التجليات البيداغوجية للمنهج التربوي عند الإمام الشاطبي

د. إدريس التركاوي

مقدمة:
فإلى هنا استقرت ركائبه رحمه الله باتخاذه المقاصد التربوية العلم الكلي الأعلى للإصلاح. فقد نظر إلى النفس البشرية وما يعتلج فيها من خلجات واضطرابات، وما يعتريها من مقامات وأحوال. ونظر في مناهج العلوم المتباينة بمقاصدها الكلية منبجسة من علم أصول الفقه، ثم راح يوجه النوعين معا لشبكة مقاصد القرآن بنوعيها المتساوقين؛ مقاصد التكليف (التشريع والتعبد) ومقاصد التكوين (الإعجاز والخلق)، ثم ركب منهما منظومة من الكليات التربوية المتجانسة. ثم طفق يختبر بمسبارها كل فكرة إنسانية أو معرفة شرعية، فما كان على وزانها فمقبول محمود، وما لم يكن كذلك فمطرود منبوذ.
ومن هنا لاحت أولى اهتمامات أبي إسحاق بالنظريات التربوية وبعض تجلياتها البيداغوجية؛ ذلك أن الاهتمام بالعلم المراد تجديده في النفس البشرية تربية وتلقينا؛ يلزم منه ابتداء التمهيد بالقواعد الصالحة لنقل كليات ذلك العلم إلى النفس الحاملة له، ومراعاة ظروف وشروط ذلك النقل؛ كي يعطي ثماره وأكله بشكل صحيح. الشيء الذي دفع أبا إسحاق إلى تسطير تلك المقدمات الثلاث عشرة التي مهد بها لكتابه الموافقات.
من هنا يمكن القول: إن أبا إسحاق لم يكن مجرد أصولي مجدد أو فقيه متميز، ولكنه علاوة على ذلك هو معلم كبير ومرب عظيم، له فلسفته ونظرته الخاصة والمستقلة لموضوع العلم والتربية. فقد اعتنى رحمه الله كل العناية بالأركان والمقومات الأساسية لعملية التربية، سواء تعلق الأمر بالمادة العلمية وطريقة تبليغها أم بالأستاذ المربي وطالب العلم.
المبحث الأول: الجوانب البيداغوجية المتعلقة بموضوع العلم.
المطلب الأول: الصيغة العلمية.
وضع الشاطبي للعلم الذي ينبغي الحرص على تعلمه وتعليمه معايير ثلاثة:
معيار الأصالة: وهو ما يعبر عنه الشاطبي بـ”صلب العلم” أي جوهره ولبابه، فقد قسم العلم إلى ثلاثة أقسام، وهو تقسيم فريد لم يسبق إليه، قال: “من العلم ما هو من صلب العلم. ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه. ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه”[1]. فهذه ثلاثة أنواع حصرها رحمه الله في شكل قاعدة مطردة على سبيل الجمع والمنع، جعل القسم الأول منها “الأصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين”[2]. ثم يلقي الضوء على حقيقته بقوله: “وذلك ما كان قطعيا أو راجعا إلى أصل قطعي”[3]. ثم بين أن الشريعة المحمدية إنما تنزيلها كان على هذا الوجه، وهو سر حفظها في أصولها وفروعها، وحفظها يرجع “إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرفها. وهي أصول الشريعة. وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها. فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان”[4].
ثم يذكر لهذا النوع من العلم ثلاث خواص يفصل بها عن غيره وهي:
1- العموم والاطراد: فإن كل علم لا يكون بالمعنى الصحيح إلا إذا قام على حقائق ثابتة ومطردة، بحيث تنطبق كلياته على جزئياته فلا تتخلف أبدا، مما يجعل ذلك القسم متسما بسمة القطعية. ولا يكون كذلك إلا بالاعتماد على منهج الاستقراء، أو “مبدأ تراكم الأدلة”[5]؛ وهو الذي يتم فيه استيعاب جميع الجزئيات –وهي جزئيات العلم هنا- لسبك معنى كلي مطرد.
فالعلم المبني على الاستقراء هو الذي يستحسن صرف الطلاب إليه، “لأنه يجنبهم الفضول وإضاعة الوقت في طلب القشور التي لا ينتج عنها العمل”[6]. وهو الذي يستحق الحاكمية على باقي العلوم.
ومن هنا “فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا”[7]. لأن من أخص خصائصها العلمية والتربوية اعتماد مبدأ الاستقراء.
2- الثبوت والاستمرار من غير زوال: ذلك يجعل كانت الشريعة وعلومها كاملة “ليس فيها بعد كمالها نسخ، ولا تخصيص لعمومها ولا تقييد لإطلاقها، ولا رفع لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال… ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك”[8].
3- كون العلم حاكما لا محكوما عليه: بمعنى أنه لا علم حقيقي إلا وصفة الفصل بين القضايا والأشياء ثابته له وهي خاضعة إليه. ومتى خضع لها هو انكسر وضعف. وهذا ليس من خصائص العلم الشرعي بدليل الوقوع في الوجود.
وهناك معيار آخر للعلم الذي ينبغي طلبه كان موضع اهتمام أبي إسحاق، هو معيار الفائدة العلمية أو “مبدأ الاستثمار”[9]، ومعناه: ترتب الفائدة العلمية على هذا العلم حتى يكون علما نافعا، أي (من صلب العلم) بتعبيره. أما العلوم النظرية التي لا علاقة لها بالأعمال النافعة؛ فالخوض فيها مما لا يجنى منه ثمرة عملية؛ ولا فائدة علمية، وإنما هو تضييع للوقت وتعطيل للمكاسب والقدرات العقلية…
وقد قعد لهذا المعيار قواعد مقاصدية تربوية، كانت أهمها قاعدة ” كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا”[10]، انبثقت عنها مجموعة من القواعد الأخرى كانت بمثابة المفصلات لها والمعقبات على كل ما يوهم المعارضة لها، منها قوله: “كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى. فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول”[11]. وقوله: “العلم المعتبر شرعا أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق؛ هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها”[12] وغيرها كثير.. ما يفيد الصبغة الدينية العملية والتعبدية للعلم.
إن طلب العلم من حيث هو كذلك عار لا انتفاع فيه، وإنما هو وسيلة إلى ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولا يكون كذلك إلا إذا كان يفضي إلى العمل المطلوب شرعا، والذي مدح الله به أهله كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68]  قال قتادة: يعني لذو عمل بما علمناه. وقال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(الزمر: 09) الآية، وقال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(البقرة: 44) وروى عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾(الشعراء: 94)  قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره”[13].  وإذا كان هذا هو شأن العلم؛ فإنه لا يجوز لأحد أن يصرفه فيما لا ينفع، بل يجب أن يستعان به على الأعمال الصالحة والنافعة التي ترضي المنعم علينا بنعمة العلم، ولا خير في علم لا ينفع ولا تطلب به مرضاة الله.
وقد أكثر الشاطبي من سوق الأدلة التي تؤكد أن الشرع لا يستحسن، ولا يرحب بالمباحث الجدلية والنظرية المحضة التي لا يترتب عليها ثمرة عملية في حياة الناس، وإنه إذ يفعل ذلك إنما يريد تحذير المسلمين من “فصل العلم عن الإيمان، خوفا من أن يصبح العلم أداة للشر، فينقلب من نعمة إلى نقمة”[14].
وهو ما وقعت فيه الحضارة اليونانية التي فصلت العلم عن الأخلاق والتربية، فأصبح الإنسان بمقتضى العلم النظري والعقل المجرد هو ذلك “الحيوان الناطق” فقط، أي “العاقل”. أما الإسلام فلقد رفع “من شأن الفعل لظهور دلالته على الخلق”[15]، بمعنى أنه لا فعل ولا سلوك -ومن ثم لا مفهوم للإنسان- إلا بالتقرب إلى الله عن طريق الفعل الشرعي قولا وعملا. ولا وجود لهذا الفعل دون وجود العلم النافع المفضي إليه، فهو شرطه، ومتى انتفى الشرط انتفى المشروط.
فأصبحت العلاقة بين العلم النافع والفعل الشرعي علاقة تلازمية عضوية، ومؤشرا للتفريق بين الإنسان وغيره، فصار معناه “الحي العامل”[16] بدل “الحيوان الناطق”؛ أي حي بعبادة الله تعالى، عامل بمقتضى ما يعلم مع موافقته القصد الشرعي، وبالتالي الدخول في قانون الامتثال، باعتباره الغاية العليا من استخلاف الإنسان في الكون، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ (الذاريات:56).
معيار الإمتاع: هو العلم الذي يمتع الطالب بما يشتمل عليه من ملح وطرائف، وهو دون القسم الأول من حيث القيمة والنفع، فلذلك “لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو أكثر من خاصة واحدة. فهو مخيل”[17]. أما تخلف الخواص عن هذا القسم مما هو لازم للقسم للأول؛ فقد دلل عليه رحمه الله بقوله: “فأما تخلف الخاصية الأولى وهو الاطراد والعموم؛ فقادح في جعله من صلب العلم؛ لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح ويضعف جانب الاعتبار، إذ النقض فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم ويقربه من الأمور الاتفاقية الواقعة عن غير قصد، فلا يوثق به ولا يبنى عليه.
وأما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت فيأباه صلب العلم وقواعده؛ فإنه إذا حكم في قضية ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض الأحوال؛ كان حكمه خطأ وباطلا؛ من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق، أو عم فيما هو خاص، فعَدِمَ الناظرُ الوثوق بحكمه، وذلك معنى خروجه عن صلب العلم. وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكما ومبنيا عليه؛ فقادح أيضا لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة غير مجرد راحات النفوس، فاستوى مع سائر ما يتفرج به. وإن لم يصح فأحرى في الاطراح، كمباحث السوفسطائيين ومن نحا نحوهم”[18].
وقد ألحق ببعض هذه الخواص أمثلة:
– أحدها: الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه عل الخصوص في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة، والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة، دون ما سواها من أحيان الليل والنهار… وما يجري مجرى هاته الأمثلة[19].
– والثاني: تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها، ولا يطلب التزامها، كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد، فالتزمها المتأخرون بالقصد، فصار تحملها على ذلك القصد تحريا لها بحيث يتعَنَّى في استخراجها ويبحث عنها بخصوصها، مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل”[20].
– والثالث: العلوم المأخوذة من الرؤيا مما لا يرجع إلى بشارة ولا نذارة، فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات وما يتلقى منها تصريحا، فإنها وإن كانت صحيحة فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر في الشريعة في مثلها[21].
– والرابع: المسائل التي يختلف فيها، فلا ينبني على الاختلاف فيها فرع عملي، إنما تعد من الملح[22].
– والخامس: الاستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية… وما يجري هذا المجرى يؤطر تحته.
ما فقد الأصالة والإمتاع معا: أي هو العلم الذي “لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يُكِرَّ على أصله أو على غيره بالإبطال، مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والاعتقادات، أو كان منهضا إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة”[23]. ومثل هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر. وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليدا لذلك الإمام، واستنادهم في جملة من دعاويهم إلى علم الحروف وعلم النجوم… ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة والمتحكمون. وكل ذلك ليس له أصل ينبني عليه، ولا ثمرة تجنى منه “[24].
المطلب الثاني: المعلم وطريقة التبليغ.
1- صفات المعلم أو الشيخ.
أما العلماء الذين يعهد إليهم بتعليم الطلاب، فقد وضع الشاطبي لاختيارهم مقاييس علمية مضبوطة، جمعها كعادته في أصل تربوي مقاصدي إذ قال: “من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به؛ أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام”[25]. فجعل مرتبة التحقق هي رأس العلم ومعيار الأفضلية بين العلماء فيه. أما علامات هذه المرتبة فأهمها ثلاثة:
1- العمل بما علم “حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يقتدى به في علم”[26]. وقد فصل في هذا الضابط خاصة في كتاب الاجتهاد، مما يتعلق بالفتوى، حيث اشترط في المفتي أن يكون مفتيا بسلوكه كما هو كذلك بمقاله.
2- أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم، وملازمته لهم. فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك. وهكذا كان شأن السلف الصالح، بدءا برسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي كان قدوة بأقواله وأفعاله للصحابة، وكما كانوا هم قدوة لمن أتى بعدهم من التابعين والصالحين. هذا فضلا عن أن يكون المتصدي لتدريس علم من العلوم “عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه”[27]. وبهذا نجد أن العلم والأخلاق هما قوام الانتفاع من المعلمين عند الشاطبي.
أما عن الكيفية التي يؤخذ بها ذلك العلم، فلها طريقان كما قرر رحمه الله:
الطريق الأولى: المشافهة: فسماع مسائل العلم من العلماء، ومحاورتهم فيها، هي الطريق الصحيح لفهم العلوم والتمكن منها، أما الاعتماد على الكتب دون العلماء، فإنه ينتهي بأهله إلى الاضطراب والخلط، وذلك ما عيب على ابن حزم الظاهري، إذ لم يلازم الشيوخ ولا تأدب بآدابهم في نظر أبي إسحاق.
يرى الشاطبي إذن أن الإخلال بهذا الضابط، لا يتوقف ضرره على الضعف الفكري، وإفساد العلوم بإشاعة الاضطراب فيها، وإنما يتجاوز ذلك إلى الفساد الديني والخلقي، لأن العلماء لا يقتصر أثرهم في طلابهم على العلم والفكر، وإنما يتجاوز ذلك إلى تربيتهم على العقائد الصحيحة والآداب العالية لأنهم قدوة. إلا أنه لما “ترك هذا الوصف (أي الاقتداء) رفعت البدع رؤوسها، لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك أصله اتباع الهوى”[28].
وإنما يحصل الاقتداء عند مجالسة الطلبة لمعلميهم “إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم مالا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم وتأدبهم معه واقتدائهم به”[29]
الطريق الثاني: متابعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو نافع في بابه، لكن بشرط أن يكون الآخذ منها عارفا معرفة صحيحة بكليات العلم ومتعلقها. وأن يكون ملما بمصطلحاته، وأن يعتمد أوثق الكتب؛ وذلك بالرجوع إلى مصنفات العلماء الذين اشتهروا بين الناس بذلك العلم.
2- طريقة التبليغ.
من المعلوم المقرر عند التربويين (البيداغوجيين)؛ أنه لا يكفي أن تكون المادة العلمية مادة أصلية نافعة، ولا أن يكون المعلم من أهل العلم المتحققين به، لا يكفي ذلك حتى يوضع لتبليغ هذا العلم طريقة صحيحة جامعة بين المنحى العلمي والنازع الروحي الأخلاقي. ذلك الذي التفت إليه أبو إسحاق المربي، ووجه أنظار العلماء والدارسين إليه بقوة، ودلل عليه ببيانه الناصع وحجته البالغة، وقعد لذلك قواعد إصلاحية، تماشيا مع نظريته في الإصلاح الاجتماعي، أهمها قاعدتان:
القاعدة الأولى: البدء بالسهل قبل الصعب وبالبسيط قبل المركب.
يرى الشاطبي أن الطريقة المناسبة لجمهور الناس؛ هي التي تقوم على مبدأ التقريب والتيسير في فهم الحقائق العلمية وإفهامها، لا على آفة التعمق والإيغال في التعاريف الفلسفية والاستدلالات المنطقية التي يصعب على الجمهور هضمها. وقد أشاد بهذا المبدأ بقوله: “فهو المطلوب المنبه عليه كما إذا طلب معنى الملك؛ فقيل: إنه خلق من خلق الله يتصرف في أمره. أو معنى الإنسان، فقيل إنه هذا الذي أنت من جنسه، أو معنى التخوف فقيل هو التنقص. أو معنى الكوكب فقيل: هذا الذي نشاهده بالليل.. ونحو ذلك. فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال”[30]. وهذا بخلاف نقيضه مما لا يليق بالجمهور ولا يناسبهم؛ “لأن مسالكه صعبة المرام؛ ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجﱠ الحج: ٧٨. كما إذا طلب معنى الملك فأحيل به على معنى أغمض منه، وهو ماهية مجردة عن المادة أصلا، أو يقال: جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلي. أو طلب معنى الإنسان فقيل: هو الحيوان الناطق المائت. أو يقال ما الكوكب؟ فيجاب: بأنه جسم بسيط كروي، مكانه الطبيعي نفس الفلك، من شأنه أن ينير متحرك على الوسط غير مشتمل عليه، أو سئل عن المكان فيقال: هو السطح الباطن من الجرم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي.. وما أشبه ذلك”[31].
من هنا نعى على أصحاب التعمق تعمقهم وانتقدهم انتقادا حادا، لما يترتب عليها من سلبيات ومفاسد تؤول في النهاية إلى تبغيض العلم للمتعلمين، وتجريده من ذوقه وروعته.
القاعدة الثانية: ليس كل حق يقال ولا كل علم ينشر.
إن الناظر في الشريعة وأحوالها؛ يجد أن نصوصا كثيرة تواترت على طلب العلم والحث عليه ترغيبا وترهيبا، ونشره بين عموم الناس، مما هو واجب على أهل العلم والعلماء. لكن النظر المصلحي اقتضى أن تعليم الناس قد يكون فرض عين، ويكون فرض كفاية، وكما يكون واجبا قد يكون مندوبا. وذلك حسب نوع العلم ودرجته، فلذلك صار منه “ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة. ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص”[32].
ومن ثم امتنع غير واحد من الصحابة بإشارة من النبي عليه الصلاة والسلام عن التحديث بما سمعوه منه، من مثل “من مات لا يشرك بالله شيئا حرم الله عليه النار”[33]، وذلك حتى لا يتخلى الناس عن العمل، ولم يحدثوا به إلا عند الاحتضار خشية ضياع الحديث بصفة نهائية وضموره وتلاشيه. ومنه حديث عمر “يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه: بشره بالجنة؟ قال نعم، قال: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون، فقال رسول الله عليه السلام: فخلهم”[34].
من هنا كان النظر المصلحي المتبصر يوجب على العالم تمييز ما يجب تعليمه ونشره، وما لا يجب أو يجب الإمساك عنه، قال: “وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة؛ فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة؛ فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية”[35].
والعلامة جمال الدين القاسمي حين قعد لقاعدته التربوية في التحديث “ما كل حديث صحيح تحدث به العامة”[36]؛ لا شك يحذو حذو أبي إسحاق -وهو المتأثر به في تفسيره محاسن التأويل- وهي تفيد النهي عن التحديث بكل علم، لما في ذلك من ذرائع إلى تكذيب الله ورسوله عليه السلام، فضلا عن تواكلهم، فكانت المصلحة الشرعية والعقلية تقضي بسد هذه الذرائع؛ بقصد عدم التشويش على العقول والعقائد.
المطلب الثالث: طالب العلم.
عني الشاطبي بهذا الركن من أركان التربية عناية تفوق العناية بسائر الأركان، يظهر ذلك جليا من خلال تأسيسه لنظرية (التوجيه التربوي) القاضية بتوزيع الطلاب والناشئين على التخصصات من العلوم والأعمال المختلفة، وفق القدرات الذهنية، فلا يرغم طالب على علم لم يتهيأ له عقليا ولا نفسيا، ولا يوجه إلى عمل لا يلائم مواهبه وتطلعاته واستعداداته الفكرية والجسمية، بل يهتم بهم حسب المؤهلات الشخصية لكل واحد منهم. وهو ما انتهى اليه فلاسفة التربية في العصر الحديث، بحيث تجدهم “ينشئون فصولا خاصة للمتفوقين وبرامج خاصة بهم، بل أحيانا مدارس مقصورة عليهم”[37].
وهذا ما نجد الشاطبي قد قرره بحجة واضحة وبرهان ساطع من خلال قاعدة بيداغوجيا فلسفية حديثة، تفيد وجوب مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين.. يقول: “إن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿  وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) ﴾.ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه، وتارة بالتعليم فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح وكافة ما تدرأ به المفاسد؛ إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية والمطالب الإلهامية، لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح؛ كان ذلك من قبيل الأفعال أو الأقوال أو العلوم والاعتقادات أو الآداب الشرعية أو العادية.
وفي أثناء العناية بذلك؛ يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه؛ وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال، فيظهر فيه وعليه ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ تلك التهيئة، فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته، فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها، وآخر للصراع والنطاح إلى سائر الأمور..
هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي، فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه، فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها، فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات، فيراعونهم بحسبها ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام بها ويحرضونهم على الدوام فيها، حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط، ثم يخلى بينهم وبين أهلها فيعاملونهم بما يليق بهم؛ ليكونوا من أهلها إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية والمدركات الضرورية. فعند ذلك يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية”[38].
لا شك أن هذا الشريط الصافي في رصد معالم توجيه الناشئة؛ يقرر بوضوح إجرائية تنزيل التكليف على المتعلم بناء على الحالة التي هو عليها، وعلى الوصف الذي يميل إليه، تحقيقا لمقتضيات النظر المصلحي وأصول التربية السليمة، بحيث “إذا فرض مثلا واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع، وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف ميل به نحو ذلك القصد. وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم”[39].
ولأن العلوم غزيرة والآداب متنوعة؛ لابد أن يميل المتعلم إلى بعضها بناء على مبدأ الاختيار الجبلي الموجود فيه بالقوة، كما فصل رحمه الله في النص. فوجب الاهتمام به على وزان ذلك الترتيب “كما لو بدأ بعلم العربية مثلا؛ فإنه الأحق بالتقديم فإنه يصرف إلى معلميها، فصار من رعيتهم وصاروا هم رعاة له، فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم. فإن انتهض عزمه بعد إلى أن صار يحذق القرآن صار من رعيتهم وصاروا هم رعاة له كذلك. ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم.. وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور، فيمال به نحو ذلك ويعلم آدابه المشتركة، ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير؛ كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به وما ظهر له فيه نجابة ونهوض”[40].
يحاول الشاطبي بتأسيسه لنظرية التوجيه التربوي جس حظيرة فرض الكفاية في الخدمات والوظائف، وذلك بإقامة القادرين على أدائه، وتهيئتهم للقيام به على الوجه المرضي حسب درجة القبول الموضوعة في ذلك الشخص المتعلم، وهو يتوجه بها إلى ثلاثة أصناف من جمهور الأمة:
أ – أولي الأمر ومن في حكمهم: فيتعين عليهم الالتفات إلى حاجات المجتمع، ومراعاة أولى الناس بها وإعانتهم على القيام بها.
ب- الأساتذة والمشرفين على التعليم الذين يتعين عليهم إنهاض الصبيان، وتربيتهم بما يليق بكل واحد منهم، فيأخذ ما قدر له وينتج فيما هو نجيب فيه.
ج- الطلبة أنفسهم: من خلال اعتنائهم بميولاتهم، وما هم متهيئون له ومناسب لاستعداداتهم.
كل ذلك نبه عليه الإمام مالك قبل مئات السنين حين “سئل عن طلب العلم أفرض هو فقال: أما على كل الناس فلا، يعني به الزائد على الفرض العيني، وقال أيضا: أما من كان فيه موضع للإمامة فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب”[41].
وبعد:
فليت المسلمين استفادوا من النظرية الشاطبية، وقاموا بفروض الكفاية على النحو الذي شرحه صاحبها رحمه الله، ولكن الرجل كمعاصره ابن خلدون ظهرا في وقت كانت الأمة فيه في طريق الانحدار، فلم تستفد من فكر الرجلين ولم تقتبس من نورهما ما يسدد خطاها ويضيء لها الطريق.
فرع تكميلي: المنهج التوحيدي ودرء آفة الوساطة في التربية عند الشاطبي.
المقصود بالمنهج التوحيدي: تربية الطالب على استلهام المضمون العقدي التوحيدي للدين الإسلامي على مستوى التصور (الاعتقاد) والتصديق (السلوك العملي). وإنما يحصل ذلك بجعل النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) المادة المصدرية لكل تصور وسلوك تربوي، إذ هي وحدها دون غيرها القناة الطبيعية التي تربط الفرد بالله ربطا مباشرا، لا أثر فيه لوساطة وسي، يتدخل بذاته لتكييف ذلك الاتصال أو تعديله على حسب فهمه العقلي أو ذوقه الباطني!
فالتربية التوحيدية هي عملية تقوم على جعل مبدأ التوحيد العقدي والسلوكي شعورا حاضرا عند المتدين فهما وتنزيلا. بحيث إن الفهم لا يكون إلا عن الله وبالله، والعمل لا يكون إلا كما أمر الله.
بهذه الإشراقات التربوية التوحيدية الرائقة وبذلك المنطق الهادي إلى تفريد الله تعالى بالعبودية حقا وصدقا؛ انطلق أبو إسحاق في تأسيس مشروعه التربوي التوحيدي (الموافقات والاعتصام)، متشبعا بروح توحيدية قائمة على أساس توحيد المنهج، ونبذ جميع التأثيرات الوساطية، والاستقلال الحر عن كل السلط المذهبية والمشيخية إلا سلطة النص الشرعي.
وقد كان سلاح الشاطبي في محاربة الوساطات المختلفة المنابع، هو أن الشريعة عامة شاملة جامعة، وأن نصوصها حاكمة على الخلق جميعهم لا يشذ عنها أحد. فلا خصوصية لفلان أو علان، ولا سبيل إلى تعديل مقام أو حال أو ذوق أو مذهب أو إلهام غير سبيل النص الشرعي ذي الطابع التعبدي التربوي الشامل. وكأن الرجل رحمه الله كان ينازع من قبل خصومه في هذا المبدأ الكلي العظيم. يقول: “الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف ألبتة”[42]. ثم قال بعد إيراد أدلة برهانية تقرر هذا الأصل: “وهذا الأصل ينبني عليه فوائد منها: أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور، وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة، مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم ويرشحون ذلك بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب في زكاة كذا.. فقال على مذهبنا أو على مذهبكم؟ ثم قال: أما على مذهبنا؛ فالكل لله، وأما على مذهبكم فكذا وكذا. وعند ذلك افترق الناس فيهم فمن مصدق بهذا الظاهر مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هي أعلى مما بث في الجمهور، ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى والمخالفة للسنة. وكلا الفريقين في طرف، وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق كما تبين آنفا، ولكن روح المسألة الفقه في الشريعة حتى يتبين ذلك. والله المستعان.
ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم؛ لأنهم ترقوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها، فاستجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور، فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه، كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها واستجلاب النشاط في الطاعة لا على قصد التلهي، وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم: إن التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص. وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم فليعتن به. وبالله التوفيق”[43].
فهو أساس إذن مبني على أصل التوحيد الخالص في التدين، والتربية على الخضوع المطلق للنص الشرعي والكفر بما سواه من وسائط ووسطاء، ممن يريدون التستر وراء أحكام الشريعة بضرب من التحايل البدعي.
ومن خصائص التفكير العلمي والتربوي عند هؤلاء، اعتقادهم بأن الرؤيا تجرا حكما شرعيا، ومحطة علمية لتشريع الأحكام. ولذلك قال رحمه الله مستدركا عليهم: “وربما قال بعضهم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم؛ فقال لي كذا وأمرني بكذا فيعمل بها ويترك بها معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا”[44].
لقد كانت الرؤيا وما تزال وسيلة من وسائل المبتدعة لتبرير وساطاتهم، وتمرير أهوائهم عبر قنوات النص الشرعي، والافتئات عليه بالزيادة أو النقصان، أو على الأقل لصبغ اجتهاداتهم بنوع من القداسة، وذلك بإسنادها إلى الرسول عليه السلام في المنام ما دام لم يتيسر لهم إسنادها إليه في اليقظة بالطرق الصحيحة [45]. ولسان حال الواقع ناطق بذلك.
ولما كانت الشريعة هي المصدر الوحيد للتكليف والمنبع الأصيل المرجوع إليه في كل وقت وحين، لضبط التدين؛ لزم أن يكون من خاصتها أمران:
الأمر الأول: كل خرقة وكذلك رؤيا صدرت على يد أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه سلام ومعجزاته باعتباره الناهل الأول من الشريعة المباركة، فهي صحيحة. وإن ” لم يكن لها أصل؛ فغير صحيحة، وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة، إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة”[46].
والأمر الثاني: أن العلماء بأصولها وفروعها هم أدلاء الأمة إلى الخير، ومربوها على الصلاح. وهنا سيخالف الشاطبي أبا حامد الغزالي في تفضيل المتصوفة –أرباب القلوب والمشاهدات[47]– على سائر الفرق، فيجعل العلماء هم الحاكمين على سائر الخلائق تفقها وقضاء وتربية، كيف لا وهم الموسومون بشرف الوراثة للنبوة؟ قال رحمه الله: “إن الله سبحانه شرف أهل العلم، ورفع أقدارهم وعظم مقدارهم، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله وأنهم المستحقون شرف المنازل.
إذا ثبت هذا؛ فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع، وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى، ودل على ذلك وقوع الثناء عليهم مقيدا بالاتصاف به، فهو إذًا العلة في الثناء، ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم. ومن ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو إرشادا”[48].
لكن وحتى لا يؤول هذا بهم أو بالناس إلى ضرب من الوساطة الفكرية أو الروحية أو غيرها -وهو الشديد الحساسية تجاه الوساطات- نبه إلى كون حكمهم على الناس ليس لخاصية ذاتية فيهم، أو مبادئ غير موجودة في غيرهم، مستأثرين بها عن باقي الخلق، وإنما لما يحملونه من العلم الشرعي المبارك، الذي هو ميزان التفاضل بين الآدميين. قال رحمه الله: “فلزم من ذلك ألا يكونوا حكاما على الخلق إلا من ذلك الوجه”[49].
على أساس أن العلم الشرعي الذي هو شرط الحكم على الخلق، ومعيار التمايز بينهم؛ إنما هو العلم الباعث على العمل والتخلق، بحيث لا فرق بين العالم والمربي في منطقه. قال: “العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا، أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق، هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها”[50].
فهو العلم الذي يمنع صاحبه من السقوط في هاوية الوساطة والوسطاء، وهو العلم الذي يفتح المجال للاستزادة والإكثار ويمنع الاجتزاء باليسير منه[51]. وكم أولئك الذين لم يتعلموا إلا اليسير منه! واغتروا بما لديهم وبنوا عليه انحرافهم، يحسبون أنهم بلغوا مراتب الكمال، بيد أن العالم الحق هو الذي بلغ مرتبة التحقق، وصار له العلم كالوصف المجبول عليه وفهم عن الله مراده”[52].
خاتمة:
تزخر مصنفات أبي إسحاق الشاطبي بترسانة من التجليات البيداغوجية والتربوية لمفهوم العلم المراد نقله وتلقينه وما يتعلق به من شروط وخصائص نفسية وبشرية. الشيء الذي يدل على الاهتمام المبكر لعلمائنا بالقوانين التربوية كما هي عند البيداغوجيين في العصر الحاضر، قمينة بأن تتخذ منارا لإصلاح المنظومة التعليمية التعلمية سيما في شقها التطبيقي والإجرائي.
وقد رمنا في هذه الجولة القصيرة لفت الانتباه إلى هذه الدرر الغالية في منهج الشاطبي، آملين أن تكون طريقا ينير درب السالكين إلى إشكالات وقضايا أكثر نضجا، نقترح منها على المهتمين ما يلي:
ـ المنهج التربوي عند علماء الغرب الإسلامي، بشتى توجهاتهم وتخصصاتهم؛ عقيدة وفقها وكلاما وحديثا.
ـ الاهتمام أكثر بمصنفات أصول الفقه ومقاصد الشريعة في تراثنا، لما تزخر به من تجليات المنظومة التربوية المعاصرة، وما تحويه من قواعد رئيسة للتجديد والإبداع.
ـ العناية بالدراسات المقارنة بين الفكر التربوي القديم والمنظومة التربوية المعاصرة، واستثمارها لتجديد مناهج التدريس وفق مقاربة تكاملية.
                  والله المستعان.  
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الشاطبي أبو إسحاق ابراهيم بن موسى، الموافقات في أصول الشريعة، ت. الشيخ عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1، 2001م: 1/ 53.
[2] – نفس المصدر والصفحة.
[3] – نفس المصدر والصفحة.
[4] – نفس المصدر والصفحة.
[5] – طه عبد الرحمن، تجديد المنهج، المركز الثقافي العربي، 2007م، ط1: ص96.
[6] – حمادي عبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، دار قتيبة للطباعة والنشر. ط.1، 1992م. ص253.
[7] – الموافقات، مصدر سابق: 1/54.
8] – الموافقات، مصدر سابق: 1/55.
[9] – طه عبد الرحمن، تجديد المنهج، مرجع سابق: ص100.
[10] – الموافقات، مصدر سابق: 1/31.
[11] – المصدر نفسه: 1/41.
[12] – المصدر نفسه: 1/47.
[13] – المصدر نفسه: 1/42.
[14] – عبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، مرجع سابق: ص253.
[15] – طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000م: ص77.
[16] – المرجع نفسه: ص77.
[17] – الموافقات، مصدر سابق: 1/54.
[18] – نفس المصدر والصفحة.
[19] – نفس المصدر والصفحة.
[20] – المصدر نفسه: 1/ 56.
[21] – المصدر نفسه: 1/57.
[22] – نفس المصدر والصفحة.
[23] – نفس المصدر والصفحة.
[24] – المصدر نفسه: 1/60.
[25] – المصدر نفسه: 1/ 64.
[26] – المصدر نفسه: 1/65.
[27] – المصدر نفسه: 1/65-66.
[28] – المصدر نفسه: 1/67.
[29] – المصدر نفسه: 1/68.
[30] – المصدر نفسه: 1/38-39.
[31] – المصدر نفسه: 1/39.
[32] – المصدر نفسه: 4/137.
[33] – البخاري محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ت. محمد زهير بن ناصر، دار طوق النجاة، بيروت، ط.1، 1422هـ: 1/417.
[34] – الموافقات، مصدر سابق: 4/138.
[35] – المصدر نفسه: 4/ 138-139.
[36] –  جمال الدين القاسمي، قواعد التحديث من فنون مصطلح التحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ: ص103.
[37] – يوسف القرضاوي، التربية عند الإمام الشاطبي، حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر. 1412هـ – 1991م، العدد التاسع، ص 32.
[38] – الموافقات، مصدر سابق: 1/129.
[39] – نفس المصدر والصفحة.
[40] – المصدر نفسه: 1/130.
[41] – المصدر نفسه: 1/128.
[42] – المصدر نفسه: 2/ 186.
[43] – الاعتصام، مصدر سابق: 2/186.
[44] – المصدر نفسه: 2/189.
[45] – الأنصاري، التوحيد والوساطة، وزارة الأوقاف قطر، ط1، 1416ه: ص216.
[46] – الموافقات، مصدر سابق: 2/199-200.
[47] – الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، مصر، ص63.
[48] – الاعتصام، مصدر سابق: 2/501-502.
[49] – المصدر نفسه: 1/502.
[50] – الموافقات: 1/52.
[51] – المصدر نفسه: 1/52.
[52] –  المصدر نفسه: 4/169.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى