الدكتور الأستاذ مصطفى فاتيحي ألقى يوم السبت 08 صفر 1442 موافق 26 شتنبر 2020 على الساعة التاسعة ليلا محاضرة مباشرة على برنامج زوم، وصفحة المركز على الفيسبوك في موضوع: “السنن الإلهية ومسؤولية الإنسان” نص المحاضرة. تمهيد: إن الحديث عن السنن الإلهية حديث قديم وجديد ومتجدد، ولن ندعي اختراع العجلة ونحن نتحدث فيه؛ وإنما يقتضي تجدد الأجيال وتعاقبها البناء على جهود السابقين وتطويرها واستئناف النظر فيها، فإذا كان لمن سلف من العلماء والمفكرين والباحثين من أمثال مالك بن نبي ومحمد الطاهر بن عاشور ورشيد رضا وإسماعيل راجي الفاروقي ومحمد باقر الصدر ومحمد الغزالي وجودت السعيد وعبد الكريم زيدان وطه جابر العلواني وعماد الدين خليل وكذا المعاصرين الذين لازالوا يكتبون ويؤطرون في الموضوع، كعبد المجيد النجار والطيب برغوث وعبد العزيز البطيوي ورشيد كهوس_ إذا كان لكل أولئك فضل السبق في استشكال الموضوع وبيان اهميته وآفاقه فإن على من لحق بهم واجب التطوير والتحميص والعمل على الاستنبات والتبيئة. هذا وإن الحديث عن السنن الإلهية حديث مركب ومتشابك ولفك ذلك التشابك وتحليل ذلك التركيب فإن الموضوع ينتظم في العناصر الآتية: تقديم استشكالي لبيان جوهر الموضوع وامتداداته؛ ثم تعريف للسنن الإلهية وخصائصها وعلاقتها بمسؤولية الإنسان؛ ثم بيان مظاهر تعطيل السنن الإلهية في واقعنا؛ ثم بيان أهميتها وآثارها. تقديم استشكالي: شاءت إرادة الخالق سبحانه أن يجعل الإنسان مطلق الإنسان خليفة في الأرض وكلفه بأمانة عمارتها وأناط به مسؤولية الكد والسعي وبذل الجهد فيها، وفي سبيل تحقيق ذلك خُلق الإنسان مؤهلا للقيام بتلك المسؤولية بما أعطي من قدرات وطاقات وإمكانات وقابليات. ولذلك نجد القرآن الكريم يردف مباشرة الحديث عن الخلافة بالإشارة الصريحة إلى نعمة اللغة التي استطاع الإنسان من خلالها أن يختزل الأشياء وعناصر الكون ومفرداته في كلمات، وهذه الملكة جعلت بعض العلماء الذين ينكرون الغيب يكاد يسميها معجزة. بالإضافة إلى ملكة التحليل والتأمل والتركيب والاستنتاج والاستقراء وهي العقل، الذي ما فتئ القرآن يشيد به ويعلي من شأنه وينعي على معطليه والخائفين من إعماله، ويصفهم بأقدح الأوصاف والنعوت. وجُعل الكون مقر ومكان الاستخلاف قابلا للتعقل والفهم والتسخير، ولقد لخص بعض العلماء ذلك من خلال قوله: إن التأمل في الكون يدل دلالة واضحة أنه مستعد لاستقبالنا. وقال آخر إن تصور الكرة الأرضية بغير إنسان كمن يقدم مسرحية لغير جمهور. ولقد سجل التاريخ وكذا الواقع المشاهد نجاح الإنسان أحيانا في استثمار الإمكانات المتاحة لديه فحقق إنجازات باهرة وأخفق في أخرى إخفاقات مدمرة. ومدار الإخفاق والنجاح على سنن إلهية مطلوب من الإنسان أن يفقهها ويستوعبها من أجل ركوبها وتوظيفها، فمن أخذ بها فاز وأفلح سواء كان فردا أو جماعة، ومن تنكبها وغفل عنها تجاوزته ودحرته. ولم يكن تعقل تلك السنن على وزان واحد، بل نجده راجعا إلى الرؤية الكونية وارتباطه بالأسئلة الوجودية والرؤية الكلية للوجود والعالم، من رؤية مادية صلبة ورؤية توحيدية ورؤية تجريدية وروحية انسحابية. والمقصود بالرؤية التوحيدية كما يجليها إسماعيل راجي الفاروقي في التوحيد ومضامينه -المقصود بها- تلك الرؤية التي تتفاعل مع السنن الكونية في إطار الإيمان بالله وخالقيته وحاكميته، فيكون التوحيد دافعا للعمل وبذل الجهد واستفراغ الوسع والسير في ملكوت الله والإفادة من ما سخر للإنسان. يقسم لؤي صافي الرؤية المادية للوجود إلى أقسام ثلاثة: أـ الرؤية المادية ـ الرؤية الآلية للوجود التي تمثلها آراء ديكارت وكانط، ويعتقد أصحاب هذه الرؤية، تأثرا بالمدرسة الأفلاطونية، أن الله هو المحرك الأول الذي قام بتصميم الكون، ثم تركه يسير وفق آلياته وقوانينه الذاتية، لذلك ترى هذه المدرسة أن العقل قادر على توجيه الفعل وفق مثُل يمكن اكتشافها بالنظر والتأمل. ـ الرؤية الحلولية للوجود، وتمثلها آراء سبينوزا وهيجل، ويخلط هؤلاء بين مفهومي الله والإنسان، ويرون أن الأول صنو للوجود الكلي للثاني. فالله في نظرهم هو الإنسان الكامل، والكمال الإنساني صنو للألوهية. ولا يرى هؤلاء أن هناك مثل متعالية عن الواقع الإنساني الاجتماعي، بل يرون أن تطور البشرية اكتمال للعقل. لذلك يصر هيغل على أن الحياة الأخلاقية هي الحياة العقلية، وأن نضج العقل وتطوره لا يدرك إلا من خلال الواقع. ـ أما الرؤية المادية للوجود فيمثلها ماركس ومن حذا حذوه. ويساوي هؤلاء بين الله والطبيعة، ويعتقدون في حكمة الحياة الطبيعية وعقلانية المادة، وخضوع الإنسان لنوازعها وقواها. ويرون أن الوعي الإنساني أرقى شكل من أشكال الحياة المادية. ويصر ماركس على أن سعادة الإنسان في الانفلات من القيود الاجتماعية، وتحطيم كل الأشكال التي تؤدي إلى قيام تضامنات داخلية ضمن المجتمع الإنساني برمته. لذلك حمل الفكر الماركسي على كل الأشكال التنظيمية الوسيطة، بدءا بالأسرة ومرورا بالمؤسسة الاقتصادية، كالشركة، وانتهاء بالدولة نفسها.[1] وعند إمعان النظر بين هذه الرؤى بالرغم من التباين الظاهري بينها، نجدها تتقاطع كلها في النظر إلى العالم نظرة مادية صرفة. فالعالم نسق كلي طبيعي مادي متماسك وفي حالة حركة دائمة مستمرة، والعالم مكون إما من ذرات تائهة حسب الرؤية الآلية للكون أو كيان عضوي مصمت متماسك حسب الرؤية العضوية أو خليط منهما. والعالم يتسم بالسببية الصلبة الكاملة، بمعنى أن كل شيء له سبب مادي وأن –أ- ستؤدي حتما إلى –ب- دائما وأبدا إن تكررت نفس الظروف.[2] ولا يشكل الإنسان أي استثناء من هذه المعادلة، وإنما هو جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة فهو كائن طبيعي موجود في كليته داخل النظام الطبيعي يسري عليه ما يسري على الكائنات الأخرى، يخضع لنفس القوانين وليس له أي تميز أو خصوصية. ومن ثم تسقط كل الحدود الإنسانية المتعينة وتسقط معها كل الهويات. ومع الهوية، يسقط العالم المركب حيث توجد الأنا والاخر وحيث يوجد الإنسان ككائن أخلاقي مسؤول عن أفعاله، يختار بين الخير والشر. بدلا من ذلك، يظهر عالم مستو أملس لا حدود له، يدخل السعادة على العقول المادية الطفولية.[3] في مقابل هذه المادية الصلبة في النظر إلى الكون، هناك رؤية أخرى سماها علي عزت بيجوفيتش بالدين المجرد، وهو دين يقوم على نظرة تجزيئية تهمين عليها الروح الانسحابية والبحث عن الخلاص الفردي. وهناك طريق ثالث لا هو مادية صلبة ولا هو دين مجرد، وهو ما سماه أيضا علي عزت بالوحدة ثنائية القطب، بحيث تتكامل الجوانب المادية بالروحية والمعنوية دون هيمنة أو طغيان. ولتقريب ذلك نذكر المقارنة التي قام بها مالك بن نبي بين قصة حي بن يقظان لابن طفيل وبين روبنسون كروزو لدي فوي. يلخص مالك بن نبي القصة قائلا: بالنسبة لروبنسون كروزو يتحدد يومه من خلال قوله: بدأت أنظم وقت عملي وخروجي، وقت راحتي ونزهاتي، وانطلاقا من هذه القاعدة التي واظبت على مراعاتها، كنت أخرج في الصباح إذا لم يكن الطقس ممطرا، ومعي بندقيتي لمدة ساعتين أو ثلاث، ثم أعمل بعد ذلك إلى ما يقارب الساعة الحادية عشرة، ثم آكل ما كنت أستطيع الحصول عليه، وكنت أنام من الظهر حتى الساعة الثانية بسبب الحر المضني، وفي المساء كنت أستأنف العمل، لقد أنفقت وقتي كله في ذلك اليوم، وفي اليوم التالي في صنع طاولة لنفسي، ذلك أنني لم أكن آنذاك سوى عامل بائس، ولكن الزمن والحاجة جعلاني فيما بعد صانها ماهرا. فروبنسون كروزو يتغلب على كآبة الوحدة بالعمل، وخلال هذا الوقت من ذلك اليوم فإن عالم أفكاره كله يتركز حول (شيء) إنها الطاولة التي كان يريد صنعها لنفسه. أما بالنسبة لحي بن يقظان فإن مغامرة الوحدة تتخذ لها اتجاها مختلفا تماما، فهي لا تبدو في الواقع إلا بعد أن نفقت الغزالة التي تبنت الطفل المنعزل كأم ترعاه، فكان يرتاد بها المراعي الخصبة، ويجتني لها الثمرات الخلوة، ويطعمها، وما زال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركتها بالجملة، فرأها الصبي على تلك الحالة فكادت نفسه تفيض آسفا عليها… ليبدأ رحلة شاقة من التساؤل والقلق المعرفي والدوار الميتفازيقي والهم الوجودي. يعلق مالك على ذلك: إن العالم هنا، عالم تتركز فيه الأشياء حول الفكرة، فحي بن يقظان لا يتغلب على كآبة الشعور بالوحدة بصنع طاولة، بل ببناء الأفكار واكتشافها. في اللحظة التي لا يبصر روبنسون كروزو من الحياة إلا جوانبها الحسية الملموسة أي الطواف حول عالم الأشياء، وهو ما يسمه عبد الوهاب المسيري المرجعية الكامنة، نجد حي بن يقظان يتجاوز ذلك إلى عالم الأفكار والمعاني المطلقة، وهو ما يسميه عبد الوهاب المسيري المرجعية المتجاوزة.[4] ونستحضر أيضا ما ذكره محمد إقبال فقد تحدث عن الفرق بين النبي الذي يحمل هم أمة والصوفي الذي يبحث عن الخلاص الفردي، فنقل عن الولي الصوفي عبد القدوس الجنجوهي قوله ” صعد النبي محمد العربي إلى السموات العلى ثم عاد، وأقسم بالله لو أني وصلت إلى هذا المقام فلن أعود أبدا”، وربما كان من الصعب أن تجد في الكتابات الصوفية كلها كلمات تعبر عن هذا الإدراك العميق للفرق السيكولوجي بين الوعي النبوي والوعي الصوفي. فالصوفي لا يريد أن يرجع من السكينة التي ذاقها في تجربة التوحيد ومقام الشهود، وحتى لو أنه عاد – وهو ما لا بد أن يفعله- فإن عودته لا تعني الكثير بالنسبة للبشرية. ولكن عودة النبي هي عودة خلاقة مبدعة، فهو يعود لكي يقتحم الزمن قاصدا التحكم في قوى التاريخ، ومن ثم يصنع عالما جديدا من المثل العليا. تجربة التوحد ومقام الشهود عند الصوفي وما يستشعره في هذه الحال من سكينة في غاية نهائية بالنسبة له. دروة أشواقه ومنتهى مطامحه، أما بالنسبة للنبي فالأمر جد مختلف. إنها يقظة عارمة لقواه النفسية الجوانية. بداية مهمة روحية من شأنها أن تهز العالم من حوله. تجربة جديدة مقدر لها أن تغير العالم الإنساني وتحوله تحولا كاملا. بالنسبة للنبي هي رغبة قصوى في أن يرى تجربته الدينية وقد تحولت إلى قوة عالمية حية. وهكذا فإن عودته من موقف الشهود تعد من الاختبار العملي لقيمة تجربته الدينية، في هذه التجربة تبرز إرادة النبي في أدائها الخلاق، فهي تقيم نفسها من ناحية، وتقدر من ناحية أخرى قوى العالم المادي للحقيقة، هذا العالم الذي تسعى لتحقيق وجودها فيه وجودا موضوعيا. وعندما ينفذ النبي في العالم المادي تواجهه قوى المصادمة والمقاومة، وهنا يكتشف النبي ذاته لنفسه، ويزيح القناع عن ذاته أمام عين التاريخ.[5] جلي إذن أن روبنسون كروزو رمز للرؤية المادية الصلبة، وحي بن يقظان يمثل الرؤية الوحدة ثنائية القطب، وعبد القدوس الصوفي يمثل رؤية الدين المجرد. ومنه نتساءل هل جسدنا نحن الرؤية التوحيدية أم نتأرجح بين الرؤية المادية والرؤية التجريدية الانسحابية؟ للجواب عن هذا التساؤل نعرف السنن الإلهية ونبين خصائصها ثم علاقتها بمسؤولية الإنسان. باختصار، السنن الإلهية هي مجموع القوانين والنواميس التي أودعها الله في الكون وجعلها في خدمة الإنسان وطوع أمره لتحقيق مهمة الاستخلاف.[6] ولن يكون بمقدور المسلم تنفيذ مطالب مهمته الاستخلافية ومنحها الضمانات الكافية، وإعانتها على تحقيق أهدافها، مالم يضع خطواته على الكون القريب من أجل الإفادة من طاقاتها المذخورة وتحقيق قدر أكبر من الوفاق بين الإنسان وبين محيطه، وبدون هذا فإن مبدأ الاستخلاف لن يكون بأكثر من نظرية أو عقيدة تسبح في الفراغ.[7] خصائصها: من أبرز المفكرين الذين تناولوا خصائص السنن الإلهية محمد باقر الصدر وجعلها ثلاث، ويمكن أن نستنتج تحت كل خاصية خصائص أخرى، وهي: 1ـ الاطراد: بمعنى أن السنة مطردة فهي ليست علاقة عشوائية قائمة على أساس الصدفة والاتفاق، وإنما هي علاقة ذات طابع موضوعي، لا تتخلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة، وكأن التأكيد على طابع الاطراد في السنة، تأكيد على الطابع العلمي للقانون. 2ـ الربانية: الحقيقة الثانية التي أكدت عليها النصوص القرآنية، ربانية السنة وارتباطها بالله سبحانه، بمعنى أن كل القوانين في الكون هو قرار رباني، هذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانية السنة وعلى طابعها الغيبي، يستهدف ربط الإنسان، حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون، بالله سبحانه، وإشعار الإنسان بأن الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية، والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات، ليس انعزالا عن الله سبحانه، لأن الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن، فهي إرادة الله، وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون. إن الطابع الرباني الذي يسبغه القرآن الكريم، ليس بديلا عن التفسير الموضوعي، وإنما هو ربط لهذا التفسير الموضوعي بالله سبحانه، من أجل إكمال الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم الخاصية الثالثة: هي حرية الإنسان قد يتوهم البعض أن هناك تعارضا بين السنن المودعة في الكون وحرية الإنسان بما يعني نوعا من الحتمية والجبرية وليس الأمر كذلك. ويوضح محمد باقر الصدر ذلك من خلال قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]: التغيير هنا أسند إليهم، فهو فعلهم، إبداعهم وإرادتهم، وحينما يحتل إبداع الإنسان واختياره موضوع الشرط في القضية الشرطية، تصبح السنة متلائمة تماما مع اختيار الإنسان، بل إن السنة حينئذ، تزيد الإنسان اختيارا وقدرة وتمكنا من التصرف في موقفه، عينا كما كان القانون الطبيعي يزيد من قدرة الإنسان على التحكم في الغليان، بعد ان عرف شروطه وظروفه.[8] كما يوضح أحمد كنعان في كتابه (أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، ذلك بقوله: وثبات السنة على صورة واحدة لا تتبدل، يشكل نوعاً من العقبة أمامنا بقدر ما يمنحنا قدرة على التعامل معها والتحكم بمسارها، إذ كيف يمكننا أن نوجه السنة أو نسخرها لخدمتنا، ونحن لا نملك أن نغير شيئاً من طبيعتها؟ هنا يمكن أن نشبه السنة بالجدار المتين، الذي لا يمكن هدمه، ولا اختراقه، ولا زحزحته عن مكانه، فمثل هذا الجدار يمثل – دون ريب – نوعاً من التحدي أمامنا.. غير أننا يمكن أن نواجه هذه العقبة دون تغيير شيء من صفات الجدار.. فيمكننا مثلاً أن نستخدمه للاستناد وإقامة جسر فوقه، أو نستخدمه كجزء من بناء غرفة، أو نستخدمه لدرء الريح والشمس.. وبهذا نستطيع التحكم بالجدار من غير تبديل في وضعه أو اتجاهه أو صفاته.. وكذلك هي سنن الله في الخلق، والله عز وجل وهبنا القدرة على تسخيرها في شؤون حياتنا بهدايته لنا إلى كشف صفاتها، وإعطائنا القدرة على التصرف بها، من خلال هذه الصفات، وليس من خلال تغييرها [9]. هذه الخصائص نتلمسها حية في التجربة الإصلاحية للأنبياء، فإن القانون العام في بعثتهم هو الانطلاق من هذه السنن في الإصلاح والتغيير، فالله تعالى قادر على أن يبعث رسولا وقد أعطاه كل أسباب القوة والتمكين ويظهر هكذا فجأة على القوم المفسدين فيصلحهم. وقد طلب المشركون هذا بصلف وعجرفة (وَقَالُوا ما لهَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7). (الفرقان). فأجابهم القرآن بشكل حاسم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ الفرقان. وإن الله قادر على أن يبعث رسوله في مكان مملوء بالبحيرات سويسرا أو كله غابات كالمناطق الاستوائية. لكن أن يبعث رسول الله في مكان مجرد من كل أسباب القوة: يُتم وفقر وبيئة قاسية وموارد بشرية صعبة المراس فإن ذلك يدعو للتأمل خصوصا بعد النجاح المبهر. فمنذ المراحل الأولى لنزول الوحي كنا أمام ركوب للسنن الكونية، تدبيرا، وتخطيطا، وتوقعا واستشرافا، وتعليما وتحالفا وموالاة واستثمار للقيم الجاهلية، والتدرج في الإصلاح ومراعاة الأحوال والظروف والأعراف، والإفادة من تجارب الغير وقراءة المآلات وعدم استعجال النتائج. إلى جانب ذلك نجد القرآن يبني الشخصية القادرة على تحمل المسؤولية وينعي على العقلية التبريرية في اللحظات التي يقع فيها إخفاق بالعبارة الصريحة الواضحة: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) آل عمران: 165. يقول ابن عاشور: ووَجْهُ الحاجَةِ إلى هَذا الأمْرِ مَعَ أنَّ الِاسْتِعْدادَ لِلْحَرْبِ مَرْكُوزٌ في الطِّباعِ – تَنْبِيهُ المُسْلِمِينَ، فَإنَّهم قَدْ يُقَصِّرُونَ في الإتْيانِ عَلى مُنْتَهى الِاسْتِعْدادِ لِعَدُوٍّ قَوِيٍّ؛ لِأنَّهم قَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُهم إيمانًا بِاللَّهِ وثِقَةً بِهِ، ومُلِئَتْ أسْماعُهم بِوَعْدِ اللَّهِ إيّاهُمُ النَّصْرَ وأخِيرًا بِقَوْلِهِ: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٩٤] نُبِّهُوا عَلى أنَّ تَعَهُّدَ اللَّهِ لَهم بِالتَّأْيِيدِ والنَّصْرِ لا يُسْقِطُ عَنْهم أخْذَ العُدَّةِ المَعْرُوفَةِ، فَلا يَحْسَبُوا أنَّهم غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِبَذْلِ الوُسْعِ لِوَسائِلِ النَّصْرِ الَّتِي هي أسْبابٌ ناطَ اللَّهُ تَعالى بِها مُسَبَّباتِها عَلى حَسَبِ الحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضاها النِّظامُ الَّذِي سَنَّهُ اللَّهُ في الأسْبابِ ومُسَبَّباتِها، فَتَطَلُّبُ المُسَبَّباتِ دُونَ أسْبابِها غَلَطٌ وسُوءُ أدَبٍ مَعَ خالِقِ الأسْبابِ ومُسَبَّباتِها كَيْ لا يَكُونُوا كالَّذِينَ قالُوا لِمُوسى ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] فالمُسْلِمُونَ إذا بَذَلُوا وُسْعَهم، ولَمْ يُفَرِّطُوا في شَيْءٍ ثُمَّ ارْتَبَكُوا في أمْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فاللَّهُ ناصِرُهم، ومُؤَيِّدُهم فِيما لا قِبَلَ لَهم بِتَحْصِيلِهِ، ولَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وهم أذِلَّةٌ؛ إذْ هم يَوْمَئِذٍ جُمْلَةُ المُسْلِمِينَ وإذْ لَمْ يُقَصِّرُوا في شَيْءٍ، فَأمّا أقْوامٌ يُتْلِفُونَ أمْوالَ المُسْلِمِينَ في شَهَواتِهِمْ، ويُفِيتُونَ الفُرَصَ وقْتَ الأمْنِ فَلا يَسْتَعِدُّونَ لِشَيْءٍ ثُمَّ يَطْلُبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ والظَّفَرَ، فَأُولَئِكَ قَوْمٌ مَغْرُورُونَ، ولِذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أعْداءَهم بِتَفْرِيطِهِمْ.[10] لكن للأسف تنكبنا عن هذا الطريق كما يرى عبد المجيد النجار: لعوامل متعددة داخلية وخارجية بحيث تسرب الخلل إلى الفكر السببي عند المسلمين، ثم جعل يستفحل شيئا فشيئا عبر الزمن إلى أن كان أحد العوامل الأساسية في سقوط التحضر الإسلامي. نعاني اليوم نحن المسلمين من هذا الخلل المترسب عبر القرون ما يمثل عائقا هاما من عوائق الانطلاق في النهوض الحضاري، وهو خلل يظهر في مظاهر متنوعة، ولكنها تلتقي جميعا في اضطراب يصيب مفهوم السببية في الفكر والعمل معا، فيؤدي إلى طلب للنتائج من غير أسبابها، وإجراء لتصرفات الحياة لتصرفات الحياة على غير قواعدها المنتجة.[11] ومن مظاهر ذلك: 1ـ العقلية الانتظارية والثقافة التبريرية تبرير الأخطاب والبحث المستمر عن مشجب تعلق عليه الإخفاقات، ولغتنا المستعملة تكشف جانبا من ذلك، ومن الأمثلة الطريفة (هربت علي الحافلة، أغلق علي الباب، ضربتني الطاولة). في كتاب ستفين كوفي[12] جدول بيداغوجي صنف فيه لغة الناجح ولغة الفاشل، في خانة وضع المفردات التي يستعملها كل نمط: الأول يقول سأحاول، يمكن، أستطيع، أجرب… والأخر لو، مستحيل، لن يسمحون لي، أنت السبب في فشلي، الظروف الواقع والإمكانيات… من الأمراض النفسية المتفشية في كثير من مجتمعات الإسلامية ذلك المظهر من الاتكالية الاجتماعية على الدولة، حيث يلقي المجتمع بمسؤولياته كاملة على الدولة، يطلب منها أن تقوم هي عنه بكل ما من شأنه أن يقوم هو به، فإذا هو ينسحب من ميدان الأفعال الخيرية، وواجبات التكافل الاجتماعي، ومهمات المراقبة العامة والإشراف التربوي ليلقي بها جميعا على عاتق الدولة ويكون عيالا فيها عليها.[13] 2ـ اختلال مفهوم العمل الصالح يتحدث ماجد عرسان الكيلاني عن انحسار مفهوم العمل الصالح وحصره في ميادين العبادة والأخلاق الفردية، ويرى أن هذا الانحسار قد حدث منذ قرون، وهو بعض نتائج الانشقاق الذي حدث بين العلوم الدينية وبين العلوم الطبيعية والاجتماعية في الحضارة الإسلامية. ومن نتائج حصر العمل الصالح في العبادات وانحساره من ميادين القدرات التسخيرية والإنتاج واستغلال المصادر والكشف العلمي، شيوع الجبرية والكسل وما ينتج عنهما من مضاعفات. وأيضا إن حصر العمل الصالح في الأخلاق الفردية وانحساره من ميادين العلاقات الاجتماعية أدى إلى حصر المثل العليا الإسلامية في السلوك الفردي، بينما صار الفرد المسلم المعاصر لا يستجيب للنظام ولا يهتم بشؤون الأخرين ولا بتسهيل أمورهم ومراعاة حاجاتهم، حتى إنه ليعيش هذا التناقض بين السلوك الفردي والسلوك الجماعي وهو يمارس الشعائر التعبدية كالصلاة والحج، ولقد انسحبت هذه الظاهرة على حياة المجتمعات الإسلامية المعاصرة فصارت نموذجا غير صالح للإسلام عند من يتعامل مع هذه المجتمعات من غير المسلمين. وهذا كله أدى إلى ضمور الواجبات الحضارية (احترام الوقت وتنظيمه، القراءة، إتقان العمل….) اختلال مفهوم العمل الصالح أيضا أفضى إلى تشويه مجموعة من القيم والمفاهيم، فانقلب معنى الصبر من الصبر على مقارعة الشر إلى الصبر على المرض والجهل والفقر والظلم والهزيمة والتخلف. وانقلب معنى الزهد من زهد الأغنياء والأقوياء بالثروة والجاه وصار يعني عجز الفقراء والقاعدين عن العمل والراضين بالضعف والهوان. وانقلب معنى التوكل من الثبات بعد استكمال الاستعداد والتخطيط، فصار تبريرا للارتجالية والفوضى وعدم الإعداد. وانقلب معنى التسليم للمشيئة الإلهية فصار تبريرا للتراخي وعدم الإنجاز بعد أن كان تصميما على مواجهة جميع المصاعب والتحديات ماعدا مشيئة الله. إن العمل الصالح الذي هـو سمة الفرد الصالح، هـو ثمرة عدد معين من العمليات التربوية التي تتكامل حسب نسق معين، يمكن أن نوجزه في المعادلات التالية: العمل الصالح = القدرة التسخيرية + الإرادة العازمة. الإرادة العازمة = القدرات العقلية الناضجة + المثل الأعلى. القدرة التسخيرية = القدرات العقلية الناضجة + الخبرات الدينية والاجتماعية والكونية المربية. وجميع هـذه العناصر التي تشمل عليها المعادلات المذكورة أعلاه تنمو وتنضج بالتربية والإعداد المناسبين. لذلك لا تكفي التربية الإسلامية بوعظ الإنسان لإتيان العمل الصالح، وإنما يسبق الوعظ إحكام تنمية المكونات الأولى للعمل الصالح، أي تنمية القدرات العقلية، والوصول بها إلى درجة النضج، ثم المثل الأعلى، ثم الخبرات الدينية والاجتماعية والكونية، ثم المزاوجة بينها طبقًا لقواعد معينة لتوجد المركبين الآخرين وهما: الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية باعتبارها جميعًا، حين تنضج تربيتها، تنتهي إلى إنجاب (العمل الصالح) الذي هـو الهدف الأخير للعملية التربوية. وإحكام تنمية مكونات العمل الصالح، وتنسيقها، وإحكام التفاعل والمزاوجة بينها لإنجاب مركب (العمل الصالح) هـو بعض مظاهر (طريقة الحكمة) في التربية الإسلامية، التي وجه القرآن إلى ضرورة تعاملها مع كل من طريقة الوعظ وطريقة الجدال الأحسن.[14] 3ـ القابلية لتصديق الخرافة دعما للإيمان ونصرته(أحيانا دون أن نشعر نجعل الإيمان في مصادمة مع السنن الإلهية عندما نستدرج إلى الاستعانة بالدجل والخرافة لدعم فكرة إيمانية، على سبيل المثال: شجرة تسجد أو طفل مكتوب عليه اسم الله أو رؤيا منامية، وهو الصورة المقابلة عند الذين يصدقون الأبراج رغم ادعاء العقلانية والتنوير. 4ـ الزراية بالممارسة الفكرية:بحيث تعتبر من فضول القول ومن المسائل المرجوحة والقضايا المفضولة، في حين أن كثيرا من التشوهات السلوكية ترجع إلى أعطاب في التصور واختلالات في الفكر. 5ـ غياب النقد: هناك تبرم جلي من الممارسة النقدية من أجل مطامنة الذات، بقبول ما هو موجود وركون إلى الجاهز المألوف، وغياب النقد برهان على غياب الوعي بالذات وبمكامن الخلل فيها. 6ـ الالتباس بين الإيمان بالقضاء والقدر وتبرير العجز والتقصير: يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور: فالرضا بالقضاء والقدر أدب إسلامي موقعه عند الأحوال التي يغلب المسلم فيها على سعيه فيخيب فيه، أو عند الحوادث الخارجة عن مقدرة الإنسان، فمن الأدب الديني أن يرضى بذلك ولا يجزع وهو ضرب من الصبر معلل باعتقاد أن قدرة الله أكبر من كل مقدرة، فعدم تيسر المسبب مع السعي في الأسباب بدون تقصير يدل على أن الله لم تتعلق إرادته بحصوله، لأنه علم أنه غيرُ، فذلك معنى قوله في الحديث: ( كل شيء بقضاء وقدر، ونعم هو للرجل المسلم في حياته بحيث يكون مطمئن البال عند المصائب متأدبا مع ربه ملتفتا إلى ما عسى أن يأتي من اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة، فالرضى بالقضاء والقدر سلوة وعزاء للمؤمن لكي يُذهب حرج نفسه عقب الخيبة أو عند حلول المصيبة فهو أدب خاص بنفس المؤمن، وليس هو عذر يعتذر به المقصر عند تقصيره أو المستسلم في فشله.[15] 7ـ الالتباس بين التفسير الغائي والتواكل: هناك خلل جلي في تفسير كثير من الظواهر الطبيعية بما يمكن عده هروبا من مواجهة الواقع، يقول صاحب كتاب (أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق) النظرة الغائية: ونعني بها نظرتنا إلى ظواهر الحياة من جهة الغاية أو الحكمة، التي من أجلها تحدث هذه الظواهر.. فنحن مثلاً نعتقد أن البراكين والزلازل تضرب القرى والمدن، وتهلك الناس عقوبة من الله عز وجل على ما ارتكبوا من آثام وجرائم، وكذلك نعتقد بالمرض وبسائر الكوارث الطبيعية.. ومع تسليمنا بأن لهذا الاعتقاد ما يبرره انطلاقاً من إيماننا بأن لله حكمة في كل ما يجري في هذا الكون والتي قد ندركها وقد لا ندركها.. إلا أن اعتقادنا بالحكمة الإلهية على هذه الصورة يجب ألا يحول بيننا وبين النظر إلى المسألة من جانب آخر، وهو معرفة الأسباب التي تؤدي عادة لحدوث هذه الظواهر، لأن معرفة الأسباب تفيدنا في التحكم بالظواهر الكونية المختلفة، وتجعلنا أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا، ودرء أخطارها عنا بإذن الله. أضف إلى ذلك أن النظر إلى الأحداث من جهة الحكمة في وقوعها فحسب، يضعنا في موقع السلبية المطلقة التي تكتفي بتأمل الأحداث من الخارج، بدل المشاركة فيها مشاركة إيجابية فعالة.. علماً بأن مثل هذه المواقف السلبية كثيرة في حياتنا العملية . هكذا تحطم شالنجر: المكوك الفضائي ( شالنجر ) يذكر أحمد كنعان تجربة عاشها أثناء إطلاق المكوك الفضائي الأمريكي عندما دعاه أحد زملائه لمشاهدة عملية الإطلاق مباشرة، وبينما هم في الانتظار كان زميله يعبر عند إعجابه الشديد بالتجربة الغربية وعن ضرورة اتخاذها نموذجا، لكن ما لبث أن تبدل كلية لما تحطم المكوك عند إطلاقه معتبرا ذلك عقوبة إلهية وتحد للقوة البشرية. يعلق أحمد كنعان على موقف صاحبه: لقد كان واضحاً من هذا التبدل المفاجئ في موقف صاحبي أنه لم يكن يصدر في تقويمه للحادث عن نظرة موضوعية بمقدار ما كان يصدر عن نظرة غائية قاصرة تستهدف ( التبرير) أكثر مما تستهدف معرفة الأسباب الموضوعية، التي أدت إلى الانفجار ، والتي يمكن بمعرفتها منع تكرار الكارثة مرة أخرى! ومن المؤكد لو أن العلماء والمسؤولين في وكالة الفضاء الأمريكية ( ناسا ) نظروا للحدث كما نظر إليه صاحبي لأوقفوا تماماً برامجهم الفضائية ، بانتظار أن تتراجع الولايات المتحدة عن غطرستها، وانتظار أن يصلح حال المجتمع الأمريكي، ( ترى كم من السنوات أو القرون سيستغرق ذلك ؟ لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل سرعان ما عكف العلماء والمسؤولون في وكالة الفضاء على دراسة وتحديد الظروف والأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة .. وما هي إلا شهور قليلة حتى قامت الوكالة من كبوتها، ودبت الحياة من جديد في قاعدة (كيب كينيدي) وانطلق المكوك التالي إلى الفضاء وفق البرنامج المقرر ! إن النظر إلى الأحداث على هذه الشاكلة لا يعني إغفال جانب الحكمة فيها، بل يعني فهماً جديداً للحكمة ، يقوم على معرفة الأسباب الكامنة وراء الأحداث، أو معرفة السنن التي تحكم الأحداث .. لأننا بهذه المعرفة نصبح أقدر على توجيه الأحداث، بما يتوافق وأمانة الاستخلاف، التي نيطت بنا. وفي هذا الصدد نجد ابن عاشور يكثر من هذه العبارة وهي (فيه أدب مع الله، من ذلك قوله: (ينصر من يشاء) فيه أدب عظيم للمسلمين لكيلا يعللوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عللا توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم. وهذا المعنى كان النبيء صلى الله عليه وسلم يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبيء صلى الله عليه وسلم فقال الناس كسفت لموت إبراهيم فخطب النبيء صلى الله عليه وسلم، فقال في خطبته: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادث المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواما وتضر بآخرين، ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعودا به من قبل ليعلم الناس كلهم أنه متحدى به قبل وقوعه لا مدعى به بعد وقوعه، ولهذا قال تعالى بعد الوعود: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) (الروم:4). 8ـ الخلل في العلاقة النفسية مع الدعاء: ليس الدعاء مجرد ألفاظ تجري على لسان الإنسان، بينما أفعاله تكذب ما يقول، وإنما الدعاء جهد واعٍ ومسؤولية . فهو جهد واعٍ لأنه ليس مجرد ألفاظ تقال، بل هو موقف نفسي متميز، يتطلب من المرء أن ينتقل من موقفه السلبي، الذي كان عليه حين ارتكب الخطأ، إلى موقف ملؤه العزم والتصميم، على تجاوز الخطأ، والعودة إلى الحق ! والدعاء مسؤولية، لأن العبد منذ اللحظة التي يتوجه فيها إلى ربه بالدعاء، يصبح مسؤولاً عن موقفه هذا، الذي يتضمن عهداً مع الله، ألا يعود إلى ما كان عليه من سلوك، وما ارتكبه من ذنب، فإن عاد كان كالمستهزئ بربه، وكان عهده مع الله حجة عليه ! وكما يكون الدعاء من العبد رغبة في محو ذنب، أو تجاوز زلة ، فكذلك قد يكون الدعاء طمعاً في تحصيل نفع، أو تحقيق مطلب، وهو أمر مشروع دون ريب، إلا أن له شروطاً من أهمها ألا يخالف الدعاء معلوماً من الدين بالضرورة، وألا يبتغي مخالفة سنة من سنن الله في الخلق، فمثل هذا الدعاء غير قابل للإجابة أصلاً، فليس للإنسان مثلاً أن يدعو الله أن يسقط عنه أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، كأن يسأل الله إعفاءه من تكليف شرعي، كالصلاة أو الزكاة أو غيرها، وليس للإنسان أن يدعو الله ليبطل سنة من السنن التي فطر عليها أمور خلقه .. وما ظنك بإنسان يلقي بنفسه من شاهق، وهو يرفع كفيه إلى السماء ضارعاً: (يا رب أبطل سنة الجاذبية الأرضية) هل يستجاب له؟ وكذلك هي حال الذين يتجاهلون سنن الله، ويحسبون أن مجرد الدعاء سيشفع لهم عن بارئهم، متناسين أو متجاهلين التوجيه الرباني الصريح في هذه المسألة: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً. لا ريب أن للدعاء وظيفة عظيمة الأهمية في حياتنا، ودليل ذلك تلك الآيات الكثيرة والأحاديث التي تحثنا جميعاً على التضرع لله ، وطلب المعونة منه، ولكن ليس معنى هذا أن يتوقف كل نشاط الإنسان على الدعاء وحده، بل لابد ان يستكمل الإنسان الشروط، التي يعتقد أنها لازمة للعمل، الذي يزمع القيام به، ثم يقبل على العمل متوكلاً على الله سائلاً إياه التوفيق والرشاد . وأما الإقدام على العمل من غير توفير تلك الشروط، فإنه يعد إخلالاً بالقيام بمهمة الاستخلاف بالأسباب التي ناطها الله بنا، وهكذا يجب أن يكون سلوكنا في هذه الحياة .. نأخذ بالأسباب ونهيئ الظروف، ونراعي الشروط.. ثم تبقى قلوبنا معلقة بالله، ضارعة إليه أن يسدد خطواتنا، وأن يلهمنا الرشاد، وأن يهدينا إلى السبل، التي تعيننا على إنجاز أعمالنا على أحسن ما نحب ونشتهي.. وعندئذ يجدي الدعاء بإذن الله. يمكن لنا أن نستحضر في هذا الصدد كثيرا من الأدعية المنتشرة التي تعكس عقلية اعتذارية انتظارية تروم حصول الخوارق وتحقيق الكرامات (مثل الدعوة على الاعداء بتعطيل الأرحام.[16] وظائف فقه السنن الإلهية :(آفاق) من آثار التفكير السنني: ـ الالتفات إلى الذات وإصلاح أعطابها وآفاتها (المبادرة والفعالية والمسؤولية التفاؤل والأمل). ـ تحقيق الأمن الفكري التفكير السنني تفكير منهجي يبعدنا عن العشوائية والارتجال والصدفة ويعالج الأعطاب التصورية منها: استعجال النتائج والتفكير الأحادي وعمى الألوان والضيق بالاختلاف وداء الإطلاقية، كما يؤسس التفكير السنني لفكر نسبي متجدد ومرن ومنفتح. يتحدث عبد الكريم بكار في كتابه فصول في التفكير الموضوعي أن التطرف ينتج عقلية ذات بعد واحد؛ ومن أسباب هذه العقلية فقر البيئة انعدام الحوار التعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة الميل إلى التبسيط، الرؤية النصفية للقضايا والإشكالات_ الانغلاق. كما يبين د منير شفيق في كتابه (نظريات التغيير) أن هناك خللا تصورية في قراءة السيرة النبوية، بحيث يتم التركيز على الانتصار العسكري وإغفال الأبعاد الحضارية من ممارسة شورية وتخطيط ومراجعة، في مقابل الظلم والطغيان والفساد الإداري والمالي الذي كان فيه مثلا الفرس والرومان؛ فالمسلمون لم ينتصروا لأنهم مسلمين فقط، ولكن لأن الطرف الآخر لم يكن مستحقا للنصر بمقتضى السنن الإلهية كما بينا آنفا. وهناك كتاب عميق مجدد لأخينا الدكتور عبد العزيز البطيوي بعنوان (سنن العمران البشري في السيرة قدم فيه أفكارا وتصورات مستنيرة للإفادة من السيرة النبوية في إصلاح أعطابنا المنهجية. ـ تقديم التصور الإسلامي بأبعاده العالمية والإنسانية والتركيز على المشترك الإنساني، فالشهود الحضاري ليس وصاية على الناس، وإنما نقل الخير إليهم ونفعهم وإعطاء القدوة في الواجبات الحضارية التزاما وضبطا وفعالية. ـ الاجتهاد الناجع والمسؤول بحيث تفيد في فهم النصوص الشرعية وفق المعطيات العلمية وتصحيح الأفهام التي هي وليدة ظروف زمنية معينة. (الحاجة إلى المناهج المعاصرة علوم الآلة المعاصرة. الاستعانة بتلك العلوم من أجل استيعاب الظواهر المعقدة والمتشابكة من خلال ما توفره علوم الآلة المعاصرة من إمكانات منهجية وآفاق في التكوين والتأطير، وأقصد بعلوم الآلة علوم الاجتماع واللسانيات وفلسفة التاريخ وعلوم التربية، وتسميتها بعلوم الآلة استرواحا بالتسمية القديمة لعلوم الوسائل، وشأن الوسائل التجدد حسب حاجات المجتمع وظروف الزمان والمكان. فإذا كان القدامى قد أصلوا لأهمية مراعاة فقه الواقع فإن مقتضى ذلك أن تستثمر كل وسيلة تساعد على استبانة هذا الواقع وفك شفراته وتحليل عناصره وجزئياته. فلا ينكر ما وفرته اليوم الدراسات الاجتماعية من أدوات للرصد والتتبع والإحصاء والتوقع والاستشراف، والنهل من هذه المعارف يفضي إلى تخصيب الأفكار، وتجديد المفاهيم والانفتاح على عوالم واسعة. كما يكسب الاحتكاك بتلك الحقول المعرفية امتلاك مهارات التحليل والبناء المنطقي والبعد عن السطحية في الطرح، والاستعجال في تقرير النتائج والنأي عن لغة التقرير والحسم وعبارات القطع والإطلاق. وإذا كان الغزالي قديما كتب عن المنطق معتبرا إياه معيارا للعلم وضابطا لمنهجية التفكير والبناء العقلي السليم، فإن العلوم الإنسانية والاجتماعية قمينة بالقيام بنفس الدور في الوقت الراهن. واليوم نشاهد كثيرا ممن حصلوا قدرا كبيرا من هذه الحقول المعرفية أن إنتاجاتهم تتسم بقدر كبير من الرصانة والجدة والإبداع، والقدرة على الممارسة النقدية والاقتدار على استعمال المهارات العليا من تفكيك وتركيب واستشكال وافتراض ونهج سبيل الاحتمالية في الطرح والنسبية في العرض. وهذا ما تناوله الكثير من الباحثين والمفكرين عند حديثهم عن التكامل المعرفي، من ذلك ما ورد عند عماد الدين خليل في سياق نقده للفصل بين الحقول المعرفية وانعكاساته السلبية، يقول: نجد المعاهد والجامعات الإسلامية التي فرضت على نفسها العزلة عن المعارف الإنسانية، فتخرجت أجيال من الطلبة منفصلة عن مطالب الواقع وتحدياته وضروراته، ذلك أن التخصص في علوم مثل علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله والعقيدة، إلخ، لا يمكن أن تؤتي أكلها، وتمارس فاعليتها إلا في واقع الحياة (…) ولن يتأتى ذلك إلا بأن يكون المتخصص في العلوم الإسلامية على قدر كبير من الإلمام بمعارف العصر التي تمسك برقبة العالم، وتشكل مصائره (…) إذ كيف يتأتى لهذا الخريج أن يضع يده على الدواء الإسلامي المناسب إن لم يخبر مواطن الداء جيدا؟ وكيف يتأتى له أن يعيد صياغة الحياة، وهو منعزل عما يضطرب في جنبات هذه الحياة ومفاصلها الأساسية؟[17] خاتمة: نختم بما يلي: إن الوعي السني ينبغي أن يتجذر في العقل الجمعي، وأن يصبح ثقافة عند الأفراد والجماعات والمؤسسات، وأن يجد سبيله إلى البرامج التربوية، ولا يظل حبيس الصالونات الفكرية والمنتديات العلمية، وهذا بعض أوجه القصور في الممارسة الفكرية المعاصرة حيث تعقد المؤتمرات والأنشطة حول قضايا كبيرة وهامة، ولكن التوصيات تظل عند مدوينها. لذلك يقول عبد المجيد النجار: ليست الإرادة الحضارية إرادة فردية، بل هي إرادة جماعية، إذ بالإضافة إلى ما يجب أن يتوفر في الأفراد من إرادة ذاتية تنشئها فيهم الفكرة التي يؤمنون بها، يجب أن يتوفر أيضا معنى الإرادة الجماعية التي تربط الأفراد جميعا، وتوجههم توجيها مشتركا نحو الإنجاز، بحيث يكون الإنجاز الحضاري ملتقى لإرادة الجماعة، على معنى أن يقوم في نفس كل فرد من افراد الأمة شعور بأن مهمة الإنجاز هذه مهمة جماعية، ويكون ذلك الشعور هو المكيف للعلاقة بين الأفراد، وهو الموحد لهم في إنجاز الحضارة، ولو بقيت إرادة التحضر إرادة فردية لا يؤطرها الشعور الجماعي فإنها لا تثمر تحضرا في الواقع بل تتلاشى كالسواقي التي تضيع في شعابها حينما لا تلتقي لتكون جدولا أو نهرا؛ ولهذا الأمر دأب القرآن الكريم في معرض التكليف بالخلافة في الأرض وهي جوهر الحضارة دأب على أن يخاطب الناس جماعة بصفة مطردة، وذلك في مثل قوله تعالى (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ) (البقرة:143). اعتبارا للمعاني الحضارية التي تحملها الشهادة على الناس.[18] كما يشير ماجد عرسان إلى عائق بيداغوجي مهم يحول دون الإفادة من الأفكار الجديدة والمفيدة: لأننا نحقن عقولنا وعقول ناشئتنا بالأفكار ولا نهضمها ولا ندربهم على هضمها وتكون النتيجة هي قتل التفكير والابتكار، والفرق بين هضم الأفكار وحقنها كالفرق تماما بين الحقن بالطعام وهضم الطعام. فلو أن إنسانا قال لنفسه لماذا أتعب نفسي بغلي الحليب وشربه وملء معدتي به دعني أصبه مباشرة في شراييني لينقله الدم إلى حيث يراد لكانت النتيجة إفساد تركيب الدم ولربما قتل الانسان هذا، أما حين نتناوله لتهضمه معدتنا فإنه يمر في عمليات دقيقة من التحليل والتركيب والفرز، ثم يوزع ما كان صالحا منه على الأعضاء وما كان غير صالح يطرد خارج الجسم، وكذلك الفرق بين هضم الأفكار والحقن بالأفكار. ومنه فإن معركة الوعي معركة ممتدة في الزمان والمكان، ولن يكون المسلم استثناء ممن خلق الله، وإنما يجري عليه ما يجري على جميع الخلق من قوانين وسنن. لائحة المصادر – أصول النظام الاجتماعي، محمد الطاهر بن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، ط2. – العادات السبع للناس الأكثر فعالية، ستيفن كوفي. – أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق، أحمد كنعان. كتاب الأمة. – التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور. – التكامل المعرفي، أثره في التعليم الجامعي وضرورته الحضارية، عماد الدين خليل، تحرير رائد جميل عكاشة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2012م. – السنن التاريخية في القرآن الكريم محمد باقر الصدر، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ط1/ 2011م. – الشهود الحضاري للأمة الإسلامية، فقه التحضر الإسلامي، عبد المجيد النجار. دار الغرب الإسلامي، ط 2، 2006م. – تجديد الفكر الديني محمد إقبال دار الكتاب اللبناني بيروت، ترجمة محمد يوسف عدس 2011. – سنن العمران البشري في السيرة النبوية، عبد العزيز البطيوي، مركز معرفة الإنسان للدراسات والأبحاث والنشر والتوزيع. ط1/2018م. – مدخل إلى الحضارة الإسلامية عماد الدين خليل. المركز الثقافي العربي، ط1/ 2005م. – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة بسام بركة، دار الفكر، ط،1، 2002م. – مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح ماجد عرسا ن الكيلاني سلسلة كتاب الأمة عدد 29 – 1411 ه. – إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد ج 1، تحرير عبد الوهاب المسيري، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيردن فيرجينيا، ط 2 /1996. – إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية، لؤي صافي، دار الفكر دمشق، ط 1- 1998. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية، لؤي صافي، دار الفكر دمشق، ط 1- 1998 ص 61. [2] إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد ج 1 تحرير عبد الوهاب المسيري، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيردن فيرجينيا، ط 2 1996 ص 48. [3] إشكالية التحيز ص 74. [4][4] مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي مالك بن نبي، ص 17 وما بعدها. [5] تجديد الفكر الديني محمد إقبال ص 203- 205 دار الكتاب اللبناني بيروت، ترجمة محمد يوسف عدس 2011. [6] للتوسع في تعريف السنن الإلهية ينظر: سنن العمران البشري عبد العزيز البطيوي، حيث عرض لمجمل التعريفات شارحا ومستدركا ومرجحا. [7] مدخل إلى الحضارة الإسلامية عماد الدين خليل. [8] السنن التاريخية في القرآن الكريم، محمد باقر الصدر. [9] أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق. [10] التحرير والتنوير. [11] الشهود الحضاري للأمة الإسلامية، فقه التحضر الإسلامي. [12] العادات السبع للناس الأكثر فعالية. [13] الشهود الحضاري، عبد المجيد النجار. [14] مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح ماجد عرسا ن الكيلاني سلسلة كتاب الأمة عدد 29 – 1411 ص 49. [15] أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الطاهر ابن عاشور. [16] أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق، أحمد كنعان. [17] عماد الدين خليل، التكامل المعرفي، أثره في التعليم الجامعي وضرورته الحضارية، تحرير رائد جميل عكاشة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2012م، ص 716. [18] الشهود الحضاري.