عرف “أَدْوَالْ ” في التراث الثقافي المغربي، تاريخه ودلالاته.

ذ. عبد الله كوعلـــي

تقديم.    

       والمعنَى الذي نرمِي إلى تحقيقِه في هذا البحثِ هو المعنى الثّاني للمُصطلح، أي جولة الطّلبة الحافظين للقرآن الكريم، أو نُزهةُ الطّلبة كما يعبِّر عنها العلّامة مُحمد المختار السوسي[2] وغيره من المؤرخين؛ فمصطلح “أدوال” تعبير أمازيغي يشير إلى نُزهة الطلبة، وقذ ذهب أحمد توفيق إلى القول إن لأدوال صيغة مُكَبَّرة تتمثل في النزهة السنوية للطلبة [3]، كما يُطلق عليه أيضا سلطان الطلبة، كما سيأتي بيانه؛ وهو عُرف قديم في المغرب، تعود بداياته إلى أواسط القرن السابع عشر الميلادي، في عهد السلطان العلوي المولى الرشيد، حَيث يَخرج طلبةُ المدارس العلمية العتيقةِ بفاس ومراكش وسوس وغيرها من أقطار المغرب من مدارسهم، ويقومون بجَولةٍ سنوية قد تقارب مدتها زهاء عشرة أيامٍ، يجوبون فيها مختلف أنحاء مدينتهم أو قبيلتهم، وتكون جماعية في كل الأحوال، ويتخلل هذه النزهة السنوية جملة من الأنشطة الدينية والثقافية المتعدِّدة كتلاوة القرآنَ العظيم و قراءة الأذكار والأمداح ويَدعون لغيرهم بالخير والبَركة؛ ويَحْظَون بعناية خاصة من لدن رجال السلطة والحكم، وباستقبال الأسر والأعيان والأهالي “والناس يقومون بضيافتِهم أحسَن قيام، بِكل ما يعلمون أنهم يُكْرِمون به حَملة القرآن الكريم، والهَدايَا من أفراد القَبيلة تُقدَّم منْ غير طلبٍ، والنِّساءُ يُوالِينَ مِمّا تحت أيْديهنّ عليهم، تَطلُّباً للدّعواتِ، واسْتِدرَاراً للبَركاتِ وقد جُرّبَ عِندهنَّ وعندَ غَيرهِنَّ أنّ الدّعاء في مجمع الطّلَبة مُستجابٌ، ومن جرَّب واعْتقد فلا يَرُدُّه عن اعتقادِه رادٌّ”[4].
      إن عُرف أدوال من الأعراف القديمة والمنتشرة في ربوع المغرب، ذا أبعاد اجتماعية كثيرة ودلالات ثقافية عديدة، كانت له تأثيراته الإيجابية على الحياة الدينية والثقافية للمجتمع المغربي.
ـ فما هو السياق التاريخي لنشأة عرف أدوال؟ وما هي أشكاله وأنشطته؟
ـ وماهي الدلالات والأبعاد الاجتماعية والثقافية لهذا العرف في المجتمع المغربي؟ وماهي بعض خصائصه؟
المحور الأول: عُرف أدوال، تاريخُه وأشكالُه.
      لقد تعدد تسميات هذا العرف، واختلفت من منطقة إلى أخرى، فحينا يسمى نزُهة الطلبة، وحينا آخر يطلق عليه أدوال، وقد يطلق عليه سلطان الطلبة؛ لكن وإن تعددت الإطلاقات فالمراد به ـ على حد علمنا ـ شيء واحد، والمغزى منه أيضا لا يختلف.
      ويرجع سبب اختلاف التسميات إلى اختلاف كل من اللِّسان وشكل الاحتفال الذي يتخذه هذا العرف؛ فقد أطلق عليه أولا حين تم الاحتفال به في بداية أمره بفاس ثم مراكش نُزهة الطلبة، وتدوم أسبوعا أو أكثر بقليل؛ ولما انتشر في ربوع المملكة الشريفة، خاصة في المناطق الآهلة بالأمازيغ كسوس والأطلس وغيرها سمّوه ـــ في تلك المناطق خاصة ــــ ب “أدوال” وهي كلمة أمازيغية تشير إلى المداولة والانتقال، أي انتقال الطلبة بين البلدات والقرى في نزهتهم؛ أما سلطان الطلبة فهو ذاك الطالب الذي يقود المجموعة من زملائه أيام النزهة، حيث يأتمرون بأمره وينتهون عن نهيه.
      تذكر المراجع التاريخية أن أول من سن هذه السنة هو السلطان العلوي أبو العز المولى الرشيد بن علي الشريف مؤسس الدولة العلوية، في أواسطِ القرن السابع عشر الميلادي، قال ابن زيدان في ترجمته للسلطان المذكور: “وهو الذي سن نزهة الطلبة الجاري بها العمل كل سَنَةٍ إلى الآن بفاس ومراكش زمن الربيع، وذلك أنه لما فتك بابن مشعل واحتوى على ما كان لديه من الذخائر جعل لمن كان في معيته من الطلبة نزهة فاخرة، وقد كانوا نحو الخمسمائة، من يومئذ اتُّخِذت عادةً سنوية مدة حياته وبعد موته”[5]
      كما تذكر الروايات التاريخية أن سبب ابتكار المولى الرشيد ـــــ رحمه الله ــــ هذا الاحتفال هو من أجل تتويج طلبة القرآن الكريم والاعتراف بجميلهم بعد وقوفهم معه في التصدي لفتنة المتمرد اليهودي حينها المسمى هارون بن مشعل، الذي اتخذ من منطقة تازة منطلقا لحركته التمردية للاستيلاء على الحكم. قال المختار السوسي: “رحمك الله يا مولاي الرشيد، وطيب عظامك تحت الثرى، فقد والله رفعت فوقنا نحن الطلبة راية خفاقة، ترفرف علينا أيان كنا حواضر وبوادي، وجعلت لنا في عصرك وبعد عصرك ما نمر به على الجهلة شم العرانين رافعي الرؤوس، كنت رحمك الله أسست لنا هذه النزهة بسبب إعانتنا لك، حيث أففنا على ذلك الإسرائيلي، وقد صرعته بقوة جأشك”[6]
      أما أسلوب الاحتفال بنُزهة الطلبة (أدوال) فيختلف من منطقة إلى أخرى، فيتخذ في المدن الكبرى كفاس ومراكش أشكالا رسمية فاخرة، حيث ترعاها الدولة وتشرف عليها، وتدعمها بالمال وتحوطها بالعناية الكبيرة، حيث “ترسل الحكومة المغربية لسلطان الطلبة كسوة فاخرة وتقوم بتنظيم موكبه الرسمي. وعند الساعة الحادية عشرة يتحرك هذا الموكب من المدرسة التي يتفق أن سلطان الطلبة ساكن بها، فيركب هو جواداً مطهماً وترفع المظلة الملكية (الشمسية) فوق رأسه، ومن حوله الحراب تحملها الشرطة، وتتقدمه موسيقى عسكرية ثم قواد (المشوَر) فرساناً حاملين السيوف، وتتلوه حاشيته وجمهور غفير من رعاياه الطلبة مشاةً على الأرجل، […] ثم يتابع الموكب سيره لزيارة ضريح السلطان الأعظم مؤسس عرش الدولة العلوية الشريفة المولى الرشيد […] وهذا السلطان هو الذي سن للطلبة هذه (السلطنة) وحباهم بعطفه الكبير فهم يزورون ضريحه أولاً قياماً بواجب شكره وتذكاراً لعهده اللامع”[7]، هكذا يتم الاحتفال بنزهة الطلبة لدى طلاب جامع القرويين وغيرهم من طلبة فاس، على مدار أسبوع أو أكثر بقليل، ويتخلل ذلك العديد من الأنشطة الثقافية والأدبية ذات الطابع المسرحي والهزلي، كما سيأتي بيانه لاحقا.
      أما في مراكش، حيث جامع ابن يوسف والكتبية وغيرها من مراكز العلم، يتم الاحتفال بنزهة الطلبة، بأسلوب لا يختلف شأنا، ولا يقل شأوا عما عليه الأمر بفاس وأحوازه، وقد وصف العلامة محمد المختار السوسي كيف تتم النزهة عندهم إذ قال: “حكى لي أستاذي سيدي اليزيد الرُّوداني رحمه الله، عن تلك النُّزهة التي حضَرها أيّام المرحوم مولاي الحسَن شيئاً غريبا عنّا […] فكان يقول إننا نمكثُ هناك دائما أكثر من الشّهر وجميعُ المُؤنِ قامتْ بها الحُكومة، والنّزهة عندنا فيما يَفضُل من الدّراهمِ لا فيما نُنْفقهُ، […] وكُنّا نرجِع دائماً في كلِّ نُزهةٍ بعشراتِ الرّيالاتِ لكل واحدٍ، ومنْ ذلك يكتَسِي ضُعفاءُ الغُرباءِ من الطّلبة، كسوتهم تكفيهم إلى أن تَدورَ النُّزهةُ الأخْرى”[8].
      هكذا تتم وقائع أدوال عموما في الحواضر الكبرى للمغرب الأقصى كفاس ومراكش واسفي والجديد وتازة وغيرها؛ أما في البوادي والقرى فالأمر يختلف قليلا، من حيث موعده، وأنشطته، وكيفيته؛ فالطلبة في البوادي يَخرُجون جماعاتٍ، فيُغادرون مَدرستَهم إلى حينٍ آخر، قاصدِين الدّواوير والمداشِر والقُرى، ليجْمَعوا ما به يُعينُون أنفسَهم على مواصلةِ التّحصيل العلمي، وغالبا ما يختارون وقت جمع المحاصيل الزراعية، حيث تكثر الخيرات، ويُستقبلون من أهل البلدات بكل سخاء وكرم، ويضيَّفون بما لذَّ وطاب من الطعام. هذا ما يُبيِّنُهُ الدكتور أحمد التوفيق إذ يقول: “وتبدأ الجولة التي يُختار لها مواسم مواتية للفلاحين بِحسب المناطق بأن تُرسِل الجماعة رسائل إلى القُرى بقصد الإخبار وإعدادِ الضيافة”[9]، أما إن كانت المدرسة في الحاضرة أو قريبة منها، فإن الطلبة في جولتهم يقصدون التُّجار وأصحاب السُّلطة ورجال الدّولة للحصول على ما يرغبون فيه من بعض النقود وأشياء أخرى.
      ويصِف العلّامة محمد المختار السوسي مَشْهدا من مشاهد أدوال في بوادي سوس وقُراها قائلا: “فأما الفِرقةُ الأولى التي تسْكن جبالَ (جزولة) فهي من قبائلِ (سوس) يزْخر غالبُها بالطّلبة، فكانَ لهم شأنٌ أي شأنٍ، فإذا جاءت أيّام النُّزهة فإن رؤساءَ القبائِل يطْوُون رؤوسَهم تحتَ الأجنحةِ، حقيقةً لا مجازاً، فيكون الطّلبة هم الذين يُديرون دفّة السّياسة في القبيلةِ في أيّام النُّزهة كلِّها، فهم الذين يُصدِرون الأحكامَ ويُبْرمُون ويَنْقُضونَ ويَفصِلون الدّعاوَى، ويُؤاخذُون منْ يؤاخِذُون ويُسامِحون من يُسَامِحون، لا مُتَعقب لأحكامِهم، ولا رادّ لقضائِهم، ولا مُستأنِفَ لمَا يُعلنُونَ ممّا يَروْن”[10] إنه احتفال بسلطان الطلبة، لكن بطريقة تتلاءم مع واقع البادية وظروفها الاجتماعية والثقافية، فالطالب الذي هو أمير المجموعة من زملائه (أي سلطانها) هو من يتولى تسيير شؤون القبيلة أيام النزهة المعدودات، ويتصرف كأنه سلطان فعلا، لكن حقيقة الأمر أنه سلطان وهمي، لسلطنة وهمية أيضا، سرعان ما تنهار بعد أسبوع أو أقل، والأمر هزلي كله، إذ لا تنفك عنه الكثيرُ من مظاهر المرح والفُكاهة والضحك.
 المحور الثاني: عُرفُ أدْوالْ، دلالاتُه الثقافية وأبعادُه الاجتماعية.
      بعد دراستا الوصفية لعرف أدوال، من حيث سياق نشأته، ونمط أنشطته، ومدى انتشاره في ربوع المغرب الأقصى، يمكن أن نخلص الى استنتاج العديد من الدلالات الحضارية والأبعاد الثقافية والاجتماعية التي ينطوي عليه هذا العرف الموروث، ويمكن أن نذكر بعضها كما يلي:
الدلالة الاولى: إنّ المُجتمع المغربي الأصيل يُعلي من شأنِ طلبة العلم عامة، وحَملة كتاب الله خاصة، ولا يَسمحُ لأي أحدٍ أن يدّعي أنه أعْلى منهُم شأناً أو أرفع منهم منزلة قط، ولوْ كان من أهل السُّلطة وأصحاب النفوذِ، فالقُرآن يُعلى ولا يُعلى عليه، وحاملُ القرآن سيدُ القوم، قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة/11]. كما أن أهل القرآن هم السد المنيع الذي يعوَّل عليهم لصيانة البلد وحماية مقدساته من أعداء الخارج وخونة الداخل؛ وقد رأيت أيها القارئ الكريم كيف وقفوا مع المولى الرشيد للقضاء على تمرد ابن مشعل، وكيف وقفوا بعد ذلك على مر تاريخ المغرب لصد موجات الاستعمار.
الدلالة الثانية: إنّ رجالَ السُّلطة والحُكْم سواء في الدولة أو في القبيلةِ يتنَازَلون بكيفية رمزية عن مناصبِهم، ويتخلّون عن سُلطتهم مؤقتا لصَالحِ طلبةِ أدْوالْ، الذين وهم حَملةُ القرآن وعلومِه، فَهم من يَتولّون أمُور الحُكم والفَصل في المنازَعات خِلال تلك الفَترة، وهذا قصدُه -والله أعلم- تدْريبُهم وتَكوينُهم في مُهمّة مُزاولةِ القضاءِ والحُكم بين الناس بالعدْل، تَهيِيئاً لهُم لما بعد تَخَرُّجِهِم مِن عندِ شيوخِهم في المدارس العلمية العتيقة، حيث سيصبِحون هم الآخَرون أئِمةً وفقهاء وقضاةً كما قد يتولون مناصب عليا في الحكم وتدبير الشأن العام.
الدلالة الثالثة: إن المدارس العلمية العتيقة في المغرب ليست مؤسساتٍ معزولةً عن محيطها الاجتماعي والثقافي، ولا منقطعةً عن الجو العام السائد في محيطها وأحوازها، بل هي مؤسسات علمية منفتحة جدا على واقع الناس بكل تفاصيله، منخرطة في نشر النموذج الديني الوسطي الذي اختاره المغاربة خلفا عن سلف، فمِمَّا لا شكّ فيه أن أهالي القبائل هم الذين يبذلون من جهدهم ويستهمون بأموالهم لبناء هذه المدارس وتشييدها وإعمارها، ولا تتدخل السلطة الرسمية في هذا الأمر عادة، إلا ما كان منها في مراكز العلم بالحواضر الكبرى كالقرويين بفاس وابن يوسف بمراكش على سبيل المثال لا الحصر؛ وقد بيَّن محمد المختار السوسي ذلك قائلا: “فالمعهود في كل المدارس السوسية المنبثة بين القبائل أنها تؤسَّس على أيدي أهل القبيلة الذين يجمعون من عندهم أجرة أساتذتها، ومن أعشارهم للطلبة الغرباء المنقطعين فيها.”[11] وفي المقابل تساهم هذه المدارس العلمية في تكوين ما يحتاجه المجتمع من أئمة وفقهاء وقضاة ومسيري الشأن العام وغيرهم من ذوي الكفاءات التي يفتقر إليها المجتمع لتدبير أمره، كما تقوم هذه المدارس بمهام تأطير الناس وتوجيههم، والمساهمة في تحقيق أمنهم الروحي؛ وعرف أدوال نسيج من الأنشطة الكثيرة التي تروم تحقيق هذه الأهداف كلها، ومن تلك الأنشطة مثلا قراءة القرآن الكريم وإسماعه للناس بالطريقة الجماعية المغربية المعهودة، أو بالصيغة التي تسمى في سوس ب”تاحْزَّابْتْ”[12]، وإلقاء دروس الوعظ والدعاء وقراءة الأمداح بكيفية جماعية، وغيرها من معالم النموذج الديني الإسلامي الذي تُلقنه المدارس العلمية العتيقة آنذاك. كما يُعد أدْوال فرصة للطلبة من أجل مُخالطةُ المجتمعِ والتّعرُّف على عاداتِه وأعرافه، سِيمَا أنّهم في مرحلةِ التّحصيل والتّكوين التي تسبق التخرج وتحمل المسؤوليات.
الدلالة الرابعة: إبراز خصال الكرم والسخاء، والإيثار وحب القرآن وأهله المتجذرة في قلوب المغاربة منذ القدم، سواء من جانب السلطة الرسمية أو من جانب الرعايا والأهالي؛ فرغم كثرة هذه المدارس وكذا وفرة طلبتها، إلا أن ذلك لا يمنع السكان من الإنفاق عليهم وهم في مدارسهم، كما لا يستنكفون عن استقبالهم وإكرامهم إن قدِموا إليهم في نزهتم (أدْوالْ)، فالإنفاق على هذه المدارس العلمية وتموينها من لدن الأسر والأهالي عرف متَّبع، وسُنَّة حسنة درج عليها أهل المغرب منذ زمان بعيد؛ وأنت تعلم أيها القارئ الكريم أن في منطقة سوس وحدها يوجد ما لا يقل عن أربعمائة مدرسة علمية عتيقة، حسب ما ذكره العلامة محمد المختار السوسي رحمه الله، حيث يقول: “وبعدُ فهذه مائة مدرسة ضمّتْ غالب كُبريات مدارس (سوس) ومِمّن درّسوا فيها أخيرا، وليس مقصودنا أن نَذكر المشاهير منها، وإلا لاحتجنا لزيادة مثل هذه الأرقام، ولا قصدُنا حشر كل ما يسمى مدرسة، فإن ذلك يصل إلى ما فوق ثلاثمائة أو أربعمائة، […] وعلى هذا فليقس القارئ ليعلم أن قوله نحو أربعمائة، إنما ذهبنا إلى أقل ما نتصورُه قبل أن نَحسُب”[13] .
المحور الثالث: عُرفُ أدْوالْ، مميزاتُه وخصائصه.
      إن لِعُرف أدوال امتدادا عميقا في التاريخ المغربي وانتشارا واسعا على جغرافيته، حتى استطاع بذلك أن يكتسب قوة إلزامية وقدسية اجتماعية. وإذا كان هذا حاله، فإن مرور الزمن يزيده رسوخا وتمكينا، ويُكسبه مميزات يتميز بها ومعالم تحدد شكله وهيئته، باعتباره موروثا ثقافيا ضاربا في القدم، ومن تلك الميزات ما يلي:
الميزة الأولى: إنّ مجموعةَ الطّلبةِ الذينَ يخرجون في جَولةٍ إلى مَناطقِ القبيلةِ أو إلى غَيرها من الأمَاكن المُتَيَسَّرة لهم، يَحتاجون إلى طالبٍ مُقدَّم يرأسُهم، فيأتمِرُون بأمرهِ ويَنْتَهون عن نهْيِهِ، فهو سُلطانُهم، لذلك مطلوبٌ منهُ أن يتّصف بصفات القِيادة والحكمة والهيبة وحسن الكلام وسلامة الأفعال، خاصة وأنّه تُسنَد إليه أمورٌ ثقيلةٌ أثناءَ الجَولة، كرفعِ الدُّعاء وافتتاحِ قراءةِ الحزب وَوعظِ الناس والفصل فيما بينهم بالعدلِ، كما وصف ذلك العلامة محمد المختار السوسي سالِفا؛ وعن هذا يقول الأستاذ أحمد التوفيق: “والعنصُر الأساسي في نجاح دورة من دورات أدْوالْ هو وجود طالب مقدم، يكون يعسوب الجماعة المتّفقة على الجَولة، تأتمر بأمره في الانضباط والخدمات مِن حين خروجها إلى ساعة إيابِها […] ومن صفات المُقدم إتقان الدعاء، وإحسان التصرّف وتوفّر النشاط والإقدام، وهِي صفاتٌ قلما تتوفر في الطلبة، ومن الطلبة من صار شغله الشاغل هو أن يتقدّم على طلبة أدْوال فلا يعود من جولة مع مجموعة حتى يؤلف مجموعةً جديدةً لجولةٍ أخرى.”[14] كما بين المختار السوسي أيضا جملة من تلك الصفات المطلوبة في ذلك الطالب الذي يتقدم المجموعة ويُطلَق عليه “سلطان الطلبة” منها أنه يكون من كبرائهم من أهل الحسب والنّسب، ممن أوتي بسطة في العلم والجسم، ويكون بالرئاسة أجدر بأخلاقه وعقله قبل أن يقلَّدها.[15]
الميزة الثانية: إن نزهة الطلبة تأتي بعد شهور من الكَد في الدراسة، والجِد في التحصيل العلمي داخل المدارس العلمية، في حفظ القرآن الكريم وضبط القراءات، واستظهار المتون العلمية ودراسة الأمهات والمنظومات، وسرد الشروح والحواشي؛ لتكون هذه النزهة فرصة لهؤلاء الطلبة للاستراحة بعد ذلك التعب كله، لذا لا تفارقها العديد من مظاهر الفرح والمرح، والبسط والفكاهة، والهزل والتنكيت وغيرها من ألوان السلوكيات التي ترمي إلى الترويح عن الأنفس.
      فمن تلك المظاهر مثلا أنهم خلال تلك النزهة يُلقُون خطبة هزلية مليئة بما يثير الضحك، من قبيل القول فيها: ” نحمده ونشكره على أكل الكسَاكِس بالسمن والبصلة ولحم الغنم، وأستغفر الله مما ضيعنا من القدوم إلى الزردة بالتمام، ونعوذ بالله من جوع كرشنا، ومن كثرة حرقنا، ومن عدم القدوم إلى الزردة ولو كنا في قبرنا …”
      أما طلبة البوادي فلهم حظهم الوافر، ونصيبهم الذي لا يستهان به في إبداع أشكال من اللهو المباح في نزهتهم، “فتراهم في ملعب (أحواش) مستديرين، يشطحون ويرقصون ويصفقون، وزغاريت العذارى ترِنُّ من السطوح […] فترى شبَبَة الطلبة يترنحون في الملعب وهم ضحكة للناظرين […] فإذا بأحواش على أيدي عارفيه قد بلغت أصواته عنان السماء والدفوف والمزامير تقيم الملعب وتقعده، ثم إذا اكتفى الطلبة من اللعب، يدعون لأولئك العامة بما يتمــنَّون.”[16].
الميزة الثالثة: إن عرف أدوال عرف مغربي محض، قابل للتأقلم مع مختلف الأوساط الثقافية والاجتماعية المغربية، من حيث موعده، ونمطه، وأنشطته. فتجده بفاس ومراكش وغيرها من الحواضر ينظم في فصل الربيع، أما في البوادي فيختارون له وقت جمع المحاصيل الزراعية، حيث تكثر الخيرات، وتأتي الأعطيات للطلبة من كل مكان رغدا، وتنهال عليهم الهدايا من كل حدب وصوب. كما أن في الحواضر الكبرى يَستقبل جمهورَ الطلبةِ سلطانُ المملكة أو من ينوب عنه، فيكتسي الحفل طابعا رسميا ترعاه الدولة، في حين يتولى العناية بطلبة البوادي في نزهتهم أعوان السلطة وشيوخ القبائل وأعيانها. وتعد أنشطة أدوال كلها من صميم الاختيارات الدينية للمغاربة، كقراءة الحزب الراتب جماعة والأمداح النبوية، خاصة قصيدتي البردة والهمزية للإمام البوصيري والدعاء في آخر الجمع…، ويظهر فيه كذلك هجران مظاهر التشدد والغلو في الدين، والاتسام بالسماحة والوسطية في النظر إلى الأمور كالفن والسلطة والسياسة وغير ذلك.
      ولا بأس أن نذكر هنا بعض ما يمكن أن يعتري دورة من دورات أدوال مما هو غير مرغوب فيه؛ إذ أحيانا قد لا تبالي السلطة بنزهة الطلبة لسبب ما، وتستنكف عن رعايتها حتى نهايتها، مما يلجئ الطلبة إلى طلب المعونة من الناس، فيعطونهم أو يمنعونهم؛ وقد لمح المختار السوسي إلى ذلك فقال: “ثم تمدهم الحكومة بما لا يسمن ولا يغني من جوع، بحيث لا يقوم بهم أكثر من ليلة أو ليلتين، ثم ترى الطلبة يتكففون عند العمال والتجار برسائل يكتبونها إليهم، حتى إن أهل المروءة من الطلبة ينقطع عن تلك الحفلة اليوم”[17].
      والأمر نفسه يمكن أن يحصل للطلبة في البوادي، حيث “قد لا يستجيب أهل القرية لرغبة الطلبة، فلا يكون استقبالٌ ولا قِرىً، وإنما يبيتون جوعى إلى الصباح، فيغادرون. ولما كان للفلاحين اعتقاد راسخ بأن دعوة طلبة أدوال مستجابة فإن إهمالهم أو نهرهم لا يحدث إلا نادرا.”[18]
خاتمة.
      إن عُرف “أدْوالْ” عرفٌ قديمٌ متجذّرٌ في التاريخ الديني والثقافي والاجتماعي المغربي، ويعكس مدى الانسجام التام بين المدارس العلمية العتيقة، بمناهجها التعليمية وعلمائها وطلبتها، وبين مكوِّنات المجتمع المغربي كالأهالي والأسر، وأصحاب الحكم ورجال السلطة، والتجار وأصحاب المال…، كما يُعد جزءاً من الرأسمال اللامادي والموروث الثقافي للمغاربة.
      إلا أنه في زماننا أصبح هذا العُرفُ الاجتماعي ـ وأشبَاهه من العادات النبيلة ـ مهدّداً بالانقراض وعلى حافة النّسيان، بفعل عوامل مختلفة، على رأسها عامل العولمة وتحول نمط عيش المجتمع من الأسلوب الجماعي المشترك إلى طغيان الأساليب الفردية في التعاطي مع ظروف الحياة. لكن على كل حال، يُعد أدوال جزءا مُهمّا من تاريخنا وحضارتِنا العريقين، وقد نبه محمد المختار السوسي رحمه الله إلى ضرورة حمايته من الاندثار، وبعث الحياة فيه من جديد، طالبا من سلطان المغرب في زمانه رعاية هذا العرف القديم والقَيِّم حيث قال: “[…] لكان بعض العقلاء يميل إلى قطعها أولى من بقائها (أي نزهة الطلبة)، ولكنها رمز ينبغي أن يكون خالدا يدل على يد الرشيد وخلفائه من آساد ملوك الدولة العلوية المجيدة”[19].
      لذا علينا ـ على الأقل ـ التوجُّه إلى هذا التراث القديم، الذي يحمل قِيَما ومضامين في غاية النُّبل، بمزيد من البحث والدراسة، قبل أن يُنسى تماماً ويمحى من الذاكرة الجماعية للمغاربة؛ ثم العمل على إِحيائه بوجهٍ جديدٍ ملائِمٍ لعصرنا؛ أساس هذا الوجه الجديد التمركز على رمزية المدارس العلمية العتيقة، باعتبارها مؤسسات ذات التاريخ المهيب، والماضي المجيد، هدفها تحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه، كما يتمركز أيضا على إعلاء مكانة علماء هذه المدارس، والإحسان إلى طلبتها، لما يشتغلون به من كتاب الله تحفيظا وحفظا، وضبطا وإتقانا، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خيرُكم منْ تَعَلَّمَ القرآنَ وعَلَّمَهُ”[20].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، معلمة المغرب، مطابع سلا سنة 1989، ج1، ص285/ والتوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 2019، ص:241.
[2] – السوسي محمد المختار، مدارس سوس العتيقة، نظامهاـ أساتذتها، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع للشمال، ص: 38-41.
[3] – معلمة المغرب، ج1، ص285/ والتوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، ص:242.
[4] – مدارس سوس العتيقة، ص: 41.
[5] – ابن زيدان عبد الرحمن، الدرر الفاخرة بمآثر الملوك العلويين بفاس الزاهرة، المطبعة الاقتصادية بالرباط، 1937، ص: 23
[6] – مدارس سوس العتيقة، ص: 38.
[7] – الكتاني ادريس، من العوائد المغربية الممتازة، مجلة الرسالة، دار الرسالة، القاهرة، 1939، عدد 310.  https://bit.ly/3Aevp87
[8] – مدارس سوس العتيقة، ص: 39.
[9] – معلمة المغرب، ج1، ص285/ والتوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، ص: 242.
[10] – مدارس سوس العتيقة، ص: 41.
[11] – السوسي محمد المختار، المعسول، مطبعة النجاح، الدار البيضاء1961، ج1، ص165.
[12] – “تحْزَّابْتْ” كلمة أمازيغية يقصد بها قراءة القرآن الكريم بكيفية جماعية بصيغة بدوية خاصة، تُرفع فيها الأصوات وتدغم فيها الحروف وتكون بإيقاع يُشبه السيل المُندفع الجارف، يتخللها الوقف الممدود فيه الصوت أو المنقطع بعنف، وهي تعبير عن الطاقة المتدفقة لحَفَظَة القرآن المتحمسين، تنطوي على بعض الفخر والزهو بحفظ كتاب الله. (انظر معلمة المغرب، ج1، ص285)
[13] – مدارس سوس العتيقة، ص: 135.
[14] – معلمة المغرب، ج1، ص285/ والتوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، ص:242.
[15] –  مدارس سوس العتيقة، ص: 41.
[16] – المرجع نفسه.
[17] – المرجع نفسه، ص40.
[18] – معلمة المغرب، ج1، ص285/ والتوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، ص:242.
[19] – مدارس سوس العتيقة، ص: 40..
[20] – البخاري محمد أبو عبد الله، الجامع الصحيح، دار ابن كثير ــ بيروت، الطبعة الأولى 2002، حديث رقم:5027.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لائحة المراجع:
1) موسوعة معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا سنة 1989.
2) في تاريخ المغرب، التوفيق أحمد، مطبعة النجاح الجديدة. الطبعة الأولى، 2019.
3) مدارس سوس العتيقة، نظامهاـ أساتذتها، السوسي محمد المختار، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع للشمال.
4) المعسول، السوسي محمد المختار، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، 1961.
5) الجامع الصحيح، البخاري محمد أبو عبد الله، دار ابن كثير، دمشق ـــــ بيروت، الطبعة الأولى 2002.
6) الدرر الفاخرة بمآثر الملوك العلويين بفاس الزاهرة، ابن زيدان عبد الرحمن، المطبعة الاقتصادية، الرباط، 1937.
7) مجلة الرسالة، دار الرسالة، القاهرة، العدد310، سنة 1939.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى