نحو فهم لحقيقة الابتلاء

عبد السلام محمد الأحمر:
     بعد تفشي وباء كورونا في العالم وتعاظم خطره على الناس، ركزت الكثير من البيانات والتوجيهات العلمية والطبية والمقالات الصحفية، على تفصيل القول حول طبيعة هذا الفيروس وطريقة انتشاره، وكيفيات الوقاية منه والتعامل مع المصابين به.
      وإسهاما متواضعا مني في مواجهة هذا البلاء الكاسح، سيدور حديثي حول ما يجب فهمه عن حقيقة الابتلاء، مما يبصر النفس ويرفع قدرتها، لمواجهة كل بلاء بثبات ونجاح.
أولا: موقع الفهم في مواجهة ابتلاءات الحياة
      مما لا شك فيه أن حل أي مشكل من مشكلات الحياة والتغلب على معضلاتها، يتوقف على الإدراك العميق لطبيعتها وأسبابها ونتائجها، كما أن تحقيق الخير والصلاح والسعادة في واقع البشرية، مرتبط كل ذلك ارتباطا شديدا بالفهم السديد والعلم الصحيح، المشفوعين بالتطبيق الكامل، وكذا المقاربة النسبية للإشكالات والظواهر، عندما يتعذر الوصول إلى المعرفة الوافية الكافية.
      فوباء كرونا الذي أضحى يقلق راحة العالم، ويتحدى ما وصلت إليه المعرفة البشرية في مجال الطب والوقاية المدنية، غدا أكثر من ذلك يخلخل فهم الناس لمعنى الحياة وجدواها والغاية منها، بعد أن غلب على الظن بأن ما بلغته الإنسانية من تقدم علمي غير مسبوق، عبر تاريخ البشرية وفي جميع ميادين الحياة، يضمن لها الأمن الصحي ويبقيها على مسافة بعيدة من الأوبئة، التي كانت تحصد آلاف النفوس في أيام معدودات، ويجعلها مؤهلة للانتصار على الألم والقلق والخوف.
      لكن هذا الكائن البسيط، استطاع أن يكشف للإنسان، بأن الحضارة المعاصرة رغم ما أحرزته من تقدم مبهر، لم تتمكن من تغيير حقيقة الدنيا، باعتبارها دار ابتلاء واختبار، واحتياجها الشديد لدار آخرة للحساب والجزاء.
     في هذا السياق العام نعرج بداية على تبيان تميز المعرفة الدينية الحقة، بما تتيحه للمؤمن من فهم دقيق لكل ما يجد في الحياة، من تحولات ومفاجئات ومحن، وتمكينها له من حسن التفاعل معها، عندما يستصحبها في خضم الحياة، مستحضرا طبيعتها الابتلائية العامة، فيتأتى له الظفر بخيرها والنجاة من شرها.
      ولهذا كان أول واجب عقلا وشرعا على المكلف، هو تحصيل العلم الضروري بالله، وبدينه وغايته من خلق الإنسان والحياة، وما يلزم من العلم التفصيلي حسب الوسع، قبل خوض أي عمل أو سلوك مطلوب شرعا، وذلك بما يضمن إصابة الحق ومباعدة الباطل، وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة.
      ويظل القدر الأوجب من المعرفة الدينية، هو ما يتعلق ببناء التصور العام المبسط للعقيدة الإسلامية، الذي يدركه جميع الناس، ويتفاعلون معه بفطرتهم، ويحتكمون إليه في نظرتهم العفوية والعميقة للوجود في بعده الإلهي والكوني والإنساني.
     لذلك نجد القرآن يدعو للعلم قبل الاعتقاد، الذي تتأسس عليه الأعمال التكليفية، المفروضة والمسنونة، والمحرمة والمكروهة، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] وقال مبرزا الغاية الأساس من خلق الإنسان: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2، 3].
      كما أن الإمام البخاري ترجم في صحيحه لباب العلم بقوله، باب العلم قبل القول والعمل. قال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري “وفيه فضل الفقه فى الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله، لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه”[1] لذلك اختص مضمون الوحي بإفادة الإنسان بأمور الغيب، وبأصول الدين وحقائقه، والتي لا يمكن للعقل البشري التوصل إليها كاملة سليمة من الخطإ، فكانت مهمة الرسل مهمة تعليمية توجيهية إلى ما يحقق سعادة الدارين، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].
     وقد توالت الأدلة من الكتاب والسنة على أساسية العلم الديني وكفايته لفهم ما يحتاجه الإنسان من بصائر وتوجيهات عامة لخوض غمار الحياة باطمئنان وأمان، فقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقد ساق ابن الجوزي في تفسير المقصود بالكتاب قولين: أحدهما أنه اللوح المحفوظ. والثاني أنه القرآن، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم حاجة إليه إلا وبيناه في الكتاب، إما نصا، وإما مجملا، وإما دلالة، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شيء} [النحل: 89] أي: لكل شيء يُحتاج إليه في أمر الدين[2].
      وأوجب الشرع طلب العلم الديني، وبذل الجهد المستطاع في سبيله، والسعي إلى العلماء والأخذ عنهم، واستفسارهم فيما استشكل من قضايا الإنسان والحياة، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم “[3]،  كما جاء في الحديث: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”[4]، لأن ما من خير يناله المرء في دينه ودنياه، إلا ويكون نتيجة لفهمه السليم لأحكام الدين وبيناته، فمن تعلم القدر الضروري منها، فقد أخذ حظا وافرا مما يستقيم به سيره في دروب الحياة وهو آمن مطمئن، ففي الحديث أيضا: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»[5]
      وأكد ابن عاشر في نظمه وجوب العلم الذي يبنى عليه كل عمل اعتقادا وعبادة ومعاملات وتنظيما لشؤون الحياة فقال:
أول واجب على من كلّفا          ممكنا من نظر أن يعرفا
الله والرسل بالصفــــات          مما عليه نصب الآيــات
      فالمعرفة الشرعية، هي وحدها التي توفر للإنسان الفهم الشامل، لأسس الوجود الكوني والإنساني، وتدل الناس على المفاتيح اللازمة لحل كبرى المعضلات الحياتية وعلى رأسها الابتلاءات المؤلمة، والتي تقف المعرفة البشرية المنفكة عن علم الوحي عاجزة ومرتبكة تجاهها.
      إن الإنسان يحتاج دوما إلى امتلاك القدرة اللازمة، للإجابة الشافية عن سؤال لماذا؟ إلى جانب سؤال كيف؟ فالعلم التجريبي الحديث قطع أشواطا كبيرة، في الجواب عن سؤال كيف، بما طوره من صناعات نافعة، وتكنولوجيا متسارعة، وتقنية عالية في كل مجالات الحياة، لكنه يقف عاجزا ومضطربا حائرا أمام أسئلة لماذا؟ يقول المؤرخ المشهور أرنولد توينبي: “لقد أغرقت فنون الصناعة ضحاياها وجعلتهم يسلمونها قياد أنفسهم، ببيعها المصابيح الجديدة لهم مقابل المصابيح القديمة، لقد أغوتهم فباعوها أرواحهم وأخذوا بدلا منها السينما والراديو وكان نتيجة هذا، الدمار الحضاري، الذي سببته تلك الصفقة الجديدة”[6]
     فالعلم الحديث بشقيه الإنساني والتجريبي، لم يستطع أن يشغل مساحة الوحي التي تقدم إجابات متماسكة ومركزة لتساؤلات لماذا الحارقة، التي همشتها العلوم الحديثة، وما قدمت بشأنها إجابات شافية، تصمد في وجه مختلف البلايا والمدلهمات المحيرة للفكر والمقلقة للنفس، والتي تغشى حياة الأفراد والمجتمعات حينا بعد حين.
ثانيا: حقيقة الابتلاء
من معاني البلاء الإنعام، وهو بذل النعمة للغير، أي النعمة الظاهرة؛ يقال: أبلاه الله إبلاء وبَلاء إذا أنعم عليه.
      وقد يقال بلاه، بمعنى صَنَع به خيرَ الصَّنِيع. قال تعالى عن المسلمين في غزوة بدر (وليبلي المومنين منه بلاء حسنا) أي ليَنعم عليهم بالنصر والأجر، ويحتمل كذلك معنى ليختبر المومنين ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات ويعرفهم بذلك نعمته عليهم.
      ومعنى البلاء أيضا الاختبار والامتحان بالخير أو الشر، كما في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، أي اختباراً وامتحاناً. والبلاء بالمعنى الثاني مرادف للابتلاء، قال ابن منظور في لسان العرب[7]: (وابْتَلاه الله: امْتَحَنَه، والاسم البَلْوَى والبِلْوَةُ والبِلْيَةُ والبَلِيَّةُ والبَلاءُ، والبَلاءُ يكون بالخير وبالشَّر، والجمع: البَلايا ويقال: بَلاه اللهُ بَلاء وابْتَلاه أي: اختَبره. والبَلاء: الاختبار والامتحان.
      وإذا اعتدنا في المدارس والمعاهد، أن نجري للتلاميذ والطلاب اختبارات، لنعرف ما حصلوه من التعليم المقدم إليهم، من معارف ومهارات وقدرات فكرية وعملية، فإن الله تعالى يبتلي بني آدم بالخير والشر، ليعرف مدى إيمانهم به ومدى التزامهم بهديه الذي بينته رسل الله لأقوامهم وفصلته الرسالات السماوية. فقد أوضح الله لنا في كتابه مقصده من ابتلاء الإنسان في آيات عديدة منها: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2،3]{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2].
     والعمل الأحسن هو ما كان موافقا لشرع الله وخالصا لوجهه سبحانه، وممارسة العمل الأحسن رهين باجتياز الاختبار به بتوفيق ونجاح، لأن ثمة عراقل وموانع وصعوبات تعوق احتمال الابتلاء والصبر على معاناته.
    فإذا عزم الإنسان على امتثال أوامر الله ونواهيه فيما بينه في وحيه، وفطر عليه النفوس من حب الصلاح والفضائل والأخلاق الحميدة، وترك الفساد والرذائل والقبائح، كان أول ما يواجهه نفسه التي بين جنبيه، مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، فهي بطبعها ميالة مع الأهواء والشهوات واتباع خطوات الشيطان، الذي يزين لها فعل السيئات والمنكرات، ويثنيها عن القيام بالواجبات والطاعات، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [البقرة: 168].
     لذلك نقول إن التوجيهات الشرعية والدوافع الفطرية، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر سواء كان اعتقادا أو سلوكا، تندرج كلها في إطار الاختبار الكاشف عن حقيقة إرادة النفس، هل تختار الامتثال بفعل المفروضات وترك المرفوضات، أم تختار الاعتراض والجحود ومعاكسة مراد الله وأحكامه.
    واستنادا إلى هذا التصور، ينظر إلى الاعتقادات والعبادات والمعاملات والأخلاق، على أنها ابتلاءات تكشف موقف الإنسان إزاءها، هل ينخرط في القيام بها والمواظبة عليها، بما يجب من الانضباط والالتزام وتحمل معاناة ممارستها. أم يضيعها ويخالف ماهو مطلوب منه تجاهها من العزم والحزم والصبر واحتساب الجزاء الأوفى عند الله في الدار الآخرة.
     وهكذا ابتلى الله الإنسان بالإيمان به سبحانه، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأقوى ما يكون به الابتلاء، هو معرفة الله وصفاته وحكمته من خلق الإنسان والحياة، ومن إنزال الكتب وبعثة الرسل، وغير ذلك من حقائق الدين ونظامه الابتلائي الشامل لمختلف المحاب والمكاره في حياة الآدميين على الأرض.
     إن منهج الابتلاء الإلهي، يجري على جميع البشر، من حيث كونهم يتحملون أمانة الاستخلاف في الأرض، والتي تقتضي بأن يمارسوا اختياراتهم الذاتية فكرا وتفكرا وإحساسا وجدانيا وتفاعلا قلبيا وسلوكا مسؤولا، تبعا لما يتوفر للنفس من فهم بطبيعتها وطبيعة الحياة، وصفات الله الخالق المدبر الحكيم، وحقيقة مراده من خلق الإنسان، والتي تتجلى في تعريضه لابتلاءات شتى، كاشفة لما تنطوي عليه نفسه من إرادة واستعداد للإحسان أو الإساءة، وللهداية أو الضلال، وهذا ما أثبتته آيات بينات من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]، وجاء في نهاية حديث قدسي:.. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه[8].
      فواضح إذا من هذه النصوص وغيرها كثير، بأن الابتلاءات التي لا مناص للإنسان من مكابدتها، فردا وجماعة وعلى امتداد وجوده الأرضي، ذات شأن عظيم وبليغ، خلافا لما قد يغلب على بعض الفهوم من كونها أمرا عرضيا، يقع في أحيان محدودة ولأشخاص دون غيرهم، وبالتالي قد لا ترقى إلى اعتبارها هي مراد الله الأصل من خلق الإنسان واستخلافه في الأرض.
     والابتلاءات قد تبدو للعين في ظاهرها خيرا كثيرا أو شرا عظيما، ويكون في وسع الإنسان إذا ضم إلى علمه الصحيح بحكمة الله، العمل في ضوئها بصبر ويقين وحسن ظن بالله، أن يفلح في الخروج منها منتصرا ورابحا لخيرها ومتقيا لشرها، وكل إنسان إنما يبتلى على قدر نفسه وأحوالها، انسجاما مع قاعدة “لا تكليف إلا بمقدور” قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وفي الحديث: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه، اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس ما عليه خطيئة»[9].
      ومن الفشل الماحق في الامتحان بالبلاء، أن يسوء ظن المبتلى بالله فينسب إليه سبحانه إرادة الشر، والحاصل هو أن الناس هم الذين يأتون بأسباب الشر فيصيبهم بما كسبت أيديهم، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
      إن الابتلاء يكون مؤاخذة من الله للعبد على سوء عمله ليطهره من رجس الآثام إذا راجع سلوكه ولاذ بالتوبة النصوح، ويكون  في  بعض الأحوال برهانا على محبة الله له، وإرادته إعلاء درجته عنده إذا رضي ووفق فيما امتحن به من خير أو شر، وفي الحديث: « إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، و إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، و من سخط فله السخط»[10].
      ومن خصائص الابتلاءات أنها تُقبل دائما بشبهة وتنصرف بعلم، ولا تعمر طويلا بحيث إذا توالت تولت وإذا حلت اضمحلت وارتحلت، إذ القصد منها في الغالب الاختبار والتهذيب لا التعذيب، كما أن خيرها قد يضمر شرا وشرها قد يتحول خيرا لقوله تعالى، عن فتنة الإفك التي اتهمت فيه عائشة رضي الله عنها بالزنا وهي أحب نساء سيد الخلق إليه وأم المؤمنين، فبعد أيام عصيبة على المسلمين نزل القرآن بتبرئتها وانكشفت الغمة، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [النور: 11]، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
      إن الله سبحانه لا يفرض الشر على من يكرهه ويسلك السبيل المؤدي إلى اجتنابه، كما لا يمنع الخير عمن يطلبه من طريقه الصحيح، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]،
      ومن هنا يمكننا القول بأن إدراك حقيقة الابتلاء، باعتباره مقصدا استخلافيا عاما هو نفسه ابتلاء، لذلك فإن معظم الذين رفضوا دين الله قديما وحديثا، إنما كان اعتراضهم على التسليم بأن تكون الحياة الدنيا مجال ابتلاء، ينتهي بالانتقال إلى الآخرة للحساب، فتنال كل نفس ما تستحق من تكريم وتنعيم أو إهانة وتعذيب.
      كما يؤكد ذلك اختلاف الناس في قبول أي ابتلاء سواء كان بالخير أو الشر، ورفضه على المستوى النظري والسلوكي، تماما كاختلافهم في التعامل مع أي ابتلاء آخر، مثل ابتلاء الله لهم بالإيمان ومقتضياته، وبالحياة ومغزاها ومآلها، وبالنفس وطبيعتها ومسؤوليتها، وبالغنى والفقر والصحة والمرض والعلم والجهل وغير ذلك.
      فوباء كورونا ابتلاء كوني عام من الله للبشر جميعا، وكل إنسان يمارس كامل حريته، ومسؤوليته الذاتية في تفسير هذه الجائحة، واختيار طريقته الخاصة في التعامل معها انطلاقا من تصوره ومعتقده الديني أو اللاديني، مع تأكيد أن جميع الابتلاءات مسخرة من الله، لكي تثير ردة فعل المبتلى وتخبر عن خبيئة نفسه فتكون بها إما مأجورة أو مأزورة فتحولها إلى محنة أو منحة، إلى نعمة أو نقمة، وذلك تبعا لما تتحلى به من صلاح أو فساد، ومن سواء أو عوج! فاللهم ادفع عنا وعن الإنسانية كلها شر هذا الوباء ووباله، وامنحنا خيره وأجره وخير منحه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]  – شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/ 154)
[2] – زاد المسير في علم التفسير، دار الكتاب العربي – بيروت، ط1 – 1422 هـ (2/26).
[3]– سنن ابن ماجه (1/ 81) وصححه الألباني
[4]– صحيح مسلم، (2/ 718)
[5] – المرجع السابق (1/ 81) وقال الألباني صحيح.
[6] – عماد الدين خليل، تهافت العلمانية، مؤسسة الرسالة. 1983، ص132.
[7]  – لسان العرب (14/84)
[8] – صحيح مسلم (4/ 1994)
[9]  – صحيح ابن حبان – مخرجا (7/ 184) وصححه الألباني.
[10] – رواه الترمذي رقم الحديث (2396)، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى