الكلمة التقديمية للسيد المسير الدكتور حميد عنبوري. الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. يسرنا في مركز الأمانة للأبحاث والدراسات العلمية، أن نقدم هذه الندوة المباركة الموسومة بالصيام من منظور الاستخلاف، ونحن سعداء أن نقيم هذه الليلة من ليالي رمضان في محراب العلم، بعد أن قمنا في محراب الصلاة بالمسجد أداء لفريضة العشاء ونافلة التراويح، ولا شك أن القاسم المشترك بين القيامين في ليلة من ليالي رمضان هو التدبر والتأمل في كلام الله، وها نحن ننتقل من التلاوة إلى المدارسة، وليس هذه بأقل شأنا من الأخرى، وهنا أستحضر كلاما جميلا فريدا يُلفِت الانتباه، إلى هذه المعادلة بين القيام في محراب الصلاة وبين القيام في محراب العلم، وهو كلام الشيخ الدكتور أحمد الريسيوني، الذي كتب مقالا بعنوان “قيام النهار” ويتأمل مطلع سورتي المزمل والمدثر، يقول بأن كلا السورتين افتتحتا بأمر “يا أيها المزمل قم الليل، يا أيها المدثر قم فأنذر” أمران بلفظ واحد لكن في اتجاهين مختلفين، أما الأمر الأول فقد أصبح له شأن وذكر في الدين والتدين، وفي التعبد والتقرب، وفي التزكية والتربية، وصار له اسمه الخاص به الدال عليه بلا غموض ولا التباس، هو” قيام الليل” وأما الأمر الثاني” قم فأنذر” فلم يحظ بشيء مما حظي به الأمر الأول، وذلك هو قصدي كما يقول الدكتور الريسوني في ورقته، إلى أن يقول كان المفروض أن نتحدث عن قيام النهار، كما نتحدث عن قيام الليل، ولا غرو في هذا الكلام ولا عجب، ونحن أيضا بدورنا نقول: وقصدنا أن يحظى قيامنا للعلم بما يحظى به قيامنا في الليل، فإن شئنا قلنا: قيامنا في هذه اللحظة للعلم والمدارسة هو امتداد لقيامنا في بيوت الله، وبناء عليه: أدعوكم لتسوية الصفوف، سووا صفوفكم يرحمكم الله، ليس من أجل الصلاة بل من أجل العلم والمدارسة، وإمامنا في هذه الليلة هو الأستاذ سيدي عبد السلام محمد الأحمر، “فنحن نُشَبه الجلسة بأنها امتداد لقيام”، ويليه في الصف الدكتورين الفاضلين: حفيظ غياط ومحمد منديل، وقد صح في الحديث: ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، فنسأل الله تعالى التوفيق. من غرائب وعجائب وقوة هذا الدين، الذي ارتضاه الله دينا للبشرية جمعاء، أن الموضوع الواحد منه كالصيام والتربية على التقوى، الذي هو عنوان كتاب أستاذنا، يمكن أن يُخاطب به العامة في الدرس الوعظي وفي خطبة الجمعة، من خلال الربط بين الصيام والتربية على التقوى، وأن يُبَينَ لهم بأن التقوى امتثال للأوامر واجتناب للنواهي، كما يستطيع الموضوع نفسه، من المنطلق نفسه ومن الآية نفسها أن يخاطب الخاصة بل وخاصة الخاصة، بحيث يربط لهم بين الصيام والتقوى والاستخلاف، وهذا ربط قد لا يستسيغه كل الناس، إذ كيف يتم ربط شعيرة متمثلة في الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بقضية كلية عامة، قامت عليها السماوات والأرض، وهي مهمة الاستخلاف، ولا غرابة في ذلك، فهذا دين الله الذي يخاطب العارف والفيلسوف، كما يخاطب التاجر والفلاح، وكل يأخذ منه بنصيب. ويستطيع الإنسان العادي في المجتمع المسلم، أن يتفاعل مع شعائر هذا الدين في بساطتها، كما يستطيع العالم المجتهد والفيلسوف أن يحلق بفكره في حِكَمها ومقاصدها. والحديث بهذا المستوى الفكري التأصيلي في مثل هذا الموضوع، يعد من بركات هذا المركز في إطار مشروعه العلمي المتمحور حول أمانة الاستخلاف، فالربط بين مقصد التقوى في الصيام وبين ممارسة الاستخلاف، استدعى من المؤلف حفظه الله أن يضيف فصلا تمهيديا، تحت عنوان: التقوى في منهاج الاستخلاف، ضمن طبعة الكتاب الثانية، والذي كان أول إصدار رقمي تم نشره بالموقع الإلكتروني للمركز، كما تم طبعه ورقيا بعد ذلك ضمن إصدارات أخرى أنجزها المركز. ولتجلية حقيقة العلاقة المنهجية بين الصيام والتقوى والاستخلاف، سوف أحيل الكلمة تباعا على المتدخلين الفاضلين، وبعدهما على فضيلة المؤلف متمنيا لهم تمام التوفيق والسداد. المداخلة الأولى العلاقة بين الصيام والاستخلاف د. حفيظ غياط مقدمة: إنه لمن دواعي سروري أن أتشرف بالمشاركة في هذه الندوة العلمية المباركة، لتقديم قراءة في كتاب: “الصيام والتربية على التقوى” لمؤلفه الأستاذ الفاضل عبد السلام محمد الأحمر، في هذا الشهر المبارك الفضيل، وإن من أهم دواعي مشاركتي في قراءة هذا الكتاب، أهمية موضوعه إذ حاول صاحبه طرح سؤال غاية في الأهمية: هو سؤال المقاصد والحكم التي تنطوي عليها العبادات الشرعية، فهو إجابة شافية في سياق بعث الروح في العبادات التي تعبدنا الله بها حتى تفضي إلى غايتها ومقصدها الأعظم وهو تحصيل مقام التقوى باعتباره عنوانا لزكاة النفس وطهارة القلب. كما دعانا لاختيار تقريبه أيضا راهنيته، ففي شهر رمضان تدعو الحاجة إلى التذكير بفقه الصيام وأحكامه، وخاصة ما يتعلق بالحِكم والمقاصد التي تكتنزها هذه الممارسة التعبدية العظيمة، ذلك أن إغفال استحضارها والجهلَ بها سبب كبير، يفسر ما يقع فيه الناس من ممارسات شاذة، لا تتناسب والسلوك الشرعي السليم، الذي يجب أن يكون عليه الصائم. 1) معطيات حول الكتاب: مقارنة بين الطبعتين اشتمل الكتاب في طبعته الأولى على مقدمة وخمسة فصول وهي: الفصل الأول: التقوى غاية التربية الإسلامية الفصل الثاني: التربية على الترك أساس التقوى الفصل الثالث: توظيف الصيام للجسد في تربية النفس على التقوى الفصل الرابع: التقوى أساس التربية على المسؤولية الفصل الخامس: التربية على أخلاق التقوى 2) أهم الإضافات التي ميزت الطبعة الثانية: – أما الطبعة الثانية فهي مزيدة ومنقحة، ومن أهم ما تميزت به إضافة فصل تمهيدي كامل بعنوان: التقوى في نهج الاستخلاف، بلغ عدد صفحاته 26 صفحة، من الصفحة 11 إلى الصفحة 37. وهو ما سنحاول الوقوف على أهم ما جاء فيه. كما عزز المؤلف دور الصيام في تحقيق التربية على التقوى، بإضافة المواضيع التالية: ـ عبادة الصلاة والتربية المستمرة على التقوى ـ التقوى من خلال عبادة الحج والعمرة ـ جوع الصوم تقوية للروح والجسد ـ الفرح بالتقوى 3) سياق إعادة نشر الكتاب في طبعته الثانية: يذكر المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية بأن إعادة نشر كتاب “الصيام والتربية على التقوى”؛ يأتي في إطار المشروع العلمي لمركز الأمانة للأبحاث والدراسات العلمية. ويشاء الله أن يكون ذلك في مستهل شهر رمضان الأبرك وبعمل ذي صلة مباشرة بشعيرة الصوم وأهم مقاصده الذي هو التقوى[1]. كما حاول المؤلف في هذا الفصل الجديد التأكيد على مركزية قيمة التقوى في ارتباطها الوثيق بالممارسة الاستخلافية للإنسان على ظهر هذه الأرض، وقدرتها على ترشيد سعيه، وتمكينه من الوفاء بكافة مسؤولياته، يقول: “وفي هذا الاتجاه تم التطرق للتقوى، باعتبارها من القيم الأساسية لممارسة رشيدة للاستخلاف في الأرض، والتي إذا ترسخت في النفس، تمكنت بها من الاضطلاع بكل مسؤوليات الأمانة الاستخلافية ومهامها المختلفة”[2] 4) دوافع المؤلف للكتابة في الموضوع: يعد الكتاب الذي بين أيدينا خلاصةَ بحث طويل حول الأبعاد التربوية للصيام، ارتأى المؤلف–من منطلق الشعور بالمسؤولية الدعوية–أن يعمم الانتفاع به على أوسع نطاق–لما تضمنه من تنبيهات مهمة مصبوغة بحس تربوي رفيع يخاطب قلب الصائم وروحه لترتقي بهذه الشعيرة من حضيض العادة والتقليد إلى مدارج العبادة الخالصة لله رب العالمين. وفي هذا السياق يقول الأستاذ عبد السلام الأحمر في مقدمة كتابه: “ومما حفزني للاهتمام بالجانب التربوي للصيام، كون العبادات لم تحظ عبر التاريخ الإسلامي بالتأليف التربوي الوفير، وإنما طغى عليها التصنيف الفقهي، ويرجع سبب ذلك إلى حصر العبادات في دائرة ما هو غير معقول المعنى[3]، العصي على التفسير والتعليل والتحليل، وأن ممارستها مطلوبة لغير ذاتها، تحقيقاً لتمام العبودية والامتثال لأمر الله، من دون أي غرض آخر، ثم إني أعتقد أن التجديد في مجال العبادات، لا يتصور إمكانه إلا في الاتجاه التربوي، المؤسس على الاستيعاب العميق للتراث الفقهي، واستلهام المقاصد العامة للعبادات، والمقاصد الخاصة بكل عبادة على حدة، كما ورد النص عليها في الكتاب والسنة “[4] ثم بين المؤلف طبيعة عمله في هذا الكتاب بقوله: “حاولت في هذه الدراسة تتبع مدى تحقق غاية التقوى في الصيام المفروض، على ضوء الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) حيث ركزت في تناولي التربوي على التقوى بمعناها التركي والوقائي، مستجلياً أبعادها في مختلف شعائر الصيام”[5] من هذا المنطلق يمكن اعتبار هذه الدراسة إضافة نوعية مباركة لجهود علمائنا، الذين اعتنوا كثيرا ببيان هذا الجانب (التعليل الجزئي والتنبيه على المقاصد التربوية) عند معالجتهم لموضوع العبادات الشرعية، كالإمام الغزالي والشاطبي والعز بن عبد السلام وغيرهم. ونظرا لكثرة الموضوعات التي ناقشها المؤلف فسنحاول من خلال هذا المقال إلقاء الضوء على أهم القضايا التي تضمنها الفصل التمهيدي من هذا الكتاب القيم تقريبا لفوائده وتشويقا لقراءته. وتجدر الإشارة إلى أنه قد سبقت لي قراءة في هذا الكتاب في طبعته الأولى، في مقال نشر بمجلة “تربيتنا الرقمية” العدد: (6) سنة 2016. عنون المؤلف الفصل التمهيدي ب: “التقوى في منهاج الاستخلاف”، وقد قسمه إلى عنصرين: الأول: موقع التقوى في منهاج الاستخلاف والثاني: أهم محددات قيمة التقوى وقد جمعت عناصر هذا الفصل في الخطاطة التالية قبل الانتقال إلى العرض التفصيلي: 5) الوفاء بأمانة الاستخلاف[6] وسلوك نهج التقوى حاول المؤلف في بداية هذا الفصل التأكيد على العلاقة بين قيمة التقوى وموقعها في منهاج الاستخلاف، من خلال التذكير بالغاية العظيمة لخلق الله للإنسان وهي استخلافه في الأرض، والذي يعني منحه حرية الاختيار بين الإيمان به وعبادته، أو عكس ذلك جحود ألوهيته، ورفض امتثال أوامره، ومن ثم فإن مهام الاستخلاف لا يمكن الاضطلاع بها بنجاح إلا باعتماد نهج التقوى فهما وممارسة. منبها إلى أن صيام رمضان مناسبة مواتية، لتعميق النظر وتجديده في حقيقة التقوى وموقعها في منهاج الاستخلاف[7]. المحور الأول: موقع التقوى في منهاج الاستخلاف وقف المؤلف في بداية هذا المحور لتعريف التقوى انطلاقا من بيان معناها اللغوي في المعاجم، فالتقوى مشتقة من وقى، فكأنها تكون وقاية بين العبد وبين العذاب. وتعرف بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. فالمعنى الأبرز في لفظة التقوى، هو ترك ما يجلب الألم والضرر والفساد، والتوقي منه والاحتراز من أسبابه، معززا كلامه بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم وأهل العلم. ليخلص من خلال ذلك إلى أن: “التقوى حالة نفسية من خشية الله ومراقبته في السر والعلن، تحمل على الامتناع -جهد المستطاع- عن ترك ما هو مفروض، أو فعل ما هو مرفوض في الشرع“[8] أولا: مخالفة نهج التقوى من خلال أحداث الاستخلاف: بعد تعريفه للتقوى حاول المؤلف أن يبين كيف كانت مخالفة نهج التقوى، ظاهرة مهيمنة على أحداث الاستخلاف؛ وأنه لفهم موقع التقوى ومكانتها في منهاج الاستخلاف، كان من الضروري الوقوف عند دلالات أهم الأحداث التي تخللت تعيين رب العالمين لآدم خليفة عنه في الأرض. ليخلص إلى أن رمزية هذه الوقائع والأحداث المجافية لمقتضى تقوى الله، هي ما يؤكد بصورة واضحة مكانة التقوى وضرورتها الأكيدة، في الممارسة الناجحة لمختلف مهام الاستخلاف على الأرض، وما تشتمله من أعباء جسام لتحمل الأمانة العظمى، التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال. وقد لخص المؤلف هذه الأحداث المخالفة لنهج التقوى في العناصر الآتية: الحدث الأول: استغراب الملائكة من ضعف تقوى الإنسان الخليفة[9] في سياق بيانه لموقع التقوى الجوهري في منهاج الاستخلاف، حاول المؤلف استعراض أهم الأحداث التي تؤكد خطر غياب الالتزام بمنهج التقوى على مدى وفاء المستخلف بأمانة الاستخلاف الإيماني. وبعد ذكره لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّے جَاعِل فِے اِ۬لَارْضِ خَلِيفَة قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ اُ۬لدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَۖ﴾ [البقرة: 29] بين كيف أن الملائكة لما اطلعت على خصائص هذا الخليفة من قبل، كان رد فعلهم هو الاستغراب؟! كيف يكون خليفة في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، أي أن عيبه الكبير هو قلة تقواه، خلافا لما عليه حال الملائكة؛ التي تسبح بحمد الله وتقدس له، وتنفذ أوامره وتجتنب نواهيه. ثم بين بعد ذلك بأن هذا الاستغراب من الملائكة مرده إلى كونها لم تدرك أن المهمة التي كلف بها هذا الخليفة، هي بالضبط التقوى والتي تقتضي أن يكون في النفس البشرية نزوع لممارسة الفساد بكل أنواعه، كما يكون فيها نزوع لاستبشاع الجرائم واستنكار القبائح، قبل أن يَرِد إليها شرع الله بفعل الصلاح، واتقاء الفساد، فيكون عليها ممارسة أمانة الاختيار لسلوك أحد النهجين: إما نهج الاندفاع في اتجاه إشباع الشهوات، وإما نهج التقوى قبل الوقوع في الخطايا والزلات، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)، أو المبادرة إلى إعلان التوبة وطلب المغفرة، والمضي في تصحيح المسار؛ فكان هذا على ما يبدو مما علمه الله ولم تعلمه الملائكة، فأطلق تساؤلها لرب العزة؛ الذي أجابها فقال: ﴿إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَۖ﴾ [البقرة: 29]. فقد كان موقف استغراب الملائكة من استخلاف آدم في الأرض -حسب المؤلف- بسبب ما فيه من عيبِ ضعف تقواه، الأمر الذي يقتضي-في نظرها- عدم استحقاقه لأن يكون خليفة. وهذا ما يبين مكانة التقوى وضرورة الاتصاف بها للنجاح في الاضطلاع بمهام الاستخلاف الإيماني المستند إلى الوحي. الحدث الثاني: استهتار إبليس بتقوى الله[10] من الأحداث الدالة على خطر مخالفة نهج التقوى، ما ساقه القرآن الكريم حول موقف إبليس المصادم لمنهج الله تعالى، حيث سعى المؤلف إلى التأكيد على مآلات الانحراف عن طريق الاستقامة والاستهتار بتقوى الله، من خلال عرض مشهد عصيان إبليس لأمر ربه بالسجود لآدم، هذا العصيان الذي يعد سلوكا مشينا يتنافى ومقتضيات العبودية الخالصة لله رب العالمين. وجاء ذلك في سياق أمر الله للملائكة بالسجود لآدم تكريما لقدره، ونفس الأمر وُجه لإبليس الذي ينتمي إلى الجن، الذين يستوون مع الإنس في مخاطبة الله لهم بالتكليف، بناء على ما مُنحوا من حرية الاختيار المؤهلة للمسؤولية عن الأفعال، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ اِ۟سْجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ اَ۬لْجِنِّ فَفَسَقَ عَنَ اَمْرِ رَبِّهِۦٓۖ﴾ [الكهف: 49]، حيث يرفض إبليس امتثال أمر الله، مبررا عصيانه بكونه هو خيرا من آدم المخلوق من طين، وهو المخلوق من نار، وهذا الموقف منه ينطوي على سوء أدب شنيع مع الله، الذي يعلم من حقيقة خلقه ما لا يعلمه أحد غيره، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَٰكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ اِ۟سْجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ اَ۬لسَّٰجِدِينَۖ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذَ اَمَرْتُكَۖ قَالَ أَنَا خَيْر مِّنْهُ خَلَقْتَنِے مِن نّ۪ار وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِين قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجِ اِنَّكَ مِنَ اَ۬لصَّٰغِرِينَۖ﴾ [الأعراف: 10- 12]. وهكذا يكون رفض إبليس السجود المأمور به، هو أول معصية لله تعالى الذي لا يجوز لمخلوق الاعتراض على حكمه، ﴿وَلَهُۥٓ أَسْلَمَ مَن فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَۖ﴾ [آل عمران: 82] 1) معصية رفض السجود لآدم طاعةً لأمر الله مخالفةٌ صريحة لنهج التقوى صادرة عن إرادة واختيار: ربط المؤلف بين هذا الحدث الذي يصور معصية إبليس ورفضه أمر الله له بغياب حضور التقوى باعتبارها قيمة موجهة وضابطة للتصرفات في الاتجاه الصحيح، حيث يقول: “فالواضح عند التحقيق، أن علة تمرد إبليس على أمر الله، هي اختياره التخلي عن تقوى الله … وكان بإمكانه أن يتدارك زلته الفادحة، بتعجيل التوبة وطلب الصفح من الله عما بدر منه، لكنه أبى إلا مخالفة منهج التقوى بعد ما كان عليه من الطاعة التامة لله، وإصراره على التمادي في الغي والعناد لمراد الله الصريح. ولقد ترتب عن موقفه الرافض للتوبة، أن جعله الله غاوياً مبيناً جزاءً له على الإمعان في الضلال، وإظهار العداوة الشديدة لآدم وذريته دون سبب يسوغ له ذلك…فقدم بسلوكه هذا أول مثال من نوعه لمجافاة كائن حر ومسؤول لنهج التقوى“[11]. 2) الاستعداد الكبير من إبليس ليكون إماماً في الغواية والإضلال ويرى المؤلف بأن هذا الاستعداد الكبير من إبليس لممارسة إغواء من يستطيع من الإنس والجن، وتزيين السوء لهم، يظهر من خلال: طلبه من الله إمهاله إلى يوم القيامة لممارسة هذا الإغواء، ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِےٓ إِلَيٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَۖ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَ۬لْمُنظَرِينَ إِلَيٰ يَوْمِ اِ۬لْوَقْتِ اِ۬لْمَعْلُومِۖ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمُۥٓ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ اُ۬لْمُخْلَصِينَۖ﴾ [ص: 78- 82] ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِے لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ اَ۬لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنَ اَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَۖ﴾ [الأعراف: 15- 16] فكان إبليس هو المثالَ الأعلى على الإطلاق لغير المتقين، إذ لا يُعلم أحد موقن مثله بأن جهنم أعدت للعصاة، فيعصى أمر الله، ثم أكثر من ذلك يصرح باستعداده الكامل هو وذريته لإغواء غيره من الإنس والجن، وصدهم عن طاعة ربهم، وذلك على امتداد الوجود في هذه الدنيا. وعلى هذا النحو يكون إبليس القائد الأول والزعيم الأكبر للمعرضين في العالمين عن نهج تقوى الله تعالى، والمستهترين بيوم الحساب، وهو ما يؤكده قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ اِ۟سْجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ اَ۬لْجِنِّ فَفَسَقَ عَنَ اَمْرِ رَبِّهِۦٓۖ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِے وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّۢ بِيسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلاٗ﴾ [الكهف: 49]. ثم خلص المؤلف -بعد هذا التفصيل- إلى استنتاج مفاده أن “هذا الحدث بالغُ الدلالة في الكشف عما يمكن أن يَحيق بمن تنكب طريق التقوى، ولم يتحصن بها من الزلات والغوايات”[12]. الحدث الثالث: آدم وحواء يخالفان نهج التقوى[13] 3) وقوع آدم وحواء في معصية الأكل من الشجرة المنهي عنها كان نتيجة لمخالفة نهج التقوى لقد حاول المؤلف توظيف هذا الحدث، للتأكيد على أن ما وقع لآدم وزوجه من معصية، ترتب عنها الخروج من الجنة وما فيها من النعيم، كان نتيجة مخالفة نصيحة الله لهما وتحذريهما من وسوسة إبليس اللعين، الذي أوقع بآدم وحواء عندما زين لهما الأكل من الشجرة المحظورة في الجنة. زاعما أن الله ما منعهما عنها إلا صرفا لهما عن أن يكونا ملكين أو من الخالدين، وأقسم لهما بأنه من الناصحين، فاغترا بزعمه وتجاهلا تحذير الله لهما ولذريتهما من عداوته فأكلا منها، ليُدركا بعد ذلك جسامة الخطأ الذي ارتكباه، في اللحظة التي حسن ظنهما بإبليس اللعين ونسيانهما نصح الله وتحذيره لهما، فبادرا بالتوبة إلى الله اعترافا بذنبهما وتفريطهما في الأخذ بأسباب التقوى والتحصن بها، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: ﴿وَيَٰٓـَٔادَمُ اُ۟سْكُنَ اَنتَ وَزَوْجُكَ اَ۬لْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ اِ۬لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ اَ۬لظَّٰلِمِينَۖ فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَ۬لشَّيْطَٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَٰتِهِمَاۖ وَقَالَ مَا نَه۪يٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ اِ۬لشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَ۬لْخَٰلِدِينَۖ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّے لَكُمَا لَمِنَ اَ۬لنَّٰصِحِينَ فَدَلّ۪يٰهُمَا بِغُرُورٖۖ فَلَمَّا ذَاقَا اَ۬لشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَٰنِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَّرَقِ اِ۬لْجَنَّةِۖ وَنَاد۪يٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمَ اَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا اَ۬لشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّ مُّبِين قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَ۬لْخَٰسِرِينَۖ﴾ [الأعراف: 18- 22]. فلو أنهما اتقيا الله كما يجب، لما تعديا ما أبيح لهما من كل شجر الجنة، إلى الشجرة الوحيدة التي حرمها الله عليهما، ولما خالفا ما تقتضيه عداوة الشيطان لهما من عدم تصديق مزاعمه، وتفسيره الخادع. الأمر يؤكد أهمية التقوى ودورها الحاسم في عصمة العباد من الوقوع في التعدي على حدود الله ومحارمه. 4) التوبة جبرٌ لما انكسر من ملازمة نهج التقوى: حاول المؤلف أن يبين الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم وزوجه، بأنه “على عكس موقف إبليس، فإن آدم وزوجه لم تكن لديهما إرادة أصلا لمعصية الله، وإنما عارضا نهيه تعالى بتأويله، وتساهلهما في الأخذ بأسباب التقوى، فانساقا إلى المخالفة وهما لايشعران بفداحة فعلهما، ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْما﴾ [طه: 112]، ولذلك سارعا دون تباطؤ إلى تدارك ما فاتهما من التقوى، بإعلان التوبة والندم عما جنياه في حق الله تعالى، فاعترفا بظلمهما لنفسيهما، والتمسا من الله المغفرة والرحمة”[14]. خلاصة واستنتاج: خلص المؤلف بعد هذا العرض للأحداث الثلاث إلى: 1) محورية مقصد التقوى من خلال أحداث تنصيب آدم خليفة في الأرض شاءت حكمة الله أن تكون التقوى محورا رئيسيا، في مواقف الفاعلين البارزين على امتداد مراحل تنصيب آدم خليفة في الأرض. حيث انعدمت تماما كما في سلوك إبليس، وغابت ابتداء في سلوك آدم وحواء ثم تم تداركها انتهاء في توبتهما[15] 2) تأثير التقوى الحاسم في مستقبل إبليس وآدم وزوجه – العاقبة والمآل مرتهن بسلوك نهج التقوى: “لقد كانت نتائج الزيغ عن نهج التقوى حاسمة لمصير كلا الطرفين؛ حيث أخرجا من الجنة لأنهما معا أخلا بالتقوى، باعتبارها الشرط الوحيد لاستحقاق الخلود فيها، فإبليس كان مآله جهنم يصلاها يوم القيامة، لكونه لم يتق الله بتنفيذ أمره بالسجود لآدم، وأصر على عصيانه ولم يتراجع عنه. وسيشاركه في ذات المصير كل الذين حادوا عن نهج التقوى في الدنيا من الإنس والجن، ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِے لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ اَ۬لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنَ اَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَۖ قَالَ اَ۟خْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوما مَّدْحُورا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمُۥٓ أَجْمَعِينَۖ﴾ [الأعراف: 15- 17]”[16] 3) التوبة رجوع عن الذنب يستجلب مغفرة الرب، لكنه لا يمنع التعرض للابتلاء في الدنيا اختبارا للتقوى. توبة آدم وحواء “لم تحُل دون إخراجهما من الجنة ونعيمها إلى الأرض، لاختبارهما وذريتهما في الدنيا، ﴿تَبَٰرَكَ اَ۬لذِے بِيَدِهِ اِ۬لْمُلْكُ وَهُوَ عَلَيٰ كُلِّ شَےْء قَدِيرٌۖ. اِ۬لذِے خَلَقَ اَ۬لْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمُۥٓ أَيُّكُمُۥٓ أَحْسَنُ عَمَلاٗۖ وَهُوَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لْغَفُورُۖ﴾ [الملك: 1- 2]”[17]. 4) ارتباط استحقاق الجنة بالتزام نهج التقوى فمن التزم نهج التقوى استحق نعيم الجنة ووُقِيَ عذاب الجحيم؛ ومن اقتدى بنهج إبليس وفرط في تقوى الله والاحتراز من عذابه، حرم نعيم الجنة وأدخل النار. ﴿يَٰبَنِےٓ ءَادَمَ إِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ رُسُل مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمُۥٓ ءَايَٰتِے فَمَنِ اِ۪تَّق۪يٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَۖ وَالذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ اُ۬لنّ۪ارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَۖ﴾ [الأعراف: 33- 34][18]. 5) التقوى هي المنهج الأقوم للاضطلاع بمهام الاستخلاف في الأرض المُفضي إلى السعادة في الدارين يبين الله سبحانه لآدم وحواء وذريتهما من بعدهما، أن التقوى هي المنهج الأقوم، للاضطلاع بمهام الاستخلاف في الأرض، على النحو الذي يضمن السعادة في الدنيا والفوز بنعيم الآخرة[19]. 6) كل مسؤولية يتحملها الآدميون يتوقف النجاح فيها والوفاء بها على وازع التقوى وتزكية النفس يقول المؤلف: “ما من مسؤولية متفرعة عن أمانة الاستخلاف؛ التي تحملها الآدميون سواء كانت عقيدة أو عبادات أو معاملات وأخلاقا، إلا ويتوقف أداؤها بإحسان وإتقان، على وازع تقوى الله في السر والعلن، وملازمة تزكية النفس بتنمية مراقبة الله في القلب، وخوف عقابه على الدوام”[20]. المحور الثاني: أهم محددات قيمة التقوى تطرق المؤلف في هذا المحور إلى عنصرين: الأول: تعريف القيمة: فذكر بأن القيم عبارة عن الأحكام التي يصدرها الفرد بالتفضيل أو عدمه على أشياء معينة، “وأنها تقدير نقوم به تجاه شخص أو نشاط حسب ما يمكن تحصيله منه. وتشكل مجموع القيم المعتمدة النظرة إلى العالم”[21]، وهي معتقدات راسخة تملي على الإنسان سلوكا معينا، في ظروف اجتماعية معينة؛ فهي تخلق السلوك وتوجهه في الاتجاه الذي يتوافق معها[22]. 1) علو مكانة التقوى بين القيم باعتبارها مُعينة على ممارسة مهام الاستخلاف باقتدار وقد أكد المؤلف هذه المكانة من خلال ما يلي: ـ استخلاف الله الإنسان في الأرض ليعمرها بعبادة الله وفعل الصالحات واجتناب المفاسد، هو أسمى قيمة يتمتع بها الإنسان، حيث يتبوأ مكانة الخلافة عن الله، والتي لا تدانيها قيمة أخرى على الإطلاق. ـ قيمة الاستخلاف قيمة القيم، وعنها تتفرع كل القيم التي تحيط وجود الإنسان بأسمى معنى وأكرم غاية، من هنا كانت التقوى التي تعين على ممارسة مهام الاستخلاف بكفاءة واقتدار، تستمد علو قدرها من سمو قيمته، وتفرض هيمنتها إلى حد بعيد على جميع القيم الدينية والإنسانية[23]. 2) الاستخلاف قيمة مرجعية مؤطرة وناظمة ومعيارية بعد ذلك حاول المؤلف التأكيد على القيمة المرجعية لقيمة الاستخلاف، فقال بناء على كلامه السابق: “ومن ثم صح القول بأن الاستخلاف هو قيمة جميع القيم وأن قيمة أي قيمة إنما تعلو وتسمو بقدر ما تحقق معاني الاستخلاف من حرية واختيار وأمانة، وابتلاء وعمل وجزاء، وتعين على حسن تمثلها وممارستها وبلوغ غاياتها. فلكي ندرك مرتبة أي قيمة دينية أو دنيوية علينا أن نحدد علاقتها بقيمة الاستخلاف ومدى إبرازها لحقائقه وخدمتها لأهدافه”[24]. 3) بيان ارتباط التقوى كقيمة أساسية بالاستخلاف ومسؤولياته؟ ـ لقد حاول المؤلف التأكيد على كون التقوى من القيم الأساسية لممارسة الاستخلاف في الأرض؛ وأنها من قيم الإسلام السامية، التي يتعين على المسلم العمل على تحقيقها في نفسه، وترسيخها في سلوكه، ليُمكِنه الاضطلاع بمسؤوليات الاستخلاف ومهامه المختلفة. ـ فعن طريق التقوى يسهل التحلي بالمكارم والفضائل والأخلاق الرفيعة، والتخلي عن الدنايا والرذائل كلها، وامتلاك القدرة اللازمة لأداء الواجبات وترك المحرمات، وتأهيل النفس للارتقاء في مدارج الكمال، وبذلك يسعى المكلف للظفر بخيري الدنيا والآخرة؛ وهو عين التقوى وعاقبتها، كما بينتها الآيات والأحاديث. ـ التقوى قوة دافعة وحصن مانع: فحسبُ التقوى رفعة وقدرا، أن تكون هي القيمة النفسية المُمَكنة من الإقدام بعزم وحزم، على أداء كل واجبات الدين وفرائضه ومندوباته، والاحتراز عن مقارفة مخالفات الشرع ومنهياته ومكروهاته، والتخلق بكل الصفات السامية، والتخلي عن كل القبائح والرذائل، بل والتورع عن صغائر الذنوب، وخوارم المروءة ومفسدات الذوق السليم[25]. الثاني: المعايير المحددة لقيمة ” قيمة التقوى “ حدد المؤلف قيمة “قيمة التقوى” من خلال بيان مجموعة من المعايير لخصها في ثمانية: المعيار 1- علاقة التقوى بالإيمان[26] 1) فطرية التقوى وكونها قيمة موجهة وهادية: حيث يرى المؤلف أنه إذا استحضرنا فطرية التقوى، باعتبار ما ركب في النفس البشرية من حب الحق وبغض الباطل، وتقدير الفضائل من صدق ووفاء وكرم، وازدراء الرذائل كالظلم والغش والكذب، فإن الإنسان مكلف فطرةً بممارسة التقوى تحليا بمكارم الأخلاق، وتخليا عن الصفات المذمومة والتطهر منها قدر المستطاع… وأن المكلف إذا تلقى بيانات الوحي واختار الالتزام بها، فإنها تُفَصل له ما يتقي وما ينسجم تماما مع الفطرة السليمة، ويهديه الله ويرفع درجات التقوى في قلبه. أما إذا زاغت نفسه عن مسلك التقوى، فإنه تعالى يزين له ضلاله وانحرافه. ﴿وَمَا كَانَ اَ۬للَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماَۢ بَعْدَ إِذْ هَد۪يٰهُمْ حَتَّيٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ بِكُلِّ شَےْءٍ عَلِيمٌۖ﴾ [التوبة: 116]. 2) التقوى نتيجة طبيعية للإيمان والعلاقة بينهما علاقة تلازم: نبه المؤلف على هذه العلاقة التلازمية حيث تعد التقوى نتيجة طبيعية للإيمان وأكبر مقتضياته؛ بما يتضمنه من إقرار بألوهية الله، واستخلافه للإنسان في الأرض، ليؤمن أو يكفر به عن اختيار ومسؤولية؛ فيطيع أو يعصى وينفذ أوامر الله، ويجتنب نواهيه، طمعا في جنته، وخوفا من جحيمه. 3) التقوى اختبار لحقيقة الإيمان: بين المؤلف بأن الإيمان الذي لا يثمر التقوى في النفس، إيمان لا ينفع صاحبه، ولا يقبله الله من عباده. ﴿فَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْۖ وَأَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّومِنِينَۖ﴾ [الأنفال: 1]، ﴿إِذْ قَالَ اَ۬لْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَي اَ۪بْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُّنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَة مِّنَ اَ۬لسَّمَآءِۖ قَالَ اَ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ إِن كُنتُم مُّومِنِينَۖ﴾ [المائدة: 114]. فالإيمان بالله يشمل بجانب الاعتقاد بوحدانيته، الاعتقاد بنظام الإيمان العام، القائم على أساس التقوى المستوجب للخوف من تبعات الإخلال بأداء الأوامر واتقاء المنهيات، والرجاء في عفو الله ومغفرته من كل تقصير ينتهي بالنفس في الدار الآخرة إلى عقاب الجحيم والحرمان من نعيم الجنان. المعيار 2- التقوى ستر لعيوب النفس وسوءاتها[27] 1) إبراز قيمة التقوى الحاسم في تجسيد حقيقة الاستخلاف لقد وُفق المؤلف كثيرا في إبراز مركزية مفهوم التقوى وأثرها الحاسم في مستقبل المستخلف، من خلال عرض تحليلي موفق لما صورته الآيات القرآنية من مشاهد مجسدة للعلاقة التلازمية بين حصول الستر بارتداء لباس التقوى، أو انكشاف السوءة عند التخلي عن لباس التقوى بتحريض من إبليس اللعين، المغلف بمظهر الناصح الأمين، فبين قيمة لباس التقوى ودوره الكبير في حصول الستر والتوقي من الوقوع في الزلات والافتضاح، من خلال التركيز على مشهد التعري وظهور السوأة كنتيجة مباشرة للانحراف عن نهج التقوى، والافتتان بنصح الشيطان الكاذب وخداعه لآدم وزوجه، فقد أكد المؤلف على أن ميل النفس لما نهى عنه الله تعالى في شرعه، يعد سلوكا مشينا وعيبا من عيوبها الفظيعة، لذلك عندما أكل آدم وحواء من الشجرة المنهي عنها، نجم عن ذلك انكشاف سوءاتهما، تنبيها لهما على كون الفعل المرتكب سوءة نفسية، أشنع من سوءة الجسد المادية، وهو ما أشارت إليه الآيات التالية:﴿فَلَمَّا ذَاقَا اَ۬لشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَٰنِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَّرَقِ اِ۬لْجَنَّةِۖ وَنَاد۪يٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمَ اَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا اَ۬لشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ اَ۬لشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّ مُّبِين﴾ [الأعراف: 21] وقوله ﴿يَٰبَنِےٓ ءَادَمَ قَدَ اَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسا يُوَٰرِے سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشا وَلِبَاسَ اَ۬لتَّقْو۪يٰ ذَٰلِكَ خَيْر ذَٰلِكَ مِنَ اٰيَٰتِ اِ۬للَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَۖ يَٰبَنِےٓ ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ اُ۬لشَّيْطَٰنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ اَ۬لْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَآۖ إِنَّهُۥ يَر۪يٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمُۥٓۖ إِنَّا جَعَلْنَا اَ۬لشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلذِينَ لَا يُومِنُونَۖ﴾ [الأعراف: 25- 26]. 2) فائدة واستنتاج: ـ جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون يفيد أن الذين ينحرفون عن نهج التقوى هم أولياء للشيطان قريبون منه، وأعداء لله بعيدون عن صراطه المستقيم. ومن هنا تكون العبرة المستفادة من قوله تعالى: (يَٰبَنِےٓ ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ اُ۬لشَّيْطَٰنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ اَ۬لْجَنَّةِ) هي التنبيه لذرية آدم من عداوة الشيطان الأبدية، من خلال التفكر في فعلته الشنيعة في الإغواء والإضلال المقصود لآدم وحواء. ـ أكد المؤلف على أهمية تعهد لباس التقوى بالتطهير من الشوائب ومداومة إصلاحه وتجديده لأنه كلباس الثوب يخلق ويبلى، فلا بد من تزكية النفس بزيادة الإيمان وتقويته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الإيمان ليخلقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم”[28]. فكلما قويت حوافز التقوى في نفس الإنسان كلما استطاع النهوض بوظيفته الاستخلافية على أكمل الوجوه. المعيار 3- التقوى فرقان بين الحق والباطل[29] حاول المؤلف من خلال هذا المعيار التأكيد على كون التقوى ميزانا واضح المعالم، به يتم التفريق بين الحق والباطل، فهو منة إلهية يستحقها من أخلص لله في طلب الحق واجتناب الباطل، وجاهد نفسه في سبيل ذلك، ولم يتراخ في ممارسة التقوى قياما بالأوامر واجتنابا للنواهي، وذلك ما أكده رب العزة فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ اُ۬للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْۖ وَاللَّهُ ذُو اُ۬لْفَضْلِ اِ۬لْعَظِيمِۖ﴾ [الأنفال: 29]، وقد فُسر الفرقان بهداية تُلازِم القلبَ، فيعرف بها الحق ويعمل به، ويعرف الباطل فيتوقاه. وهذا الفرقان يدور مع التقوى وجودا وعدما وقوة وضعفا، فهومن نتائج التقوى الحاصلة في الدنيا، وبها تزداد وقاية السالك إلى الله من التباس الحق بالباطل في نظره، ﴿وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اُ۬للَّهُۖ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَےْءٍ عَلِيم﴾ [البقرة: 281]. وبين أن ملازمة نهج التقوى سبب في رشد السعي، فأهل التقوى إذا ذكروا الله، نور قلوبهم فأبصروا الحق ناصعا والباطل شائها. أما إخوان الشياطين فتتسلط عليهم، وتزين لهم غيهم وباطلهم. وقد يعتري الصلاحَ شيء من الفساد، أو يقترن بالفساد بعض الصلاح، ويختلط على النفس أمرهما، فلا ينقذها من حيرتها وارتباكها، إلا ما منحها الله من الفرقان الذي يرتفع به الإشكال، ويزول الالتباس وتنجلي الفتنة. المعيار 4- التقوى مخرج من الضيق النفسي والمادي[30] فمن بركات التقوى وفوائدها تحقيق الطمأنينة والبركة والخروج من الضيق بكل أنواعه، فلما كان من طبيعة التقوى قيامها على الابتلاء والاختبار، كان الصبر على إكراهات ممارستها يقابله التعويض والفتح والبركات جزاء وفاقا، وهذا ما أكده المؤلف[31] من خلال تدبره للآيات القرآنية، حيث قال: “إن من فوائد التقوى جلب الخلاص والفلاح للمتقي، بعد كل ابتلاء بالخير والشر… فإذا هو ثبت على التقوى وانتهج طريقها توقفت مكابداته لمشاق البلاء، ففرج الله كربه وبدل شدته رخاء وعسره يسرا، وتحولت معاناته وصبره إلى استبشار وابتهاج وسعادة. فتكون نتيجة التقوى على صاحبها بفضل الله ومشيئته، بردا وسلاما وصلاحا في النفس، وبركة في المال والأحوال، ﴿وَلَوَ اَنَّ أَهْلَ اَ۬لْقُر۪يٰٓ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰت مِّنَ اَ۬لسَّمَآءِ وَالَارْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَۖ﴾ [الأعراف: 95]. وقال عزوجل: ﴿وَمَنْ يَّتَّقِ اِ۬للَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُۖ﴾ [الطلاق:2- 3]. فممارسة التقوى تفرض على النفس مقاساة الحرمان…فيستحق المتقي عند الله مكافأته في الدنيا قبل الآخرة، وذلك بتيسير سد تلك الحاجات على نحو أكمل وأرضى وبطرقها المشروعة، وفي الحديث: “إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل، إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه“[32]. المعيار 5- التقوى أساس مجاهدة النفس وثمرتها[33] 1) حاجة العبد إلى التقوى لممارسة مسؤوليات الاستخلاف بنجاح يرى المؤلف بأن الإنسان لا يحتاج إلى صفة لممارسة مسؤوليات الاستخلاف، كما يحتاج إلى التقوى التي يتمكن بها من الالتزام بفعل مأمورات الدين وترك منهياته، والوقوف عند حدود الله واستعظام أحكام الشرع، والرغبة في ثواب الله العظيم والرهبة من عقابه الشديد. كما يؤكد على أثر التقوى في مواجهة أهواء النفس، فما من أمر أو نهي يَرِدُ على النفس من شرع الله، إلا وتواجهه بالضيق والتماطل، حتى يتصدى لها القلب بما استقر فيه من تقوى، فيغالبُ دواعي الوهن والعجز؛ فينتصر عليها ولا يدعها تنتصر عليه. فالتقوى تزكية للنفس وتطهير لها من سيطرة الأهواء، وغلبة النزوات الدنيئة والإرادات المنحرفة، التي تزين الآثام، والمخالفات الشرعية. لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يهبه تقوى النفس، التي بها يُمكن تزكيتها وصلاحها، فيدعو: “اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها”[34]. – والتقوى هي صحة القلب ومقدرته على مدافعة الميولات والرغبات الفاسدة؛ والتي تكتسب بالانخراط في سبيل الهداية، ومجاهدة النفس على فعل الطاعات واجتناب المعصيات، ﴿وَالذِينَ اَ۪هْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدي وَءَات۪يٰهُمْ تَقْو۪يٰهُمْۖ﴾ [محمد: 18]. 2) تذكير النفس المستمر بعواقب مخالفة شرع الله هو ما يحملها على التزام نهج التقوى: يرى المؤلف بأن أكثر ما يحمل النفس على التزام التقوى، هو تذكيرها المستمر بعواقب مخالفة شرع الله وتعدي حدوده، والتهاون في أداء واجباته وتنفيذ أوامره؛ فالقرآن يربط غالبا بين الخوف من عذاب النار وحصول التقوى في القلب، ﴿وَأَنذِرْ بِهِ اِ۬لذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُّحْشَرُوٓاْ إِلَيٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّ وَلَا شَفِيع لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَۖ﴾ [الأنعام: 52]، ﴿وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اَ۬لْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرا﴾ [طه: 110]، ﴿وَاتَّقُواْ يَوْما تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَي اَ۬للَّهِۖ ثُمَّ تُوَفّ۪يٰ كُلُّ نَفْس مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَۖ﴾ [البقرة: 280]. المعيار 6- التقوى ممارسة شاملة لكل أمر ونهي[35] أوضح المؤلف ما يميز التقوى باعتبارها قيمة عامة وحافزا عمليا، نستحضرهما عند ممارسة الأمر والنهي الشرعيين، بحيث كلما تحققت التقوى في القلب، كلما بادرت النفس إلى تنفيذ التكاليف الشرعية بإحسان وإتقان ودون تقاعس أو تكاسل. فالأعمال التكليفية وإن كانت مختلفة في مقاصد تشريعها وطرائق إنجازها، لكنها جميعها متحدة في غاية واحدة، هي تحقيق تقوى الله وتطويع النفس لمراده، وإخلاص العبودية له سبحانه، ﴿لَنْ يَّنَالَ اَ۬للَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِنْ يَّنَالُهُ اُ۬لتَّقْو۪يٰ مِنكُمْۖ﴾ [الحج: 35]. فلا قيمة لعبادة أو طاعة إذا خلت من التقوى، بحيث إن العمل يضمحل ويفنى، لكن تدوم التقوى التي تحققت من خلال ممارسته … ليلقى المكلف الأجر الجزيل على قدر تقوى الله، أو الوزر المترتب عن غياب خشيته. فالتقوى هي روح الأعمال، فلكل عمل تعبدي طبيعته المادية المحققة لمصالح البلاد والعباد، وله روحه القيمية التي يمثلها حصول التقوى أو عدمها، وبالتالي يسمو العمل أو ينحط في ميزان الله تعالى. فقد يجهد المرء نفسه في أعمال، ظاهرها الصلاح وابتغاء الأجر الأخروي، لكنها تكون خلاف ذلك في قلبه عندما تفتقد فيها التقوى، فيُرَد عليه عمله ويناله بسببه عقاب الله وسخطه عوض ثوابه ورضاه، ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَ۪بْنَيَ اٰدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانا فَتُقُبِّلَ مِنَ اَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَ۬لَاخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اُ۬للَّهُ مِنَ اَ۬لْمُتَّقِينَۖ﴾ [المائدة: 29]، فالعمل الذي لا يتأسس على التقوى لا قيمة له عند الله، ومن ثم فإنه يضر صاحبه ولا ينفعه، ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَيٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَٰهُ هَبَآء مَّنثُوراًۖ﴾ [الفرقان: 23]، وفي الحديث: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»[36]. فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. فيمكن تقييم أعمال القلوب، تبعا لما تنشئه في القلب من تقوى لله، امتثالا لأوامره وانتهاء عن محارمه، ووقوفا عند حدوده. فالتقوى إذن هي روح الأعمال وزنادها، وأساس قبولها أو ردها. المعيار 7- التقوى ومقتضى الشرع والفطرة[37] حاول المؤلف التأكيد على علاقة التلازم بين التقوى والفطرة، حيث يرى بأن خيار التقوى لدى الإنسان يتأسس على أساس الفطرة، التي طبعها الله على منح الأولوية لدفع الألم ورفع الضرر على جلب اللذة والمنفعة؛ وهو اتجاه ثابت لدى جميع الأحياء، الذين دائما يبذلون جهدا في درء الأخطار المحدقة بوجودهم، أكبر من جهدهم في تحصيل حاجاتهم الطبيعية الأخرى. وقد مثل المؤلف لهذا القانون العام، بأن الإنسان قد يتنازل عن الكثير من الملذات والمكاسب المادية والمعنوية، مقابل التوقي من الآلام والأوصاب والأوجاع، ولذلك نجد حافز اجتناب العقاب واتقاء المضار، أكثر فاعلية في تحديد السلوك وتوجيهه، من حافز جلب المتاع والمنافع الحسية. ومن ثم يوجد في جميع القوانين الشرعية والبشرية على حد سواء، عقوبات رادعة عن المخالفات السلوكية، ولا توجد مكافآت لمن التزم الشرائع والقوانين ولم يتعد حدودها. وهنا يرى المؤلف امتياز التشريعات الدينية عن القوانين الوضعية، باعتماد حافزين جامعين بين درء الآلام الدنيوية بتطبيق الحدود والتعازير، ودرء الآلام الأخروية بالعقاب في نار جهنم، وبين جلب الملذات الدنيوية الناجمة عن التزام الشرائع، بإدخال الطمأنينة في النفس، وإقامة العدل واستتباب الأمن والرخاء في المجتمع، وجلب الملذات الأخروية المُعدة للمؤمنين في جنات الخلد. وهذا -حسب المؤلف- هو ما يرفع مستوى الدافعية إلى أسمى درجة ممكنة، فالقيام بالطاعات والصالحات كما الانتهاء عن المعاصي والآثام، يحقق للمكلف مكسبين اثنين ونتيجتين مقترنتين ولا تفترقان أبدا، هما النجاة من نيران الجحيم والظفر بنعيم الجنان، مانحا بذلك النفس أكبر حافز وأقوى محرك لها، في اتجاه الاستقامة على الدين والالتزام بنهجه القويم. المعيار 8- التقوى وأسبقية دفع الآلام على جلب الملذات[38] حاول المؤلف التأكيد على فاعلية التقوى في توجيه السلوك وإنشائه بكون الحرص على اجتناب العقاب، والاحتراز من التعرض لما يؤلم ويوجع ويحزن، يحوز الأسبقية على طلب الملذات، ومباهج النفس ومتعها المختلفة. لأن النفس لو أعطيت كل أسباب الفرح والسرور، وبجانبها سبب واحد للألم والقلق، لانتابها إحساس بالضيق والتعاسة والنكد. وفي مقابل ذلك لو خلت حياة الإنسان من جميع أسباب الألم والمعاناة، وخلت أيضا من كل أسباب المتاع واللذائذ، لكانت النفس سعيدة مرتاحة لانعدام الآلام المباشرة. الأمر الذي يبين بوضوح كون الألم هو الحاسم، في جعل النفس تنعم ولو بالحد الأدنى من السعادة عند زوال أسبابه، وتعاني من قدر من الشقاء مع وجوده ولو في حدوده الدنيا. ثم ساق المؤلف من الأدلة الشرعية ما تؤكد هذه الحقائق، منها حديث: «من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا»[39] مستنتجا من ذلك أن اختفاء الآلام متحقق بالعافية البدنية والأمن النفسي، وقوت اليوم لدفع الجوع مؤقتا دون ضمان توفره للأيام والشهور والأعوام القادمة، فهذا وحده كفيل بأن يحقق للنفس غنى بحجم امتلاك الدنيا كلها. من خلال ما تم بيانه، يوضح المؤلف كيف أن القرآن يربط بين التقوى والخوف من عذاب النار، أكثر من ابتغاء نعيم الجنة. ﴿كُلُّ نَفْس ذَآئِقَةُ اُ۬لْمَوْتِۖ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ اِ۬لنّ۪ارِ وَأُدْخِلَ اَ۬لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَۖ وَمَا اَ۬لْحَيَوٰةُ اُ۬لدُّنْي۪آ إِلَّا مَتَٰعُ اُ۬لْغُرُورِۖ﴾ [آل عمران: 185]، فالفوز يوم القيامة يكون أساسا بناء على هذا الترتيب الفطري، أي الزحزحة عن النار واستبعاد حريقها، ثم ما يرافقه بعد ذلك من الدخول إلى الجنة، ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا﴾ [التحريم: 6]، ففي هذه الآية دعوة صريحة للمؤمن كي يجعل همه الأكبر، هو إنقاذ نفسه وأهله من النار المفضي لدخول الجنة ضمنا. إن هذا الاستعراض المفصل والعميق الذي قدمه المؤلف لأهم محددات قيمة “قيمة التقوى” في ضوء الفهم المعتبر لحقيقة الاستخلاف باعتبارها قيمة القيم، هو الكفيل بتأهيل الإنسان المكلف لمواجهة مختلف الابتلاءات التي تعرض له – في طريق تجربته الاستخلافية- بثبات واقتدار، حيث يحرز أعلى درجات الفوز والفلاح عندما ينجح في تزكية نفسه وتقواها. على سبيل الختام: يمكن القول بأن ما قدمناه خلال عرضنا لفوائد هذا الفصل التمهيدي من هذا الكتاب القيم لا يغني عن قراءته، بل هو محاولة لتعريف القارئ بهذا العمل الجاد والمتميز، تشويقا لقراءته، هذا الجهد المبارك الذي قدمه الأستاذ عبد السلام محمد الأحمر يندرج ضمن باب التجديد الفقهي في باب العبادات، ومحاولة استجلاء أبعادها ومقاصدها التربوية ، بغية إصلاح الإنسان انطلاقا من تطهير قلبه وتزكية نفسه على منهج التقوى، فيكون بناؤه بناءً قرآنيا يعود بالعبد إلى فطرته النقية الصافية كما فطره الله عليها أول مرة، حيث يصير أهلا للوفاء بأمانة الاستخلاف، وعمارة الأرض بالخير والإصلاح على أساس العبودية لله رب العالمين . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]– عبد السلام محمد الأحمر، “الصيام والتربية على التقوى”، ص6 [2]– نفس المصدر، ص7 [3]– تحرير القول في تعليل العبادات: راجع على سبيل المثال “مقاصد العبادات للإمام العز بن عبد السلام” تحقيق عبد الرحيم أحمد قمحية، وكتاب “مقاصد الصلاة” للإمام العز بن عبد السلام” تحقيق عبد الفتاح حسين محمد همام. [4]– الصيام والتربية على التقوى: ص: 9-10 الطبعة الثانية. [5] – الصيام والتربية على التقوى: ص: 10 الطبعة الثانية [6]– مفهوم الإستخلاف: أصل الاستخلاف في اللغة من الجذر (خ ل ف)، وهو يرجع إلى معان منها: مجيء شيء بعدَ شيءٍ يقومُ مقامَه، ومنه الخلَف: العوض عن شيء فائت، ومنه الخلافة. والاستخلاف: جعل الخَلف عن الشّيء، والسين والتاء فيه للتأكيد[6]. وقد ناقش كثير من الباحثين هذا المفهوم مناقشة مستفيضة، ومما خلص إليه د. عبد الفتاح خياري-بعد مناقشة مفصلة لمفهوم الاستخلاف-: “الاستخلاف هو: قيام الخليفة-وهو الإنسان عامة وليس آدم فقط – بمراد الله في الأرض، الذي يتجلى في تنفيذ أحكامه، وتحقيق الغاية التي من أجلها خلق، وهي عمران الأرض بكل ما يقيم الحياة عليها، لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد”[6] [عبد الفتاح خياري، “العمران والإنسان المفهوم والدلالة”، ص66]. نستفيد مما ذُكر أن الاستخلاف نيابة عن الله في تنفيذ مراده عز وجل من منطلق الأمانة التي هي محل السؤال يوم القيامة. [7]– الصيام والتربية على التقوى: ص: 12 الطبعة 02. [8]– نفس المصدر: ص: 13 [9]– راجع نفس المصدر: من 13-15 بتصرف [10]– راجع نفس المصدر: من 15-17 بتصرف [11] – الصيام والتربية على التقوى: ص: 16 الطبعة الثانية [12]– نفس المصدر: ص17 [13]– راجع نفس المصدر: من 17-21 بتصرف [14]– راجع نفس المصدر: من 18-19 بتصرف [15]– نفس المصدر: ص19 [16]– نفس المصدر: من 19-20 بتصرف [17]– نفس المصدر: ص20 [18]– نفس الصدر والصفحة [19]– نفس الصدر والصفحة [20]– نفس الصدر: ص20-21 [21]– معجم علوم التربية، سلسلة علوم التربية 9- 10. [22]– عبد السلام محمد الأحمر، المسؤولية أساس التربية الإسلامية – محاولة في التأصيل” ص38. [23]– الصيام والتربية على التقوى: ص: 22 [24]– نفس المصدر: ص: 22-23 [25]– نفس المصدر: ص: 23-24 بتصرف [26]– نفس المصدر: ص: 24-25 بتصرف [27]– نفس المصدر: ص: 25-27 بتصرف [28]– رواه الحاكم في المستدرك كتاب الإيمان رقم: 5 وقال هذا حديث لم يخرج في الصحيحين ورواته مصريون ثقات، ووافقه الذهبي. [29]– نفس المصدر: ص: 27-28 بتصرف [30]– نفس المصدر: ص: 28-29 بتصرف [31]– نفس المصدر والصفحة [32]-أخرجه أحمد في المسند، أحاديث رجال من أصحاب النبي ﷺ رقم: 23074. صحيح كما نص على ذلك الشيخ العثيمين [33]– الصيام والتربية على التقوى: 29-31 بتصرف [34]– صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت. [35]– الصيام والتربية على التقوى: 31-33 بتصرف [36]– صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله. [37]– الصيام والتربية على التقوى: 33-34 بتصرف [38]– نفس المصدر: 34-37 بتصرف [39]– صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، حكم الحديث: صححه ابن حبان. * * * المداخلة الثانية: بيان أساسية التقوى في عبادة الصيام من خلال الكتاب د. محمد منديل. قبل أن أشرع في بيان علاقة التقوى بالصيام من خلال الكتاب أريد أن أستعرض المفاهيم الرئيسية: أولا: تحديد المفاهيم 1) الاستخلاف: وقد عرفه الأستاذ بأنه استخلاف الله للإنسان في الأرض ليعمرها بعبادة الله وفعل الطاعات، وفعل الصالحات، واجتناب المفاسد والسيئات أو الاتجاه عكس ذلك تماما. وقد أحسن الأستاذ صنعا في تعريفه هذا للاستخلاف، لأن هذا المفهوم في سياق الحضارة الأوروبية أثار الكثير من الإشكاليات، وذلك في سياق ما كان يعرف عندهم بالحكم الثيوقراطي أو الإلهي، الذي يكون فيه الحاكمون وحدهم نوابا عن الله، وبالتالي لا يحق للناس محاسبتهم على أفعالهم وتجاوزاتهم، لأن ما يقومون به يتم بمباركة السماء. ففي تعريفه نجده، يعتبر بأن كل إنسان، فهو خليفة عن الله في الأرض، لكي يعمرها، بالصلاح ويبتعد عن الفساد أو يتجه عكس ذلك. وأنا هنا أتوقف عند هذا المفهوم لأن هناك بعض الجهات تريد أن تلصق بالإسلام وخاصة بعض العاملين في المجال السياسي تهمة الحكم الثيوقراطي، وذلك بإسقاط ما شهدته الحضارة الأوروبية، في العصور الوسطى على السياق الحضاري الإسلامي، الذي يختلف من نواح كثيرة عن السياق الحضاري الغربي، خاصة في فهمه للدين وعلاقته به وتفاعله معه. 2) التقوى: عرفت التقوى عند علماء الإسلام بتعريفات كثيرة ومتنوعة، اختار منها الأستاذ تعريف التقوى بأنها حالة نفسية، من خشية الله ومراقبته في السر والعلن، تحمل المسلم على الامتناع جهد المستطاع، عن ترك ما هو مفروض، أو فعل ما هو مرفوض، في الشرع. ونحن هنا نكتفي بهذا التعريف لأنه يحقق الغاية، وهي بيان المقصود بالتقوى عموما وفي الكتاب بالخصوص، كما أن تعريفات مفهوم التقوى في التراث الاسلامي رغم تنوعها وكثرتها فإنما هي من باب اختلاف الألفاظ في التعبير عن معنى واحد. 3) الصيام: وهو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنية التعبد. وقد أثار هذا التعريف المشهور للصيام عند الفقهاء أثناء النقاش إشكالا، يتمثل في التساؤل حول إمكانية تحقيق مقصد التقوى بهذا التعريف للصيام، لكن الجواب كان أن التقوى التي يهدف الصيام إلى تحقيقها درجات ومراتب، ويختلف الناس في تحقيقها ارتقاء وانحدارا، ومن التزم بمجرد الامتناع عما ذكر في تعريف الصيام، فإنه بذلك يكون قد حقق الحد الأدنى من التقوى، وهو ما يسميه بعض العلماء كأبي حامد الغزالي في “الإحياء” بصوم العموم وفوقه صوم الخصوص وأعلى منهما صوم خصوص الخصوص. يقول في الفصل الثاني من كتاب أسرار الصوم ضمن كتاب (إحياء علوم الدين): (اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ صَوْمُ الْعُمُومِ وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. وأما صَوْمُ الْعُمُومِ فَهُوَ كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قضاء الشهوة كما سبق تفصيله، وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ عَنِ الْآثَامِ، وأما صوم خصوص الخصوص، فصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية…)[01] ثانيا: علاقة التقوى بالاستخلاف: وسأركز في هذا الفرع على ثلاث نقط اختصارا للكلام: 1) حضور التقوى أثناء حدث الاستخلاف: تتمثل العلاقة بين التقوى والاستخلاف في أن التقوى كانت حاضرة، في مراحل تنصيب آدم خليفة لله في الأرض، جاء في الصفحة 19: “فقد شاءت حكمة الله أن تكون التقوى محورا رئيسيا في مواقف الفاعلين البارزين، على امتداد مراحل تنصيب آدم خليفة في الأرض، فكانت منعدمة تماما في سلوك إبليس، و غائبة ابتداء في سلوك آدم وحواء، ومتداركة انتهاء في توبتهما، وكانت نتائج الزيغ عن نهجها حاسمة لمصير كلا الطرفين[02]. 2) التقوى من القيم الأساسية لممارسة الاستخلاف اعتبر المؤلف أن التقوى من القيم الأساسية لممارسة الاستخلاف، ورد في الصفحة 23: ” تعتبر التقوى من القيم الأساسية لممارسة الاستخلاف في الأرض، ولذلك فهي من قيم الإسلام السامية، التي يتعين على المسلم العمل على تحقيقها في نفسه، وترسيخها في سلوكه، ليمكنه الاضطلاع بمسؤوليات الاستخلاف ومهامه المختلفة”[03]. ثم ذكر قبل ذلك في الصفحة 22 بأن التقوى “تعين على ممارسة مهام الاستخلاف بكفاءة واقتدار، تستمد علو قدرها من سمو قيمته، وتفرض هيمنتها إلى حد بعيد على جميع القيم الدينية والإنسانية”[04]. 3) التعاليم الدينية يغلب فيها جانب الترك على جانب الفعل: أكد المؤلف أن جانب الترك في التعاليم الدينية يغلب على جانب الفعل، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عنه فدعوه”[05]، يقول في الصفحة 73 من الكتاب ” ومن هذا المنطلق ندرك كيف يحضر بعد الترك في كل ما شرعه الإسلام، من أفعال وأوامر وطلب الالتزام بها، إلى جانب المنهيات التي شدد في طلب التوقي منها”[06]، بمعنى أن التقوى باعتبار المعنى الأبرز فيها وهو جانب الترك، تظل منسجمة مع التعاليم الدينية التي يغلب فيها جانب الترك على جانب الفعل. ثالثا: صيام رمضان وترسيخ التقوى: 1) إسناد مهمة التقوى للصيام يشير الأستاذ إلى أن صيام رمضان يرسخ مهمة التقوى التي أسندت لهذه الشعيرة، يقول في الصفحة 39″ ولهذا اقتضت حكمة الله أن تكون الغاية التربوية للصيام، هي تقوية القدرة على الانتهاء كما يقوي غيره من العبادات الأخرى القدرة على الائتمار، وإسناد مهمة التربية على التقوى لصيام رمضان وتخصيصه بها بكيفية مركزة وبصورة واضحة، ينسجم تماما مع أولوية الترك على الفعل في خطاب الشرع، ومع غلبة معنى الاجتناب على معنى العمل في مدلول التقوى[07]. 2) دلالة الامتناع هي الغالبة في الصيام والتقوى: إن دلالة الامتناع في كل من الصيام والتقوى هي الغالبة عليهما، يقول المؤلف في الصفحة 14: “فالمعنى الأبرز في لفظة التقوى، هو ترك ما يجلب الألم والضرر والفساد، والتوقي منه والاحتراز من أسبابه، وهذا ما تعكسه جل التعاريف والأقوال” ثم يضيف في الفقرة الموالية من الصفحة نفسها” ويتضح من هذه التعاريف أن التقوى حالة نفسية من خشية الله ومراقبته في السر والعلن تحمل على الامتناع جهد المستطاع عن ترك ما هو مفروض”[08]. بمعنى أن التقوى مبنية على توقي ما يجلب الألم والضرر، والصيام مبني على ترك ما هو مباح من المطعومات والمشروبات. 3) الصيام يوفر بيئة فريدة للتقوى إن شعيرة الصيام ترسخ التقوى من خلال البيئة الفريدة التي تتوفر للتقوى، يقول المؤلف في الصفحة 48، وهي لفتة تربوية ذكية: ” من المعلوم في علم التربية، ضرورة توفير بيئة تربوية لإجراء مختلف عملياتها في ظروف ملائمة، تيسر على المتربي مهمة الاستيعاب والاكتساب، وترفع مستوى تفاعله فكرياً ووجدانياً وسلوكياً مع معطيات التربية الممنوحة. ويعتبر دور البيئة التربوية حاسما في إنجاح التربية الممارسة في أحضانها، أكثر من كل الوسائل المعتمدة، ومن كل التنظيرات الموجهة، والتمرينات المدرسية، والخطب الوعظية التي تظل كلاما عديم الفائدة والتأثير، حتى تتدخل البيئة المحيطة بضغطها النافذ في أعماق النفس”[09]. ثم يضيف في الصفحة نفسها: ” فإذا نظرنا من خلال هذه البديهية التربوية إلى صيام رمضان، باعتباره من أهم الوسائل التي شرعها رب الناس والعالم بأحوالهم وحاجاتهم، وما يصلح نفوسهم ويزكيها ويطهرها، وجدنا أن شهر رمضان بيئة تربوية فريدة، هيأتها العناية الإلهية لتكون محققة للهدف من الصيام، وهو ترسيخ صفة التقوى في نفوس الصائمين. فزمن الصيام المكتوب لا يعدو شهراً واحداً في السنة، مما يغري النفس بملازمة التعبئة الكافية للقيام بمقتضياته العملية، والصبر عليها واستمرار الهمة لذلك”[10]. 4) الصيام تدريب رباني يسعى إلى رفع مستوى الترك: اعتبر الأستاذ أن الصيام تدريب رباني يسعى إلى رفع مستوى الترك، يقول في الصفحة 78: “فالصيام المفروض تدريب رباني على رفع مستوى الترك لمدة شهر كامل، حتى يتسنى للمؤمن أن يقوم بأعباء الدين بكفاءة واقتدار عاليين”[11]. 5) خطة رمضان في التربية على التقوى تستهدف مختلف فئات المجتمع أكد الأستاذ أن خطة رمضان في التربية على التقوى تستهدف جميع فئات المؤمنين في المجتمع، ورد في الصفحة 82: “وهكذا يلاحظ أن خطة رمضان الشرعية في التربية على التقوى، تستهدف مختلف فئات المؤمنين، على ما يكون بينهم من الفروق الفردية، في الاستعداد الذاتي، لممارسة درجات الامتناع في أصعب مستوياتها، حتى يتمرسوا بذلك أكثر على ضبط أنفسهم في آخر خطوات الميل قبل أن تزل أقدامهم”[12]. رابعا: ملاحظات وتساؤلات وفي ختام هذه القراءة المختصرة لهذه الجزئية من كتاب أستاذنا عبد السلام الأحمر حفظه الله تعالى أسجل بعض الملاحظات أذكر منها: 1) في الصفحة 77: ذكر المؤلف بأن” مجال الترك محدود وليس لأحد أن يزيد فيه أو ينقص شيئا، وكلما استقام المجتمع على الإسلام، توارت عنه المحرمات والمنكرات وصار المكلف معفى من الانتهاء عنها، لأن المجتمع صار خلوا منها”[13] وأجد في هذا الكلام نوعا من المبالغة، لأني حسب ما فهمته أن المجتمع إذا كان مسلما، فإنه ستنتفي منه جميع الجرائم والآفات، وهذا لم يحدث حتى زمن النبوة، فكيف بغيره من الأزمان. 2) في الصفحة 81، “وأجاز الشرع للصائم أن يقبل زوجته ويلمس جسمها ويضمها، دون التمادي في ذلك إلى حين الإنزال المفسد للصيام”[14] أجد أن هذا الكلام أغفل حديث” وأيكم أملك لإربه” وأغفل أيضا التفريق بين الشيخ والشاب. 3) في سياق تعريف مفهوم القيمة وبيان المقصود بها في الصفحة الثانية والعشرين من الكتاب نسب الأستاذ لفظ “الخلق” إلى المعتقدات وذلك عند تعقيبه على التعريف الذي ساقه للقيمة من كتاب (معجم علوم التربية) قائلا: (وهي معتقدات راسخة تملي على الانسان سلوكا معينا، في ظروف اجتماعية معينة، فهي تخلق السلوك وتوجهه في الاتجاه الذي يتوافق معها) ومكمن الاعتراض هنا هو استعمال لفظ “خلق” الخاص بالله تعالى فلا خالق غيره وأرى أن يتم استبدال “تنشئ” به، خروجا من ضيق نسبة الخلق للمعتقدات التي لا تعدو أن تكون مؤثرا أو علة للسلوك.
ــــــــــــــــــــــــــــ [01] – إحياء علوم الدين 1/234. [02] الصيام والتربية على التقوى ص 17. [03] الصيام والتربية على التقوى ص 23. [04] الصيام والتربية على التقوى ص 22. [05] صحيح مسلم كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر رقم: 1337. [06] الصيام والتربية على التقوى ص 73. [07] الصيام والتربية على التقوى ص 39. [08] الصيام والتربية على التقوى ص 14. [09] الصيام والتربية على التقوى ص 48. [10] الصيام والتربية على التقوى ص 48. [11] الصيام والتربية على التقوى ص 78. [12] الصيام والتربية على التقوى ص 82. [13] الصيام والتربية على التقوى ص 77. [14] الصيام والتربية على التقوى ص 81. * * * تعقيب المؤلف ذ. عبد السلام محمد الأحمر لا بد في بداية هذا التعقيب أن أشكر الإخوة الكرام الذين حضورا معنا في هذه الأمسية كما أشكر الأخوين الكريمين الدكتورين حفيظ غياط ومحمد منديل، اللذين قرأا الكتاب وقدما عنه عرضا في وقت وجيز، كما أشكر مسير الجلسة د. حميد عنبوري. سأختصر الكلام لأني أحب سماع الملاحظات أكثر من أن أتكلم عن كتابي، إلا ما كان من باب الإثراء والإغناء والتوضيح المفيد. وأبدأ ببيان أن حقيقة الاستخلاف ككل قضايا الدين، فهي مفتوحة دائما على اختلاف الآراء والأفهام وتضاربها وتقاربها، أو تباعدها فلا مشاحة في وجود الاختلاف في الفهم والتأويل، فهناك من يثبت الاستخلاف بمعنى النيابة الإنسانية عن الله، وما تعنيه من حرية محدودة في العمل والاختيار والاضطلاع بمسؤولية ذلك، بحيث تنحصر هذه النيابة في مجال ضيق على قدر قوة البشر، باعتباره مخلوقا بسيطا محدود الطاقة والقدرات، وإن لم يكن بسيطا مقارنة مع غيره من المخلوقات الأخرى، المسخرة له ليمارس عن طريقها الاستخلاف في الأرض. وهناك من ينفي أية نيابة عن الله لما تتضمنه من معاني مخلة بما يجب لله من وحدانية وكمال واستغناء عن النائب من كل وجه. والذي أرجحه هو الموقف الأول، وأرى أن جميع البشر خلفاء عن الله تعالى مؤمنهم وكافرهم على حد سواء، وأن الخلافة عن الله لا تحتمل من المعاني سوى تحميل الإنسان أمانة تقرير المصير الأخروي إلى جنة أو نار، بعد النجاح أو الإخفاق في الابتلاء على امتداد الحياة الدنيا، كما أوضح القرآن الكريم، فنجد آيات الاستخلاف الأولى قد ربطت على لسان الملائكة بين خلافة البشر في الأرض وغلبة الفساد وسفك الدماء عليهم فوق ظهرها؛ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ومعلوم أن كل معلومة سيقت بعناية الله في وقائع الاستخلاف الأصلي، فإنها قد وضعت أسسه وقواعده الكبرى، ورسمت معالمه وتوجهاته الهادية، كما حددت آيات أخرى الحقائق التفصيلية و أثبتت الطبيعة الابتلائية للاستخلاف منها قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [الملك: 1، 2]، { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [الإنسان: 2، 3]، هذا ما يتعلق بالاستخلاف العام لكل البشر، وأما الاستخلاف الخاص فيكون لقوم دون قوم بحسب ما طوق الله به اعناقهم من مهام ومسؤوليات محددة قد تكون مؤطرة بالوحي كما هو الشأن بالنسبة للأمة الإسلامية أو بغيره من معطيات الفطرة والعقل. فالمؤمن عندما يصله الوحي قد يمارس الاستخلاف وفق توجهات علمانية زائغة عن نهج الإيمان، مع احتفاظه ببعض عقائد الدين وممارسته لشعائره، فهو خليفة عن الله لكنه يمارس خلافته بطريقة منحرفة فلا يمكن التسوية دوما بين الاستخلاف والإيمان. وإنما الاستخلاف إطار عام لممارسة الإنسان لحرية الاختيار بين الإيمان والكفر، وتحمل تبعات اختياره في الدنيا والآخرة. وأما قضية التقوى فهي سلوك بشري معلوم لدى كل الناس، ومؤطر بخلفياتهم الدينية والدنيوية، فتجد الماديين واللادينيين ومختلف التوجهات يمارسون التقوى بمعناها الاحترازي؛ وهو الوقاية من الأمراض والفقر والمكاره والألآم ووخيم العواقب، ويجتهدون في أن يضبطوا سلوكهم ويقوا أنفسهم من الأخطار المحدقة بها، ولكن هذه التقوى المادية محدودة جدا، وهي جزء صغير من مجال التقوى الذي يرسمه الدين عبر العديد من الملذات الحرام، والإشباعات الشهوانية المحظورة الدائمة والمؤقتة، كما هو الحال في ممارسة الصيام، رابطا الترك الوقائي بكل عمل يجلب غضب الله وعذابه الشديد في الحياة الدنيا والآخرة. ومن ثم فإن التقوى في منظور الإسلام – بنوعيها الدنيوي والأخروي – ترتبط بتقوى الله تعالى، الذي وحده القادر على منع الأضرار وصرف الأخطار أيا كان مصدرها عن الأنفس، ويقيها الخيبة المريرة عندما تعول على الأسباب المادية، فتتعطل بعد طول تعلق القلب بجدواها الموهوم. فالتقوى الشاملة هي التي يتيحها التدين الصادق والعبادة الخالصة، فيتحقق بها الأمن النفسي تلقائيا والأمان المجتمعي تباعا، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. والتقوى مسؤولية صعبة ولا يكفي فيها العلم، لأن إبليس كان عالما ولم يهده علمه، إلى اتقاء عصيان أمر الله له بالسجود لآدم عليه السلام، فهو إذا لم يمتنع عن جهل، بل هو على علم تام بما سيترتب عن رفض الامتثال لله تعالى. ولذلك فإن التقوى تحتاج أساسا لحصولها إلى الإرادة الجازمة، أكثر من العلم، وقد تحدثت طويلا عن أهمية الإرادة وقسمتها إلى إرادة الفعل وإرادة الترك التي يقويها الصيام؛ فذكرت في هذا الصدد بأن الإسلام اعتمد طريقتين في تربية الإرادة وتقويتها، فكلف النفس بفعل ما لا يحمل في ذاته شيئاً يدفعها إلى فعله، من منافع حسية، ومغانم مادية. ويتطلب القيام به غالباً قدراً كبيراً من الجهد والتضحية واحتمال المشقة. ومثال ذلك الصلاة والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله، وباقي الأوامر.. فهذا الصنف من التكاليف يربي في النفس إرادة الفعل، وتنفيذ الأوامر، والمبادرة إلى الخيرات. وكلفها من جهة ثانية بترك واجتناب ما تتعلق النفس بفعله، لإشباع شهوة، أو إرضاء نزوة، ويكون الامتناع عنه شاقاً على النفس، ومخالفاً لهواها؛ ومثال ذلك الصيام، ومجانبة كل ما حرمه الله من النيات والعزائم، والأقوال والأفعال، والمشاعر، والأخلاق[01]. فالإرادة هي أساس التقوى، فمن فقد إرادة التقوى فقد بفقدانها القدرة على حمل النفس على احتمال معاناتها ومكابدة مشاقها، فأول خطوة لاتقاء الفتن هو قرار النفس ممارسة الامتناع بعزم وحزم لايشوبهما ضعف. وهذا المعنى متضمن في الحديث الصحيح، “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نوى”[02]. ثم بعد تثبيت الإرادة، يواظب المسلم على سؤال الله أن يعينه في تقواه، وييسرها على قلبه كما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ” اللهم آتِ نفسي تقواها أنت خيرُ مَن زكَّاها أنت وليُّها ومولاها”[03] . فلا يُعبد الله إلا بإرادة قوية، يعقبها توفيق منه سبحانه، ولا تجتنب الذنوب والمعاصي والآثام إلا بإرادة جازمة تستحق عونه تعالى ومدده، ولذلك نردد في كل صلاة “{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 5، 6]” فنطلب من الله تبارك وتعالى الهداية وبها تكون الاستقامة وتستمر. فإذا لم يعنا الله تعالى عليها فما أصعبها، وليست أبدا سهلة إلا على من سهلها الله عليه وحببها إلى قلبه، كما جاء في الحديث: “اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً”[04]. ورغم أنني كتبت هذا الكتاب عن الصيام والتربية على التقوى، وصرفت فيه جهدا كبيرا ووقتا طويلا، فإني لن أغفل بأن أعظم وسيلة لممارسة التقوى وترسيخها في النفس هو الصلاة، وقد أكدت ذلك في الكتاب، لأن صيام رمضان يفرض مرة في السنة، لكن الصلاة مفروضة خمس مرات في اليوم فضلا عن النوافل، فالصلاة إذا هي الموكول لها تحقيق التقوى، بنص القرآن الكريم {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، لكن الصيام يأتي تعزيزا لدور الصلاة في ترسيخ التقوى في النفوس، لأن الصلاة عماد الدين ومن ثم فهي معتمد المسلم في تحقيق التقوى، أما الصيام وغيره من العبادات فهي داعمة لنهج التقوى والاستقامة على الدين. وفي الأخير أرد على تساؤلات الأستاذ محمد منديل فأقول: أولا: بخصوص ما جاء في الكتاب حول أهمية الترك وكان نصه على النحو التالي: “مجال الترك محدود وليس لأحد أن يزيد فيه أو ينقص شيئا، وكلما استقام المجتمع على الإسلام، توارت عنه المحرمات والمنكرات وصار المكلف معفى من الانتهاء عنها، لأن المجتمع صار خلوا منها”[05] وكان تعليقه: “أجد في هذا الكلام نوعا من المبالغة، لأني حسب ما فهمته أن المجتمع إذا كان مسلما، فإنه ستنتفي منه جميع الجرائم والآفات، وهذا لم يحدث حتى زمن النبوة، فكيف بغيره من الأزمان”. أقول إن الذي قصدته هو أن شيوع التقوى في سلوك المسلمين نتيجة غلبة الاستقامة عليهم، يهون على الأفراد ممارستها والاتصاف بها، دون أن يعني ذلك خلو المجتمع تماما من المعاصي والمخالفات الشرعية. ثانيا: أورد من كلامي في الصفحة 81، المقطع التالي: “وأجاز الشرع للصائم أن يقبل زوجته ويلمس جسمها ويضمها، دون التمادي في ذلك إلى حين الإنزال المفسد للصيام”[06] فقال: أجد أن هذا الكلام أغفل حديث” وأيكم أملك لإربه” وأغفل أيضا التفريق بين الشيخ والشاب. أرى من الأفيد التذكير بالسياق الذي أدرجت فيه الكلام عن تقبيل الصائم لزوجته كما يلي: “من القواعد المقررة في الشرع، أن ما يؤدي إلى نتيجة ما يصير له حكمها، فإن كانت واجباً، فما أدى إليها واجب، وإن كانت حراماً، فما أدى إليها حرام. وبذلك تظل المسافة طويلة بين الحلال والحرام ليسهل على المكلف لزوم التقوى، وقد تيسر عليه فعل الواجب واجتناب الحرام. لكن في رمضان الذي هو شهر التقوى، نجد أن هذه القاعدة غير معتبرة نظراً لكون أهم الممنوعات طالها المنع بصفة مؤقتة فحسب، وأن الصائم يمكنه أن يقلص المسافة بينه وبينها إلى أدنى حد. فالطعام والشراب المحرمان في نهار رمضان، قريبان من الصائم ويدخرهما في منزله، ويعدهما لفطوره بعد المغرب. والشرع أباح له أن يقترب منهما إلى حد أن يبلغ بهما فمه عند المضمضة بالماء أثناء الوضوء، وعند ذوق الطعام لمعرفة جودة طبخه، دون أن يبيح له بلعه، فإذا نزل شيء من ذلك إلى جوفه ولو غلبة، لزمه القضاء عند بعض المذاهب. وأجاز الشرع الحكيم للصائم، أن يقبل زوجته ويلمس جسمها ويضمها، دون التمادي في ذلك إلى حين الإنزال المفسد للصيام. إن الشرع لم يمنع هذين العملين، رغم احتمال إفضائهما إلى الإفطار وانتهاك حرمة رمضان، ليعود الصائم ملازمة الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام، ولو كانت أدق من الشعر، فيستطيع بذلك قضاء بعض حاجاته، دون تخطي الحواجز الشرعية القائمة، وأن يمتلك أمر نفسه في أصعب الظروف وأخطر المواقف. وسقت أمثلة أخرى لهذا النهج الرمضاني الفريد في التربية على التقوى، كما أضيف بأن قول عائشة رضي الله عنها لايستدل به معظم الفقهاء على المنع، وإنما القصد منه مزيد الاحتياط ومراعاة من يفعله مدى قدرته على ضبط النفس، وعدم المجازفة إذا كان ضعيف التحكم في شهوته. ثالثا: وأما اعتراضه على نسبة الخلق لغير الله من خلال ما أوردته في تعريف كتاب (معجم علوم التربية) للقيم، (وهي معتقدات راسخة تملي على الانسان سلوكا معينا، في ظروف اجتماعية معينة، فهي تخلق السلوك وتوجهه في الاتجاه الذي يتوافق معها) فأرى أنه جانب الصواب، لأن الله تعالى نسب شكلا من الخلق لسيدنا عيسى في قوله تعالى: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]. فالبشر يخلقون بمعنى يقدرون ويصورون ويصنعون ولا يمنحون ما صنعوا الروح التي هي من اختصاص الله تعالى، كما قال الشاعر زهير ابن أبي سلمى: وَلأَنْتَ تَفْري مَا خَلَقْتَ وَبَعْ . . . ضُ الْقَوْمِ يَخْلقُ ثمّ لا يفْري. (وخلق هنا بمعنى قدر) وهذا إبراهيم عليه السلام يخاطب قومه المشركون كما ورد في القرآن: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] فلا حرج ان ينسب الخلق الهين للبشر ولغيره على أن من أحس بالحرج من هذه التسمية، خرج منه بترك نسبة الخلق لغير الله تنزها وورعا. وفي الختام أؤكد أن هذا الكتاب عصارة لمواعظ وتأملات متجددة، وتفكير وبحث عميقين لما يربو على العشرين سنة، فأتمنى أن تعظم فائدته وتقل زلاته، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [01] – كتاب الصيام والتربية على التقوى ص119. [02] – متفق عليه: أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [03] – أخرجه مسلم (2722) وغيره. [04] – رواه ابن حبان وصححه عن أنس رضي الله عنه. [05] الصيام والتربية على التقوى ص 77. [06] الصيام والتربية على التقوى ص 81.