الإيمان مبعث الآمال

د. زيد الشريف
أستاذ التفسير بجامعة ابن طفيل القنيطرة

مقدمة

وسنتناول الآية الكريمة في محورين اثنين:
المحور الأول: العقيدة الإيمانية وأثرها في طرد اليأس والتخفيف من وطأة الأزمات النازلة بالإنسان.
     إن الحديث في ظل ظروف الابتلاءات بالمصائب، التي يعيشها الإنسان في الواقع سواء كانت فردية أو جماعية، ينبغي أن يستوقف المؤمن باعتباره خَلْقا فاعلا مؤثرا ومتأثرا في هذا الكون، عند التصور الشامل الذي بنت على أساسه الشريعة الإسلامية نفسية المؤمن، انطلاقا من الإيمان الجازم بأن لهذا الكون خالقا عليما قادرا لطيفا، فهذا الاعتقاد كفيل إذا صح  بأن ينجى الإنسان من الشك والحيرة، في تفسير الظواهر الكونية والمقادير الجارية والأزمات النفسية، التي قد يعجز الإنسان عن إدراك تفسير لها، و تذهله عن تبين ماهيتها، بله إيجاد الحلول الناجعة لها وتجاوز وطأتها.  
     فخالق الكون عليم بكل صغيرة وكبيرة تقع في ملكه ولا تخرج عن مشيئته، وهو سبحانه لطيف بخلقه يريد بهم الخير واليسر والتخفيف عنهم فيما جرت به أقداره، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]، كما أن اليأس مجاف للإيمان بالله قرين للكفربه، قال تعالى مؤكدا هذه الحقيقة: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، وقال القشيري في معنى اسم الله اللطيف؛ العالم بدقائق الأمور وغوامضها وهو الملطف المحسن([1])، وسمَّى  تفسيره الماتع بـ”لطائف الإشارات” وقوفا منه على معاني اللطف الإلهي في الكتاب العزيز.
     وإذا كان من المعلوم أن العبد جاهل بدقائق الأمور ومآلاتها، والله تعالى عالم بذلك، فإن هذا يجعل الإنسان يعيش راحة وطمأنينة، تبعده عن الجزع والخوف مما يجري حوله، من الأمور والمقادير المَخُوفة التي يعجز الإنسان اتجاهها، فيصير ينسج الخرافات والإشاعات حولها فتؤثر على نفسيته تأثيرا سلبيا، مما يزيد الطين بلة فيتضاعف استحكام هذه الظاهرة الكونية، المقدرة من الله تعالى على عباده وتزداد عليهم شدتها.
     لكن عندما يعلم العبد أن صفة الخلق عند الله تعالى، مقرونة بالأساس بالصفات الإلهية الثلاث: العلم والرحمة واللطف الخفي، فلا يمكن إذ ذاك إلا أن يعتقد أن هذه المقادير التي تجري فينا نعمة ونقمة باعثها الرحمة الإلهية، وإن ظهرت بلبوس الابتلاء بالنقم والأزمات، فإنها تتحول عند الرضا بها والتزام نهج الشرع في مواجهتها إلى محض العطية والرحمة.
     والقرآن الكريم جلى لنا هذه الحقائق في كثير من سوره، التي توقفنا جميعها على عجيب تقديره تعالى، من حيث إنه يُوصِلُ إلى الأشياء بضدها، فيوصل البِر والخير إلى الخلق على وجه يدِق إدراكه، فيستعجل الإنسان ويقنط ويفقد الأمل، وينظر إلى ما يصيبه على أنه شر محض لا لطف فيه، بدافع ما تقرر في طبيعة البشر وتصرفاتهم الجبلية من العجلة والقنوط والهلع، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19 – 21].
     ففي سورة الشورى يقول تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشورى: 18، 19].
     فهذه الآيات تبين لنا بدلالة المفهوم، كيف أن صِنف المنكرين لليوم الآخر، أَمِنُوا في الدنيا من أهوال اليوم الآخر واستهتروا به، لكنَّ أمنهم في الدنيا أوصلهم للخوف يوم القيامة ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ [الشورى: 18].
     وكيف أن صنف المؤمنين باليوم الآخر، أصابهم الفزع والجزع منه في الدنيا، ولكنهم أَمِنوا يوم القيامة ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ [الشورى: 18].
     فشدة الأمن والاستهتار أوصلت لشدة الخوف والجزع، وعِظم الخوف والإشفاق من حساب الله وعقابه أوصل المؤمنين لغاية الأمن والطمأنينة.
     ولذلك يقول تعالى في كتابه: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].
     هذه الآية المُطَمئنة للمؤمن، المرغبة له في التسليم التام للخالق سبحانه تجاه مقاديره المؤلمة، والمرهِّبة في نفس الوقت من الجزع من كل ما يمكن أن يصيب الإنسان في حياته، لأن للكون خالقا متصرفا فيه اتصف بالحكمة والرحمة واللطف، وفهم هذه المعاني من الآية الكريمة يتحقق من خلال أسلوبين لغويين اثنين:
1) أسلوب القصر في قوله تعالى: “ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله” باستعمال النفي والاستثناء: ﴿ما-إلا﴾ للدلالة على أن كل فعل يقع في الكون سواء كان خيرا أو شرا، نقمة أو نعمة، فهو من الله تعالى على الحقيقة أجراه على هذا المنوال، ليبتلي به الإنسان فيكسب من خلاله الحسنات أو السيئات، وإن نُسبت هذه الأفعال إلى الخلق في الظاهر، فهي أسباب فارغة من التأثير على الحقيقة، بل مؤثرة مجازا لما أودع الله تعالى فيها من تأثير، ولو شاء أن يفرغها من قوة التأثير لفعلَ، كما فعل في النار التي صارت بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام، وليس الأمر كما يزعم الطبائعيون الذين يرون أن الأفعال الواقعة في الكون هي على الحقيقة مؤثرة بذاتها.
2) أسلوب الشرط في قوله تعالى: “ومن يؤمن بالله يهد قلبه”، هذا الشرط المعلقُ أساسا بالقوة العالمة في الإنسان، والتي تعني إعمال الفكر والنظر من أجل إدراك أسرار الخلق، والوقوف على عظمة الخالق سبحانه، فهي دعوة للبشرية للانخراط في سلك المتعلمين الباحثين عن المعرفة، لأن مشكلة الإنسان عندما يغيب عنه مكون العلم ويعوضه بالإشاعات والجهالات، فإنه يشقى ويصعب في نفس الوقت انضباطه للمعقول من التصرفات والأحوال النفسية السوية، وتقل سرعة استجابته لما فيه المصلحة العامة، بل يغلب عليه بشكل رئيس ترجيح المصلحة الفردية المقيتة المبنية على الأنانية، ففعل الشرط تجاه هذه المصائب إنما هو الإيمان بالله تعالى، هذا الإيمان الضامن للقوة العلمية في الإنسان، والتي نادى بها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ مهد بعثته، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، فحتى يستحق العبد جواب الشرط الذي هو بمثابة الجزاء والامتياز عن غيره من البشر، وهو قوله: “يهد قلبه”، لابد من الإيمان المطلق أن كل ما يقع من نعمة ونقمة هي من عند البارئ تعالى.
فالمنح محمولة في المحن، والنعم مضمنة في النقم، شريطة أن يكون العبد مقابلا لها بقوة علمية، مدركة بأن العَالِمَ المطلق هو البارئ تعالى، وأن ننطلق كذلك من قوة عملية كادحة، باعثة على الأخذ بالأسباب في الكون، والسبق إليها وعدم التفريط فيها، والإيمان بقدرة الله تعالى على تصريفها أنى يشاء، امتثالا لقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
ويكفي بيانا لهذه المعاني أن نقف مع قصة موسى -عليه السلام- والخضر، لنفهم معاني اللطف الإلهي المودعة فيما يظهر للعباد أنه نقمة، ولكنه في العلم الإلهي نِعَمٌ وعطايا، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا﴾ [الكهف: 71]، وقال: “حتى إذا لقيا غلاما فقتله” وقال: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ [الكهف: 77].
فالأمل في ضمان حقوق المساكين في البحر متوقف على خرق السفينة، و الأمل في ضمان حق الوالدين في البِرِّ والإيمان متوقف على قتل الغلام، و الأمل في ضمان حق اليتامى متوقف على إقامة الجدار، بدون أخذ مقابل ممن لا يستحقون الإحسان، وكلها خبايا وأسرار رحمانية يقصد بها تعزيز ارتباط الأمل بالعمل وإن بدا في الظاهر تنافر بينهما، ويقصد بها أيضا رد الإنسان إلى رشده وطمأنة نفسيته، وتبصير كل إنسان مغرور بنفسه وبعقله وفكره، فإن المطلقية لله وحده وليس للمخلوق علم مطلق وقدرة تامة على التحكم في مجريات الكون، قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].
المحور الثاني: دور الإيمان في تعبئة الجماعة لإشاعة الأمل والتفاعل الإيجابي مع الأقدار المؤلمة.
     إن الحديث عن المقاربة الإسلامية للمسئولية الجماعية في مواجهة البلايا والمصائب اللاحقة بالأفراد والجماعة، يجرنا إلى الاستضاءة بقوله تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 63]، هذه الآية التي تحتم علينا الوقوف عند مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية، والمتمثل في وحدة الأمة، وبالضبط استشراف المعاني المثالية لمفهوم الجسد الواحد، الوارد وصفه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”([2]). فالمجتمع المسلم لا تفاضل بين أفراده إلا من حيث المهمة والأثر.
     ولذلك لم يكن عبثا أن يعمد المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى تكثيف جهوده في المراحل الأولى من الدعوة من أجل ترسيخ مفهوم الجسد الواحد، في ظل واقعِ قومٍ طُبعوا على الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيء، حتى لا يكاد يأتلف منهم قلبان، ومع ذلك جمع كلمتهم صلى الله عليه وسلم على عقيدة التوحيد الموجبة للتَّحاب والتواد، وأن يرموا عن قوس واحدة، حيث أماط عنهم التباغض والتماقت، وسما بهم نحو الحب في الله تعالى، واستشعار حالة الجسد الواحد باعتباره مقصدا عظيما يتربون عليه، فذابت البغضاء فيما بينهم وحل محلها المحبة والتكافل والتعاون.
     إن شريعة الإسلام بمبادئها ومُثلها، كانت قادرة على أن تُنسي العرب كل تلك الضغائن والأحقاد، وصيرتهم أنصارا وعادوا أعوانا، ولم يكن ذلك ليكون لولا أن الإسلام وجَّه العقول إلى أن من كان وجهه إلى الدنيا حريصا عليها كان معاديا لأكثر الخلق، ومن كان وجهه إلى خدمة عباد الله تعالى لم يكن معاديا لأحد، على أن الوصفة السحرية لشخصية المؤمن، أنه وُجِّهَ لأن يعتقد أن العبيد كلهم أسرى في قبضة القضاء والقدر الإلهي، الذي لا يفرض العداوة ولا يمنع المحبة، ويفسح دوما المجال للإحسان للغير ومد اليد له للتعاون على البر والتقوى، فلا داعي لمعاداة أحد، ولهذا اعتبر الزمخشري التأليف بين قلوب من بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة على نبوته([3]).
     وهو أمر أشار إليه الرهط من الخزرج، عندما جاؤوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا، فقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك([4]).
     فالإسلام دين الأمة الواحدة، والجسد المتكامل المتعاون الذي يجود بما عنده على من ليس عنده، إذ عندما تعصف بالمسلمين عواصف الابتلاء بالأقدار، يجدون في رصيدهم الإيماني ما يكفيهم ليقفوا مع بعضهم البعض، ويتكاثفوا جميعا لهدف واحد هو حماية وجودهم وضمان استقرارهم، متناسين كل سبب من شأنه أن يفرق بينهم، أو يوقف إصلاحهم لأنفسهم أو لبلدهم، أو إغاثة ملهوفهم وإعانة محتاجهم.
     ولنا أن نقف عند أهم الاختبارات، التي امْتُحِن فيها الصحابة الكرام، في البرهنة على معنى الأمة الواحدة والجسد الواحد، ولقد أثبت التاريخ أنهم كانوا في مستوى ما ابتلوا به، وبرهنوا على نموذج متفرد في البشرية، فعندما فتح الله على المسلمين مكة وتجمعت هوازن بعدها لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت معركة تبوك، التي سماها الله تعالى في كتابه بالعسرة، قال سبحانه: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ [التوبة: 117].
     ففي مواجهة هذا العدو الذي يهدد جسد الأمة الإسلامية آنذاك في وجودها، يطلعنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن معاني التضحية والتفاني في وقت الشدة، في خدمة المصلحة العامة ودفع الضرر المشترك من طرف الصحابة الكرام، فقال: حصلت عسرة الظَّهر وعسرة الماء وعسرة الزاد: فأما عسرة الظهر فكان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يتعقبونه بينهم، وأما عسرة الزاد فربما مَصَّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة، وأما عسرة الماء فقد خرجوا في قيظ شديد وأصابهم عطش شديد حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه([5]).
     إن عقائد الإسلام ومُثُلَه، تُعَلِّم المسلمين عند البلايا والمصائب والخطوب العظيمة، أن لا يبقى بينهم مجال للأنانية والفردانية، التي تطابق مقولة (نفسي وبعدي الطوفان)، وإنما تربي العقيدة الإسلامية دائما على ترجيح المصلحة العامة، والانخراط فيها والانضواء تحت مظلتها، وإن كان ذلك سببا في التضحية بالمصالح الشخصية، وعندما يحصل ذلك بين المسلمين، تتحرر نفوسهم من أغلال الخوف والقلق والفزع، من متغيرات الحياة وتقلباتها الصادمة، لتسموا إلى رحابة النفعية المحمودة وبناء الأمل المشرق في مجتمع متعاون ومتكافل وسعيد.
     فالسنة النبوية تعلمنا ضرورة انخراط المؤمنين في الإصلاح، وكبح المفسدين عن الإفساد، خاصة في زمان الابتلاء العام بانتشار الآفات، والانحرافات الاجتماعية المهلكة، التي تسمم أجواء المجتمع وتملؤها بما يشقي النفوس ويجلب لها التعاسة والأكدار ومختلف المعانات. وخير شاهد على هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا”([6]).
     إن المسلم في زمان الابتلاء بالأزمات والفقر والأمراض وغيرها، أحوج ما يكون إلى تفعيل هذه المعاني الكبرى للشريعة الإسلامية، والمتمثلة في كون الأمة جسدا واحدا، والأخذ بالمصلحة العامة وردع النفس عن بواعث الأنانية والطمع والجشع، وخيانة الأمانات والاستهتار بالحقوق والواجبات، وأن من رام تحصيل السعادة الفردية فعليه أن يسعى قدر المستطاع في تحقيق السعادة الجماعية، بحيث تصبح الجماعة معنية بالسعادة الفردية ومسؤولة عنها، ويكون الفرد معنيا بالسعادة الجماعية ومسؤولا عنها.
     إن فلسفة الإسلام، اعتمدت في مستواها التربوي على دينامية الفرد المسلم، من حيث تربيتُه على التزام أداء الأمانة، والمسارعة في الخيرات، والتي يكون نفعها متعديا لغيره، بحيث يزداد لديه الرجاء في ترتيب الأجر العظيم والثواب الجزيل على صنائع الخير، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، فهذا ما يجلب راحة قلبية وثقة في النفس وبعدا عن كل تشاؤم يوقع في القنوط والقلق وتلاشي الأمل.
     والشريعة الإسلامية طافحة بالتنويه بالأعمال، التي يتعدى نفعها للآخرين، إذ تُرتب عليها الأجر العظيم، وخير مثال على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله”([7]). وحديث “مَن ستَر أخاه المسلمَ ستَره اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ ومَن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج اللهُ عنه كُربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه”([8])، وجِماع هذه الحقيقة قوله صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلى الله، أنفعهم للناس، يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا، أو يطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -مسجد المدينة- شهرا”([9])، وخاصة إذا كان هذا النفع في ظروف البلاء باشتداد الحاجة والتدهور الاقتصادي، وتعطل كثير من أبواب الرزق عند كثير من الناس، فإن الأجر يكون مضاعفا كلما انتشر التراحم بين العباد، وتحقق التعاون والتآزر، وإطفاء كل بوادر البغضاء والغل والحقد بين الناس، بسبب اتساع الفوارق الطبقية داخل المجتمع.
بل إن من أعظم الصور إشراقا في تاريخ الصحابة الكرام، في باب التضحية والتفاني في تطبيق معاني الجسد الواحد، ما جاء عن الأشعريين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانوا إذا نفد زادهم في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية لا يفضلون بعضهم على بعض([10]).
فيشترك في الطعام كل الأصناف من الناس، من ليس عنده ومن عنده القليل ومن عنده الكثير، تحقيقا للتعاون في وقت الابتلاءات المختلفة، وزرعا للإيجابية والأمل في النفوس المكلومة.
وأيضا نجد القرآن الكريم ندب إلى الإنفاق في السراء والضراء، خاصة باعتباره وسيلة لراحة المعطي بإدخال السرور على المحتاجين والفقراء، وانتعاش أمله في تحقيق حياة تسودها الرحمة في الدنيا وحياة أخرى يتنعم فيها بالسعادة الخالدة في الآخرة، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133، 134]، فمن معاني المسارعة إلى الطاعة، أن ينفق المسلمون من خالص أموالهم في حال الضراء وفقر الناس وحاجتهم، فكثرة الأجر مع شدة النَّصَب والتعب، ووفرة السعادة والثقة وامتداد الأمل ينشأ عن كثرة الإحسان وإسداء المعروف للخلق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])  لطائف الإشارات: الطبعة الثالثة، 3/349.
([2]) – صحيح مسلم (4/ 1999).
([3]) – الزمخشري. الكشاف. 2/233.
([4]) – ابن هشام. السيرة النبوية. 1/429.
([5]) – ابن عادل، اللباب في علوم الكتاب، 10/227.
([6]) – البخاري. الصحيح. 3/139.
([7]) – أحمد بن حنبل. المسند. 8/402
([8]) صحيح ابن حبان 534، وأخرجه مسلم (2699) مطولاً باختلاف يسير.
 ([9]) الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (8/ 71) .
([10]) – النسائي. السنن الكبرى. 8/104.
قائمة المراجع:
1) القرآن الكريم برواية ورش.
2) أحمد بن حنبل. المسند. مؤسسة الرسالة. 1415هـ.
3) ابن هشام. السيرة النبوية. شركة الطباعة الفنية المتحدة. 1416هـ.
4) ابن عادل، اللباب في علوم الكتاب. دار الكتب العلمية. 1418هـ.
5) البخاري. الصحيح. دار طوق النجاة. 1422هـ.
6) القشيري. لطائف الإشارات. الطبعة الثالثة. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
7) الطبراني. المعجم الأوسط. دار الحرمين.
8) الزمخشري. الكشاف. دار الكتاب العربي. 1407هـ.
9) النسائي. السنن الكبرى. مؤسسة الرسالة. 1421هـ.

‫6 تعليقات

  1. مقالكم أستاذي الكريم يحمل بين ثناياه رؤية علمية رصينة وأفكارًا عميقة تستوقف القارئ للتأمل. لقد أبرزتم بإسهامكم هذا قدرة البحث الأكاديمي على معالجة قضايا معاصرة بلغة واضحة ومنهجية دقيقة، مما يثري المعرفة ويحفّز النقاش العلمي الهادف..
    ومما يلفت الانتباه في مقالتكم هو حرصكم على الجمع بين الجانب النظري والتحليل الواقعي، الأمر الذي يعكس عمق خبرتكم الأكاديمية وحضوركم العلمي المتميز.. ولعل أهم ما يميز مقالتكم هو أنها تفتح آفاقًا جديدة للتفكير، وتشجع القراء والباحثين على إعادة النظر في العديد من المسائل في حياتنا اليومية..

    1. شكرا جزيلا على حسن تفاعلكم وقراءتكم للمقال ولقد سررت بهذه الملاحظات التي أسأل الله تعالى أن يعينني حتى أثمنها ويستفيد منها أكبر عدد ممكن من الناس..دام لكم التوفيق والسداد

      1. الشكر موصول لكم أستاذنا العزيز على رحابة صدركم وتقديركم ، مقالكم إضافة نوعية ومصدر إلهام، خصوصا في أيامنا هذه أصبحنا في أمس الحاجة لعلماء أمثالكم يصححون مسار الإنسان المسلم في كثير من النوازل التي تعترضه ..نسأل الله أن ينفع بعلمكم ويزيدكم توفيقًا.

  2. حين تتلاقى أنوار الوحي مع نبض الواقع، يتولد فكر ناضج يعانق القلوب قبل العقول.
    فما أجمل أن يقرأ الواقع بنور القرآن.
    فجزى الله الدكتور سيدي زيد خير الجزاء.

اترك رداً على عبد العزيز موتشو إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى