هذا ما سأحاول الإجابة عنه فـي هذا المقال الذي لخصت فيه أسباب الانحراف العقدي فـي خمسة أسباب، وهي: أولا: الجهل بالدين وبمقاصده، وهذا أساس كل انحراف وخلاف وشقاق في البشرية عامة، وفي الأمة الإسلامية خاصة، فالجهل بالدين سواء كان جهلا بسيطا أو مركبا من أعظم أسباب الخلاف، فإن (الاختلاف في القواعد الكلية لا يقع…بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها، والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني…)[2]. وأما (الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول…، لا يكون ذلك من راسخ في العلم)[3]. ومما يؤكد هذا ما أورده الإمام الشاطبي في كتابه “الاعتصام” عن إبراهيم التيمي أنه قال: (خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟، فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة… وكتابها واحد، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما أنزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان كذلك اختلفوا…)[4]. وعلق الإمام الشاطبي على كلام ابن عباس السابق قائلا: (ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها، فلم يتعد ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها، فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا، إذ لا دليل عليه من الشريعة فضلوا وأضلوا)[5]. وممن وقع في الانحراف بهذا السبب في الأمة الإسلامية طائفة الخوارج، حيث إنهم لم يفهموا نصوص القرآن الكريم ونصوص الحديث النبوي فهما صحيحا، فخرجوا بأحكام خاطئة وأحدثوا في الأمة فتنا عظيمة، ما زالت الأمة إلى اليوم تعاني منها. ومما يدل على خطورة مثل هذا الفهم السيئ للنصوص الذي وقع فيه الخوارج أن نافعا رحمه الله سئل عن رأي ابن عمر رضي الله عنهما في الخوارج فقال: (يراهم شرارَ خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين)[6]. وروى الإمام البغوي عن الشعبي أنه قال: (خرج ناس من أهل الكوفة إلى الجبانة يتعبدون، واتخذوا مسجدا، وبنوا بنيانا، فأتاهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقالوا: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن، لقد سرنا أن تزورنا، قال: ما أتيتكم زائرا، ولست بالذي أترك حتى يهدم مسجد الجبان، إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم، من كان يجاهد العدو ومن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ومن كان يقيم الحدود؟، ارجعوا فتعلَّموا ممن هو أعلم منكم، وعلِّموا من أنتم أعلم منهم. قال: واسترجع فما برح حتى قلع أبنيتهم وردهم)[7]. وقال الحسن البصري: (العامل على غير علم كالسائر على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا…[8] ، قال الشاطبي معلقا على كلام الحسن البصري: يعني الخوارج… لأنهم قرأوا القرآن ولم يتفقهوا)[9]. والشاهد مما تقدم أن الجهل بالدين وبمقاصده، له أثر بالغ وخطير في نشوء الخلاف والانحراف في أمتنا المسلمة. ثانيا: الجهل باللغة العربية التي هي لغة الوحي، فالجهل باللغة العربية التي هي وسيلة لفهم ما أنزل الله، وما تكلم به رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان وما يزال من أسباب الانحراف والخلاف والافتراق في الأمة. ولأهمية معرفة اللغة العربية وكون ذلك من شروط الفهم السليم لنصوص الوحي، جعل الإمام الشاطبي يؤكد على هذا الأمر ويــــــبـــدئ فيه ويعيـــــــد في غــــيـــــر موطــــن من كتابيـــــه: الاعتصام والموافقات. وسأكتفي هنا بإيراد نص من نصوصه فـي كتابه الاعتصام، الذي يبين فيه (أن الله عز وجل أنزل القرآن عربيا لا عجمة فيه، بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، قال الله تعالى:﴿إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 2]. وكان المنزل عليه القرآن عربيا أفصح من نطق بالضاد وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذين بعث فيهم عربا أيضا، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم…، وإذا كان كذلك فلا يُفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق، الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها)[10]. وأورد الإمام جلال الدين السيوطي كلاما نفيسا للإمام الشافعي، قال فيه: (ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس)[11]. وعلق السيوطي على كلام الشافعي بقوله: (أشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع، وأن سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها، من المعاني والبيان والبديع…)[12]. ومن الوقائع العملية التي توضح ذلك أن عمرو بن عبيد، جاء إلى أبي عمرو بن العلاء يناظره في وجوب عذاب الفاسق، فقال له يا أبا عمرو: الله يخلف وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال، وذكر آية وعيد، فقال أبو عمرو: من العجمة أُتيت، الوعد غير الإيعاد ثم أنشد: وإنـي وإنْ أوعـَدْتُــــه أو وعَـدْتـُه لمَـُخْلِف إيعــــادي ومُنْجـــز مَــوْعـــــدي[13] وخلاصة الكلام أن الجهل باللغة العربية وقواعدها وأساليبها المختلفة، كان من أسباب ظهور الانحراف والخلاف، ومن ذلك مثلا أن خطأ المرجئة قد نجم من جهلهم باصطلاحات اللغة العربية، فزعموا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، وأن التصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب فقط، فالأعمال عندهم حسب هذا الفهم ليست من الإيمان. ثالثا: اتبــــــــــــاع الـــــهــــوى، وهو سبب كل بلاء حلَّ بالأمم، وقد ذمه الله ونهى عنه وبين أنه طريق المشركين، كما قال تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 23]. وقوله تعالـى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: 15]. ومما يوضح خطورة اتباع الهوى، أنه أصل الزيغ عن صراط الله المستقيم، كما قال تعالـى: ﴿هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]. يقول الإمام ابن تيمية: (وأما أهل البدع فهم أهل أهواء وشبهات، يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى، فكل فريق منهم قد أصَّلَ لنفسه أصلَ دين وضعه؛ إما برأيه وقياسه الذي يسميه عقليات، وإما بذوقه وهواه الذي يسميه ذوقيات، وإما بما يتأوله من القرآن ويحرف فيه الكلم عن مواضعه، ويقول إنه إنما يتبع القرآن كالخوارج، وإما بما يدعيه من الحديث والسنة ويكون كذبا وضعيفا كما يدعيه الروافض من النص والآيات، وكثير ممن يكون قد وضع دينه برأيه أو ذوقه، يحتج من القرآن بما يتأوله على غير تأويله ويجعل ذلك حجة لا عمدة، وعمدته في الباطن على رأيه كالجهمية والمعتزلة في الصفات والأفعال…)[14]. رابعا: ظهـــور الجـــــــدل فــــــي الــدين: فهذا أيضا من أسباب ظهور الخلاف والانحـــــــــــــــــراف في الأمــــــــــــة الإسلامية، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الجدل في الدين، وأخبـر أنه سبب ضلال من قبلنا من الأمم. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج كأنما فقيء في وجهه حب الرمان، فقال: بهذا أمرتم!! أو بهذا بعثتم!! أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض!! إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا)[15]. وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الـجـــــــدل، ثــم تـــــــلا:﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58][16]. وسلك الصحابة ومن اقتفى أثرهم هذا المنهج السديد، فلم يجادلوا في الدين، وحذروا غيرهم من المراء والجدال في الدين. قال وهب بن منبه رحمه الله:(كنت أنا وعكرمة نقود ابن عباس بعدما ذهب بصــــــره حتى دخلنا المسجـــــــد الحرام فإذا قوم يمترون في حلقة لهم، فقال لنا: أُمَّـــا بي حلقة المراء، فانطلقنا به إليهم، فوقف عليهم، فقال: ما علمتم أن لله عباداً أصمتهم خشيته من غير عي ولا بَكم؟ وأنهم لهم العلماء الفصحاء النبلاء الطلقاء، ثـــــــــم قال: فأين أنتم منهم)[17]. وهذا إمامنا مالك رضي الله عنه يحكي عنه تلميذه معن بن عيسى ما يدل على نفوره من الجدال في الدين وإعراضه عن مجادلة أهل الأهواء فيقول: (انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يوما من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له: أبو الحورية، كان يُتهم بالإرجاء. فقال: يا أبا عبد الله، اسمع مني شيئا أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي، قال: فإن غلبتني. قال: إن غلبتك اتبعني. قال: فإن جاء رجل آخر، فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه، فقال مالك رحمه الله تعالى: يا عبد الله بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل)[18]. وهناك آثار أخرى لا يتسع المقام لذكرها، وهي تُجمع على التحذير من الجدال في الدين، لأنه سبب الخلاف والانحراف الذي يصيب الأمة ويصرفها عن أداء رسالتها. خامسا: الخـلافــــات السياسيـــــــة، وهذا السبب لا يقل خطورة عن الأسباب السابقة، ذلك أن الصــــــراع الداخلي بين المسلمين حول الحُكم وما نتج عنه من حروب وفتـــن أثَّــــــر تأثيرا كبيرا في ظهور كثير من الفرق، إذ بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، بدأت الفتنة بين المسلمين، فاقتتلوا في معركة صفيـــــــن، وظهـــــــرت طائفة الخوارج والشيعة بعد قضية التحكيم المشهورة. تلك كانت أهم الأسباب البارزة، التي تقف وراء بعض الانحرافات العقدية المتسربة إلـى طوائف من المسلمين قديماً وحديثاً، ويمكن تلخيص ذلك فـي النقاط الآتية: ـ الجهل بالدين الصحيح وبمقاصده العظيمة، لأن الجهل سبب كل بلاء حلَّ بأمتنا. ـ الجهل باللغة العربية التي هي لغة الوحي الإلهي الخاتم الخالد، وهنا تكمن قيمة اللغة العربية، لأنها وسيلة من وسائل الفهم السليم للدين الحنيف، عقيدةً وشريعة.. ـ اتباع الهوى يَهوِي بصاحبه ويفقده الصواب، فيشتبه عليه الحق والباطل. ـ الخلافات السياسية، لأن بعض الطوائف السياسية كانت تلوي نصوص الوحي من أجل أن تنتصر لما كانت تعتقده من آراء فاسدة. ـ الأمة الإسلامية فـي أمس الحاجة إلـى رصِّ صفوفها، والقضاء على جميع أسباب الانحراف، التي توهن الصفَّ وتمزق الجبهة الداخلية، ولن يتأتى ذلك إلا بالعودة إلـى المنبع الصافي الذي فيه الهداية التامة الشاملة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ [1]حاصل على الدكتوراه من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السلطان مولاي سليمان بالملكة المغربية، وأستاذ مادة التربية الإسلامية بالتعليم الثانوي التأهيلي. [2] الاعتصام، لأبي إسحاق الشاطبي، ج: 2، ص: 182. [3] المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسها. [4] الاعتصام، للشاطبي، ج:2، ص: 183. [5] المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسها. [6] الاعتصام، للشاطبي، ج: 2، ص: 183. [7] شرح السنة، للإمام البغوي، ج: 10، ص: 54. [8]الاعتصام، للشاطبي، ج: 2، ص: 175. [9] المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسها. [10] الاعتصام، ج: 2، ص: 293_ 294. [11] صون المنطق، ص: 15. [12] صون المنطق، ص: 15. [13] عيون الأخبار، ج: 2، ص: 142، سير أعلام النبلاء، ج: 6، ص: 408، الاعتصام، ج: 2، ص: 299. [14] كتاب النبوات، لا بن تيمية، ص: 129، طبعة دار الكتب العلمية. [15] رواه الإمام أحمد في المسند، رقم الحديث: 6845، تحقيق أحمد شاكر، وقال عنه: إسناده صحيح، ورواه الترمذي في: القدر، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر، رقم الحديث: 2134. [16]رواه الترمذي في التفسير، باب تفسير سورة الزخرف، رقم الحديث: 3250، وقال: حسن صحيح. [17] الشريعة، للإمام الآجري، ص: 59. [18] هذا الأثر رواه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة، ج: 1، ص: 133، والآجري في الشريعة، ج:1، ص: 437.