ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الورقة التأطيرية
وتضمنت تلاوة آيات الذكر الحكيم للباحث السيد رضوان حبشي، تلتها كلمة اللجنة التنظيمية من إلقاء الدكتور حميد عنبوري، عضو المكتب التنفيذي لمركز الأمانة، ثم العرض الافتتاحي من تقديم الأستاذ عبد السلام محمد الأحمر رئيس مركز الأمانة، وهو بعنوان:
في البداية أكد العارض اعتبار قصة الاستخلاف الواردة في القرآن الكريم، هي الحجر الأساس لوظيفة الاستخلاف، التي أنيطت بأدم وحواء وذريتهما من بعدهما، وأن الفاعلين الخالدين في هذه القصة هم: الله جل جلاله وملائكته الأطهار وآدم وحواء خلفاء الله في الأرض وإبليس الغوي المبين، ثم تساءل هل بإمكاننا أن نفترض بأن هذه القصة، اعتبارا لكونها مؤسسة لمهمة استخلاف الآدميين على الأرض، ستظل هي القصة الأصل التي نتج عنها كل ما وقع بعدها من أحداث وقصص على الأرض، واندرج في سلكها وانتهج نهجها، وأن ما سميناه الفاعلين الخالدين لقصة الاستخلاف الأم، سيظلون على الدوام خالدين في كل ما ستعرفه البشرية من قصص تتشابه في طبيعتها، وتتقارب في غايتها، وتتحدد بإطار الممارسة الاستخلافية ولا تخرج عن دائرتها المرسومة لها.
العرض الأول: القصة القرآنية والاستخلاف قراءة في الأنساق والدلالات.
في البداية أكد الأستاذ عبد السلام أقلمون، بأن هذا الموضوع يحتاج كثيرا من الروية والأناة لمعالجته واستنتاج ما ينبغي من قيم فنية ووظيفية. فعندما يتعلق الأمر بالقصة القرآنية وجب التنبيه إلى نسبة القصة إلى القرآن بحيث تنقل الوحدة الأولى من مدلولها الإنساني باعتبار القصة منتوجا بشريا، إلى مدلولها المتعالي بصفتها منتوجا إلهيا. فالذي يحكي القصة القرآنية هو “الله”، وبين بأن احتفال القرآن بالقصة واضح جلي، وتثمينه لقيمتها الاعتبارية متخلل للكثير من سياقات العرض والسرد، وحضورها النصي متغلغل في النسيج العام للقرآن ومحدد رئيس لبنائه النسقي، مما يجعل القصة في القرآن كباقي مكونات النص القرآني حقيقية وتنشد الحق. لهذا نجدها تعرض كلام المناوئين والمعارضين والكافرين والمتشككين… دون تزييف ولا تحريف؛ تماما كما تعرض كلام المؤمنين والمنيبين والموقنين والصالحين. بل نجد مشاركة شخوص كثيرة ومتنوعة في هذا الصرح الباني ل “أحسن القصص”: الملائكة، والشيطان، والجن، والأنبياء، والنساء، والرجال، والحيوانات، والطيور، والحشرات.. مما يجعل الإطار المستوعب للسرد القرآني متجاوزا للزمان والمكان بالمفهوم التقليدي الفيزيائي… فالقصة القرآنية تشمل الجنة والنار والأرض والسماء، وبداية الكون ونهاية الكون، وما بعد الكون… وهذا التأطير في النهاية يخدم القصص في دائرته الإنسانية المحدودة المحمولة على تجارب الأنبياء وسعيهم لتثبيت قيم التوحيد والتعايش والبناء: فدلت القصة على النوازع السياسية وتحدياتها الرهيبة مع الغطرسة في نموذجها الأعلى فرعون، وجاذبية المادة المجسدة في بريق المال والسعي للاستحواذ ومنع التداول والتوزيع العادل للثروة، ثم نوازع النفس وشكوكها، والإنابة ونتائجها، والرحمة الإلهية المدهشة في تسامحها مع آدم ويونس… وغيرها من القضايا التي يحفل بها قصص القرآن ويمكن عرضها في نماذج تطبيقية.
اتجهت المداخلة لبيان بأن للقصة في القرآن وظيفتها المنهجية والتكميلية. فهي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدينية، شأنها في ذلك شأن جميع الصور والقضايا الفنية، والمداخل البيانية التي يوظفها القرآن للنعيم والعذاب والقيامة والبعث والحشر.. وشأن الأدلة التي يسوقها لتقرير التشريع وأحكام العبادات والمعاملات. وشأن الأمثال التي يضربها، والبراهين التي يستدل بها، والظواهر التي يصفها. وبهذا تخالف القصة القرآنية القصة الفنية الحرة، التي ترمي إلى أداء غرض فني حر. وذلك لأن القرآن كتاب دعوة دينية وهداية للناس قبل كل شيء، فلا جرم أن كل ما يستدعيه من قضايا فنية وأدلة حجاجية وتقارير وصفية ونماذج بشرية وعناصر كونية ومادية…الخ؛ ينبغي أن لا يخرج عن خدمة هذه الغاية النبيلة. والقصة إحدى وسائله لإبداع هذه الغاية وتثبيتها.
وباعتبار القرآن الكريم كتاب هداية للبشرية جمعاء، فقد أجاب عن تلك الأسئلة من خلال إعطاء نموذج الإنسان الذي ينشده القرآن، ذلك الإنسان المستخلف بما يقتضيه الاستخلاف من أمانة ومسؤولية وإعمار وحساب وتكليف وابتلاء…
العرض الأول: الممارسة الاستخلافية في القصص القرآني من خلال سنة الابتلاء والتمكين.
تناول المتدخل في موضوعه أهمية القصص القرآني في استجلاء الممارسة الاستخلافية، باعتبار الإنسان مستخلفا في الأرض، وأن خير من جسد الممارسة الاستخلافية هم الأنبياء والمصلحون، الذين ذكرهم القرآن الكريم، وأن في قصصهم هديا قرآنيا مهما، وجب الاستفادة منه، خاصة في المحن والابتلاءات المتنوعة التي يمر منها المسلمون. ولذلك ركز المتدخل على سنتي الابتلاء والتمكين. فكان المدخل التمهيدي حول استخلاف الله للإنسان، وتحميله الأمانة.
اعتبر العارض ورقته محاولة لمقاربة موضوع أهمية معرفة السنن الإلهية، في تغيير الأفراد والمجتمعات والأمم الواردة في القصص القرآني، وترشيد وتوجيه الممارسة الاستخلافية، وذلك من خلال رصد واستجلاء بعض ملامح الأبعاد الاستخلافية للسنن الإلهية في التغيير، المبثوثة في القصص القرآني، على أساس أن هذا الأخير يعد رافدا مهما للسنن الإلهية، وأن السنن في القرآن الكريم تستعمل أحيانا بمعنى ما بيّنه الله للإنسانية من طرق واتجاهات عاشتها ومرت بها الأمم السالفة؛ حيث جعلها الله تعالى قوانين وسنن ونواميس ثابتة في الأفراد والمجتمعات والأمم، لا تتبدل ولا تتغير، قال الله تعالى:﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، وقال تعالى كذلك: ﴿ أَوَ لَمْ يَسيِرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾[سورة الروم: 9].
عالج المتدخل من خلال هذه القصة المتميزة والمشوقة والعميقة مدى أهمية الكفاءة في إسناد الولايات والمهام والمسؤوليات، وكيف تتظافر قيم النبل والرحمة والصدق والمحبة والعفو والتسامح في بناء شخصية الخليفة العادل، وما دلالة صفات الأمانة والقوة والعلم في التكليف بالمسؤوليات والمناصب والمهام. وألحقت بهذه الإشكالات مجموعة من الأسئلة الفرعية من مثل؛ ما هي الأسس القيمية التي جسدها يوسف من أجل التحقق بمبدأ الاستخلاف؟ ما حقيقة الأمانة والعلم في قصة يوسف؟ وما آثارهما في تحقيق العدل وصيانة الحقوق؟ ما هي أسس فقه الاستخلاف في المشروع الإصلاحي اليوسفي؟ ما وظيفة القصة عموما وقصة يوسف على وجه الخصوص؟
حاولت هذه الورقة البحثية التأكيد على مركزية مقصد التزكية، وصلته الوطيدة بمقصد الاستخلاف في الأرض، باعتباره أمانة عظمى طُلِب من الإنسان الوفاء بها، ولتحقيق النجاح في هذه المسؤولية الجسيمة، وأدائها على الوجه الذي يُرضي الخالق العظيم ،كان مضطرا لخوض تجربة الاستخلاف المريرة على وجه هذه الأرض -بما تنطوي عليه هذه التجربة من تحديات وابتلاءات-يحتاج معها إلى إرادة ثابتة وقيم دافعة، تحثه على العمل المتواصل لبلوغ مقاصده وفق إرادة المستخلِف، من هنا تبرز مكانة التزكية باعتبارها عملية تأهيلية لهذا الإنسان لابد منها لتحقيق فلاحه، والنجاة من الخسران، وهي الوظيفة التي اضطلع بها جميع الأنبياء عليهم السلام، فكانت من أعظم مقاصد بعثتهم إلى أقوامهم، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة 129]. وذلك لأن التمكين وتحقيق الاستخلاف الإيماني لا يتم إلا عن طريق تزكية المستخلَف، وانتصاره على النفس وأهوائها، وعلى وسوسة الشيطان وتحريضه، وتجاوز العقبات المانعة من عمارة الأرض بالخير والصلاح، فالتزكية أساس الاستخلاف الإيماني، وشرط لتحصيل نتائجه المباركة.
وبعد فترة المناقشة التأمت الجلسة الختامية برئاسة الأستاذ عبد السلام محمد الأحمر، حيث قدم د. مصطفى فاتيحي كلمة باسم مركز الأمانة، وقدم د. إدريس التركاوي كلمة باسم الأساتذة المؤطرين، وقدم د. عبد الرحيم خياري كلمة باسم المشاركين. وكان الختم بتلاوة آيات من الذكر الحكيم من طرف الباحث السيد يوسف زغلول.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة لمركز الأمانة على جهوده العلمية المباركة، كان يوما دراسيا موفقا بما عرفه من مساهمات جادة ومناقشات مفيدة. مزيدا من النجاح إن شاء الله