نحو بناء نظرية معاصرة لتدريس الفقه انطلاقاً من تقويم التراث الفقهي بالغرب الإسلامي

الأستاذ الدكتور  مصطفى صادقي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
سيدي الفاضل، الأستاذ المؤطر والمشرف على البحث،
سادتي أعضاء لجنة المناقشة المحترمين،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتقبلوا ـ أيها السادة الكرام ـ أصدق عبارات التقدير والمودة الواجبة للعلماء وأهل البحث والتحقيق.
وعسى أن ينفعني الله تعالى بمخالطتكم ويُكرمني بأنوار مجالسكم.
وبعد، فإني قد وضعتُ بين أيديكم هذا العمل المتواضع الذي عنونته: “نحو بناء نظرية معاصرة لتدريس الفقه انطلاقاً من تقويم التراث الفقهي بالغرب الإسلامي”، ورجائي في الله تعالى قوي أن يقع لديكم -هذا الجُهد- موقعاً طيباً، وأن تُولُوه من اهتمامكم وتقويمكم ما يُصلح عِوَجه، ويبلغ به مقاصده المرجوة.
      وأوافيكم أدناه بتلخيص مركّز لموضوع البحث، أعرض فيه أهم المضامين المعالجة في ثنايا الأبواب والفصول، وألخّص أبرز الخلاصات والنتائج، وقبل ذلك أستعرض إشكالية البحث وأهدافه وأبيّن المنهج الذي اعتمدته في معالجة موضوعه.
1- إشكالية البحث وفرضيته:
      تكمن الإشكالية العامة البحث في ملاحظة إحدى المفارقات الواضحة التي لا تكاد تخطئها عين المتأمل لأحوال العلوم الشرعية. فمن جهة أولى -على المستوى النظري- نتفق على المكانة السامقة التي يتبوأها الفقه الإسلامي، وعلى أولويته ضمن منظومة العلوم الشرعية، بحسبانه قانون الأمة الإسلامية والناظم لسُلُوكِ أفرادها ومجتمعاتها… ومن جهة أخرى -على المستوى الواقعي- نجد الفقه الإسلامي قد ابتلي في هذا الزمان ببعض الآفات التي تقلّل من قيمته العملية، وتَحُدُّ من أدائه المنهجي والوظيفي. على رأس تلك الآفات:
     تفكك منظومة العلوم الشرعية، حيث لم يعد بين وحداتها ـ في الغالب الأعم ـ ذلك الترابط وتلك التراتبية المفضيين إلى الثمرة العملية، أي الحكم الفقهي.
       ضعف الإنتاج الفقهي المعاصر سواء على المستوى الكمي أو المستوى المعرفي وأقصدُ بِه قِلَّة الدراسات الفقهية التي تستطيع استنطاق التراث الثقافي واستخلاص إجاباته المفيدة عن الأسئلة المعاصرة، ومن شواهد هذا الضعف غلبة الاعتبارات التاريخية في الاشتغال الفقهي المعاصر، أي الاهتمام بالتحقيق والأعلام والمدارس والاصطلاحات… ومعلوم أن التاريخ ليس له من فائدة إلا بقدر ما يفيد في صناعة الحاضر.
      غياب منهج واضح في تدريس الفقه بالجامعات، مما يجعل الأستاذ يتأرجح بين الاختيارات الذاتية غير المأمونة العواقب، ويجعل الطالب في نهاية مسيرته الدراسية لا يبلغ منيته من علم الفقه، بل لا يترسخ لديه منهج التفقه أصلاً…
      بإزاء الآفات المذكورة، لا يمكننا الحسم في العامل الكامن وراءها، أو تحديد السبب المسؤول عنها، على اعتبار أن الأسباب متعددة ومتراكمة، فمنها ما يكون ذا طبيعة معرفية أو تربوية، ومنها ما هو راجع إلى التطبيق العملي… غير أن الباحث يقدّر -في نظره المتواضع- أن السبب الأقوى إنما هو العامل التربوي، أي إن إصلاح النظام التعليمي الخاص بالعلوم الشرعية وبنظرة أكثر تفصيلاً: إصلاح منهاج تدريس الفقه، هو المدخل إلى الرفع من جودة الفقه وإرجاعه إلى مكانته اللائقة به.
      إن الذي يدعونا إلى الانطلاق في البحث من هذه الفرضية هو أن منهج التدريس يُثير مجموعة من الأسئلة المترقية نحو الحلّ: تبدأ ذات طبيعة إبستمولوجية (متعلقة بالمعرفة الفقهية ومنهجها…) وتأخذ بعد ذلك الصفة البيداغوجية (أي مُراكمة المعارف من أجل تحديد الاختيارات ومواقف التعليم…) ثم تنتهي إلى أسئلة ديداكتيكية (تُعالج المادة العلمية في سياق تعليمي، وتنظر إلى طبيعة المتلقي لتحدّد كيفيات إنجاز الدرس).
    تلك الشمولية في الأسئلة تجعل البحث التربوي يستحضر أكثر الآفات المعاصرة التي أشرتُ إليها، ويحاول الإجابة عنها بجواب لا يقف عند المستوى النظري، بل يُدعِّمُه بالصّيغ العملية.
2- أهداف البحث:
      إن الهدف العام المتوخّى من هذه الدراسة، هو الإسهام في تقعيد نظرية معاصرة لتدريس الفقه، تكون قابلة للتطبيق في الجامعة المغربية على وجه الخصوص.
      وفي سياق هذا الهدف العام تبرز بعض الأهداف الأساسية التي لا تخفى أهميتها، من ذلك:
– محاولة الانعتـاق من التبعية غير الواعية للأنماط التربوية المتغربة، وتعزيز الارتباط بتاريخنا التربوي المتنوّع والحافل.
– دراسة التراث التربوي للغرب الإسلامي واستنطاق المسكوت عنه، حيث إن الغالِب على التراث هو المضامين العلمية في مختلف الفنون، أما الأداء التربوي فهو مسكوت عنه، وهو لذلك بحاجة إلى دراسة متأنية للتاريخ بهدف الكشف عن المناهج المعتمدة في التدريس قديماً، واستلهام روحها في واقعنا المعاصر.
– تقويم التراث التربوي المتعلق بالفقه، وكذا تشخيص مكامن الضعف في النظام التعليمي المعاصر، من أجل تفادي الخلل والتنسيق بين عناصر القوة المستفادة من القديم والحديث.
3- منهج البحث:
      انتهج البحث في سبيل تحقيق المقصود، طريقاً ثنائي المسلك، حيث انطلق من دراسة تاريخية تُحاول استكشاف مناهج التدريس الفقهي التراثية، ثم تحليلها وإخضاعها لمبضع النقد والتقويم، ثم عمل على تشخيص معطيات التربية المعاصرة في مجال العلوم الشرعية، لينتهي إلى دمج المحصّلات الطيّبة والتأليف بينها في نسق يَجمع بين البحث النظري والقابلية لتطبيق النتائج.
      ومن ثمة فقد قسمت البحث إلى ثلاثة مستويات من الدراسة، كل مستوى خصّصتُ له باباً مستقلاً.
الباب الأول: هو مستوى الوصف والتحليل، اعتمدت خلاله المنهج التاريخي في استقراء النصوص ودراستها، من أجل الكشف عن مناهج تدريس الفقه وبيان خصائصها العامة ووصف عناصرها، مع التمثيل لها بأقرب النماذج وأكثرها دلالة على المطلوب.
      هو مستوى الدراسة والتقويم، حيث أخضعت تلك المناهج الموصوفة آنفاً للتقويم بمعيارين: أحدهما هو المقارنة الداخلية بين المناهج وإبراز ما بينها من التفاوت والتفاضل، ثانيهما هو إسنادُ مناهج التدريس إلى بعض القضايا التربوية الثابتة كقضية وحدة العلوم، ومسألة وظيفية المعرفة، قصد معرفة مدى وفائها بهذه المسلمات التربوية.
      كما عملت على تشخيص النقائص التي تعتور التفقّه في واقعنا المعاصر، باعتبار أن الحاضر إنما هو امتداد للماضي، وأن الإصلاح المنشود لا يتأتى إلا بالإفادة من التاريخ الزاخر دون الذهول عن متطلبات المعاصرة.
      الباب الثالث: هو مستوى البناء والتركيب، وهو ثمرة البحث وعصارته، إذ أحاول خلاله استلهام الروح العلمية والتربوية لدى أعلام مدرسة الغرب الإسلامي الفقهية والإفادة من تجاربهم الناجحة، وأعمل على تركيبها في نسق متكامل مع محصلات التجربة التربوية المعاصرة. ولا أمضي إلى تقعيد بعض الصيغ العملية إلا بعد التمهيد النظري لها، وبيان المرتكزات المعرفية والتربوية التي ينبغي استحضارُها عند تطوير منهاج الفقه.
      لقد آثرت أن يبقى البحث منفتحاً على مختلف التجارب التربوية التراثية في الغرب الإسلامي، من أجل أن تكثر فائدته ويقترب من مستوى الدراسة المستوفية، لأنه بقدر درجة الاستقراء لمعطيات التاريخ تكون الفوائد. وبناءً على ذلك فإن المجال الزماني للبحث يمتد من بداية التدريس المنظم للفقه بالغرب الإسلامي -حسب ما تُتيحُه النصوص- إلى اللحظة الراهنة. وقد كشف البحث عن حقيقة مثيرة للاهتمام، مفادها أن المجال التربوي لم يكن يُساير الفقه في وفرة الإنتاج وغزارة العطاء وسرعة نمائه، فمن خلال تتبع النصوص التاريخية المنبِئة عن مناهج التدريس لم أظفر بتنوّع ووفرة تضاهي ما كان للمعرفة الفقهية من زخم، وعليه فإن تضييق المجال الزماني سيُفضي إلى إغفال بعض مناهج التدريس وهي أصلاً قليلة، مما لا يُسْعِف باستثمار جيّد للتاريخ التربوي.
      أما المجال المكاني فإنه محدّد بالغرب الإسلامي، وهو تحديد أميل إلى الجانب الموضوعي منه إلى الجغرافي، باعتبار وحدة المذهب المالكي في أقطار الغرب الإسلامي في أكثر المراحل التاريخية.
 4- تلخيص مركّز لأهم المضامين:
مستوى الوصف والتحليل:
     أسْفر تتبع النصوص التاريخية المتاحة عن ملاحظة أربعة مناهج في تدريس الفقه اعتمدها رواد المدارس التربوية المغربية. جعلتُ لتلك المناهج ألقاباً تقريبية دالة على أعيانها: أولها منهج السماعات، ثانيها منهج التفريعات، ثالثها منهج التأصيلات ورابعها منهج المختصرات.
      لا يتعلق الأمر -فيما ذكر- بأدوار تاريخية متعاقبة، كما لا ينبغي تحديداً اصطلاحياً دقيقاً على سبيل الجمع والمنع، وإنما كل ما يعنيه هذا التصنيف هو الالتفات إلى بعض أوجه التمايز والاختلاف في أنماط الأداء التربوي الفقهي.
      إن التمايز الملاحظ بين مناهج التدريس التراثية يكمن بالأساس في الأهداف المتوخاة من التفقّه، وفي المحتوى العلمي في كل منهج، وتبرز بعض الاختلافات -بدرجة أقل- على مستوى طرائق التدريس وأساليب التقويم.
     لقد عملتُ جهدي في وصف المناهج الأربعة من خلال تحليل بنيتها إلى العناصر الأساسية المكونة للمنهاج التربوي، أي الأهداف والمحتوى التعليمي، وطرق التدريس، وأساليب التقويم. لقد استعرت من التربية المعاصرة مصطلح المنهاج التربوي من أجل تيسير وصف المعطيات التربوية التراثية، حيث يسعف ذلك المصطلح بنوع من الدقة في الوصف نظراً لاشتماله على العناصر الأربعة الأساسية في كل نظام تعليمي. ولا يعني سُكوت القدامى عن هذه الاصطلاحات والتقسيمات أن تعليمهم كان خلواً عن أهداف تنظم التدريس أو عن محتوى دراسي يتلقاه طلبة العلم أو عن باقي العناصر، بل هي عناصر لا يخلو منها أي تعليم وإن اختلفت التسميات أو سُكِت عنها.
1- منهج فقه السماعات:
      بعد التعريف بفقه السماعات وبيان أهداف تدريسه التي أسعفت برصدها النصوص المدروسة، وقفت عند المحتوى الدراسي في هذا المنهج، حيث مثلتُ له بثلاثة نماذج من كتب السماعات هي المدونة والواضحة والمستخرجة، وبيّنتُ خصائصها ومميزاتها مما له تعلق بالجانب التربوي، ثم أوضحت أشهر طرق التدريس وفق هذا المنهج، كطريقة الإلقاء وطريقة المذاكرة. ومن أساليب التقويم التي اشتهرت في فقه السماعات أسلوب السؤال المباشر وأسلوب المناظرة ثم الامتحان.
2- منهج الشروح والتفريعات:
      عرّفت بهذا المنهج، وأوضحتُ اختلافه عن المنهج السابق سواء من ناحية أهداف التفقّه أو من ناحية المحتوى الدراسي، كما أن طريقة التدريس أصبحت مع هذا المنهج تنفك شيئا فشيئا عن طرق المحدثين التي سادت في فقه السماعات.
       النماذج التي وقفت عندها خلال معالجة المحتوى الدراسي، تُعدّ من أفضل الكتب المعبّرة عن الشروح والتفريعات، أقصد بعض مؤلفات ابن أبي زيد القيرواني (“النوادر والزيادات”، و”مختصر المدونة”) وكذا الإنتاج المتميز لابن رشد الجد (“المقدمات الممهدات”، و”البيان والتحصيل”).
3- منهج فقه التأصيلات:
      تعدّدت مدارس التأصيل للفقه، وقد حصرتُها في ثلاث مدارس أسهمت بصفة واضحة في تأصيل الفقه وإرجاعه إلى منابعه الأصيلة، هي مدرسة المحدثين والمفسرين، ومدرسة الفلاسفة والأصوليين، ومدرسة الظاهرية والموحدين. عرف الأداء التربوي من خلال هذه المدارس تألقاً وزخماً أثرى الفقه، حيث ربط بين الفقه والنصوص الشرعية برباط وثيق، كما اهتم بفقه الدليل وأسباب الخلاف ومسألة رد الفروع إلى الأصول.
        وتبعاً لما ذكر فقد أصبحت المراجع الدراسية الفقهية متنوعة تجمع بين شروح نصوص الشريعة كتفاسير آيات الأحكام وشروح أحاديثها. والكتب التي تدرب على ربط الفروع بالأصول كـ”إيضاح المحصول” لأبي عبد الله المازري و”بداية المجتهد” لابن رشد الحفيد.
4- منهج فقه المختصرات:
      أبرزتُ الفرق بين اختصار المتقدمين واختصار المتأخرين هذا الذي أصبح سمة عامة تطبع فقه المتأخرين، حيث جدلية المتن والشرح على مستوى المحتوى التعليمي، وتقابلها جدلية الحفظ والفهم على مستوى الطرائق.
      وكتب المختصرات كثيرة جداً، اقتصرت منها على أشهرها على سبيل التمثيل كـ “مُختصر ابن الحاجب” و”مختصر الشيخ خليل” و”تحفة الحكام” لابن عاصم و”المرشد المعين” لابن عاشر. وقد دخل في هذا المنهج الدراسي بعض التجديد حيث اعتمدت المنظومات في تلقين أحكام الفقه وشرحها.
مستوى التقويم:
تناولت تقويم تدريس الفقه عبر مرحلتين: الأولى اعتنت بتقويم المناهج التراثية، والثانية اهتمَّتْ بتقويم التدريس المعاصر.
1- التقويم للتدريس التراثي:
      من أجل أن يكون تقويم الأداء التربوي الماضي موضوعياً، فإنني اعتمدتُ معيارين في الحكم على مناهج التدريس، واستبعدت معياراً ثالثاً لأنه يُنتج تقويماً موهوماً.
      أما أول المعيارين المعتمدين فهو الفحص الداخلي لمناهج التدريس الأربعة المذكورة، والمقارنة بينها لتتمايز مراتبها، وهكذا فقد أخضعت عناصر المنهاج لتقويم تفصيلي مقارناً بين المحتوى التعليمي في كل منهاج، وكذا بين طرائق التدريس وأساليب التقويم.
     وأما ثاني المعيارين المعتمدين فهو إسناد المناهج السالفة الذكر لبعض الثوابت التربوية المعلومة قديما وحديثاً، مما يمكننا أن نُسميه مسلمات تربوية، والغرض من هذا التقويم هو معرفة مدى اقتدار تلك المناهج على نقل منهج الاشتغال الفقهي إلى الطالب بإزاء نقل المعرفة الفقهية إليه، لأن الفقه في الحصيلة ليس مجرد أحكام جاهزة تنقل من الشيخ إلى الطالب، وإنما هو اشتغال عقلي من كليهما يتطلب خطة واضحة وإدماجاً لمحصلات علوم كثيرة، واستثماراً لمختلف المنازل العقلية. وأما المعيار المستبعد فهو الحكم على التراث التربوي من خلال معطيات التربية الحديثة، فلا شك في خطإ هذا المنزع النقدي وذهوله عن حقيقة النسبية المعرفية وتراكمية المحصلات عبر الأزمان.
2- التقويم للتدريس المعاصر:
     وقفت خلاله عند أهدم الاختلالات التي تعتور مجالس الدرس الفقهي المعاصرة، كقضية التفكك المنهجي في منظومة العلوم الشرعية، حيث لا يستطيع الطالب في نهاية الطلب الجامعي استثمار مختلف وحدات العلم الشرعي في إنتاج المعرفة الفقهية، وكذا قضية تضخم الجوانب التاريخية في درس الفقه، حيث يُعطى اهتمام مبالغ فيه لمؤيدات الدرس الفقهي كدراسة الأعلام والكتب والمدارس الفقهية والاصطلاحات… ويقل الاهتمام بصلب الدراسة الفقهية التي هي الاقتدار على استنباط الحكم الشرعي العملي وفق منهج علمي واضح يربط بين النص الشرعي ومعطيات الواقع المعاصر…
مستوى البناء والتركيب:
      في هذا المستوى الدراسة أحاول استثمار محصلات التقويمين: التراثي والمعاصر، من أجل تقعيد بعض الأسس النظرية والعملية التي ينبني عليها إصلاح تدريس الفقه. إن اصطلاح البناء يشير إلى قضية الاعتبار التاريخي، حيث أحاول استلهام جوهر التجارب الناجحة في بناء منهج معاصر وثيق الصلة بالتراث الأصيل.
      أما اصطلاح التركيب فيوجّه اهتمامنا إلى ضرورة التأليف بين مستخلصات التقويم التراثي ومستفادات التربية المعاصرة التي لا يسعنا إنكار تميزها في الكثير من القضايا المعرفية والمنهجية.
      يتدرج “بناء وتركيب” المنهاج الفقهي المعاصر من معالجة بعض الإشكالات ذات الطبيعة المعرفية/الابستمولوجية، إلى مقاربة مادة الفقه من زاوية النظر التربوية/البيداغوجية، ومن هذه إلى تحديد الصيغ العملية لإنجاز درس الفقه وهو ما يسمى العمل الديداكتيتي.
1- المرتكزات المعرفية لإصلاح تدريس الفقه:
      إن أساس إصلاح منهج تدريس الفقه هو النظرة الصحيحة لهذا المجال المعرفي فيما يرتبط بحقيقته وأهدافه ووظائفه، لأنه لا يصح بحال أن يكون الفعل التربوي (أي عملية التدريس) مناقضا لطبيعة المادة المدرسة. إن البحث في ماهية الفقه وفي وظائفه وأغراضه يُفضي إلى تحديد مجموعة من المرتكزات المعرفية التي تعد من الثوابت اللازم الاعتناء بها في درس الفقه وألخصها في المرتكزات الأربعة الآتية:
ـ المرتكز الأول: الطبيعة الاجتهادية للفقه الإسلامي على مستوى المنهج.
ـ المرتكز الثاني: الطبيعة المنفتحة للفقه التي تنأى عن المذهبية الضيقة.
ـ المرتكز الثالث: الطبيعة الاجتماعية للفقه ابتداءً وانتهاءً.
ـ المرتكز الرابع: الطبيعة العالمية للخطاب الفقهي في الهدف والمضمون.
2- المرتكزات التربوية الضابطة لدرس الفقه:
      اعتنت الدراسة في هذا الجزء بالتحليل البيداغوجي الذي يعالج الفقه في سياق تعليمي، وقد نتج عن ذلك تقعيد مجموعة من الضوابط التربوية التي يلزم الاهتمام بها أثناء تطوير عناصر المنهاج:
ـ الضابط الأول: القصدية في التدريس، أي الانضباط لأهداف مرسومة سَلفاً
ـ الضابط الثاني: الوظيفية في الدرس الفقهي.
ـ الضابط الثالث: التراكمية معرفياً والارتقائية منهجياً.
ـ الضابط الرابع: الإنتاجية أثناء الدرس الفقهي.
3- بعض الصيغ العملية لإنجاز درس الفقه:
      اقترحت ثلاثة مداخل ديداكتيكية يمكن إنجاز درس الفقه من خلالها، كل مدخل منها يناسب مرحلة جامعية معينة، ويتميز بمجموعة من الخصائص على مستوى أهداف التدريس ومحتوياته وطرائقه:
ـ الأول: المدخل المعرفي: يهتم بتلقين الأحكام الفقهية مقرونة بأدلتها وأوجه الاختلاف فيها بحيث تعرض المباحث المدروسة في نسق يجلي المنطق الداخلي للفقه ويكشف الترابط بين الكتب والأبواب والفروع الفقهية، ولهذا المدخل مجموعة من الكتب الفقهية بيّنت بعض نماذجها.
ـ الثاني: المدخل النصي: يعتني بتأصيل الفقه وترسيخ ملكات الاستنباط من النصوص، وقد لا يهتم الطالب في هذا المدخل بالنظام الفقهي المعروف أو بكثرة الفروع، وإنما المقصود هو تقوية الصفة الاجتهادية التي تمكن من التعامل المباشر مع القرآن والسنة.
ـ الثالث: المدخل الاجتماعي: يركز على الوظيفة الاجتماعية للفقه حيث تكون نوازل المجتمع موجهة لاختيارات البرنامج الفقهي وحافزة على رصد ظواهر المجتمع وتحليلها وتكييفها وفق نظر اجتهادي فقهي، وتعد كتب النوازل وفتاوى المجمعات الفقهية من أنسب مراجع التدريس وفق هذا المدخل.
      من خلال هذه المداخل الثلاثة يتمكن طالب الفقه من الدخول إلى صميم العمل الفقهي مع الاستفادة من كل الثراء المعرفي والمنهجي الكامن في التراث الفقهي.
      وبذلك تتعدد مراجع تدريس الفقه وتتكامل في كل مراحل الطلب إضافة إلى المداخل الديداكتيكية المذكورة اقترحت مجموعة من الصيغ العملية التي تسهم في تطوير عناصر المنهاج من ذلك ما يلي:
ـ تطوير المحتوى الدراسي:
عالجته من خلال البحث في مسألة اختيار البرنامج الدراسي، وأشرتُ خلاله إلى أصناف الكتب الفقهية ومدى مناسبتها لمراحل الطلب.
      كما عالجت تطوير المحتوى بالبحث في قضية تنظيم البرنامج إما وفق معيار معرفي يهتم بالمنطق الداخلي للفقه، أو بمعيار سيكولوجي يهتم بقابليات المتلقي.
ـ تطوير الطرائق والتقويم:
      أشرت إلى مجموعة من الطرق التربوية التي تحقّق الوصل بين الفقه وباقي وحدات العلم الشرعي من جهة، وبينه وبين مختلف العلوم والمعارف العقلية، كما أشرتُ إلى بعض الأساليب التي تركّز على الاشتغال الذاتي من المتفقّه وتأخذ بيده إلى مدارج الاجتهاد. وعالجتُ مسألة التقويم الفقهي مشيراً إلى تنوّع مقاصده وتعدّد وسائله، وقد ألمحت إلى بعضها بما يسمح به السياق.
      وفي سبيل تيسير التطبيق العملي للمنهاج المطوّر للفقه، فقد عقدت فصلاً خاصاً بيان المناخ العام الذي يتأتى معه إصلاح تدريس الفقه، وعالجتُ ذلك من خلال اقتراح مجموعة من الترتيبات الإجرائية والتنظيمية التي تساعد على الإصلاح سواء فيما يتعلق بمادة الفقه، أو بمنظومة العلوم الشرعية كلها.
     وفي خاتمة البحث نبّهت إلى بعض آفاق هذه الدراسة من أجل أن يستوي البحث التربوي على سوقه وتظهر أفضاله على علم الفقه وباقي علوم الشريعة، وأشرت إلى أهمية إصلاح تدريس أصول الفقه على وجه الخصوص، وكذا أهمية اعتماد آليات البحث الميداني في تشخيص المعطيات التربوية المعاصرة، وألمحت في نهاية المطاف إلى ضرورة وضع دليل عملي يرشد إلى أمثل الطرق والوسائل في تدريس الفقه، يكون سنداً للأستاذ والطالب وعونا لهما في مسيرة التفقه وطلب العلم.
     إن آفاق البحث التي نبّهتُ إليها تتمتّع بقدر وافر من القيمة العلمية والعملية، وهي مع ذلك مما تدعو الحاجة الآنية إليه.
      فنسأل الله تعالى أن يوفّر أسباب الاستمرارية في البحث والتحقيق ويهيئ شروط ذلك، ويرفع عنا الموانع والشواغل، من أجل أن نسهم ولو بنزر يسير في خدمة علوم الشريعة المطهّرة.
 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى