وجوه الائتلاف والاختلاف بين الأفلاطونية والرشدية السياسية

الأستاذ جمال أمين
باحث في الفكر والأدب

مقدمة
      لكن المسالة السياسية في تراثه لم تنل اهتماما أكاديميا من طرف الباحثين المعاصرين. رغم شرحه الضافي لأفلاطون في جمهوريته. واطلاعه الناقد علي معطيات التيار الفلسفي السياسي العربي (ابن سينا. ابن باجه. ابن طفيل. الفارابي…..). ورغم توليه مناصب سياسية في عصره سواء بقرطبة أو العاصمة مراكش زمن الموحدين. وهو ما يمثل تغييبا لزاوية فكرية مهمة في تراثه. تمتلك بطانتها الفكرية المستمدة من المنظومة الأفلاطونية (كتاب الجمهورية). وتمتلك رصيدها الواقعي في ممارسته السياسية ببلاط ساسة عصره (قاضيا للقضاة. ومستشارا علميا. ومربيا لأمراء الموحدين). وهو ما تنص عليه هذه المخطوطة الرشدية الشارحة لجمهورية أفلاطون بعيون فارابية (كتاب المدينة الفاضلة). والتي نروم التعريف بها في هذا المقال. وما تحفل به من أوجه الاتفاق والاختلاف مع الطرح الأفلاطوني على مستوي أشكال الحكم وطبيعة الحاكم. وغيرها من مفردات الفكر السياسي. كي تكون حافزا للباحثين في إفرادها بدراسات تحليلية مقارنة لها ولغيرها من الكتب التراثية التي تشكل تيارا كبيرا لدي المتكلمين. والفقهاء والفلاسفة وعلماء التاريخ. بمختلف تجنيساته التي وسمته بها الدراسات المعاصرة (الأحكام السلطانية. مرايا الامراء. ادب الراعي والرعية……).
1-الأفلاطونية: إضاءة مدخلية.
      تعززت الأفلاطونية بفضل ما اكتسبته من علوم كونية ووجودية، وما استوعبته من مبادئ (سقراطية) بأبعاد سياسية وقانونية نافذة، شملت الإنسان والنفس والأخلاق، مما جعلها موردا هاما لأرباب التشريع والتقنين، وقادة الأمم، وزعماء الممالك والشعوب، ومن مؤلفاتها التي تعكس هذه المنظومة السياسية: كتاب “السياسة” و”القوانين”، ثم قبل هذا المؤلف الشهير “الجمهورية الفاضلة” الذي بسط فيه أفلاطون أفكاره بسطا جليا واضحا في صيغة نظامية تعتمد “الحوارية” الطويلة الموزعة على اثني عشر باب.
      وهذا الشكل الحواري هو دأبه في مؤلفاته، لكونها ثمرة “الشفاهية” التي اعتمد عليها في صياغة تأملاته الذاتية، وثمرة “الخطابة” الحوارية التي صاغ بها معظم مؤلفاته.
      ومن المصادر الثقافية الهامة التي اعتمدها أفلاطون في بناء جمهوريته ما أشار إليه الأستاذ محمد فريد وجدي بقوله: “… ومما لسنا في حاجة إلى التنبيه عليه، هو أن كل ما في تلك الكتب التشريعية ليس اختراعا لأفلاطون أو لأستاذه بحيث لم يسبقهما فيه أحد، فإن المعلوم أن أفلاطون أخذ شيئا كثيرا عن نظامات ليكورج متشرع “اسبارطا” من ممالك اليونان القديمة، وأخذ أيضا عن قوانين السفسطائية القدماء حصصا مناسبة، وقد نقل تلميذه “أرسطو” نفسه أن هيبوداموس” هو أول من كتب كتابا في الجمهورية الفاضلة”[1].
2- الضروري في السياسة بين جدوائية التأسيس وقابلية التجنيس:
      شكل (مختصر) ابن رشد استنقاذا لهذا المؤلف الثمين من الضياع، وتعزيزا علميا لتاريخ التراكمات الفلسفية السياسية العربية، واستئنافا للنظر الفلسفي في أسئلة السياسة، وانخراطا انتاجيا في مسارات عربية سابقة: “المدينة الفاضلة” للفرابي، و”الروحانية” لإخوان الصفا، و”العادلة” لابن سينا، و”الكاملة” لابن باجة.
      ورغم ضياع النسخة العربية الأصلية كما يؤكد ذلك محمد عابد الجابري في قوله “… أما مختصره بجمهورية أفلاطون فما زال مفقودا، وهو في حكم الضائع، فظلت الساحة الثقافية العربية محرومة منه إلى أن نشرنا قبل سنتين ترجمة له من العبرية إلى العربية أنجزها صديقنا الدكتور أحمد شحلان ضمن مشروع “إعادة نشر المؤلفات الأصيلة لابن رشد” الذي أشرفنا عليه …”[2].
      رغم هذا الضياع، فقد أتاحت هذه الترجمة فرصة تقديم مجهود ابن رشد العلمي في النقل الراصد الأمين لأبرز ملامح “الجمهورية” فيما هو كلي وعام “الأقاويل العلمية”، وتجاوز الشواهد التاريخية البيئية المرتبطة بالأحداث والأساطير والاستطرادات اليونانية، وتبييئها بشواهد تاريخية عربية، ومساهمة في إنتاج النص ومحاورته فلسفيا، واتخاذه قناعا فكريا غيريا لتشكيل نظرية رشدية سياسية”.. وهكذا اختصر المقالات العشر، التي يتألف منها أصل الكتاب، في ثلاثة: عرض في الأولى البرنامج الذي خطه أفلاطون لتشييد المدينة الفاضلة، وعرض في الثانية الشروط والخصال الضرورية في رئيس المدينة الفاضلة، وخصص الثالثة لتحليل أنواع السياسات والمقارنة بينها وبين رؤسائها …، فلم يكن ابن رشد في هذا الكتاب مجرد مختصر أو ملخص أو شارح، بل كان أيضا صاحب رأي، يوافق أفلاطون حينا ويخالفه حينا، يختصر كلامه تارة ويضيف إليه تارة أخرى، وإذا نحن جمعنا ما كتبه ابن رشد من عنده خارج الأفق الأفلاطوني، فسنجده يناهز ثلث الكتاب، وهكذا فإضافة إلى المقدمة التي كتبها من عنده وفقرات أخرى كثيرة، في المقالة الأولى والثالثة، كتب من عنده أيضا أكثر من ثلثي المقالة الثانية التي خصصها لما قلنا لتكوين وتعليم الفيلسوف رئيس المدينة الفاضلة”.[3]
      كما كان ابن رشد ناقلا أمينا للخطاطة النظامية للمدينة الفاضلة “الجمهورية” في بنيتها التركيبية” … فقد لاحظ أنه كما أن النفس هي “عند أفلاطون – جُماع ثلاثة قوى هي: القوة الناطقة العاقلة ومركزها الرأس، والقوة الغضبية ومركزها الصدر “القلب”، والقوة الشهوانية ومركزها البطن، فالمدينة كذلك عبارة عن ثلاثة قوى “طبقات”: الرؤساء وهم رأسها، والجنود وهم قوتها الغضبية والدفاعية، والمنتجون للمؤن والقائمون بالخدمة وهم الفلاحون والصناع. وبما أن فضيلة القوة العاقلة في النفس هي المعرفة وبالتالي الحكمة، فكذلك يجب أن تكون فضيلة الطبقة المترئسة على المدينة هي العلم والحكمة، وإذن فالرؤساء يجب أن يكونوا حكماء، فلاسفة، وبالمثل فكما أن فضيلة القوة الغضبية في النفس هي الشجاعة، فيجب أن تكون فضيلة الحفظة، وهم الجند والموظفون والرؤساء، هي الشجاعة، ويجب أن يربوا على هذا الأساس، وأيضا فبما أن القوة الشهوانية في النفس توجد بجميع الطبقات، فكذلك يجب أن تلتزم الطبقات المنتجة فضيلة هذه القوة وهي: العفة.
      وبما أن الفضيلة التي تنتج من اجتماع الحكمة والشجاعة والعفة على مستوى النفس هي: العدل، أي التوافق والتوازن بين هذه القوى، وقيام كل منها بما هي مؤهلة له، فكذلك الشأن في المدينة، يكون نظام الحكم فيها عادلا إذا تحقق فيها التوازن والتوافق بين طبقاتها، بحيث يقوم كل منها بما هو مؤهل له، لا يتقاعس دونه ولا يتعداه، وهذا إنما يحصل عندما الحكمة هي الرئيس…[4]، أما القالب التجنيسي الذي نقترح وضع هذا المؤلف السياسي فيه هو الجنس المسمى: “مرايا الأمراء”، وذلك لحضور مجموعة من المسوغات:
ـ المسوغ السلطاني: حيث وضع ابن رشد هذا المؤلف وغيره من الترجمات الفلسفية بأمر من الخليفة الموحدي: أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وتشجيع منه، مما دفع ابن رشد إلى تضمينه رؤاه السياسية الإصلاحية، ورؤيته الحضارية للمداولة والتبدل الحتمي للدول وفق سنن ونظم كونية ثابتة ومطردة، كي تكون مرآة كاشفة للوجه الآخر المرتبط بمنطق الانهيارات الحضارية، وشروط تبدلاتها.
ـ المسوغ الاعتباري: حيث قام ابن رشد بتشريح النظام النفسي وقواه الفاعلة، وطرائق التصفية والتسامي والترويض، ثم قام بتجسيره إلى النظام السياسي الخارجي وفق المعادلة الأرسطية المؤكدة للترابط السببي بين النظامين (من كان له عبيد فأحسن سياستهم فوله الجند، ومن كانت له ضيعة فأحسن تدبيرها فوله الخراج). فأنظمة التحكم في الذات جسر عبور للتصريف الناجح لأنظمة السلطة بكل أبعادها.
ـ المسوغ التعليمي: ويرتبط ببيداغوجية تعليم صغار الأمراء الموحدين في المدارس الخاصة بمراكش، وتزويدهم بالآراء والحكم السابقة، والتجارب الحضارية الماضية، وتعليمهم “الأدب والحكمة” و”آداب السلطان” و”رسومه” وشروط صلاحه ومسببات فساده. يقول د. هشام نشابه “… من الطبيعي لرجل له شهرة ابن رشد، ونشأ في بيت من العلماء، أن يكون قد جلس للتدريس إذ لا بد أن يكون الأمراء الموحدون قد استفادوا منه في تدريس الطلاب في المدارس التي أنشؤوها في عاصمة دولتهم (مراكش)، خاصة وأن ابن رشد كان يتفق مع توجه الموحدين في مواقفهم الفكرية منذ حاول مؤسس هذه الدولة محمد بن تومرت التوفيق بين الوحي والعقل… ولعل هذا الأسلوب التعليمي هو الذي أساء إلى علاقته مع الأمراء الذين قربوه، فاعتبروا أسلوب المعلم في الحديث مع الأمراء والسلاطين استعلاء عليهم أو حطا لمكانتهم.[5]
ـ المسوغ التأليفي العلمي: فمؤلفه لا يمثل نشازا في سياق التآليف السياسية العربية السابقة واللاحقة، بل يعد من مفردات التراكم المعرفي المعزز لهذا الجنس الكلاسيكي في شتى ربوع الخلافة الإسلامية بأجنحتها المشرقية والمغربية، ومن هذه المؤلفات التي تعكس تقاليد هذا الجنس: “التاج في أخلاق الملوك” المنسوب للجاحظ، و”سر الأسرار” المنسوب إلى أرسطو، و”العهود اليونانية” لأحمد يوسف بن ابراهيم و”التبر المسبوك” للغزالي، و”السعادة والإسعاد” للعامري و”سلوك المالك” لابن أبي ربيع…
ـ المسوغ الفلسفي الكلامي: وفي ذلك يقول د. رضوان السيد: “… من المعلوم أن جنس “مرايا الأمراء” هذا يبدو في صيغ وأشكال كثيرة يهمنا منها شكلان يعود كلاهما إلى العصور الهيلنستية، فالقسم الأول يعتمد التدبير أساسا لبناء المؤلف شكليا وتركيبه، وهكذا فإن الكاتب في هذا القسم يبني كتابه هرميا، بادئا بالحديث عن سياسة أو تدبير الرجل نفسه، أما القسم الثاني من أقسام هذا الجنس الأدبي فهو ذاك الذي يعتمد الدولة منطلقا لنصائحه وتعاليمه…، وربما أمكن القول أن هذين الشكلين من أشكال الكتابة في السياسة والتدبير يعودان في أصلهما البعيد رغم الهيلنستية الشديدة في روحهما وتفاصيلهما إلى أفلاطون وأرسطو على اختلاف نظرتهما إلى الإنسان والسلطة والمجتمع والدولة فيما يتصل بأشكال العلاقة فيما بينهما، ومدى بروز الشخصية المعنوية المستقلة لكل منهما، ففي حين تبدأ الدولة عند أفلاطون من الفرد المنتمي إلى طبقة اجتماعية تشكل مع الطبقات الأخرى مجتمعا فدولة، يبدأ أرسطو من المجتمع معتبرا الدولة هدفا لا يتحقق الخير في الاجتماع البشري بدونه… وهكذا فإن التأكيد على تدبير الفرد ودوره يعود إلى أفلاطون، في حين تتقدم الدولة في اعتبار أرسطو كل ما عداها..[6] 
3) محاور الائتلاف والاختلاف بين الأفلاطونية والرشدية سياسيا:
      انطلاقا من وجود الائتلاف بين الرؤية الرشدية والأفلاطونية في بنية الحكم وعناصره المكونة له، ومن وجوه الاختلاف على مستوى الإضافات والتعليقات والشواهد التاريخية، سنقوم بالقبض على أبرز هذه الوجوه في بعديها الائتلافي والاختلافي وفق المحاور الآتية:
أ- أشكال الحكم وطبيعة الحاكم:
      كان الدافع وراء اتباعية ابن رشد نمط الرؤية الأفلاطونية سياسيا في تشريحه لأشكال الحكم الخمسة، والإطناب في تحليلها، والتأشير عليها بالشواهد التاريخية المستمدة من التاريخ العربي، كما يرى د.عبري بقوله: فقد أراد به أن يطلع الخليفة على آراء أفلاطون وآرائه الشخصية في الكيفية التي تقام بها دولة ويدافع عنها، وتكون هذه الدولة فاضلة أو حتى مثلى…”[7].
      وهذه الأشكال السياسية الخمسة تسير وفق منطق حتمي التحولات من الأفضل إلى الأرذل حسب المنظور الأفلاطوني الذي قام بتحليل كيفية التحول من مدينة الملكية الدستورية “الملك الفيلسوف” إلى مدينة الكرامة والمجد “ثيوقراطي” إلى مدينة الأقلية من الأغنياء “أرستقراطية” إلى المدينة الجماعية “الديمقراطية” إلى مدينة وحدانية التسلط “الدكتاتورية”.
      وانطلاقا من المقالة الثالثة التي خصصها لهذا الموضوع، قام ابن رشد بقراءة هذه الأشكال الأفلاطونية وفق اجتهادات فارابية، استقراء للتجربة التاريخية العربية، فتمكن من تقديم أشكال أخرى للحكم الفاضل سياسيا منها:
ـ حكم الملك الفيلسوف: “… ففي الجمهورية الفاضلة، يفضل أفلاطون الحكم الملكي أي حكم الفرد الواحد، على مبدأ حكم الأعيان أي “الأرستقراطي”، وعلى المبدأ الجمهوري أي “الديموقراطي”، لأن الملك الصالح يحكم أمته أحسن من أن يحكمها أي قانون كان، أنه صالح لأن يلم بكل التغيرات الطارئة والعلاقات المتجددة، ويقابلها بما تتطلبه من رأي أو عمل، بخلاف القانون، فإنه ثابت لا يتغير وجامدلا يلين…”.[8]
وقد عدد ابن رشد إحدى عشرة خصلة لا بد أن تتوفر في رئيس المدينة الفاضلة، يقول د. صالح مصباح: “وقد قدم ابن رشد تحليلا معمقا لهذه الفضائل بعد تعداد خصال الفيلسوف نأى به بعيدا عن نص أفلاطون مجددا وقربه من أرسطو والفارابي…”.[9]
ـ حكم “الملك في الحقيقة” فهو أقل من سابقه في اتصافه بكل الخصال السابقة، ولذلك يسميه ابن رشد “ملكا”، ويسمى حكمه “الملكي على الحقيقة”: “… فليس من الضروري أن يكون الفيلسوف حاكما لكي يكون الحكم فاضلا، ولكن لا بد من الحكمة العملية أو التعقل وما يرتبط به من مهارة، ومن اقتدار بدني وذهني، وهذا يأتي في المرتبة الثانية عند ابن رشد بعد الحاكم الفيلسوف…”. [10]
ـ حكم الأخيار: وهو حكم ذو طبيعة اجتماعية لأنه “رئاسة الأخيار وذوي الفضل” وقد اعتمد ابن رشد على الفرابي في تحديد ملامح هذا الحكم الجماعي الفاضل، “… فالحكم الفاضل يمكن أن يتحقق عندما يستطيع جمع من الأفاضل أن يحكم المدينة، بأن يكون أحدهم يعطي بحكمته غاية المدنية، والثاني بتعقله يعطي ما يؤدي إلى تلك الغاية، والثالث تكون له جودة إقناع، والرابع جودة تخييل، والخامس تكون له القدرة على الجهاد، وتشترك الجماعة في الحفاظ على المدينة، إذ توقفها على السعادة الحقيقية التي ينبغي تحصيلها…”.[11]
ـ حكم ملك السنة: أي الحاكم / الفقيه، وهو الذي يفتقر لشرط “الحكمة” وشرط “جودة الإقناع” وجودة التخيل والتعقل” كما يرى الفرابي، لكنه في المقابل يستوعب “علم الفقه” بمقاصده وحدوده، وقدرته الاجتهادية على معايرة المستجدات في تدبير العمران باستنباط الأحكام الشرعية المناسبة، مع توفر شرط آخر هو “الجهاد” والقدرة عليه، يقول: “… قد يتفق أيضا أن يكون رئيس هذه المدينة ممن لم يصل إلى هذه المرتبة، أعني رفعة الملك. غير أنه يكون عارفا بالشرائع التي سنها المشرع الأول “النبي”، ويكون له قدرة على استنباط ما لم يصرح به المشرع الأول، فتوى فتوى وحكما حكما، وهذا النوع من العلوم هو المسمى عندنا صناعة الفقه، كما تكون له القدرة على الجهاد، فهذا يسمى ملك السنة وقد يتفق ألا تجتمع هاتان الصفتان الأخيرتان في رجل واحد، بل قد يكون أحدهما مجاهدا دون أن يكون فقيها، والآخر فقيها دون أن يكون مجاهدا، فهما بالضرورة يشتركان في الرئاسة لما كان عليه الأمر عند كثير من ملوك الإسلام…”.[12]
ـ حكم النبي: وقد أشار ابن رشد إلى وظيفته السياسية باقتضاب.
      وقد أسند ابن رشد اجتهاداته السياسية في دائرة “الحكم الفاضل” بمراتبه المتعددة، بأمثلة تاريخية من تجارب الحكم بالمغرب، فاعتبر مؤسس الدولة المرابطية “يوسف ابن تاشفين” ملك السنة، لكونه جمع بين الفقه والجهاد، كما اعتبر مؤسسا الدولة الموحدية يمثلان نفس نمط الحكم، فالمهدي بن تومرت “فقيه” وعبد المؤمن بن علي “مجاهد”.
      هذه الأشكال السياسية الفاضلة تتحول إلى سياسة الكرامة “أي طلب الشرف والمجد” أو بتعبير آخر الحكم الثيوقراطي المؤسس على مفهم العصبية الخلدوني، يقول: “… وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحول السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية، من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية، ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر… فهذا النوع من الاجتماعات هو اجتماع الكرامة، يندر أن يوجد في أمة بسيطة، ولذلك يصعب أن توجد مثل هذه المدن، ولتعلم أن هذا النوع من السياسات ساد عندنا كثيرا…”[13].
وقد قدم لذلك أمثلة تاريخية: حكم معاوية بن أبي سفيان ـ تاشفين بن يوسف ـ المنصور بن أبي عامر…
      ومن سياسة الكرامة يقع التحول إلى سياسة “القلة من الأغنياء” أي الأرستقراطية الحاكمة. يقول: “… والاجتماعات في كثير من الممالك الإسلامية اليوم، إنما هي اجتماعات بيوتات لا غير، وإنما بقي لهم من النواميس الناموس الذي يحفظ عليهم حقوقهم الأولى “كسب الضروري من العيش”. وبين أن هذه المدينة كل أموالها أموال بيوتات، ولذلك يضطرون في بعض الأحيان إلى أن يخرجوا من البيت ما غلى من ممتلكاته ويدفعونه إلى من يقاتل عنهم، فيعرض من ذلك مكوس وغرامات، والقوم من هؤلاء صنفان: صنف يعرف بالعامة، وآخر يعرف بالسادة، كما كان عليه الحال عند أهل فارس، وكما عليه الحال في كثير من مدننا، وفي هذه الحال يسب سادتهم عامتهم، ويمعن السادة في الاستيلاء على الأموال إلى أن يؤدي بهم الأمر إلى التسلط، كما يعرض هذا في زمننا هذا وفي مدننا هذه…”.[14]
      فهذا الحكم يقوم بالضرورة على الانقسام إلى صنف الجمهور من جهة، وإلى صنف السادة من جهة ثانية والذي يسمى “حكم النذالة” عند الفارابي.
      ثم يقع التحول إلى سياسة “المدينة الجماعية” وهي التجربة الدمقراطية التي يستقل أهلها بأنفسهم، ويسوسون أمورهم حسب ما يقرره رؤساء بيوتهم، وفي ذلك يقول: “… بين أن البيت في هذه المدينة هو المقصد الأول، والمدينة إنما هي من أجله، ولذلك كانت المدينة أسروية” تقوم على الحسب والنسب” في معناها الكامل، على عكس ما عليه الحال في المدينة الفاضلة، ولكل من أهل هذه المدينة، إذا أراد، أن يستمتع بجميع الطيبات، ولعل أغلب هذه المدن الموجودة اليوم هي جماعية، والرجل الذي هو فيها سيد حقا هو من كانت له قدرة تدبير، بها يمكن كل واحد من بلوغ شهوته ويحفظها له، وهذه المدينة هي التي ترى العامة فيها أنها أحق بالحرية، لأن كل واحد منهم فيها يعتقد، ببادئ الرأي، أنه أحق بأن يكون حرا…”.[15]
      كما يشير إلى دور أهلها في قمع رغبات الحاكم التسلطية عبر الرقابة الجماعية الصارمة: “… وإذا اتفق مع هذا أن كان هؤلاء الرؤساء لا يقسمون فيهم بالعدل هذه الأموال المأخوذة منهم، وكانوا يتسلطون عليهم، كان ذلك أشد الأمور قسوة على العامة، وعندها يعملون للإطاحة بهؤلاء الرؤساء…”[16]
      ومن سياسة “المدينة الجماعية” يقع التحول إلى سياسة مدينة “الغلبة” وهي الدكتاتورية أو “التغلب” عند الفارابي، وفيها يقول ابن رشد: “… وليس الأمر كذلك في مدينة الغلبة، إذ لا يطلب السادة فيها للعامة غرضا، وإنما يطلبون أغراض أنفسهم فحسب…”، إلى أن يقول: “… ولهذا يعظم هذا الفعل منه على الجماعة فيرون أن فعله هو عكس ما قصدوه من تسليمه الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا بذلك أن يحميهم من ذوي اليسار، ويقربهم من ذوي الفضل والخير وأمثالهم من أهل المدينة – لما كان هو من أصحاب الحكم والسلطان – ليستتب أمرهم بسياسته وسياسة خدامه، ولذلك تسعى الجماعة الغاضبة عندها إلى إخراجه من مدينتهم، فيضطر هو إلى استعبادهم والاستيلاء على عتادهم وآلة سلاحهم، فيصير حال الجماعة معه كما يقول المثل: كالمستجير من الرمضاء بالنار، وذلك أن الجماعة إنما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه، فإذا هي تقع في استعباد أكثر قسوة، وهذه الأعمال هي جميعها من أعمال رئاسة وحدانية التسلط، وهي شيء بين في أهل زمننا هذا ليس بالقول فحسب، ولكن أيضا بالحس والمشاهدة…”[17]. ويستدل ابن رشد على هذه المفاهيم التاريخية العميقة بشواهد من عصره فيقول: “… وأنت تدرك جليا من الحكم الجماعي زمننا، أنه يمكن أن يتحول على الدوام إلى طغيان، فعلى سبيل المثال خذ الحكم الموجود في بلادنا “قرطبة” بعد سنة 500هـ، حيث كان الحكم جماعيا، ولكن الحال انقلبت بعد 540هـ إلى الطغيان… ومثلما حدث لسكان بلدنا مع المدعو ابن عانية.. وأن الطغيان واضح في تصرفات حكم زمننا وليس من خلال القول فحسب …”.[18]
      ورغم التسلسل السياسي الجبري الذي سايره ابن رشد لأشكال الحكم بأمثلته التاريخية وتعليقاته الفكرية الضافية، فإنه وقف منه موقف الحذر العلمي باعتبار أن مثل هذه السببية القاطعة الحاسمة تناسب الظواهر الطبيعية في سننها الكيفية المنضبطة، أما الظواهر الإنسانية بنسبيتها واحتماليتها، فإنها تخضع لمعيار “الأخلاقية”، أي بمدى تحقق الجماعة بأخلاقيات الفضائل أو الرذائل، أو بالسنن النفسية التي تخضع لتحولات وتبدلات غير منضبطة بشكل حتمي، تبعا لعوامل إيدلوجية وتربوية وثقافية أو حضارية عموما، وفي هذا يقول: “… ويتبين لك ذلك مما عندنا من الممتلكات والأخلاق الطارئة بعد العام الأربعين (540هـ تاريخ استيلاء الموحدين على قرطبة) لدى أصحاب السيادة والمراتب، وذلك أنه لما انقطعت أسباب السياسة الكرامية التي نشئوا عليها، صار أمرهم إلى الدنيات التي هم عليها الآن، وإنما يثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية وهم فيهم قلة…”.[19]
ب- المسألة النسائية بين الإنصاف والإجحاف:
      رغم حالات الإجحاف الطاغية التي أظلت المسألة النسائية زمن الفيلسوفين في “أثينا” اليونانية و”قرطبة” العربية، فإنهما اتفقا فلسفيا على إنصاف المرأة، وإبراز أبعادها التنموية، التي تتجاوز المؤسسة الأسرية الصغيرة إلى المؤسسة المجتمعية الكبيرة بكل واجباتها ومهامها المتعددة، فهي من المنظور الأفلاطوني كما يقول الأستاذ فريد وجدي: “… أما بالنسبة للنساء فقد فاه عنهم الفيلسوف بكلمات فاق بها في الشعور أهل زمانه بمراحل، وإن كان مقلدا في ذلك ما علمه من حالة النساء وحريتهن في جمهورية (اسبارطا) اليونانية، وذلك أنه وهبهن حقوقا لم تكن لهن من قبل، واعترف لهن بمزايا كانت لذلك العهد ضائعة لا يسلم بها أحد فقد قال: أن هذا الجنس الذي نحجر عليه، ولا نسمح له في العادة إلا بالاشتغال بالأشياء التافهة والشؤون المنزلية… أليس فيه استعدادا لأمور أشرف، ووظائف أرقى؟ ألم يعطنا أمثلة كثيرة من الشجاعة والعقل والرقي في كل ضرب من ضروب الفضيلة ؟ ولكنه لم يغال في المسير في تيار هذا الشعور الجميل الذي خالف فيه عموم أهل عصره، بل رجع فاعترف بأنها أحط من الرجل منزلة، وأقل منه درجة، ولم يقصر في الإشارة والنصيحة بإعطاء النساء ذات العلوم التي تدرس للرجال كما كان الشأن في مدينة “لا سيد يمونيا” اليونانية عاصمة جمهورية “أسبارطا”، وقرر بأن يشاركن الرجال في الألاعيب الرياضية، وفي التمرينات العسكرية أيضا…”.[20] أما من المنظور الرشدي، فقد عرض هذه المسألة من وجوهها الثلاث: المبدئية والعملية والشرعية.
      فمن الناحية المبدئية: “قلت إن النساء من جهة أنهن والرجال نوع واحد في الغاية الإنسانية، فإنهن بالضرورة يشتركن وإياهم فيها، وإن اختلفن عنهم بعض الاختلاف، أعني أن الرجال أكثر كدا في الأعمال الإنسانية من النساء، وإن لم يكن من غير الممتنع أن تكون النساء أكثر حذقا في بعض الأعمال، كما يظن ذلك في فن الموسيقى العملية، ولذلك يقال أن الألحان تبلغ كمالها إذا أنشأها الرجال وغنتها النساء، فإن كان ذلك كذلك، وكان طبع النساء والرجال طبعا واحدا في النوع، وكان الطبع الواحد بالنوع إنما يقصد به في المدينة العمل الواحد، فمن البين إذن أن النساء يقمن في هذه المدينة بالأعمال نفسها التي يقوم بها الرجال، إلا أنه بما أنهن أضعف منهم فقد ينبغي أن يكلفن من الأعمال بأقلها مشقة…”.
      ومن الناحية العملية: “إنا نرى نساء يشاركن الرجال في الصنائع، إلا أنهن في هذا أقل منهم قوة، وإن كان معظم النساء أشد حذقا من الرجال في بعض الصنائع، كما في صناعة النسيج والخياطة وغيرهما، وأما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرهما فذلك بين من حال ساكني البراري وأهل الثغور، ومثل هذا ما جبلت عليه بعض من النساء من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رئاسة”.
      ومن الناحية الشرعية: “فإنه لما ظن أن يكون هذا الصنف نادرا في النساء، منعت بعض الشرائع أن يجعل فيهن الإمامة، أعني الإمامة الكبرى، ولإمكان وجود هذا بينهن أبعدت ذلك بعض الشرائع”.[21]
ج- إمكانية قيام الجمهورية الفاضلة بين الشك الأفلاطوني واليقين الرشدي:
      ينطلق الشك الأفلاطوني من صعوبة الحصول على رئيس للمدينة الفاضلة تتوفر فيه الشروط والخصال المذكورة، ومن صعوبة قيام مدينة فاضلة يحكمها فيلسوف، باعتبار أن الناس في زمنه يقاومون الفلسفة ولا يستفيدون منها، لكن ابن رشد يخالفه لاستناده إلى يقينية تاريخية استمدها من تجربته المعاصرة فيقول: “… يمكن أن نربي أناسا بهذه الصفات الطبيعية التي وصفناهم بها، ومع ذلك ينشئون وقد اختاروا الناموس العام المشترك الذي لا مناص لأمة من هذه الأمم من اختياره، وتكون مع ذلك شريعتهم الخاصة بهم غير مخالفة الشرائع الإنسانية، وتكون الفلسفة قد بلغت على عهدهم غايتها، وذلك مما هو عليه الحال في زمننا هذا، وفي ملتنا هذه، فإذا ما اتفق لمثل هؤلاء أن يكونوا أصحاب حكومة، وذلك في زمن لا ينقطع، صار ممكنا أن توجد هذه المدينة…”.[22]
4- الإضافات الرشدية ومحددات نتائجها:
      إن قيمة هذه الإضافات السياسية الرشدية التي بثت من خلال ملخص الجمهورية، تتمثل في تحقيق مجموعة من النتائج الفكرية الكبرى الآتية:
ـ نتائج استئنافية لمقتضيات التفلسف “الفارابية” في السياسة “… فلا يعمد إلى تحكيم الجمهورية على شرح الجمهورية، أو إلى تعيير الشرح بمعيار المتن، وإنما هو كما قلنا نفاذ أول يعنيه أن يباشر النصين بما هما غير أن يعالجهما تعقبا لنفسه، أي تعقبا للفكر الذي يجري فيهما بما هو فكر مفكر فيه…”.[23]
ـ نتائج تصحيحية: بالنقد الضمني والصريح لمسار الفلسفة السياسية بعد المعلم الثاني، وتقويم التجارب السياسية في عصره.
ـ نتائج كليانية: تتجاوز “الجزئي” و”المحدود” في التلخيص، وترتبط بالكلي والعام في سيرورة وحركية المسألة السياسية، كما يتجاوز الأطر الزمانية والمكانية الخاصة بالفيلسوفين، وإمكانية تبييئها في أي لحظة تاريخية.
ـ نتائج “أمثلية” وليس “مثالية”: تروم تحقيق نظام سياسي أمثل قابل للتحقق قصد الحصول على السعادة.
المراجــــع:
ـ محمد فريد وجدي – الإسلام في عصر العلم. دار الكتاب العربي بيروت، ط: 3. 1967م.
ـ محمد عابد الجابري – العقل الأخلاقي العربي المركز الثقافي العربي ط: 1، 2001م.
ـ عروض لباحثين عرب – ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته. ج II – I، منشورات المجمع الثقافي بتونس ط: 1. 1999م.
ـ أبو بكر المرادي ـ الإشارة إلى أدب الإمارة. دراسة وتحقيق: د. رضوان السيد، دار الطليعة، ط 1، 1981م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – محمد فريد وجدي – الإسلام في عصر العلم ص 126 – دار الكتاب العربي، بيروت ط 3، 1967م.
[2] –  محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، ص 381، ط 1-2001، المركز الثقافي العربي.
[3] – نفس المرجع، ص 383.
[4] – نفسه.
 – [5] هشام نشابة – التربية عند ابن رشد – من كتاب ابن رشد، فيلسوف الشرق والغرب، ص 349، ج1، ط1، 1999م.
[6] – المرادي: الإشارة إلى أدب الإمارة، دراسة وتحقيق، د. رضوان السيد – ص 18، ط1، دار الطليعة.
[7] – عبري – دور الفيلسوف في المجتمع في نظر ابن رشد – من كتاب ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب، منشورات المجمع الثقافي بتونس، ط 1999م،  ج1، ص 330.
 [8]- محمد فريد وجدي : المرجع السابق.
[9] – صالح مصباح – ابن رشد وأشكال الحكم السياسي، ص 303 من كتاب ابن رشد، ج1.
[10] – نفسه، ص 304.
[11] – نفسه.
[12] – محمد عابد الجابري – المرجع السابق، ص 389.
[13]–    نفسه.
[14] – نفسه ص 390.
[15] – نفسه ص 389.
[16] – نفسه ص 390.
[17] – نفسه ص 391.
[18]- مصباح – المرجع السابق، ص 311.
[19] – الجابري: المرجع السابق ص 392.
[20] – وجدي : المرجع السابق ص 128.
[21] – الجابري: المرجع السابق ص 387-388.
[22] – نفسه ص 384.
[23] – محمد محجوب : شرح ابن رشد لجمهورية أفلاطون من كتاب ابن رشد، ص 16، ج2.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى