نحو منظومة للقيم الحضارية البانية على أساس أمانة الاستخلاف
الأستاذ سعيد لعريض
تقديم
يعيش العالم الإسلامي اليوم أزمة في منظومة القيم؛ فقد غابت فيه قيم العُمران الحضاري القرآني؛ الكفيلة بإعادة دور الأمة الإسلامية المفقود، في التمكين لدين الله في الأرض؛ تمكينا عقديا وتعبديا وتشريعيا وقيميا؛ وهو تمكين مكافأة كما يقول العلماء، يكون مقابل الإحسان الذي بُلِي، والجُهد الذي بُذِل، والصبر الذي احتُمل، كما في قصة يوسف عليه السلام (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِےاِ۬لَارْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُۖ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ اَ۬لْمُحْسِنِينَۖ) [يوسف: 56]. وهذا التمكين يستوجب من المسلم الوعي بدور العقيدة في توجيه القيم نحو مقصد واحد، وهو توحيد الله تعالى وعدم الشرك به، وحسن عبادته وفق ما شرَّع، أداء لأمانة الاستخلاف (وَعَدَ اَ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِےاِ۬لَارْضِ كَمَا اَ۪سْتَخْلَفَ اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اُ۬لذِے اِ۪رْتَض۪يٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمُ ۥٓأَمْناٗۖ يَعْبُدُونَنِے لَا يُشْرِكُونَ بِےشَئْاٗۖ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْفَٰسِقُونَۖ) [النور: 55]. فمعظم الكتابات والدراسات والبحوث الجامعية تركز على القيم العليا الحاكمة من توحيد وتزكية وعمران وإحسان وحكمة وغيرها من القيم المرجعية؛ في حين يتم الإشارة إلى القيم الحضارية، قيم التمكين والنهوض بشكل محتشم أو عرضي. وتركيزنا على القيم البنائية الحضارية، إسهام منا في خلخلة وعي المسلمين السَّاكن، وإحداث رجَّة في إحساسه بما آلت إليه أوضاع الأمة الإسلامية من تخلف وتبعية وذيلية، مع الإشارة هنا أننا لا ندَّعي الإحاطة بهذه القيم واستيفاءها كاملة، لكن فقط نسعى إلى إبرازها قدر الإمكان لتصبح من الأولويات في الكتابات والبحوث، لأننا نرى أن الظرفية التي تعيشها الأمة الإسلامية، والتي جعلتها أمة تابعة بعدما كانت متبوعة، تقتضي إخراج مثل هذه القيم من قعر البئر، وإظهارها لتكون ماء عذبا يسري في جسد شاربه، فيزيل عطشه، وينشط خلاياه النائمة، ويساعده على تجديد النشاط والحيوية، ويرفع همته لطلب المعالي؛ والتي لن تكون بالنسبة للمسلم الرسالي إلا أداء أمانة الاستخلاف وعمارة الأرض والتمكين لدينه تعالى. وهذه القيم سمّيناها بالقيم الحضارية البنائية لأننا نراها تساهم في إعادة بناء مجد الأمة، من خلال إحياء الوعي بضرورتها المرحلية من تاريخها. وهي قيم كانت سببا فيما شهدته من عِزَّة وأنفة ورقي حضاري، وكانت محل إعجاب وتقدير من الحضارات الأخرى؛ بل إليها يرجع الفضل في خروج الأمم الأخرى من التخلف والتقهقر الذي كانت تعيشه. وهي حضارية لأنها قيم عالمية ومثالية، تتسم بالثبات والمرونة والواقعية، وتتماشى مع الفطرة الإنسانية السَّوية، وترجع في مصدريتها إلى القرآن الكريم والسنة النبوية. إنَّ القيم الحضارية التي سنتطرق لها هنا، لا تخصُّ فردا بعينه وإن كانت صيغتها مفردة، بل هي تعني كل فرد مسلم ينتمي للجماعة المسلمة، باعتبار أن عملية البناء لا يستطيعها فرد لوحده، بل عملية تتظافر فيها الجهود، وتتَّحد فيها الإرادات، فهي تخص الفرد المعنوي/المسلم؛ الذي يتمثَّل في الأمة الإسلامية كلها أو أغلبها على أقل تقدير، ومن هذه القيم: 1) الاستخلاف: بدأنا بهذه القيمة لأنها الأسبق في الوجود على بقية القيم الحضارية الأخرى؛ وهي مقصد في نفس الوقت من مقاصد خلق الإنسان في الأرض (وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّے جَاعِلٞ فِے اِ۬لَارْضِ خَلِيفَةٗۖ)[البقرة: 30]، وهذه القيمة الاستخلافية، تتفرع عنها بقية القيم الأخرى وتدور في فلكها. لذلك كانت مقصدا عاما للعقيدة الإسلامية: “الإنسان في عقيدة القرآن هو الخليفة المسؤول بين جميع ما خلق، يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب، فلا تدركه الأبصار والأسماع”[1]، وهي مقصد للشريعة الإسلامية: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلَّف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا”[2]، كما هي مقصد للعمران الإسلامي، وذلك بإعمار الدنيا بالدين، وإقامة الدين في الدنيا: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77]. وقد جاء ذكر الاستخلاف في القرآن الكريم مقرونا بالأرض أكثر من مرة منها: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الاَرْضِ كَمَا اَسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) [النور: 55]. والاستخلاف في الآية هو استخلاف تمكين في الأرض. والوعد بالتمكين مشروط بأداء حق العبادة المطلقة لله تعالى، المتمثلة في الخضوع الكلي لمنهج الله تعالى. والنصر والتمكين هو جائزة عظيمة لأهل الصبر والثبات: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى اَ۬لذِينَ اَ۟سْتُضْعِفُواْ فِے اِ۬لَارْضِ وَنَجْعَلَهُمُۥٓ أَئِمَّةٗ وَنَجْعَلَهُمُ اُ۬لْوَٰرِثِينَ) [القصص: 5]. وهو كذلك مقدمة لحمل الأمانة الربانية (وَجَعَلْنَٰهُمُۥٓ أَئِمَّةٗ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَاۖ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَ۬لْخَيْرَٰتِ وَإِقَامَ اَ۬لصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ اَ۬لزَّكَوٰةِ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَۖ) [الأنبياء: 73]. 2) الأمانة: وهي ضد الخيانة؛ فهي كلُّ حقٍّ لَزِمَنا أداؤه وحفظه، وهي باب واسع تدخل فيه صور كثيرة؛ منها ما يتعلَّق بحقوق الله من توحيده، وعدم الإشراك به، وعبادته وطاعته، وما يتعلق بحقوق العباد من أمانة المجالس والأعراض والذمم والمال وغيرها، وما يتعلق بحق الأمة من أداء مهمة التبليغ بدءا بآية لقوله عليه السلام ضمن حديث صحيح (بلغوا عني ولو آية..)[3] وانتهاء بأداء رسالة الدِّين كله؛ وهي الأمانة التي حُمِّلها الانسان (اِنَّا عَرَضْنَا اَ۬لَامَانَةَ عَلَي اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَّحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَاۖ وَحَمَلَهَا اَ۬لِانسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُوماٗ جَهُولاٗ) [الأحزاب: 72]، جاء في تفسير هذه الآية: (الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن، والقيام بوظائف الدين في الظاهر، من الأوامر والنواهي؛ فالإيمان أمانة الباطن؛ والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر. فمَن قام بهاتين الخصلتين كان أمينا، وإلا كان خائنا) [4]، كما جاء في تفسيرها: (الأمانة: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا. والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور) [5]والأمانة هنا التكاليف الشرعية[6]؛ وهذه أمانة الاستخلاف. وقد اشترط الله تعالى شروطا قبل النصر والتمكين والاستخلاف وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والاختبار والتمحيص، أي تهييئ الأجواء لاحتضان أهل الإيمان، وأخيرا النصرة والتمكين. وبعد التمكين، وجب الحفاظ على الدين والتدين، بالقيام بالعبادة وبواجب الحسبة (الذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِے اِ۬لَارْضِ أَقَامُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِۖ وَلِلهِ عَٰقِبَةُ اُ۬لُامُورِۖ) [الحج: 41]. وقيمة الأمانة مرتبطة لزوما بسابقتها؛ إذ لا يمكن الحديث عن الاستخلاف دون ربطه بالأمانة. فالاستخلاف في الأرض وعمارتها وفق منهج الله تعالى وشريعته أمانة. ويشترط في إقامتها في الأرض إقامتها في الأنفس، ليسهل حَمْلُ الناس عليها كما كان دأب الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وأمانة عمارة الأرض بالدين هو عهد أخذه الله على هذا الانسان (وَإِذَ اَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِےٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّٰتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيٰ أَنفُسِهِمُۥٓ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَل۪يٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ) [الأعراف: 172]، وهذا النص دال على تحمل الإنسان أمانة الاستخلاف على نهج الإيمان؛ والتي هي مقصد قيمي تتفرع عنه بقية قيم الأمانة المعنوية منها والمادية: (اِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُكُمُۥٓ أَن تُوَ۬دُّواْ اُ۬لَامَٰنَٰتِ إِلَيٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ سَمِيعاَۢ بَصِيراٗۖ) [النساء: 58]، (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اُ۬للَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَۖ) [الأنفال: 27]، (ٞۖفَإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاٗ فَلْيُوَ۬دِّ اِ۬لذِے اِ۟وتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ اِ۬للَّهَ رَبَّهُ) [البقرة: 283]. (وَالذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَۖ) [المؤمنون: 8]. فهذه الصور العامة للأمانة خادمة للقيمة العليا، قيمة العمران في الأرض؛ فالإنسان يضطلع بالمهمة العمرانية في إطار استخلاف الله إياه على الأرض، مستشعرا عِظَم هذه الأمانة، وأن سعادته في الدنيا والآخرة تكون بإدراك ثقلها وحسابها الشديد. 3) المسؤولية:ترتبط قيمة المسؤولية بالقيمتين السابقتين ارتباطا وثيقا؛ فأمانة الاستخلاف بمعناها العام تعني تحمُّل الإنسان مسؤولية اختياراته الدنيوية، والتي يترتب عليها الجزاء الأخروي. كما تعني تحمُّل مسؤوليته لما أؤتُمِن عليه من أمانات وعهود ومواثيق، والتي سيسأل عنها حفظ أم ضيع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) [7]، ولقوله أيضا (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته؛ فكلكم راع ومسئول عن رعيته) [8]. ومسؤولية الاستخلاف تكليف واختيار من الله تعالى للفرد والجماعة؛ قال تعالى مخاطبا نبيه داود عليه السلام (يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِےاِ۬لَارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ اِ۬لْهَو۪يٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ) [ص: 26]، وقال في شأن اختبار الفئة المؤمنة (وَاذْكُرُوٓاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٖ وَزَادَكُمْ فِےاِ۬لْخَلْقِ بَصْطَةٗۖ فَاذْكُرُوٓاْ ءَالَآءَ اَ۬للَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ) [الأعراف: 69]. ومن النصوص السابقة يتبين أن كل إنسان مسؤول أمام الله تعالى؛ مسؤولية عن نفسه وأهله ورعيته، وعن المحيط الذي يعيش فيه؛ فيجب عليه أن يسعى من جهته إلى الإسهام في عمارة الأرض وفق منهج الله القويم. وقد ربط المرحوم علال الفاسي بين الاستخلاف ومسؤولية صلاح الإنسان/المستخلَف فقال (والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلِّفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع) [9]. وإحساس الإنسان بمسؤوليته في إعمار الأرض، حافز له نحو الفاعلية والإيجابية والقيام بواجب الحسبة الموكولة للأمة الإسلامية؛ والتي هو فرد منها (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ا۟خْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللَّهِۖ) [آل عمران: 110]،وهي مسؤولية مشتركة أساسها الإيمان بالله تعالى، تقوده إلى استشعار رقابته عليه، فيشكل ذلك دافعا له نحو القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تحقيقا لمقصد الاستخلاف الحضاري. وهذه المسؤولية الإيمانية تنشأ في النفس أولا، ليتعدى أثرها إلى الغير، بغية الانخراط الإيجابي في البناء العمراني، انطلاقا من المسؤولية الملقاة على عاتقه. ومسؤولية الاستخلاف في الأرض هي أمانة لمن أخذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها، وإلا ستكون عليه خزيا وندامة يوم القيامة. وهذا الاستخلاف الإيماني هو استخلاف حضاري منذ نبي الله إبراهيم عليه السلام، الذي أوصى بنيه وصية توارثتها الأجيال الإسلامية فيما بعد (وَأَوْص۪يٰ بِهَآ إِبْرَٰهِيمُ بَنِيهِۖ وَيَعْقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ اَ۬للَّهَ اَ۪صْطَف۪يٰ لَكُمُ اُ۬لدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَۖ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ ا۪ذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَ۬لْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنۢ بَعْدِےۖ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَٰهَكَوَإِلَٰهَءَابَآئِكَ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيل وَإِسْحَٰقَ إِلَٰهاٗ وَٰحِداٗ وَنَحْنُ لَهُۥمُسْلِمُونَۖ) [البقرة: 132]. وهي أمانة استخلافية وجب الحفاظ عليها، وذلك بالنهوض بالمسؤوليات العمرانية وفق منهج الله تعالى ومنهاج نبيه عليه السلام. 4) القُوَّة: لا تنفك أن تُذكر كقيمة مرتبطة بقيمة الأمانة في كثير من آيات الذكر الحكيم، غير أننا هنا سنبرز جانبها المتعلق بالبناء؛ ذلك أن الحضارة الإسلامية اعتمدت في قيامها على قيم الرفعة والمناعة، والعزة والكرامة والفاعلية والشدة وغيرها كثير؛ مما أسهم في ريادتها. وما أحوجنا الآن-في زمن الردة والذلة والتبعية-إلى إعادة بعث عناصر القوة في تلك الحضارة، وإحياء مضامينها في نفوس كل مسلم؛ غيور على دينه. والقوة التي نعني هنا ليست القوة المادية فحسب، بل القوة المعنوية المحركة لكل القيم التعبدية والتشريعية والأخلاقية. إنها قوة العقيدة الحاكمة لكل القيم السابقة؛ وهي المحفِّز للإيجابية والفعل وامتلاك القوة المادية، لمواجهة النزعات الداخلية للنفس أولا، وللتصدي للتيارات الخارجية التي تهدد كيان الأمة الإسلامية ثانيا. وهذه القوة الروحية هي التي جعلت المسلمين في زمن النبي عليه السلام ينتصرون على أعتى الإمبراطوريات أنداك: فارس والروم، رغم قلة الزاد والعتاد. وهي التي جعلت الصحابي الجليل ربعي بن عامر يقول لرستم قائد قواد الفرس لمَّا سأله: من أنتم؟ وما الذي أخرجكم من دياركم؟ فقال له: “نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”. إنه الاستعلاء بالإيمان كما يقول سيد قطب رحمه الله (فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬لسَّلْمِ وَأَنتُمُ اُ۬لَاعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْۖ وَلَنْ يَّتِرَكُمُ ۥٓأَعْمَٰلَكُمُۥٓۖ) [محمد: 35]. كما أن القوة المطلوبة الآن قوة العلم، وهي المقصودة من قوله تعالى (وَإِنِّے عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ اَمِينٞۖ) [النمل: 39]، فالأمانة مقرونة هنا بقوة العلم بدليل ما جاء بعده: (قالَ اَ۬لذِےعِندَهُۥ عِلْمٞ مِّنَ اَ۬لْكِتَٰبِ) النمل: 40]. كما يظهر ذلك في قوله تعالى (وَزَادَهُۥ بَسْطَةٗ فِےاِ۬لْعِلْمِ وَالْجِسْمِۖ) [البقرة: 247]، وهي المرادة في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام (اَ۪جْعَلْنِےعَلَى خَزَآئِنِ اِ۬لَارْضِ إِنِّے حَفِيظٌ عَلِيم) [يوسف: 55]، فهو طلب مسؤولية الحكم لأنه رأى في نفسه الأهلية لها، المتمثلة في الحفظ والعلم: فالحفظ فيه جانب الأمانة والإخلاص، والعلم فيه جانب الصواب والكفاءة والاقتدار؛ وقد كان عليه السلام كذلك عند التطبيق العملي. والقوة المادية مرتبطة بالأمانة كما في قوله تعالى حكاية عن ابنة شعيب لما رأت في سيدنا موسى عليه السلام من قوة جسدية وأخلاقية (قالَتِ اِحْد۪يٰهُمَا يَٰٓأَبَتِ اِ۪سْتَٰجِرْهُۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِ۪سْتَٰجَرْتَ اَ۬لْقَوِيُّ اُ۬لَامِينُۖ) [القصص: 26]. وباجتماع قوة العقيدة وقوة العلم وقوة التعبد والخلق تتكون شخصية المسلم، ليتجه نحو الفعل والبناء وإنتاج القوة المادية التي ترهب عدو الله وعدو المسلمين، وهو ما سمَّاه الله بالإعداد المعنوي والمادي في قوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اَ۪سْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ اِ۬لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ اَ۬للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اُ۬للَّهُ يَعْلَمُهُمْۖ) [الأنفال: 60]. فامتلاك أسباب القوة المعنوية والمادية قيمة كبيرة من القيم الحياتية التي يطلبها الإنسان لذاتها، ووسيلة عملية لمواجهة التحديات، وهي وسيلة لمواجهة الذين يريدون أن يحولوا بين رسالة الإسلام وبين الناس. لأجل ذلك شُرِّع الجهاد في الإسلام تشريعاً واقعياً عادلاً، ليكون وسيلة دفاعية ووقائية وهجومية، عن الدين الإسلامي، دفاعا عن الفكرة والرسالة العالمية: رسالة الرحمة والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية. ولابد بعد إحراز القوة وقبلها تحقق الرَّغبةالتيهي شرط أولي في أي نهوض حضاري، فلا يمكن تصور الوصول إلى هدف بدون وجود الرغبة الساعية إليه؛ وبدونها لا تتحقق الثمرة المرجوة منه. والرغبة هي ميل الإنسان نحو الحصول على أمر يفتقده في الوقت الراهن، وما يفتقده المسلم هو البحث عن الدور الحضاري المفقود. لذلك نرى أن يصطبغ بها كل فرد مسلم يتوق لاستعادة مجد الأمة الحضاري، وهي بحاجة إلى تجديد الوعي بها؛ لأن كثيرا من المسلمين انشغلوا بالملذات الدنيوية، وانصرفوا إلى تحقيق آمانيهم وأحلامهم الشخصية، وتركوا الأمانة الكبرى أمانة إقامة الدِّين الإسلامي. وهي غائبة في واقعنا الإسلامي، إلاَّ عند القليل من المسلمين المُتحَرِّق لرؤية حضارته قد استعادت مكانتها بين الحضارات. هذه الرغبة هي المعبر عنها بالحافزية الذاتية للإصلاح والتغيير نحو الأفضل: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اَ۬للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراٗ نِّعْمَةً اَنْعَمَهَا عَلَيٰ قَوْمٍ حَتَّيٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اَ۬للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞۖ) [الأنفال: 53]، )إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّيٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11]. وهي الدافع الأساس لتحمل أمانة الاستخلاف في الأرض، باعتبارها مسؤولية فردية وجماعية، لأن الرغبة هاجس نفسي يسكن المسلم، فيدفعه نحو استعادة ما يأمل ويصبو إليه، وإلى الاستباق لفعل الخيرات، طلبا لما عند الله ورهبا منه تعالى (إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِے اِ۬لْخَيْرَٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباٗ وَرَهَباٗ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَۖ) [الأنبياء: 90]. وإذا تراخت الأمة الإسلامية فيما تصبو إليه من تغيير وإصلاح، تحُلُّ بها الأزمات والنَّكبات، حتى تعود من جديد لحمل أمانة الاستخلاف، وتحمل مسؤولية عمارة الأرض التي هي المقصد العام من خلق الإنسان، وهي قدره إلى يوم الدين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] – العقاد عباس محمود، الإنسان في القرآن، الناشر: نهضة مصر، 2001، ص7. [2] – الشاطبي أبو إسحاق، الموافقات، تحقيق: أبو عبيدة الله آل سلمان، دار ابن عفان/القاهرة، ط1/ 1997، ج2/ص 289-290. [3] – أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. رقم: 3461. [4] – ابن عجيبة أحمد بن محمد بن المهدي الحسني، البحر المديد، دار النشرـ بيروت الطبعة 2/ 2002م ـ ج6/ص92. [5] – الأندلسي أبو حيان، تفسير البحر المحيط، ج7/ص206-دار النشر / دار الفك. [6] – انظر: “تفسير الطبري” (20 /336-340) – “تفسير ابن كثير” (6 / 488-489) – “الجامع لأحكام القرآن” (14/252-253) – “فتح القدير” (4/437). [7] – رواه النسائي في سننه الكبرى (5/374 رقم9174)، وابن حبان في صحيحه (10/345 رقم4493)، وقال الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 1774 في صحيح الجامع. [8] – أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (1829)، وأبو داود (2928)، والترمذي (1705)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9173)، وأحمد (5167) واللفظ له. [9] – الفاسي علال، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، المنصورة دار الكلمة، ط1/2014م، ص47-58.