئون أكثر مما يحسنون ويفسدون من حيث يريدون أن يصلحوا. فهم وإن كانوا من أبناء المسلمين، إلا أن جهلهم بحقائقه يصيرهم أضر على الإسلام من أعدائه، فرب عدو عاقل أفضل من صديق جاهل» ([41])
فكان لا بد إذا من تأليف كتاب يجلو حقيقة الشريعة في عين أهلها، ويقر أنظار روادها بإيقافهم على كلياتها الجامعة لشتات فروعها والمعينة على تلمس رأيها في ما ينزل بينهم من حوادث، بما لا يفيت مقاصدها وغاياتها.
ولعل المعترض أن يقول: أليس في تراث الأمة الأصولي ما يكفل التصدي لمثل هذه الحالة من الوهن والعجز عن المواجهة؟ وهو اعتراض لم يفت الإمام التفكير فيه وافتراضه وتقديم المبرر المقنع في وجه أصحابه. ذلك أنه على قدر ضخامة تراث الأمة الفقهي، وعلى قدر ما بين أيدي المسلمين من المؤلفات، فإن ذلك لم يعد كافيا لتجاوز ما يطالعنا به الواقع الحالي من تحديات، على أننا « نلاقي بعض الضيق في الاستعانة بمباحث الأئمة المتقدمين لنضوب المنابع النابعة من كلام أئمة الفقه وأصوله والجدل، إذ قد فرضوا جمهرة جدلهم واستدلالهم وتعليلهم خاصة بمسائل العبادات وبعد مسائل الحلال والحرام في البيوع، وتلك الأبواب غير مجدية للباحث عن أسرار التشريع في أحكام المعاملات فإنها وإن صلحت للأصولي في تمثيل، قواعده، وللجدلي في تركيب مناظراته وللفقيه في مقدمات الأبواب الأولى من تأليفه حين يظهر عليه نشاط الإقبال وقبل أن تعترضه السامة والملال فهي لا تصلح لصاحب فقه المعاملات»([42])
إن ما خطه المتقدمون عاجز عن الإجابة عن حاجات الأمة المعاصرة، وتحدياتها الحضارية الراهنة التي باتت تفرض نظرة أخرى في الشريعة تبحث في ما يتعلق بنظام المجتمع، وما يضبط المعاملات المستجدة، التي فرضها التطور البشري، من جهة وما تواجه به الأمة من كيد الأعداء المتربصين بها من جهة ثانية.
فلا بد إذا من البحث عن مجال أرحب وأوسع مما قرره الأصوليون، لأن الباحث عن نظام الاجتماع الإسلامي يجد نفسه «أحوج إلى قواعد أوسع من قواعد أهل أصول الفقه» ([43])
ذلك أن أصول الفقه مبني أساسا على مقاربة تكليفية، تهم آحاد المكلفين، وقل أن يكون بعد الأمة حاضرا في قواعده ونظرة الإمام الطاهر بن عاشور تتجاوز ذلك إلى محاولة تقديم التشريع الإسلامي في صورة توضح إمكانية قيادته للإنسانية، بما حازه من خصائص ومميزات تجعله أهلا لذلك. ولذلك تجده وطأ في كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ببيانها كمقدمة لإثبات كون الإسلام دينا ونظام حياة، أراد له الله أن يكون عاما خاتما ودائما وهياً له من الظروف الكونية ما يسهل ذلك. فلا مندوحة والحالة هذه من خطوة تجديدية للمنهج الأصولي، تخرجه في ثوب جديد وتؤهله للقيام بهذا الدور.
لقد ساد زمان انصرف فيه المسلمون عن استشعار عالمية الإسلام و(شاهدية) الأمة، وصرفوا معظم جهدهم إلى (الفقه المفردن)، وأغفلوا ما أوجبه الله على هذه الأمة من أمانة الشهادة على غيرها من الأمم، وهو ما أورث الأمة ضعفا، توارت فيه بعد تصدر، وخفت صوتها بعد صولة شهد بها التاريخ، ولا زلنا نعيش واقعنا على بعض من ذكرياتها.
إن غياب هذا البعد في الفكر الاجتهادي يضيق أفق العالم، وينحو به نحو الفقه (الفردي) البعيد عن استحضار رؤية حضارية لموقع الأمة ومركزيتها في العالم؛ وإن الإمام محمد الطاهر بن عاشور من هذه الزاوية غير مسبوق في ما أعتقد، ورؤيته في ذلك تتضمن ملامح تجديدية حقيقة بأن يوقف معها، وأن يبذل جهد في تجلية حقيقتها.
إن مقاصد الشريعة وحدها الكفيلة بتجاوز كل تلك النقائص، وهي وحدها القادرة على تقريب وجهات نظر علماء الشريعة وجمعهم على وحدة الرأي وتقريب الحال. وهي وحدها الكفيلة بإمداد المصلحين في الأمة بقاعدة تشريعية كفيلة بإنقاذها مما هي فيه، بل وتبويئها المكانة التي يجب أن تحتلها بين الأمم، بما هي أمة أراد لها الله أن تبلغ دينه للعالمين، وان تكون خير أمة أخرجت للناس.
وعليه فإن خلاصة دور مقاصد الشريعة في الإصلاح العام، من خلال رؤية ابن عاشور تسير في اتجاهين
أولهما: تقريب وجهات نظر المجتهدين وحسم الخلاف في مسائل الشريعة.
وثانيهما: توسيع أفق قواعد الاستنباط لتصبح قادرة على مواكبة حاجيات الأمة، لتصبح أمة الشهادة على الناس. وهما مقاما التجديد الموكولين إلى العلماء في بعثة التجديد الموعود بها على رأس كل مائة سنة في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أما المقام الأول فمداخله السعي إلى تلمس القطع واليقين عبر البحث في كليات الشريعة ومقاصده العالية
وأما المقام الثاني فمداخله إبراز بعد الأمة في الشريعة وضرورة السعي لإيجاد الأمة القوية وبيان مسؤولية الأمة في تحقيق عالمية الشريعة ([44]).
وهي قضايا كبرى في فكر الإمام ابن عاشور يحتاج الخوض فيها إلى تفصيلات وتفريعات لا تناسب هذا المقام فعسى أن يقيض الله من الوقت والجهد ما يعين على ذلك.
خاتمة
إن الحديث في مقاصد الشريعة حديث ذو شجون، ولكن حسبي أني رميت فيه ببعض مما جاش في صدري وأنا أطالع بعض من كتب في جملة من قضاياه، أو وأنا أستمع إلى بعض الباحثين، ممن تناولوا قضية هذا البحث؛ فقد وجدت عند بعضهم تسرعا نحو الاتهام بغير دليل وتجنيا على بعض الأعلام بغير مسوغ خصوصا منهم الإمام محمد الطاهر بن عاشور من خلال الربط بين فكره المقاصدي وممالأته للاستعمار، على حد وصف بعضهم، فكان أن سعيت إلى محاولة رفع تلك التهمة الغليظة عنه وعن غيره، وأن أثبت الصلة المباشرة بين الفكر المقاصدي والفكر الإصلاحي عموما، ولعل ما يزيد الأمر وضوحا أن رواد المدرسة الإصلاحية هم من نفض الغبار عن موافقات الشاطبي وأولوه العناية والاهتمام اللازمين دراسة وتدريسا وتحقيقا ونشرا ثم نقدا وتقويما.
هذا وإن ما تعيشه الأمة اليوم يفرض على العلماء والباحثين تكثيف الاهتمام بالدرس المقاصدي وتوسيعا لآفاقه من أجل تلمس الحل والعودة بالأمة إلى مركز الشهود الحضاري. وأعتقد أن في تراث الأمة عامة وفي فكر الرواد من اعلامها خاصة ما يمكن البناء عليه في هذا الاتجاه.
وقد استقام لنا من خلال هذه الجولة مع هؤلاء الأعلام، أن الدرس المقاصدي قادر على إمداد العقل المسلم بآليات التجديد، وقدرته على ضمان توجيه الفعل الاجتهادي لضمان مواكبة الشريعة للمستجدات، وهما طريقان لا مخرج عنهما لكل من أراد إصلاح بنيان الأمة وتأهيلها لتكون الأمة الشاهدة، فعسى أن يهيئ الله عز وجل من يقوم بذلك، إنه وليه والقادر عليه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الصغير عبد المجيد الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة نشر دار المنتخب العربي الطبعة الأولى 1415هـ/1994م ص:321.
([2]) وقد سمعت من بعض الباحثين كلاما منكرا في الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله حرص صاحبه على رمي الإمام بتهم جزاف من قبيل ممالأته للاستعمار وخنوعه واستكانته الشديدتين مؤكدا مقولات بعض ممن لا هم لهم سوى التشكيك في أعلام الأمة. وهو ما دفعني إلى محاولة رد بعض من ذلك والله المستعان.
([3]) مجموعة باحثين، مقاصد الشريعة الإسلامية / دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى 2006م ص188/187 2
([4]) وأعني بهم الجويني والشاطبي وابن عاشور
([5]) أبو المعالي عبد الملك الجويني إمام الحرمين، غياث الأمم في التياث الظلم (الغياثي) تحقيق د. عبد العظيم الديب نشر مكتبة إمام الحرمين الطبعة الثانية 1401هـ، ص: 429.
([6]) غياث الأمم، ص: 17
([7]) المرجع نفسه، ص: 39
([8]) المرجع نفسه، ص: 522
([9])الصغير عبد المجيد الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية دار المنتخب العربي، الطبعة الأولى 1415هـ / 1994م ص: 427
([10]) غياث الأمم ص: 510-511
([11]) الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية. ص427
([12]) منهم الدكتور حمادي العبيدي في كتابه (الشاطبي ومقاصد الشريعة)
([13]) في قوله في الموافقات:« فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار وغر الظان أنه شيء ما سُمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله، وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه؛ فلا تلتفت إلى الإشكال دون اختبار، ولا تزم بمظنة الفائدة على غير اعتبار؛ فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار، ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما أبداه والإقرار حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل ويطرق صحة أفكارهم من العلل ؛ فالسعيد من عُدَّت سقطاته، والعالم من قلت غلطاته. الشاطبي إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي (المتوفى: 790هـ) كتاب الموافقات بتحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان نشر دار ابن عفان الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م. (1/13)
([14]) العبيد حمادي الشاطبي ومقاصد الشريعة دار قتيبة، الطبعة الأولى 1416هـ / 1996م، ص 134.
([15]) المرجع نفسه
([16])ابن عاشور محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي دار النفائس دون رقم طبعة ولا تاريخ طبع، ص. 174
([17]) الأنصاري فريد، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى1424هـ/2004م.ص: 141.
([18]) عنان محمد عبد الله، دولة الإسلام في الأندلس مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الأولى 1417هـ / 1997م، ص: 21
([19]) ابن عاشور محمد الفاضل، أعلام الفكر الإسلامي ص 73 نقلا عن حمادي العبيدي الشاطبي ومقاصد الشريعة (مرجع سابق) ص 201.
([20]) الأنصاري فريد، المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي ص: 153
([21]) المرجع نفسه، ص.153
([22]) الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية، ص309
([23]) الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص 242.
([24]) الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية ص 327 وما بعدها (بتصرف).
([25]) حمادي، العبيدي الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص..202
([26]) الموافقات (1/ 284).
([27]) وأقصد بهم رواد المدرسة الإصلاحية منذ جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ومن سار على منهاجهم
([28]) ابن عاشور محمد الفاضل، أعلام الفكر الإسلامي. الشريعة (مرجع سابق، ص 279.
([29]) المرجع نفسه، ص279.
([30]) المرجع نفسه.
([31])التركي عبد المجيد مناظرات في أصول الشريعة بين الباجي وابن حزم، ترجمة وتحقيق وتعليق عبد الصبور شاهين، نشر دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1406هـ/1986م، ص: 481
([32]) المرجع نفسه، ص: 475-476
([33])الحسني إسماعيل، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى (1416هـ – 1995).ص87/86.
([34]) الجورشي صلاح الدين، قراءة في الصراع الثقافي في تونس، مجلة الوحدة العدد 86 السنة 8 نونبر 1991 ص 221
([35]) تفصيل ذلك في مقدمتي كتابي المقاصد وأصول النظام الاجتماعي.
([36]) ابن عاشور محمد الطاهر أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، دار السلام، الطبعة الأولى 1426هـ – 2005م. ص 3.
([37]) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 165.
([38]) المرجع نفسه، ص 175
([39]) الترابي حسن، قضايا التجديد نحو منهج أصولي، معهد الدراسات والبحوث الاجتماعية، دون رقم طبعة ولا تاريخ طبع، ص:29.
([40]) مقدمة أصول النظام الاجتماعي ص 3.
([41]) أصول النظام الاجتماعي ص 13
([42]) مقاصد الشريعة الإسلامية ص: 175-176
([43]) أصول النظام الاجتماعي، ص 19.
([44]) يمكن تتبع تفاصيل ذلك ضمن مقال للإمام بعنوان من يجدد للأمة أمر دينها وشرح لحديث التجديد وهو منشور ضمن كتاب تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة عن دار السلام سنة 2007.
كما أن تفاصيل تلك الرؤية مبثوثة ضمن كتبه الثلاثة أليس الصبح بقريب ومقاصد الشريعة الإسلامية وأصول النظام الاجتماعي.
المصادر والمراجع
ـ أبو المعالي عبد الملك الجويني إمام الحرمين، غياث الأمم في التياث الظلم (الغياثي) تحقيق د. عبد العظيم الديب نشر مكتبة إمام الحرمين الطبعة الثانية 1401.
ـ الشاطبي إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي (المتوفى: 790هـ) كتاب الموافقات بتحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان نشر دار ابن عفان الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
ـ ابن عاشور محمد الطاهر، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، دار السلام، الطبعة الأولى 1426هـ – 2005م.
ـ ابن عاشور محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي دار النفائس دون رقم طبعة ولا تاريخ طبع.
ـ الترابي حسن، قضايا التجديد نحو منهج أصولي، معهد الدراسات والبحوث الاجتماعية، دون رقم طبعة ولا تاريخ طبع.
ـ التركي عبد المجيد مناظرات في أصول الشريعة بين الباجي وابن حزم، ترجمة وتحقيق وتعليق عبد الصبور شاهين، نشر دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1406هـ/1986م.
ـ الأنصاري فريد، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى1424هـ/2004م.
ـ الصغير عبد المجيد الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية دار المنتخب العربي، الطبعة الأولى 1415هـ / 1994م.
ـ الجورشي صلاح الدين، قراءة في الصراع الثقافي في تونس، مجلة الوحدة، العدد 86 السنة 8نونبر 1991
ـ الحسني إسماعيل، نظرية المقاصد نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى (1416هـ – 1995).
ـ العبيد حمادي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، دار قتيبة، الطبعة الأولى 1416هـ / 1996م. عنان محمد عبد الله، دولة الإسلام في الأندلس مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الأولى.1997 /1417
ـ مجموعة باحثين مقاصد الشريعة الإسلامية / دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى 2006م.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى