النص الكامل لمحاضرة: أساسيات منهجية لتدبر القرآن الكريم
الأستاذ عبد السلام محمد الأحمر
مقدمات:
1ـ تدبر آدم وحواء عليهما السلام لكلام الله تعالى فقد مارس آدم وحواء تدبرَ كلام الله تعالى، عندما أذن لهما بالأكل من شجرالجنة عدا واحدة، لكنهما فشِلا في تدبر هذا الأمر الإلهي الصريح على وجهه الصحيح، فانساقا مع تأويل إبليس المحرف لمغزاه، فما أن بدأت تبرز لهما علامات سوء تدبرهما بانكشاف سوءاتهما، حتى أسرعا بالتدبر مرة أخرى وعلى نحو سديد، مستحضرين ما آلت إليه عاقبة صنيعهما، فبادرا بالتوبة الصادقة من سوء فعلهما فتاب الله عليهما. وكان الله تعالى قد حذرهما ضمنيا، من سوء تدبر نهيه لهما عن الأكل من الشجرة، لما حذرهما من الشيطان وعداوته المعلنة، وأنه لن يألو جهدا في حملهما على الزلل لإخراجهما من الجنة، مما يدل على أن تدبر كلام الله، أمر خطير في حياة بني آدم، وأن الخطأ فيه غالبا ما تكون نتيجته وخيمة العواقب دنيا وأخرى. وتفاصيل ذلك كما يحكيها لنا القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَيَٰٓـَٔادَمُ اُ۟سْكُنَ اَنتَ وَزَوْجُكَ اَ۬لْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ اِ۬لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ اَ۬لظَّٰلِمِينَۖ 18 فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَ۬لشَّيْطَٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَٰتِهِمَاۖ وَقَالَ مَا نَه۪يٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ اِ۬لشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَ۬لْخَٰلِدِينَۖ 19 ۞وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّے لَكُمَا لَمِنَ اَ۬لنَّٰصِحِينَ 20 فَدَلّ۪يٰهُمَا بِغُرُورٖۖ فَلَمَّا ذَاقَا اَ۬لشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَٰنِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَّرَقِ اِ۬لْجَنَّةِۖ وَنَاد۪يٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمَ اَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا اَ۬لشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞۖ 21 قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَ۬لْخَٰسِرِينَۖ 22 قَالَ اَ۪هْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمْ فِے اِ۬لَارْضِ مُسْتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ اِلَيٰ حِينٖۖ 23﴾ [الأعراف:18- 23] 2ـ فطرية التدبر في آيات الله لقد اقتضت مشيئة الله أن يستخلف الإنسان في الأرض، ويكلفه بأمانة التعرف على الخالق والإيمان به، انطلاقا من التفكر والتدبر في آيات الله المنشورة في الأنفس والآفاق، قبل أن ينزل عليه آياته المقروءة في كتبه، ويطلب منه القيام بتدبرها والنظر في حقائقها، وفي هداياتها ودلائلها المؤكدة للمعرفة الفطرية بالله المدبر الحكيم. فقد فطر الله النفوس على فعل التدبر في ذاتها وأحوالها، وفي واقع الكون المحيط بها، وما بث فيه الله من عجائب مخلوقاته، الدالة على وحدانيته سبحانه، والعديد من صفاته العلى وكمالاته العظمى. ومن هنا نتبين بأن تدبر آيات الله المنشورة، هو أول واجب استخلافي على جميع بني آدم، قبل أن يصير واجبا شرعيا لتدبر آيات وحي الله المنزل، وتَحَقق الإيمان بآياته البينات. فالمتدبر في آيات الله الكونية يقف على مفترق طرق؛ فإما ينتهي به عقله إلى الإيمان بالله أو إلى الكفر به، كما يقرر ذلك كلام ربنا في قرآنه: ﴿وَكَأَيِّن مِّنَ اٰيَةٖ فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَۖ 105﴾ [يوسف: 105]، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَ وَسَخَّرَ اَ۬لشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَ۬للَّهُۖ فَأَنّ۪يٰ يُوفَكُونَۖ 61﴾ [العنكبوت: 61] كما أن المتدبر في آيات الوحي، إما ينتهي به تدبره إلى الإيمان بأن الوحي كلام الله والاهتداء بهديه، وإما ينتهي به إلى التكذيب بربانيته، ورفض اتباع آياته البينات. ومما يؤكد فطرية التدبر في آيات الله المنشورة، أن الأطفال يواجهون آباءهم ومعلميهم بأسئلة تدبرية حارقة، تجعلهم في حرج كبير. وقد كان نبي الله إبراهيم وهو فتى يتدبر في الكون من حوله باحثا عن الخالق سبحانه، ليقر في النهاية بأن المتدبر مفتقر إلى توفيق الله وهدايته، ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِےٓ إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ اَ۬لْمُوقِنِينَۖ 76 فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اِ۬ليْلُ ر۪ء۪ا كَوْكَباٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّےۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ اُ۬لَافِلِينَۖ 77 فَلَمَّا رَءَا اَ۬لْقَمَرَ بَازِغاٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّےۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِے رَبِّے لَأَكُونَنَّ مِنَ اَ۬لْقَوْمِ اِ۬لضَّآلِّينَۖ 78 فَلَمَّا رَءَا اَ۬لشَّمْسَ بَازِغَةٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّے هَٰذَآ أَكْبَرُۖ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّے بَرِےٓءٞ مِّمَّا تُشْرِكُونَۖ 79 إِنِّے وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلذِے فَطَرَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَ حَنِيفاٗۖ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ 80﴾ [الأنعام: 76-80]. يتضح مما تقدم بأن التدبر لآيات الله المنظورة في الآفاق، والمسطورة في القرآن الكريم، فعل لازم وملازم للمسلم الحازم على امتداد حياته، لايفرغ منه إلا ليعود إليه بعزم متجدد، وسيكون حديثي عنه من خلال أساسيات منهجية ثلاث مستعينا بالله تعالى ومعتمدا على توفيقه وسداده. الأساسية الأولى: استحضار أمر الله تعالى بوجوب تدبر القرآن أولا: معنى التدبرلغة واصطلاحا أصل معنى التدبر لغة، مأخوذ من النظر في أدبار الشيء وعواقبه ونهاياته. وفي لسان العرب: ” دبّر الأمر وتدبّره أي نظر في عاقبته وتدبَّر الأمرَ: رأى في عاقبتِه ما لم يره في صدره[1]. قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ [المؤمنون: 68]. أي: ألم يتفهَّموا ما خُوطبوا به في القرآن العظيم[2]. واصطلاحا، هو التفكر في معاني القرآن ودلالات آياته، فتدبر القرآن: “هو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك”.[3] وعلى ذلك؛ فمتى تأملت في معاني ما تقرؤه من القرآن، وتفكرت فيه فقد تدبرته، فإذا عملت بما تدبرته فهذه ثمرة التدبر، ومما قيل في معنى تدبر آيات القرآن: “اتباعه في أوامره ونواهيه”[4]. وقال الآلوسي رحمه الله: «وأصل التَّدبُّر: التَّأمُّل في أدبار الأمور وعواقبها، ثمَّ استُعمل في كلِّ تأمُّل، سواء كان نظرًا في حقيقة الشَّيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه»[5]. ويكون تدبر القرآن بالنظر الشامل في اتجاه معانيه الكلية ومقاصده الأساسية، مما يفيد في بناء رؤية عامة مؤطرة لمختلف آياته، وما تنطوي عليه من بيانات وأحكام وتوجيهات، فقد جاءت الدعوة إلى التدبر مرتبطة بالقرآن كليا كما في قوله تعالى: ﴿اَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَ۬لْقُرْءَانَۖ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِ۬للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اِ۪خْتِلَٰفاٗ كَثِيراٗۖ 81﴾ وجاءت أيضا متصلة بآياته كلها، ﴿كِتَٰبٌ اَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِۖ 28﴾ [ص: 28]، ومن هنا يكون من صميم التدبر السعي في فهم معاني الآيات على ضوء المعاني الكلية للقرآن الذي يفسر بعضه بعضا. ثانيا: توضيحات حول تدبر القرآن؟ 1) التدبر الجزئي والتدبر الشامل يمكن التمييز بين نوعين من التدبر؛ أحدهما جزئي يقتصر على آية واحدة أو بضع آيات، يُكَون بينها نوع ترابط وتكامل، مثل الآيات الواردة في موضوع معين، كالتقوى أو الصلاة أو صفات الله تعالى. والنوع الآخر تدبر شمولي ينظر في كل آية برؤية قرآنية عامة، توجه معناها وفق مقتضيات ومقاصد كلية، حاكمة على مضامين الكتاب التفصيلية. وهذا المستوى من التدبر لانكاد نجد اهتماما به في الكتابات القديمة والحديثة على السواء. 2) علاقة التدبر بالتفسير يمكن التمييز بين التدبر والتفسير من خلال ما يلي[6]: 1ـ عرَّف الزركشي التفسير في موضعين من كتابه البرهان في علوم القرآن، فقال في الموضع الأول: “علم يُعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحِكَمِه”[7] وعرَّفه في الموضع الثاني، فقال: “هو علم نزول الآية، وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسِّرها. وزاد فيه قوم، فقالوا: عِلْم حلالها وحرامها، ووعْدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها “[8]. وقال محمد الطاهر بن عاشور: “التفسير: اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن، وما يستفاد منها، باختصار أو توسع”[9]. 2ـ إن التفسير هو بيان دلالات الآيات، في حين أن التدبر هو البحث عما وراء تلك الدلالات من معاني ومقاصد وهدايات، والتفاعل القلبي معها، باعتقاد ما دلت عليه والعمل به. 3ـ إن المفسر غرضه العلم بالمعنى.. والمتدبر غرضه الانتفاع بالمعنى اعتقادا وسلوكا. ومن التفاسير التي جمعت بين التفسير والتدبر تفسير) معارج التفكر ودقائق التدبر) للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني. 4ـ إن تدبر القرآن مطالب به عامة الناس من مؤمنين وكافرين، لتحقيق غاية اعتقادية أساسية هي الإيمان بربانية القرآن، وأنه وحي الله إلى الناس بشيرا ونذيرا، وهاديا إلى ما فيه الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، ولذلك خاطب الله به الكفار ابتداءً كما في آيات التدبر. ﴿اَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَ۬لْقُرْءَانَۖ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِ۬للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اِ۪خْتِلَٰفاٗ كَثِيراٗۖ 81﴾[النساء: 81]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَ۬لْقُرْءَانَ أَمْ عَلَيٰ قُلُوبٍ اَقْفَالُهَآۖ 25﴾ [محمد: 25]، ﴿كِتَٰبٌ اَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِۖ 28﴾ [ص: 28]. فالتفسير مسؤولية العلماء الذين استوفوا الشروط العلمية لمزاولته، لأنهم يتوجهون بتفسيرهم إلى الأمة، فيلزم في حقهم صحة الاعتقاد، والتجرد عن الهوى، والعلم باللغة العربية وفروعها، والعلم بأصول العلوم المتصلة بالقرآن، ودقة الفهم التي تمكن المفسر من ترجيح معنى على آخر. وللتفسير درجات متفاوتة كما قال ابن عباس: “التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله “[10]. والتفسير الذي لا يُعذر أحد بجهالته، هو ما تبادر إلى الأفهام معرفةُ معناه، من النصوص المتضمنةِ شرائع الأحكام ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا يعلم أنه مراد الله تعالى. وأما التدبر فيمكن لكل مسلم القيام به، على قدر ما معه من العلم وما فتح الله به عليه من الفهم، وبحسب حاله من التقوى والصدق في ابتغاء هدي القرآن. فإن أحسن فلنفسه وإن أساء فعليها. 5ـ التدبر قد يقود إلى البحث عن حقائق وتوضيحات في مؤلفات التفسير، كما قد ينطلق منها للتوصل إلى حقائق أخفى وأسمى، تصب كلها في زيادة اليقين في الله، وفي اتساع مجال عجائب كلامه، وتجدد هداياته وبيناته مع تجدد النظر في آياته. ثالثا: حُكم التدبر وحِكَمه 1) حكمه اختلف العلماء في حكم التدبر على أقوال ثلاثة: القول الأول: تدبر القرآن الكريم سنة يثاب فاعلها ويمدح، ولا يعاقب تاركها أو يذم، قال الإمام السيوطي: «وتسن القراءة بالتدبر والتفهم، فهو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته}»[11]. القول الثاني: ترك تدبر القرآن الكريم مكروه، قال الإمام الزركشي: تكره قراءة القرآن بلا تدبر، وعليه حُمل حديث عبد الله ابن عمر: “لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث” [12]. القول الثالث: تدبر القرآن الكريم واجب عيني، يثاب فاعله ويحمد، ويعاقب تاركه ويذم، وقد اختار هذا الرأي الإمام القرطبي قال في تفسير قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَ۬لْقُرْءَانَ أَمْ عَلَيٰ قُلُوبٍ اَقْفَالُهَآۖ﴾ [محمد: 25] ودلت هذه الآية على وجوب التدبر في القرآن ليُعرف معناه[13]. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بالأوجه التالية: الوجه الأول: التدبر واجب في حق جميع المكلفين، لكن فيما يتعلق بالإيمان وما كان معلوما من الدين بالضرورة، وسنةٌ في باقي الآيات القرآنية. الوجه الثاني: تدبر القرآن الكريم واجب على من استطاع تفهمَه وتدبرَه، سواء من العلماء أو طلبةِ العلم، وغيرِهم ممن كان مؤهلا للتدبر، ويسن في الذي يشق عليه ولا يقدر على تفهمه إلا بشق الأنفس، قال ابن تيمية: «وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم ومعرفتهم وحاجتهم. وما أمر به أعيانهم فلا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم، أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهِمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحَدث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك» [14]. الوجه الثالث: يجب تدبر جزء من القرآن الكريم أقله آية، ويسن التدبر في القرآن الكريم كاملا. قال ابن الجزري: وقد اختلف في الأفضل هل الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة؟ فذهب بعضهم إلى أن كثرة القراءة أفضل، والصحيح بل الصواب ما عليه معظم السلف والخلف، وهو أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها؛ لأن المقصود من القرآن فهمه والتفقه فيه والعمل به[15]. 2) حِكَم التدبر ومن حكم التدبر نذكر ما يلي: 1ـ إن حكمة الله اقتضت أن يتلقى كل إنسان كلامه بما يناسب فهمَه الخاص، وذلك في إطار الفهم العام السائد داخل جماعة المؤمنين أو على هامشه، فكل من يقرأ القرآن فقد كلمه الله تعالى، ومن حق كل واحد أن يفهم منه ما يتحمل مسؤوليته، إن كان فهما ذاتيا أواعتمادا لفهم غيره وتقبلا له، وسواء كان صوابا أم خطأ. أما ما استقر عليه فهم المجتمع أو الأمة، مما تترتب عليه أحكام عملية عامة، فإن كل واحد يكون ملزما باتباعه، حفاظا على النظام العام داخل المجتمع المسلم وعلى وحدته وإن بدا له خلافُه. 2ـ القرآن ابتلاء لمن سمعه هل يصدقه أم يكذبه، وهل يؤمن به كله أم يتخير منه ما يوافق هواه، وإن خالف العقل والشرع، وخالف مقرراته وحقائقه المجمع عليها. فعبارته ونظمه مطاوعان للتأويل بحسب الخلفية العقدية والنفسية، والمستوى العلمي والإدراكي للمتلقي، ولهذا تعددت الفهوم والأقوال والتفاسير بين المفسرين، وتفاوت التدبر من شخص إلى آخر. فكلما تأكد الوعي بهذه الطبيعة الابتلائية للقرآن، تمكن القارئ لآياته أن يحتاط في تدبره، ويتجه نحو الصواب، وينآى بنفسه عن مواطن الشطط والزلل. 3ـ اختلاف مناهج التدبر بين الناس وتعددها ظاهرة صحية، ويجوز لكل من اعتقد الصواب في طريقة معينة لتدبر كلام الله، أن يبسطها للناس ويعرف بها أهل العلم، ليقوموا بمسؤوليتهم التقويمية، فيباركوا ما تبين لهم صوابُه، وينبهوا على ما تأكد عندهم خطؤه، ولا يجوز لأحد ولو علا كعبه في العلم بالقرآن، إلزام غيره بما توصل إليه واعتمده تفسيرا أوتدبرا. 3) تعهد القرآن لتجديد تذكيره إن من أهم مقاصد القرآن، جعل التالي له على ذكر مستمر لله تعالى، وميثاقه الغليظ الذي يربطه بعبده المؤمن، ويجعله يراقبه حينا بعد حين، ولا يغفل عن استحضار نظره إليه، وتذكر وعده للمؤمنين الطائعين بنعيم الجنان، ووعيده للعصاة والجاحدين بعذاب النيران. ويقصد بتعهد القرآن تدبره لا مجرد القراءة والاستظهار دون فهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذرمة [16]. وقال أيضا: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا[17]. عن أبي حمزة قال قلت لابن عباس “إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث قال لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة أدبرها وأرتلها، أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله أهُذُّه كما تقول”[18]. ويرى أبو حامد الغزالي، بأن أي اتصال بالقرآن لايخلو من فائدة قلت أو كثرت، حتى بالنسبة لمن لايفهمون العربية، فقال: “واعلم أن الترتيل مستحب لا لمجرد التدبر، فإن العجمي الذي لا يفهم القرآن يستحب له في القراءة أيضا الترتيل والتؤدة؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرا في القلب من الهذرمة والاستعجال”[19]. قال ابن قيم رحمه الله: فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن[20]. اهـ. وقال في تفسيره: ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتَتُل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتُثَبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتُحْضِرُهُ بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتُبَصره مواقع العبر.[21] اهـ. وبين بأن تالي القرآن يكون هاجرا له بترك تدبره، فحدد من أنواع هجرالقرآن هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه[22]. اهـ. الأساسية الثانية: اعتماد مدخل للتدبر أولا: ما مدى حاجة التدبر إلى مدخل يصح القول بأن التدبر يحتاج إلى ثلاثة أركان أساسية، إذا عدم أحدها انتفى التدبر وتعطل، النية الخالصة والعقل السليم والموضوع المتدبر فيه سواء كان آية منظورة أو آية مقروءة. وأما اعتماد منهجية محددة أو مدخلا بعينه، فيندرج في باب تيسير التدبر وتطوير طرائقه ومناهجه، سعيا لتحقيق غاياته وأهدافه على نحو يكون به أفضل ما يمكن. ولقد تعددت المداخل الاعتقادية لتدبر القرآن وتفسيره قديما؛ مثل المنحى الاعتزالي والسني الأشعري، والسني العرفاني الصوفي، والسني الماتريدي، والسني الأثري الحنبلي، والشيعي، والإعجازي اللغوي البلاغي، ويجمعها كلها المدخل الاستخلافي باعتباره جامعا ومستوعبا لكل هذه المناهج التفسيرية والتدبرية السليمة أو العليلة، والتي تمثل اختيارات حرة منطلقة من تأويلات واجتهادات وأفكار ذاتية لدى أصحابها. فمناهج التفسير والتدبر في إطار المدخل الاستخلافي العام يمكن تقسيمها إلى نوعين متميزين: 1ـ نوع يحاول الانضباط لمقاصد الدين وكلياته ويتوجه ببيانات القرآن نفسه والسنة الصحيحة. 2ـ نوع لا ينضبط كما يلزم بمقاصد الدين وموجهاته العامة، أو يقول في كلام الله بالهوى وتبعا لمناهج سقيمة مجافية للفقه والعقل. ولقد ظهرت في العصر الحديث، عدة محاولات لصياغة مناهج لتدبر القرآن، غايتها تيسير وتجويد الفهم، ومن أبرزها كتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله) للدكتور عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، سطر فيه أربعين قاعدة تدبرية، وكتاب )أفلا يتدبرون القرآن- معالم منهجية في التدبر والتدبير(، للدكتور طه جابر العلواني، والذي خصص الفصل الثاني منه لمداخل التدبر، وذكر منها ما هو قديم وما هو معاصر والتي بلغت ثمانية عشر مدخلا، منها على سبيل المثال: مدخل التعبد، مدخل القيم، مدخل الوحدة البنائية، مدخل التصنيف الموضوعي، مدخل العلاقة بين الله والإنسان والكون، مدخل التدافع بين الحق والباطل.. والملاحظ على معظم هذه المداخل أنها لاتغطي تدبر جميع الآيات، ولكنها على أية حال محاولات لمنهجة الفعل التدبري لكتاب الله. ونقترح اعتماد مدخل للتدبر أوسع وأفيد، هو المدخل الاستخلافي ببعده التكليفي الشامل، وهذا ما يتطلب ابتداء التعريف بمفهوم الاستخلاف المعتمد في هذه الدراسة. ثانيا: حقيقة الاستخلاف ومرتكزاته 1)مفهوم الاستخلاف تعددت مفاهيم وتعاريف الاستخلاف، وأرى الراجح منها والأوفى معنى؛ أن الاستخلاف هو أول مقصود الله من خلق بني آدم، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّے جَاعِلٞ فِے اِ۬لَارْضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ اُ۬لدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَۖ 29﴾ [البقرة: 29] وإذا استحضرنا آيات الابتلاء مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اَ۬لذِے جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ اَ۬لَارْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبْلُوَكُمْ فِے مَآ ءَات۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اُ۬لْعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمٌۖ 167﴾ [الأنعام: 167] وكذا آية الأمانة العظمى: ﴿اِنَّا عَرَضْنَا اَ۬لَامَانَةَ عَلَي اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَّحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَاۖ وَحَمَلَهَا اَ۬لِانسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُوماٗ جَهُولاٗ 72 لِّيُعَذِّبَ اَ۬للَّهُ اُ۬لْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَٰتِ وَيَتُوبَ اَ۬للَّهُ عَلَي اَ۬لْمُومِنِينَ وَالْمُومِنَٰتِۖ وَكَانَ اَ۬للَّهُ غَفُوراٗ رَّحِيماًۖ 73﴾ [الأحزاب: 72-73] فيمكننا انطلاقا من هذه الآيات، تعريف الاستخلاف بأنه ابتلاء الإنسان بحمل الأمانة العظمى، التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال، وأن من مقتضيات الاستخلاف منح الإنسان حرية الإرادة والاختيار، المرتبطة بالمسؤولية الثابتة عن جميع اختياراته وأفعاله؛ العقلية والفطرية، والتكليفية الشرعية. وهذا استخلاف عام لجميع البشر، وأما الاستخلاف الخاص، فيعنى أن الله يحمل شخصا أو مجموعة من الناس أو أمة من الأمم، أمانة مخصوصة لعمران الأرض على نحو معين، ويكون الغرض منه ابتلاؤهم فيما مكنهم فيه. ومنه قول بني إسرائيل لموسى عليه السلام: ﴿قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَاتِيَنَا وَمِنۢ بَعْدِ مَا جِئْتَنَاۖ قَالَ عَس۪يٰ رَبُّكُمُۥٓ أَنْ يُّهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِے اِ۬لَارْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَۖ 128﴾ [الأعراف: 128] فالطبيعة الابتلائية للاستخلاف بارزة في هذه الآية. والاستخلاف الإنساني لا يخرج عن أحد المسارين: مسار يتوجه فيه الآدمي في حياته بهدي الوحي المنزل، والمبلَغ على يد رسل الله الأخيار، وفي هذه الحالة يناسب أن نسميه استخلافا إيمانيا، أو مسارا يقوم على أساس عقلي محض، وهو ما يناسب تسميته بالاستخلاف الوضعي. ولهذا لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض، خاطبهما محددا مهمتهما في الاختيار بين أحد الطريقين، إما اتباع دين الله وهديه المبين، وإما الإعراض عنه والاكتفاء بالعقل وحده. ﴿قُلْنَا اَ۪هْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاٗۖ فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّے هُديٗ فَمَن تَبِعَ هُد۪ايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَۖ 37 وَالذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ اُ۬لنّ۪ارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَۖ 38﴾ [البقرة: 37-38] فالإيمان الذي هو الخطوة الأولى على نهج دين الله، يعد التعريف به وبيانُه من أول المقاصد القرآنية الكبرى، ويعتبر المدخل الرئيسي إلى الاستخلاف الإيماني، حيث يخرج به المرء من الجهل بالله إلى معرفته سبحانه، وإدراك صفاته وكمالاته وعلاقته بالمخلوقين، والتعرف على مراده منهم، وحكمته من خلقهم وخلق الوجود من حولهم، وأنه تعالى خلق الدنيا وجعلها دارا للعمل والاختبار لبني آدم، وخلق الآخرة وجعلها دارا للجزاء بنعيم الجنة الأبدي والعقاب بنار الجحيم. 2) مرتكزاته ومرتكزات الاستخلاف التي يتأسس عليها يمكن حصرها في خمسة وهي: 1ـ حرية الإرادة والاختيار 2ـ الأمانة العظمى الشاملة لجميع الأفعال التكليفية 3ـ الابتلاء العام الممارس على امتداد العمر 4ـ العلم المستغرِقُ لمعارف الإنسان الدينية والدنيوية 5ـ القدرة الممنوحة للإنسان في ذاته، ومن خلال ما سخره الله له خارجها. 3) مسوغات اعتماد مدخل الاستخلاف لتدبر القرآن 1ـ مقصد القرآن التمييز بين اختيارات ممارسة الاستخلاف سبقت الإشارة إلى كون الممارسة الاستخلافية الإيمانية، قائمة على أساس الإيمان، الذي يمثل المرتكز العلمي للاستخلاف الإيماني، والذي يشتمل على تكاليف العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق، وغيرها من النظم الحياتية الضرورية، في حين يقوم الاستخلاف غير الإيماني، على إنكار الوحي والتصديق بالغيب؛ وهو ما يفصله القرآن تفصيلا عبر جميع آياته؛ ﴿وَإِلَيٰ عَادٍ اَخَاهُمْ هُوداٗۖ قَالَ يَٰقَوْمِ اِ۟عْبُدُواْ اُ۬للَّهَ مَا لَكُم مِّنِ اِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓۖ أَفَلَا تَتَّقُونَۖ 64 قَالَ اَ۬لْمَلَأُ اُ۬لذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِۦٓ إِنَّا لَنَر۪يٰكَ فِے سَفَاهَةٖ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَ۬لْكَٰذِبِينَۖ 65 قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِے سَفَاهَةٞ وَلَٰكِنِّے رَسُولٞ مِّن رَّبِّ اِ۬لْعَٰلَمِينَۖ 66 أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّے وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ اَمِينٌۖ 67 ۞اَوَعَجِبْتُمُۥٓ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٞ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَيٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْۖ وَاذْكُرُوٓاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٖ وَزَادَكُمْ فِے اِ۬لْخَلْقِ بَصْطَةٗۖ فَاذْكُرُوٓاْ ءَالَآءَ اَ۬للَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ 68﴾ [الأعراف: 64-68] مرتكزات الاستخلاف هي مرتكزات الخطاب القرآني إن الآيات القرآنية لاتخرج عن دائرة بيان وتأكيد وترسيخ المرتكزات الأساسية، التي يقوم عليها الاستخلاف من حرية الإرادة والاختيار، والأمانة والابتلاء، والعلم والقدرة، فالقرآن لا ينفك يُذَكِر من يتلوه متدبرا، بهذه المرتكزات التي تسدد وتعزز معرفة الإنسان بصفات الله المستخلِف، وبطبيعة النفس المستخلَفة، وبحقيقة الممارسة الاستخلافية وبمجالات الاستخلاف، ومهامه ومسؤولياته الشرعية المختلفة، وبنتائجها دنيا وأخرى؛ ﴿وَلَقَدَ اَهْلَكْنَا اَ۬لْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُواْ لِيُومِنُواْۖ كَذَٰلِكَ نَجْزِے اِ۬لْقَوْمَ اَ۬لْمُجْرِمِينَۖ 13 ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰٓئِفَ فِے اِ۬لَارْضِ مِنۢ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَۖ 14﴾ [يونس: 13-14] الارتقاء بالفعل التدبري وتسديده إن تأطير الاستخلاف للفعل التدبري يرتقي به، ويسدده على مستويات متعددة نسوق منها: أـ مستوى التفاعل القلبيوالعملي بين المستخلِف وبين المستخلَف وما يثيره ذلك في النفس من رهبة، واستشعار للاعتزاز بهذه المكانة المرموقة بين جميع الخلائق، وما تقتضيه من مسؤوليات جسام هي في الوقت ذاته تكليف وتشريف. أما التفاعل العملي، فيعني أن فعل الله مهيمن على جميع أفعال العبد، الذي أوكل الله إليه إبداء الإرادة وحسم الاختيار، ليتولى الله بعد ذلك تمكين الإنسان من القدرة، التي يزاول بها العمل، ويخرجه من طور العدم إلى حيز الوجود. ﴿۞وَمَا تَكُونُ فِے شَأْنٖ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٖ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ اِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اِذْ تُفِيضُونَ فِيهِۖ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٖ فِے اِ۬لَارْضِ وَلَا فِے اِ۬لسَّمَآءِ وَلَآ أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكْبَرَ إِلَّا فِے كِتَٰبٖ مُّبِينٍۖ 61﴾ [يونس: 61] ،فحين ينخرط الإنسان في تدبر كلام الله، يكون الله معه بعلمه وتدبيره، فإن كانت إرادته متعلقة بطلب هديه وإرشاده، أنار الله له السبيل وكشف له من خبايا وحيه ما يهتدي به إلى أسراره وبصائره، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٞ لِّلْعَٰلَمِينَ 27 لِمَن شَآءَ مِنكُمُۥٓ أَنْ يَّسْتَقِيمَۖ 28 وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَنْ يَّشَآءَ اَ۬للَّهُ رَبُّ اُ۬لْعَٰلَمِينَۖ 29﴾ [التكوير: 27-29]، وإن كان عكس ذلك يبتغي الافتتان به وجحود حقائقه، فإن الله يطمس على قلبه فلا يرى في القرآن سوى الشبه والاختلافات، ﴿هُوَ اَ۬لذِےٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ اَ۬لْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٞ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ اُ۬لْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا اَ۬لذِينَ فِے قُلُوبِهِمْ زَيْغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ اُ۪بْتِغَآءَ اَ۬لْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَاوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُۥٓ إِلَّا اَ۬للَّهُۖ وَالرَّٰسِخُونَ فِے اِ۬لْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنْ عِندِ رَبِّنَاۖ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِۖ 7﴾ [آل عمران: 7] ب ـ مستوى العلم بمراد الله تعالىمن خليفته وهو أنه تعالى خلق الإنسان ليبتليه، هل يؤمن أم يكفر وهل يصلح أم يفسد، وحمله مسؤولية تقرير مصيره في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يمارس إرادته الحرة ويحقق ذاته، فيطيع الله أو يعصاه عن اختيار واقتناع. وأن الله مع الإنسان في كل خطواته، التي يخطوها على النهج الذي ارتضاه لنفسه، فإن اختار الهداية يسر الله له سلوك نهجها، وإن اختار العماية والضلالة أمكنه منها وزينها له، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، فكلما أحسن العبد جازاه الله بإحسان، وكلما أساء عاقبه بعدل. ﴿وَقُلِ اِ۬لْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُومِنْ وَّمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرِۖ 29﴾ [الكهف: 29] ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ اُ۬لْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصْلَيٰهَا مَذْمُوماٗ مَّدْحُوراٗۖ 18 وَمَنَ اَرَادَ اَ۬لَاخِرَةَ وَسَع۪يٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُومِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراٗۖ 19 كُلّاٗ نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَۖ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراًۖ 20﴾ [الإسراء: 18-20]. ت ـ مستوى تجاوز متشابه القرآن إن تدبر بعض الآيات، قد يثير استشكالات معينة، يسهل فهمها أو تجاوزها دون الافتتان بها، إذا اعتمد المتدبر مدخل الاستخلاف، الكفيل بتيسير الفعل التدبري، بعيدا عن الوقوع في بعض المزالق، وقد يتساءل المرء مستغربا هل توجد استشكالات في كلام الله تعالى؟ والجواب هو أنها موجودة باعتبارها مقصدا إلهيا لابتلاء المتلقين لكتابه، وتمحيص إيمانهم بربانيته، وليس باعتبارها شبها حقيقية، ودالة على غلط فيه أو افترائيته على الله، كما زعم المفتونون بالقرآن من الكافرين والجاحدين لنسبته إلى الله تعالى. فخير ما يستعين به المتدبر على مواجهة متشابه القرآن وإشكالياته، اعتقاده الجازم بأن الله تعالى خلق الإنسان ليبتليه بالقرآن نفسه الذي جعله سبحانه مدللا لصعاب التدين وممارسة الحياة الدنيا، وحلا لمعضلاتها وترياقا لمختلف فتنها، ومعينا على مكابدة ابتلاءاتها مهما ارتفعت حدتها. الأساسية الثالثة: قواعد التدبر في إطار المدخل الاستخلافي أولا: القرآن متيسر للذكر إن الغاية من إنزال القرآن، تعليم الإنسان ما يتعلق بأمانة الاستخلاف، وجميع مقتضياتها الاعتقادية، وممارساتها السلوكية، ونتائجها في الدنيا والآخرة. وهذه الحقائق وما في مرتبتها مبسوطة على امتداد المتن القرآني، مُتيَسر للتالي لآياته فهمُها، والالتزامُ بها علما وعملا إذا صدقت عزيمته، كما أكد الله تعالى في قوله ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا اَ۬لْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٖۖ 17﴾ [القمر: 17] وقد جاء في تفسير هذه الآية عند الطبري:“ولقد سهّلنا القرآن، بيّناه وفصّلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ، وهوّناه” [23]. وعند ابن كثير: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه لمن أراده، ليتذكر الناس. كما قال تعالى: ﴿كِتَٰبٌ اَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِۖ 28﴾ [ص: 28]، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97] [24]. وعند سيد قطب: وهذا هو القرآن حاضر، سهلُ التناول، ميسر الإدراك، فيه جاذبيةٌ ليُقرأ ويُتدبر. فيه جاذبية الصدق والبساطة، وموافقة الفطرة واستجاشة الطبع، لا تنفَد عجائبه، ولا يخلَق على كثرة الرد. وكلما تدبره القلب عاد منه بزاد جديد. وكلما صحِبته النفس زادت له ألفة وبه أنسا[25] . ولقد أورد بعض المفسرين بأن المقصود بتيسير الله للقرآن هو سهولة حفظه، في حين أن الحديث الصحيح «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفصيا [أي انفصالا] من قلوب الرجال من الإبل من عُقلها»[26]، أكد سرعة نسيانه وعسر حفظه في الذاكرة، لمن لم يواظب على مراجعته حينا بعد حين. كما أن صعوبة حفظه، تدفع إلى مراجعته من قريب خوفا على نسيانه، ومحاولة ضبط الحفظ عن طريق التقيد بالمعنى، مما يتيح التفكر في الآيات والنظر بعمق في بنيتها ودلالاتها، فيحصل بذلك التدبر والاعتبار، مما يتأتى به تيسير به الذكر والتذكر لحقائق القرآن الكبرى. ولعل من تيسر القرآن للذكر كذلك ما تواترت به الأخبار عن أناس من العجم لا علم لهم بالعربية، لكنهم عندما استمعوا إلى القرآن مرتلا، شعروا بتميزه وسموه وتأثيره البليغ في أنفسهم، حتى وهم يجهلون أنه كلام الله العلي العظيم. والذي يترجح فيما يتعلق بتيسير القرآن للذكر، أن الحد الأدنى من تذكر أساسيات الاعتقاد الإيماني، متاح في النص القرآني كليا وجزئيا لمن يقرأه أو يسمعه، حيث إن الكلام عنها يتخلل جميعَ القرآن وبعبارات واضحة ميسرة، وهذه الأساسيات الاعتقادية على رأسها اسم الجلالة “الله” حيث هو اللفظ الأكثر ترددا في القرآن، ثم الملائكة والرسل والكتب المنزلة وخاصة منها القرآن، واليوم الآخر ونعيم الجنان وعذاب النيران، وذكر أحوال المؤمنين وأخلاقهم وتصديقهم بالكتب والأنبياء، وذكر الكافرين والجاحدين وأحوالهم، وأقوالهم التكذيبية بالوحي والمرسلين، وآيات الله وسننه الكونية والاجتماعية، الجارية على الناس وعلى امتداد الوجود. فمن يقرأ بضع آيات أو قصر السور، يحصل منها على الحد الأساس من الاعتقاد في الله تعالى، مما يحمله على طلب المزيد بحسب رغبته وهمته، و ذلك من تيسير القرآن، الذي جعله رب العزة متشابها مثانيا، بمعنى أن بياناته وتوجيهاته ومواعظه وأصول حقائقه، تتكرر وتتشابه وتستقر في القلب وتتقرر بالمداومة على تلاوته، محدثة تأثيراتها الاعتقادية الأساسية في الإدراك والسلوك؛ ﴿اِ۬للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَ۬لْحَدِيثِ كِتَٰباٗ مُّتَشَٰبِهاٗ مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اُ۬لذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمُۥٓ إِلَيٰ ذِكْرِ اِ۬للَّهِۖ ذَٰلِكَ هُدَي اَ۬للَّهِ يَهْدِے بِهِۦ مَنْ يَّشَآءُۖ وَمَنْ يُّضْلِلِ اِ۬للَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنْ هَادٍۖ 22﴾ [الزمر: 22]. ومِن تيسير القرآن للذكر حفظه من التحريف، مما يجعل الإقبال على قراءته وتدبره متواصلا منذ نزوله إلى اليوم، كما أن اتساع نشر المصاحف وتوفر ترجمتها إلى معظم اللغات عبر العالم، وكثرة البرامج القرآنية الإلكترونية، التي يتيسر تحميلها في الحواسيب والهواتف الذكية، كل ذلك مما يتيسر به تدبر القرآن ونشره في هذا العصر، وتقام به حجة الله على العالمين. ثانيا: عطاء القرآن على قدر استعداد الإنسان تختلف درجةُ الانتفاع بالقرآن، بحسب استعداد النفس لتلقي عظاته وبيناته، وعلى قدر حرصها على الاستمداد من علمه والاهتداء بهديه، وقد كشف القرآن عن هذه الحقيقة في آيات كثيرة، وبصيغ متنوعة وأمثلة بليغة، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 282] فالله تعالى يدبر أمر الإنسان تبعا لتدبيره لأمر نفسه؛ فيهديه ما طلب الهداية وسلك طريقها، ويضله ما اختار لنفسه الضلالة ورضي بها، ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٞ فَمِنْهُم مَّنْ يَّقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰناٗۖ فَأَمَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمُۥٓ إِيمَٰناٗ وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَۖ 125 وَأَمَّا اَ۬لذِينَ فِے قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً اِلَيٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَۖ 126﴾ [التوبة: 125-126] . قال قتادة: “لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان” قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾. ولذلك كلما صبَر الفرد على مكابدة التفكر والتدبر في آيات الله، وجاهد نفسه على تحييد أهوائها، ولازم النظر وتَحَمل معاناته، واجتهد في أداء المفروضات والاستزادة من المندوبات، واجتناب المحرمات والتورع عن المكروهات، وسأل الله أن يسدد نظره في بينات كتابه، إلا وفتح الله عليه، ويسر له نورا من الفهم، وحفظه من ظلمات الوهم. فيحتاج المتدبر حيال بعض الآيات التي التبس عليه فهمها، واختلفت فهومُ العلماء حولها، أن يسأل الله المتكلمَ بالقرآن، أن يكشف له من أسرارها ومكنوناتها، ما يطمئن له قلبهُ ويستقيم به سيره إلى الله. ثالثا: اعتماد التساؤل للارتقاء بمستوى التدبر عندما نتأمل جيدا في آي القرآن، نتبين بأن الله تعلى أراد منا أن نتساءل، ونحن نتدبر كلامه المثير بطبعه للتفكير، ولم يرد سبحانه منا أن نسَلم دائما دون بحث ودون تساؤل، مع كون كلامهِ هو الحق المبين، الذي ما يزيد المتفكر فيه إلا إيمانا وتصديقا. ولعل كثيرا من المتدبرين، ليست لديهم الجرأةُ الكافيةُ لمساءلة القرآن، بذريعة أن ذلك لا يناسب حال المصدق بالقرآن، الموقن بأنه كلام رب العزة، المنزه عن كل عيب ونقص، فيَحرِمون أنفسهم من ثمار التساؤل، الموصلِ لكثير من التحقيق والتدقيق، واستشعار إعجازية كلام الله. ولا شك أن البون شاسعٌ بين السؤال التعليمي، الذي يقصد به الاستيضاح والكشف عما استشكل وخفي من الحقائق، وبين السؤال المتنطع الهادف إلى التشكيك والاستهزاء، وإنما النتائج بالنيات والمقاصد. فلو أن شخصا قصد الكشف عن عيوب في الخطاب القرآني، لوجد في متشابهه ما يزيد قلبه زيغا وعماية، لأن القرآن العظيم لاسلطان له على من يُضمر جحودَه وتكذيبَه، إلا أن يقضي الله بخلاف ذلك لحكمة يريدها سبحانه. فمن الذين حاولوا من الغربيين المعاصرين تكذيب القرآن، فخابوا وانقلبوا إلى مؤكدين لربانيته، وخلوه من الأخطاء والتناقضات، الدكتور غاري ملير الكندي، Dr. Gary Miller وهو بروفيسور متخصص في الرياضيات، وكان من المبشرين النشيطين في الدعوة إلى المسيحية، فقرر أن يدرس القرآن ليكتشف فيه أخطاء يوظفها في تنصير المسلمين، فخاب قصده عندما وجد أن فيه سورة كاملة تسمى سورة مريم، وفيها تشريف لمريم عليها السلام، لا يوجد مثيل له في كتب النصارى ولا في أناجيلهم. وكذلك وجد أن عيسى عليه السلام ذُكر بالاسم 25 مرة في القرآن، في حين أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، لم يذكر إلا 5 مرات فقط فزادت حيرته وتصديقه بالقرآن. ثم واصل بحثه لعله يجد بغيته، ولكنه فوجئ بآية عظيمة وعجيبة، ألا وهي {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فأعلن إسلامه وتحول إلى داعية لاتباع القرآن، والانتصار لربانيته وهيمنته على باقي الكتب السماوية، فألف في هذا المجال كتبا منها: “الفرق بين القرآن والكتاب المقدس” ، “القرآن المذهل ” و”نظرة إسلامية لأساليب المبشرين”. ومما نتعلمه من القرآن، اعتماد التساؤل والبحث والنقد، باعتبارها وسائل منهجية لتمييز الحق من الباطل والصواب من الخطإ، فقد توسع القرآن في توظيف التساؤل لإقرار الحقائق الإيمانية، مثل قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥۖ بَل لَّا يُومِنُونَۖ 31 فَلْيَاتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثْلِهِۦٓ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَۖ 32 أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَےْءٍ اَمْ هُمُ اُ۬لْخَٰلِقُونَۖ 33 أَمْ خَلَقُواْ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَۖ بَل لَّا يُوقِنُونَۖ 34﴾ [الطور: 31-34]. وقد كان أصحاب رسول الله ممتثلين لمنهج القرآن، فكانوا لا يتورعون عن سؤال رسول الله، ليزدادوا من العلم بهديه صلى الله عليه وسلم، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيمَ أُنزلت، وأين أنزلت، وإن ربي وَهَبَ لي قلبًا عقولًا ولسانًا سؤولًا”[27] ولما سُئِل ابن عباس رضي الله عنهما: “بِمَ أدركتَ العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول”[28]. وكان السلف يُوصُون قائلين: “أثيروا القرآن”، وإثارته تكون بالاجتماع عليه، وتشقيق السؤال حول آياته، ومدارسته. (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشِيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمَن عنده)[29]. ولكي يكون التساؤل منهجا مثمرا، في الكشف عن أسرار الخطاب القرآني، نحتاج إلى التحلي بالآداب التالية: 1ـ عدم الاعتداء في السؤال، فليس كل سؤال مناسب لمقام الله وكلامه، وليس كل سؤال يفيد ملقيه، بل قد يضره ويفتح عليه بابا للغواية والفتنة، التي لايخرج منها سالما، ولذلك كان تحذير الله تعالى من عواقب بعض الأسئلة فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسْـَٔلُواْ عَنَ اَشْيَآءَ ا۪ن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْۖ وَإِن تَسْـَٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ اُ۬لْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اَ۬للَّهُ عَنْهَاۖ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞۖ 103 قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٞ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كٰ۪فِرِينَۖ 104﴾ [المائدة: 103-104]. 2ـ إن طرح السؤال في متناول كل واحد، خلافا للجواب عنه الذي يتطلب علما واسعا، قد لايتأتى لجميع من يتدبر القرآن، ولذلك كلما زاد علم المتدبر، وصحت عقيدته، واستقام قلبه، ألهمه الله حسن السؤال وحسن الجواب عنه. 3ـ ليس من الحكمة في شيء، أن يتطلع التالي للقرآن المتدبر لآياته إلى إدراك حقائقه كلها، على نحو من الكمال الذي لامزيد عليه، بل حسبه ما تيسر له من الفهم المحدد، الذي ينطوي على قدر لا يستهان به، مما يسره الله عليه من الرشد والهداية. رابعا: تفعيل المدخل الاستخلافي لتسديد الفهم ويعني ذلك إمعان النظر في الآيات، من خلال مرتكزات الاستخلاف الخمسة المحددة سابقا، وهي حرية الإنسان المقيدة بالمسؤولية داخل دائرة التكليف، وتحمله للأمانة العظمى وما يتفرع عنها من تكاليف ومسؤوليات، والابتلاء بأحكام الشريعة حين ينضبط سلوك الأدمي بها وحين يزيغ عنها، ومواجهة معضلات الحياة بخيرها وشرها. والاطلاع على مواقف الناس تجاه المعرفة التي تنضح بها الآيات، وكيف يتفاعلون معها تصديقا أوتكذيبا. وكيف يتعامل بنو آدم في العادة مع القدرات الممنوحة لهم في الأنفس، والمسخرة في الكون لعمران الأرض، وماهي العظات والحكم التي يلزم أن يستفيدها المتدبر ويعمل بها في حياته؟ وفي كل هذا يكون على المتدبر أن يطرح على نفسه دوما سؤالين أساسيين على الأقل وهما: ما لعلم الذي استفدته من هذه الآية أو الآيات؟ وما هو العمل المترتب عن هذا العلم؟ بمعنى كيف يربط تدبره للقرآن مع تدبيره لسيره إلى الله، والقيام بممارسة الاستخلاف المسدد بالوحي. خامسا: تحصيل المعارف الأساسية والتكميلية لفهم الخطاب القرآني بحسب المستطاع 1ـ المعارف الأساسية ويأتي على رأسها المعرفة باللغة العربية، واعتماد كتب شارحة لمفردات القرآن، ومعرفة في حدها الأدنى بفقه الأصول وعلوم القرآن والحديث، والاستئناس ببعض التفاسير الميسرة، وتوظيف برامج إلكترونية موسوعية تحمل على الهواتف الذكية، والاطلاع على كتب مختصرة لسيرة الرسول فقد كان خلقه القرآن. 2ـ المعارف التكميلية وتشمل المعارف العصرية في مجال العلوم التجريبية (الإعجازالعلمي للقرآن) والعلوم الإنسانية كالأدب والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة.. 3ـ كتب التدبر الميسرة ومنها على سبيل المثال: مقرر تدبر القرآن الكريم للدراسات العليا – قواعد التدبر الأمثل – تدبر القرآن وأثره في تزكية النفوس – تحقيق الوصال بين القلب والقرآن – الخلاصة في تدبر القرآن الكريم. 4ـ كتب مشكل القرآن ومن مؤلفات العلماء في موضوع مشكل القرآن نذكر: “متشابه القرآن” لأبي حمزة الكسائي أحد القراء السبعة المتوفى 189 هـ، “تأويل مشكل القرآن” لابن قتيبة المتوفى 276هـ و”كشف المشكلات وإيضاح المعضلات”، لأبي الحسن الباقولي المتوفى 542هـ. و”دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب” للشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي المتوفى 1393هـ. 5ـ الا ستئناس بالتدبر الجماعي يتيح التعاون بين الراغبين في تدبر القرآن جماعة، تحقيق مبتغاهم في أعلى مستوياته، فيتيسر لهم الوقوف عند دلالاته، وعمق معانيه وبياناته ومحكم بيناته، لذلك أرشد القرآن الناس مؤمنين وغير مؤمنين، إلى أن يشتركوا مع غيرهم في تدبر القرآن، ومناقشة مضامينه كي ينفذوا إلى هداياته، ﴿۞قُلِ اِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ اَن تَقُومُواْ لِلهِ مَثْن۪يٰ وَفُرَٰد۪يٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۖ مَا بِصَٰحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۖ اِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيْنَ يَدَےْ عَذَابٖ شَدِيدٖۖ 46﴾ [سبأ: 46]، وقال رسول الله ﷺ: وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده[1][30]. خاتمة حاولت هذه الدراسة رسم معالم لما يمكن تسميته بالتدبر الاستخلافي، الذي ينطلق من حقيقة كون آيات الله المنظورة في كونه، وآياته المسطورة في قرآنه، كلما مارسنا النظر فيها وحاولنا تدبرها في ضوء حقائق استخلاف الله للإنسان في الأرض، فإننا سوف نقترب أكثر من إدراك مغزى ودلالات آيات الله، التي لاتخرج عن إرشاد الإنسان إلى اكتساب الوعي بالأمانة الاستخلافية المطوقة لأعناق الآدميين، وتوجيههم إلى إحسان الاضطلاع بمختلف المهام المتفرعة عنها. ونحتاج بعد هذه التوضيحات النظرية، إلى تنزيلها على عينة من الآيات، لمزيد إيضاح وتقويم وتنقيح، لأن التطبيق العملي غالبا ما يكشف جوانب النقص التي اعترت التصور النظري، مما يعين على استدراكها وتكميلها، وذلك ما نأمل أن تتهيأ ظروفه في قريب عاجل بتوفيق من العلي القدير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] لسان العرب لابن منظور دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414 هـ، مادة (دبر) 4/273. [2] – انظر: القاموس المحيط (ص390)، مادة: (دبر) [3] – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (ت 1376هـ)، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م، ص 189. [4] – لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبو الحسن، المعروف بالخازن (ت 741هـ)، تصحيح: محمد علي شاهين، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1415 هـ، 4/40 [5] – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (ت 1270هـ)، المحقق: علي عبد الباري عطية، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1415 هـ، 3/89. [6] ملخصة من جواب د. عمر بن عبد الله المقبل في الإنترنت. [7] – البرهان في علوم القرآن، لأبي عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (ت 794هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1376 هـ – 1957 م، الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه (1/13). [8] – البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/148). [9] التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، للإمام محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)، الناشر: الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984 هـ 1/11. [10] – تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (224 – 310 هـ)، تحقيق: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2001 م، 1/70. [11] الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت 911هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة: 1394هـ/ 1974 م، 1/370 [12]– البرهان في علوم القرآن، للزركشي 1/455. [13]-الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384 هـ – 1964 م، 5/290. [14]-مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله، وساعده: ابنه محمد وفقه الله، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف – المدينة المنورة – السعودية، عام النشر: 1425 هـ – 2004 م، 3/312. [15] النشر في القراءات العشر، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ)، تحقيق: علي محمد الضباع (المتوفى 1380 هـ)، الناشر: المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية]، 1/290. [16] إحياء علوم الدين، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505هـ)، الناشر: دار المعرفة – بيروت، 2/277. [الهذرمة والتهذير: الإسراع في القراءة]. [17] المصدر نفسه 2/277. [18]– الاستذكار، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (ت 463هـ)، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 – 2000م، 2/478. [19]– إحياء علوم الدين 2/277. [20] – مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)، تحقيق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، راجعه: محمد أجمل الإصلاحي- سليمان بن عبد الله العمير، الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)، الطبعة: الثالثة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)، 1/535. [21] -مدارج السالكين في منازل السائرين، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (659 – 751)، الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)، الطبعة: الثانية، 1441 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)، 2/84. [22] -الفوائد، ابن قيم الجوزية، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الثانية، 1393 هـ – 1973 م، ص 82. [23] جامع البيان للطبري 22/584. [24]– تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (ت 774 هـ)، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة: الأولى – 1419 هـ، 7/442. [25] انظر، في ظلال القرآن، سيد قطب سورة القمر آية 17. [26] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعاهده، رقم: 5033. [27] – حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430 هـ)، الناشر: مطبعة السعادة – بجوار محافظة مصر، عام النشر: 1394 هـ – 1974 م، 1/67. [28] – عيون الأخبار، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، تاريخ النشر: 1418 هـ، 2/134. [29] – صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206 – 261 هـ)، كتاب الذكر والداء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم: 2699. [30] صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206 – 261 هـ)، كتاب الذكر والداء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم: 2699.