اللصوصية وقطع الطرق ببلاد المغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط

الباحث الدكتور يونس شيكر

      أطروحة دكتوراه في التاريخ، مختبر التاريخ والمجتمع في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، السنة الجامعية: 1442/1443ـــ 2020/2021
تقرير المناقشة
      شكلت اللصوصية وقطع الطرق ببلاد المغرب الإسلاميخلال العصر الوسيط إحدى مظاهر الأزمات الاجتماعية، وعلى رأسها احتدام التناقض بين المجتمع والسلطة، بسبب فشل هذه الأخيرة في تحقيق العدالة الاجتماعية، ومن ثم كان رد فعل بعض الشرائح المتضررة اقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسيا، هو الانتفاض في وجه هذه الظروف المزرية، فكانت أعمال السرقة والعنفمن أشكال هذا الرفض والانتفاض، كما كانت ممارسة السلب والنهب وخاصة في أموال السلطة الحاكمة ورجالاتها وبعض الأثرياء، تعبيرا عن الظلم الاجتماعي الذي طال هذه الشريحة العريضة، التي شكلت بذلك طرفا سياسيا خفيا أحيانا وظاهرا أحيانا أخرى، أي تبعا لمدى قوة أو ضعف السلطة الحاكمة، الشيء الذي يؤكده ارتباط أعمال اللصوصية والخوف في الطرقات بأيام الاضطرابات السياسية وضعف الدولة، مما يوحي بدور فئة اللصوص وقطاع الطرق ـ إلى جانب فئات مهمشة أخرى ـ في هذه الاضطرابات وهذا الضعف، وبالتالي دورها وإسهامها في اللعبة السياسية بصفة عامة.
      وقد وقفنا خلال دراستنا لهذه القضية ببلاد المغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط على مجموعة من النتائج يمكن إجمالها فيما يلي:
أن اللصوصية وقطع الطرق ببلاد المغرب الاسلامي خلال العصر الوسيط هي نتاجلظروف طبيعية واجتماعية وسياسية مختلفة (متضافرة).
أ ـ فعلى المستوى السياسي: تتحمل السلطة الحاكمةالمسؤولية الاقتصادية والأمنية في بروز تلك السلوكات (الظاهرة)، ونقصد بالمسؤولية الاقتصادية؛ ما ينتج عن تدبير الدولةاللامتكافئ للثروات، والجشع في فرض الضرائب، من اختلالات في البناء الاجتماعي، المتمظهر أساسا في التباين الطبقي الصارخ بين فئة الخاصة الحاكمة، والعامة من الرعية، التي من أحشائها خرجت فئة اللصوص الفقراء الذين حاولوا سد خصاصتهم عن طريق السرقة.
      أما المسؤولية الأمنية للدولة فتتعلق بتخلي السلطة عن مسؤوليتها في حفظ الأمن في البوادي والمدن والطرقات التجاريةوخاصة خلال مرحلة ضعفها، مما كان يفسح المجال لكثير من الناس لاقتحام عالم اللصوصية أمام غياب الوازع، وكذلك يتعلق الأمر هنا بالمبالغة في ممارسة العقاب بدعوى فرض الأمن إبان مرحلة القوة، الشيء الذي ينتج عنه ظهور جماعة من الحاقدين على السلطة الحاكمة تواجه عنف السلطة بعنف مضاد لا يخلوا من عيث وسلب ونهب.
ب ـ أما الظروف الطبيعية والاجتماعية: فيمكن تلخيص دورها في الفقر على اعتبار أن أفعال اللصوصية والسرقة لا تصدر إلا عن حاجة ماسة إلى ضروريات الحياة من طعام ولباس،سواء تعلق الأمر بفقر المجال وهنا نتحدث عن مسؤولية البيئة القاسية والظروف الطبيعية المتسمة بالندرة والقحولة والجدب في ميلاد سلوكات العنف والخروج على السلطة، والعيش على هامش القانون، وبالتالي تدبير موارد العيش عن طريق قطع السبل، وهي حالة تلك الجماعات من الناس الأكثر ظعنا، والأبعد في القفر مجالا سواء كانوا عربا أو بربرا.
      أو الفقر الناتج عن الكوارث الطبيعية وما ينتج عنها من جوائح وأوبئة ومجاعات، تساهم في تعميق جرح المجتمع، فيزداد مرضًا، هذا المرض الذي من جملة أعراضه؛ ميلاد الظواهر الاجتماعية السلبية كاللصوصية وقطع الطرق.
      أو الفقر الاقتصادي والاجتماعي المزمن عند بعض الفئات من المجتمع من المفلسين والمنكوبين والمشردين، الذين تكالبت عليهم الأرزاء فما عاد أمام بعضهم من حل إلا الانخراط في صفوف أهل الدعارة والحرابة لكسب قوتهم اليومي، وبالتالي شكلت اللصوصية عندهم إحدى مظاهر الفقر من جهة، وإحدى وسائل محاربته من جهة ثانية كما شكلت إحدى سبل العيش عند هؤلاء الفقراء.
أن حضور اللصوصية وقطع الطرق على مسرح الأحداث الاجتماعية والتاريخية كان قويا وخاصة في بعض المراحل والمحطات من تاريخ المرحلة المدروسة، ويدل على ذلك آثارها وتنوع أشكالها.
أ ـ لصوصية جماعية: أكثر تنظيما وخطورة واحترافية، مُورست من طرف مجموعة من الفئات التي تعيش على السرقة كمورد رئيسي لضمان بقائها، ومن هؤلاء؛ بعض عصابات اللصوص وقطاع الطرق التي كانت تنشط تحت إمرة زعيم مشهور، وكذا بعض الأقوام الظاعنين أهل النجعة والبداوة،بالإضافة إلى بعض الجماعات الناقمة على السلطة الحاكمة ورجالاتهاوالتي جعلت من الحرابة وسيلة لتقويض أركان الدولة القائمة، واتخذت من فئة اللصوص والفقراء والمهمشين الناقمين على السلطة وقودا لإشعال نار الثورة، والذين وظفوا نشاطهم ضد السلطة الحاكمة بشكل دائم مادام جور السلطان قائما.
ب ـ لصوصية فردية: أقل تنظيما وتأثيرا من الأولى، وقد مارسها بعض الفقراء المعدمين سواء في الأمصار أو البوادي، وكذا بعض العبيد الآبقين الذين لم يجدوا بدا في سبيل تأمين قوتهم اليومي من تعاطي السرقات والخطف والنهب، بالإضافة إلى بعض الفتاك المشاهير الذين كان يسمع صيتهم هنا وهناك، وتتحاكى عنهم الألسن لشهرتهم.
ج ـ لصوصية ظرفية: تتزامن وأوقات الاضطرابات، سواء كانت طبيعية كالجوائح والكوارث كما أسلفنا، أو اضطرابات سياسية، تصادف المراحل الانتقالية من حكم الدول، وخلالها تنتشر اللصوصية على نطاق واسع، بسبب تجرّئ فئة جديدة على ممارسة السرقة تنضاف إلى اللصوص المحترفين، ومنهم أولئك الذين قذفت بهم تلك الجوائح والفتن إلى التشرد، ومنهم أيضا الجنود وخدام الدولة الذين ومع ضعف أحوال دولتهم وانتقاض أمرهم بكثرة الثوار عليهم والفتن، ما عادوا يكتفون بالضرائب أو يزاحمون التجار في تجاراتهم، بل يعكفون على مشاركة اللصوص في سرقاتهم، ويوفرون الغطاء والحماية لتلك السرقات العائد ريعها إلى بيوت أموالهم.
3ـ أن هذا الحضور القوي للصوصية وقطع الطرق ببلاد المغرب الإسلامي كان له آثار وعواقب سواء على المجتمع أو الأنشطة الانتاجية.
أ ـ تضرر الأنشطة الانتاجية؛ فقد ساهمت اللصوصية إلى جانب عوامل أخرى كالجوائح والحروب في تضرر النشاط الاقتصادي.
ـ التجارة: لاحظناأن النشاط التجاري كان المتضرر الأول من انعدام الأمن في الطرق، لأن السبل التجارية إذا أصبحت مخوفة انقطع سير التجار عبرها وركدت التجارة والعكس صحيح، أي إذا تأمنت الطرقات وكثرت الخيرات تحركت التجارة، وهذه قاعدة يمكن تطبيقها على التجارة الداخلية والخارجية، وفي كل المجال المغاربي وعبر كل الحقب التاريخية، وإذا كان الأمر كذلك فيمكننا القول بأن زمن الرخاء التجاري في بلاد المغرب الإسلامي الوسيط كان قصيرا مقارنة مع فترات الركود، وذلك بقياس عدد الأزمات والفتن السياسية والعسكرية وكثرة الطواعين والقحوط والجوائح عموما التي ضربت المنطقة على مدار المرحلة موضوع الدراسة والتي تعتبر فترة مواتية لانتعاش أعمال السلب والنهب وإفساد السبل.
ـ الفلاحة: فقد شكلت اللصوصية وقطع الطرق التي كانت تضرب أحيانا المحاصيل الفلاحية وقطعان الماشية واحدة من أصعب المخاوف عند شريحة واسعة من ساكنة المنطقة، ألا وهي الساكنة القروية، التي اتخذت من الفلاحة نشاطا رئيسيا في معيشها اليومي، وقد نتج عن خوف الفلاح المغاربي آنذاك مجموعة من ردود الأفعال ساهمت في إحداث عدة تغيرات على المشهد الفلاحي والقروي عموما، كما ساهمت بالإضافة إلى غيرها من المصاعب التي كانت تعصف بالإنتاج الفلاحي، في تضرر القطاعات الانتاجية المرتبطة بالفلاحة مثل الصنائع والحرف
ـ الحرف: يمكن القول أن الحرف والحرفيينبالمنطقة قد كابدوا المحن الشديدة، جراء عوامل شتى ومتضافرة، فأفلسوا وأفقروا وتوقفت أيديهم عن الإبداع خلال كل مرحلة ضعف مرت بها البلاد، وما رافقها من فتن، ثم عادت أيديهم إلى الحركة والنشاط من  جديد خلال كل مرحلة  قوة وما رافقها من أمن ورخاء، غير أننا لا نجرؤ على القول إن السبب الوحيد لتضرر هؤلاء الحرفيين خلال الفتن هو ما يقع في أموالهم ودور صناعتهم من سرقات ونهب، بل هو عامل أساس من جملة العوامل التي تجتمع إذا توفرت لها شروط الاجتماع، لتفعل فعلها في صفوف هذه الفئة الاجتماعية، التي كانت تعيش على الكفاف، وتتأثر سريعا بكل نائبة تنزل بها أو بجوارها، ولا شك أن قطع السبل عن المدن، أو انتشار السرقات داخلها، كان من النوائب التي تكالبت على أصحاب الحرف في تاريخنا الوسيط، كما أن الحرف لم تنج من السرقة حتى من أصحابها وبعض العاملين بها، موظِّفين من أجل ذلك ألوانا من الحيل التي أرقت العامة والخاصة وحارت في ضبطها
ب ـ تضرر المجتمع(الخوف): فقدكابد أفراد المجتمع سواء في سفرهم أو حضرهم، صعابا جمة لا تقل أهمية عمّا عانته السلطة من جراء أفعال اللصوص والمحاربين، ومن بين مظاهر تلك المعاناة نذكر؛ فساد السبل والخوف الشديد الذي رافق الناس في أسفارهم،وحرمهم من التنقل لأغراض اقتصادية واجتماعية وروحية، بالإضافة إلى دخول اللصوص على الناس في بيوتهم بعد تنقيبها، وما ينتج عنه خوف ورعبجراء ما كان يصاحب تلك الدخلات من إزهاق الأرواح وضياع الأموال، ناهيك عن سرقة الأسواق والغلات الفلاحية، التي اعتبرت موردا أساسيا للتزود بالطعام سواء لأصحابها أو للصوص، بالإضافة إلى خوفالمسافرون والتجار منتجريدهم من الثيابعلى يد اللصوص والمحاربين.
4ـ أن تلك المخاوف والآثار والعواقب خلفت مجموعة من المواقف وردود الأفعال تجاه اللصوص وقطاع الطرق سواء من جانب السلطة أو المجتمع.
ـ عند المجتمع: وأمام تلك المعاناة والخوف، لجأ المجتمع إلى تدبير أمن الطرق بشتى الوسائل، وتنوعت لديه آليات الحماية المبتكرة سواء في البوادي أو المدن؛ ففي البادية حاول السكان تطبيق أعراف القبيلة على السراق والمحاربين، مع الاستعانة بحراسةالبيادروالمواشي والأُرحي والبساتين، واستئجار الخفارة في الطرق أو دفع ما كان يعرف “بثمن الطريق”.
      أما في المدن فقد تحصن الناس داخل أسوار حواضرهم وأبراجها، وحفروا المطامير داخل البيوت وقرب المساجد، ونصبوا حراس الليل يطوفون على الأزقة. كما تجسد عند المجتمع دور الصلحاء في تجاوز أزمة الخوف في الطرقات نظرا لقوة اعتقاد الناس فيهم، ويقوم هذا الدور أساسا على توظيف الكرامة والدعاء للتغلب على قاطع الطريق سواء كان إنسانا أو حيوانا، وهكذا أصبح هؤلاء الأولياء وقبورهم ملجأ أساسيا للحد من مخاطر اللصوص أو معاقبتهم أو إرجاع المسروقات، أو حتى إرجاع اللص إلى الطريق المستقيم وتوبته على يد الولي آنذاك.
ب ـ عند السلطة: أما مواقف السلطة من اللصوص وقطاع الطرق، فقد تأرجح بين ثلاث مواقف تبعا لمراحلها العمرية.
ـ ففي مرحلة التأسيس تبدأ العصبية الناشئة باستغلال آفة اللصوصية وانعدام الأمن وانتشار الخوف كورقة سياسية لكسب مشروعية الحكم، فتظهر بمظهر المجاهد ضد اللصوص وأهل الفساد.
ـ لكن عند بلوغها مرحلة القوة تعمل على تسليط سلاحها الشرعي والعسكري ضد كل من يتحدى هذه القوة، ومن بينهم اللصوص، فتراها تلاحقهم بشتى أنواع التعذيب والتنكيل والعقوبات، في تناقض صارخ بين ما تدعو إليه النصوص التشريعية من عقوبات، وكيفية تنزيلها أو إنزالها باللصوص وقطاع الطرق وغيرهم.
ـ أما إذا ضعفت فإنها تتذبذب بين محاولة استعراض القوة ضد اللصوص، حفاظا على هيبتها،( تدمير قرية”الجمعة” بكاملها، حجر النسر) وبين السقوط في ممارسة اللصوصية رسميا، ومشاركة اللصوص أموالهم، وتسخير آلياتها ورجالاتها من أجل ذلك، بهدف الرفع من مداخيلها بعد انكسار اقتصادها.
      وفي الختام أود القول بأن هذه النتائج تبقى نسبية، وليست حقائق علمية يقينية مطلقة، لأن هذه الدراسة حاولت وبكل الوسائل التي أتيحت لها تسليط أضواء أولية على قضية اللصوصية وقطع الطرق ببلاد المغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط، هذه الأضواء والنتائج قد تتطور مع القادم من الدراسات والأبحاث سواء من طرفنا أو من طرف باحثين آخرين.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى