الباحث رشيد البقالي
نوقِشَت صبيحة يوم الأربعاء 18 محرم 1446هـ، الموافق 24 يوليوز 2024م، بجامعة محمد الخامس، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تقدّم بها الباحث رشيد البقالي، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد البوكيلي أستاذ التعليم العالي والأستاذ الدكتور السعيد الزاهري والأستاذ الدكتور المصطفى حدية.
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، تعاظم ملكوته فاقتدر، وتعالى جبروته فقهر، وأعز من شاء ونصر، ورفع أقواما وخفض أقواما فسبحانه الذي لا يرى بالبصر، ويستدل عليه بالآيات والعبر، وخلق كل شيء بقدر.
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الأنوران الأزهران على سيد ولد عدنان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته أجمعين ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
وبعد
فهذا تقرير مركز عن أطروحة الدكتوراه في الآداب: بمركز دراسات الدكتوراه” الإنسان والمجال في العالم المتوسطي”
في تكوين الدكتوراه: الفكر الإسلامي المعاصر وقضايا المجتمع والبيئة في العالم المتوسطي
ضمن فريق البحث: الفكر الاسلامي المعاصر وقضايا التربية والمجتمع والثقافة والبيئة
في موضوع: منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم وإعمالها في تطوير المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية ـ دراسة نظرية تطبيقية
وقد نوقشت الأطروحة من لجنة علمية مكونة من أصحاب الفضيلة الأساتذة الأجلاء: الدكتورة بثينة الغلبزوري والدكتور مصطفى الزباخ والدكتور أحمد العمراني والدكتور عبد الحق حنشي.
وبعد العرض والمناقشة والمداولة مُنِح الطالب الباحث درجة الدكتوراه في التربية والدراسات الإسلامية بميزة مشرف جدا مع تنويه اللجنة والتوصية بالطباعة.
تقرير الأطروحة
ليس يخفى أن موضوع القيم أضحى من أهم المواضيع في الفكر المعاصر، وإن الحديث في عالم اليوم عن منظومة القيم، حديث عن جوهر الإنسان من جهة، باعتبار القيم أحد مكونات الذات الإنسانية، وحديث عن مجال التدافع الحضاري والصراع الثقافي الحقيقي من جهة أخرى. وإن المتتبع لميادين التفاعل العلمي والثقافي في أبعاده الحضارية وعلاقاته بمجالات الهوية والانتماء، يلحظ بأدنى جهد كيف يشغل الجانب القيمي مساحات واسعة من النقاش الذي تسعى فيه كل مرجعية لإبراز قوتها وأحقيتها بعولمة قيمها في مختلف المجالات المرتبطة بالفعل الإنساني.
وإن الناظر للدراسات والأبحاث في مجال القيم يجد أنها تنحو مناحي متعددة، لعل أبرزها ما يعنى بالتأصيل لمنظومات القيم استنادا إلى مختلف المرجعيات، في محاولة لإثبات صلابة المرجعية الثقافية للبناء القيمي لكل حضارة قائمة في عالم اليوم، وهذا ما ينتج منطق المدافعة في سبيل السعي إلى تقديم الأنموذج الحضاري القيمي للإنسانية.
وإذا كان المسلمون يفتخرون عبر تاريخهم الفكري والثقافي، الغني بتجربة حضارية فذة بامتلاكهم لمنظومة قيم حضارية متكاملة ذات مرجعية صلبة ومتينة، مستندة إلى الوحي، ووجدت تجلياتها في بناء الإنسان، وصناعة محطات مشرقة من الحضارة الإنسانية، فإن هذه المنظومة لما تقدم بعد بصورتها المشرقة الوضاءة للبشرية، بل بقيت- رغم جهود كثيرة- مغمورة في أصولها النظرية، بل وحتى في تطبيقاتها العملية، حيث إن الكشف عنها وإجلاء حقيقتها إنما هو إجلاء لمنبع ثر لا يكاد ينضب بما يفتح من آفاق علمية وفكرية وحضارية.
ومن هنا انبجست مشكلة البحث:
فالعالم اليوم يموج بخطابات قيمية يطبعها التمايز والتباين في كثير من الأحيان، بحيث أصبح التموقع ضمن سياقات وتصورات نظريات القيم السائدة بمختلف مرجعياتها الفكرية والحضارية أمرا بالغ الصعوبة، لكون الاختلافات الثقافية السائدة تجعل سؤال القيم متعدد الإجابات، مختلف الأقطاب.
وحيث إن القرآن الكريم الذي هو أصل الأصول، وأساس المرجعية الإسلامية بما تضمنه من خزائن الحِكم والأحكام، وأخبار الماضين من الأمم في أحوالهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم.
هذا الكتاب الذي جعله الباري عز وجل (مُصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)، وجعله بين يدي أمة أرسل نبيها (رحمة للعالمين)
ألا ينطوي على تأسيس مرجعي للقيم؟
أليس حقيقا أن يكون القرآن الكريم نفسه – وهو الوحي المنزل- منبع منظومة القيم؟
وبهذا المعنى، أليست المرجعية القرآنية المؤسسة للقيم مرجعية صلبة أولى بالبيان والإجلاء، وقادرة على التدافع مع مختلف المرجعيات في عالم اليوم، بل وتجاوز المدافعة إلى تقديم الأنموذج؟
انطلاقا من هذه القضايا تناسلت أسئلة كبرى وكثيرة رسمت مسار هذا البحث، وخطت طريقه في محاولة الإجابة عنها.
ـ حيث تساءلنا أولا عن مدى إمكانية التأصيل لمنظومة القيم الكونية في القرآن الكريم من خلال استنباطها بمعايير علمية؟
ـ وعلى فرض وجود منظومة للقيم في القرآن الكريم، فإلى أي حد يمكن استثمارها في تطوير المنهجية المعرفية الإسلامية عموما وفي مجال التربية والتعليم على وجه الخصوص؟
ـ وإذا كانت أهمية القيم في مجال التربية والتعليم من المسلَمات، فما موقع القيم في المنظومات التربوية عموما وفي المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية على وجه الخصوص، وكيف يمكن تطوير المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية انطلاقا من منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم؟
واستنادا إلى هذا الإشكال، وإلى هذه الأسئلة التي تفرعت عنها أسئلة كثيرة:
تأسست فكرة هذه الأطروحة الموسومة ب: منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم وإعمالها في تطوير المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية
حيث هدفت إلى أمرين:
ـ الهدف الأول: تعزيز المحاولات العلمية الموجودة، والمتعلقة باستنباط منظومة القيم من القرآن الكريم، وهو أصل القيم وأساسها العظيم، بمعايير علمية حيث استندت فكرة البحث في هذه النقطة كما يبدو من العنوان على ثلاثة مرتكزات أساس:
1ـ المرتكز الأول: منظومة القيم باعتبار نسقيتها وترابطها
2ـ المرتكز الثاني: كونية القيم النابعة من عالمية الإسلام وكونية خطابه بما هو رحمة للعالمين
3ـ المرتكز الثالث: قرآنية القيم: حيث تأسس النظر في موضوع القيم على مصدرية القرآن الكريم
ـ أما الهدف الثاني من الدراسة فهو: بيان الإمكانات المعرفية والمسارات المنهجية التي تفتحها دراسة منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم على المستويين المنهجي والمعرفي في تطوير الفكر الإسلامي عموما والتربوي منه على وجه الخصوص، حيث إن الكشف عن منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم في عمقه إبراز للفاعلية القرآنية الكامنة المحتاجة إلى السبر والتحرير، لفتح آفاق بحثية متجددة، ترجع بالضرورة بالنفع على المنهجية المعرفية الإسلامية في مختلف أبعادها، سواء تعلق الأمر بالتعامل مع التراث، أو مصادر المعرفة، أو التفاعل مع القضايا المعاصرة، أو في العلاقة مع الأخر/ المخالف… أو في الرؤى التربوية التي تهدف إلى بناء الإنسان، من خلال المنظومة التربوية التي تجعل من أبرز غاياتها، بناء الصرح القيمي المتماسك للذات الإنسانية.
وانطلاقا من الأسئلة الكلية والفرعية المكونة لمشكلة البحث، ومن الغايات المرجو تحقيقها منه فقد انطلقنا في هذه الدراسة:
ـ من افتراض وجود منظومة للقيم الكونية في القرآن الكريم، كما افترضنا أيضا وجود نسق ناظم لمجموعها، فالقيم في منظور هذا البحث موسومة بسِمَة المنظومية وما تتطلبه من انسجام وتناغم وعلاقات وروابط، كما افترضنا كونيتها وصلاحيتها لتحقيق التدافع الحاضري
ـ كما افترضنا أن منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم أرضية ثرة معرفيا، إذا استوعبها العقل المسلم فعلت فعلها في إعادة إطلاق ملكاته المنهجية لإعمالها في تطوير المنهجية المعرفية الإسلامية سواء في منهج التعامل مع أصول المعرفة، أو في استثمار التراث أو تجديد الخطاب، والتعامل مع المخالف..
ـ كما افترضنا من جهة أخرى أن استثمار منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم من الناحية التربوية كفيل بوضع إمكانات كبرى لبناء وتطوير المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية على المستويين النظري والتطبيقي.
ونظرا لطبيعة البحث وبعده التاصيلي من جهة، والتربوي التطبيقي من جهة أخرى، فإن فقد اعتمدت ثلاثة مناهج يمكن تحديدها وفق التصور الآتي:
ـ المنهج الاستقرائي: ويحضر في الجانب التأصيلي من البحث، وقد تجلى بوضوح في تتبع القيم في القرآن الكريم ومحاولة حصرها واستنباطها وفق المعايير التي تم اعتمادها.
ـ المنهج الوصفي التحليلي: ويظهر هذا المنهج في مواقع متعددة من هذا البحث، وخاصة في وصف القيم ودرجاتها وتصنيفها، وبيان العلاقات الرابطة بينها في بعدها النسقي، كما سيبرز في الدراسة المقارنة لنماذج المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية ومدى حضور المادة القيمية بها.
ـ المنهج التحليلي الاستنتاجي: ويبرز هذا المنهج من خلال استخلاص منظومة القيم في القرآن الكريم، وتحليل أبعاد توظيفها في تطوير المنهجية المعرفية الإسلامية، وبناء وتطوير المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية.
كما اقتضت الدراسة في شقها التطبيقي التوسل ببعض الأدوات الخاصة بالبحث التربوي، وقد اقتضت الطبيعة المنهجية للبحث، وخصوصية الشق التربوي إعمال أداة بحثية خاصة هي: ” تحليل المضمون”، حيث تم إعداد شبكة تحليل المضمون، في محاولة قراءة موقع القيم في مضمون الكتاب التعليمي لمادة التربية الإسلامية بالمغرب.
ولما كان هذا الموضوع ذا طابع موسوعي، فإن الاشتغال عليه في سياق أطروحة جامعية لن يحيط بكافة جوانبه النظرية والتطبيقية، ولذلك فقد اقتصر – من باب تعميق الفائدة – على ما من شأنه أن يشكل إضافة في الموضوع، ولذلك فقد تم رسم حدود للبحث تجلت في:
ـ التأصيل لمنظومة القيم الكونية في القرآن الكريم وبيان قوة مرجعيتها وصلابة منطلقاتها، واستنباطها من القرآن الكريم.
ـ بيان أوجه إعمال منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم في تطوير المنهجية المعرفية الإسلامية إجمالا على مستوى: بناء وتطوير التفكير المنهجي الإسلامي في التعامل مع التراث وعلوم الوحي، وتطوير الخطاب الإسلامي، ومعالجة القضايا المعاصرة عموما والتربوي منه على وجه الخصوص، على سبيل الإيجاز والاختصار.
ـ استقصاء واقع وموقع إدماج القيم في مختلف المناهج الدراسية من خلال تتبع مناهج مادة التربية الإسلامية بكل من وتونس وقطر والمغرب وتحليلها ودراستها.
ـ دراسة موقع القيم القرآنية في منهاج مادة التربية الإسلامية بالمملكة المغربية، مع دراسة تطبيقية لواقع تنزيلها على مستوى الكتاب المدرسي المعتمد رسميا، وتم تخصيص الكتاب المدرسي لمستوى السنة الأولى من سلك الباكلوريا بالدراسة، لكونه يرتبط بسَنة إشهادية، يفترض فيها انضباط الممارسات التربوية لمقتضيات الأطر المرجعية الموحدة.
ـ اقتراح آليات نظرية وتطبيقية، ومعايير لإدماج منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم في تطوير نموذج منهاجي لمادة التربية الإسلامية، مع مقترحات عملية في إدماجها في تأليف الكتب التعليمية، والممارسات الميدانية في الفصول الدراسية.
وقد اقتضى النظر المنهجي لدراسة الموضوع بالإضافة إلى طبيعته، وتطور بِنيته مع تقدم البحث أن ينتظم في مقدمة وبابين وخاتمة.
حيث خصص الباب الأول: للدراسة النظرية لمنظومة القيم الكونية في القرآن الكريم من جهة التأسيس، حيث تناول هذا الباب فصلين اثنين:
الفصل الأول: تناول بالتحليل في مبحثه الأول: حقيقة القيم ومفهومها والمفاهيم القريبة، مع تحديد التعريف الإجرائي المعتمد، كما تناول هذا الفصل أيضا الأهمية التربوية للقيم بالنسبة للفرد والمجتمع، وتصنيفاتها
كما تناول هذا الفصل في مبحثه الثاني: التحديد المصطلحي الدقيق ل: منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم، والتفصيل في بيان المبررات المعرفية والمنهجية ومعايير استنباط المنظومة القيمية القرآنية، وبيان وجاهة معياريتها.
وفي الفصل الثاني: اتجه البحث في المبحث الأول منه إلى استنباط المنظومة من خلال إعمال المعايير المعتمدة، ومن خلال منهج استقرائي تام للقرآن الكريم، وقد تضمن هذا الفصل الجدول الإحصائي الشامل المتضمن للقيم، باعتماد المعيار اللغوي، على أساس الاحتفاظ بالجداول التفصيلية لعملية الاستقراء باعتماد المعايير الموضوعية والاستغناء عن إدراجها في البحث حيث تعدت عدد صفحاتها الأربعمائة (400) صفحة، حيث سيجعل إدراجها ضمن البحث عدد صفحاته تزيد عن الألف (1000)، وهو أمر لا حاجة إليه.
وخصص المبحث الثاني من هذا الفصل للحديث عن الغايات المنهجية لإعمال منظومة القيم الكونية القرآنية المستنبطة في تطوير المنهجية المعرفية الإسلامية
أما الباب الثاني: فتناول إعمال منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم في تطوير المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية في ضوء منهاج المادة بالمملكة المغربية، واقتضت الخصوصية المنهجية، والطابع التربوي الخالص لهذا الباب أن ينتظم في فصلين:
خصص الفصل الأول: لواقع إدماج القيم في المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية في بعض دول العالم العربي من خلال عرض التجربتين التونسية والقطرية، اعتمادا على الوثائق المنهاجية المؤطرة، وتلمس مدى حضور عناصر منظومة القيم الكونية القرآنية في البناء القيمي للمنهاج.
أما الفصل الثاني: فخصص لاقتراح رؤية لتفعيل منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم في بناء وتطوير المناهج التعليمية لمادة التربية الإسلامية في ضوء التجربة المغربية: حيث تم عرض واقع االخطاب القيمي في منظومة التربية والتعليم بالمغرب استنادا إلى الوثائق التأسيسية، مرورا بعرض تجربة منهاج مادة التربية الإسلامية في استدماج القيم مع تلمس مدى حضور عناصر منظومة القيم الكونية القرآنية فيه، وفي ثنايا الكتاب المدرسي باعتماد شبكة تحليل المضمون، ليختتم هذا الفصل بعرض المقومات الأساس لإدماج هذه المنظومة القيمية في مناهج المادة مع أمثلة تطبيقية لبناء مصفوفة قيم مركزية وفرعية، مع مقترحات عملية في استثمارها في بناء الكتب التعليمية وتدبير التعلمات على مستوى الممارسة الصفية.
وعرضت في خاتمة البحث خلاصات البحث ونتائجه، وأهم التوصيات، وذيلتها بملحق لجداول الآيات الخاصة بجرد منظومة القيم من القرآن الكريم لإبراز مصداقية المنهج الاستقرائي، ثم بفهرس الآيات القرآنية الكريمة وفهرس الأحاديث النبوية الشريفة، ولائحة للمصادر والمراجع المعتمدة وفهرس للمحتويات.
ولم يخل مسار البحث من صعوبات قد تعترض سبيل أي باحث في سلك الدكتوراه، أحدد منها ثلاثة وأعتبر الفاضل عنها من باب التكليف بما يطاق:
ـ الصعوبة الأولى: شساعة موضوع البحث وما يتطلبه من عمل فريق متكامل.
ـ الصعوبة الثانية: حلول جائحة كورونا وما فرضته من توقف عرَضي للأعمال البحثية المرتبطة بالفضاءات الجامعية والأكاديمية والمكتبية.
ولقد أفضى بي البحث في الموضوع إلى جملة من القضايا، هي بمثابة خلاصات انتهت بنا إلى اقتراح جملة من التوصيات نجملها في ما يلي:
الخلاصات:
ـ الخلاصة الأولى: مشكلات الدراسات في مجال القيم:
تقتضي الدراسة المنهجية لموضوع القيم الإجابة على مجموعة من الإشكالات النظرية التي يطرحها، وخاصة في التناول المرجعي، في سياق التعددية، وما يفرضه من المعادلة بين خصوصية المفاهيم وتعدد المرجعيات (الخصوصي والكوني)، (التأسيس للمشترك الإنساني)… و كذا الحسم في منظومة القيم القرآنية، ثم في الضوابط والمعايير العلمية و التربوية لإدماجها في المناهج التربوية، وهذا يحتاج جهدا علميا كبيرا لا يمكن اختزاله في دراسات وأبحاث فردية بقدر ما يتطلبه من جهود فكرية لفرق بحثية بين- تخصصية متكاملة.
ـ الخلاصة الثانية: منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم:
بعد استقراء التعريفات المختلفة للقيم الإسلامية، وتتبع جهود العلماء والمفكرين والباحثين في استخلاص النسق القرآني للقيم، لاحظنا أنها في الحقيقة منظومة متكاملة تجمع ما هو ديني بما هو فلسفي وما تشريعي وما هو أخلاقي سلوكي.
كما تبين لنا أن التنوع في مُخرجات البحوث والدراسات المستقرئة للقيم في القرآن الكريم، معززةٌ لمكانة الدرس القيمي، ومبرزة لأهمية البحث فيه.
كما توصلنا من خلال هذا البحث إلى اعتماد معايير علمية لاستنباط منظومة قيمية متكاملة من القرآن الكريم، لتوضع بين أيدي الباحثين لاستثمارها معرفيا ومنهجيا في مختلف مجالات الدرس الفكري..
ـ الخلاصة الثالثة: الأهمية الحضارية والفكرية والتربوية لمنظومة القيم الكونية في القرآن الكريم
توصلت الأطروحة إلى نتيجة مفادها أن منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم من الناحية الحضارية مؤسِسة لقيم المشترك الإنساني باعتباره مطلبا كونيا، وهي منطلق لترميم صرح القيم الإنسانية المنهار، وإنقاذ البشرية من العوَز القيمي والفراغ الروحي والخواء الأخلاقي الجاثم على صدرها، خاصة وأنها بمرجعية الوحي مترفعة عن المصالح الضيقة والمنافع المادية المحدودة.
ومن الناحية الفكرية توصلت الأطروحة إلى أن منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم، منطلق معرفي لإطلاق المَلكات المنهجية للعقل المسلم لتجديد واستئناف النظر في المنهجية المعرفية الإسلامية، ومقتضياتها من أصول للمعرفة، وتراث للأمة، وتطوير للخطاب.
أما في ما يتعلق بأهميتها التربوية فقد أكدت الأطروحة أن منظومة القيم الكونية القرآنية تؤسس لمنطلقات أصيلة لبناء وتطوير المناهج التعليمية، وفق مقاربة منسجمة وطبيعة المتغيرات المتسارعة في عالم اليوم وما تفرضه من تحديات.
ـ الخلاصة الرابعة:
المناهج الدراسية مفتقرة بالضرورة إلى أنموذج قيمي متكامل، أصيل في منطلقاته، مجرب في المسار الحضاري للإنسانية، ثابت الفعالية، نابع من مرجعية واحدة وإن تعددت روافدها، تؤسس عليه- أي على هذا الأنموذج- الرؤى التربوية لسائر مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وتنبني عليه المناهج الدراسية في أسسها، وتوجه مختلف مكوناتها انطلاقا من الأهداف والغايات، ومرورا بالمحتويات وبالأنشطة التعليمية التعلمية، والوسائل والطرائق وأنماط التقويم والدعم.
ثم إن الدول التي تفتقر إلى رؤية واضحة لمنظومة القيم وإدماجها في البرامج والمناهج الدراسية، لحري بها أن تفشل في برامجها وسياساتها التعليمية، حتى وإن توافرت الظروف وعوامل النجاح الأخرى.
ـ الخلاصة الخامسة:
تتبع النماذج المنهاجية لمادة التربية الإسلامية في بعض دول العالم العربي، يوضح بجلاء أن مدخل القيم متحكم في مفصلياتها، وموجه لمفرداتها، فالتجربتان التونسية والقطرية اللتان عرضهما البحث تؤسسات لنموذج تربوي مُنْبَنٍ على القيم الإسلامية بمنظورها الحضاري، كما أن تتبع شبكة القيم بهذه المناهج يجعلنا نتلمس بعض مفردات منظومة القيم الكونية القرآنية بالتصريح أحيانا وبالتلميح أحيانا أخرى.
ـ الخلاصة السادسة:
يقتضي إدماج منظومة القيم الكونية القرآنية في المناهج التربوية اعتماد مجموعة من المعايير المنهاجية والبيداغوجية، وهي:
أولا: المعايير المنهاجية.
ثانيا: المعايير البيداغوجية.
ـ الخلاصة السابعة:
ظهر من خلال تحليل وثيقة المنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية وباقي الوثائق المؤطرة للمنظومة التربوية ببلادنا أن هناك إشكالا حقيقيا يتعلق بمنظومة القيم وبطريقة إدماجها، وهي: إشكالية الازدواجية في المرجعية القيمية في الوثائق الرسمية.
فتارة يتم التعبير عن هذه القيم ب “القيم الإسلامية” و”التشبع بالقيم الدينية” و “قيم العقيدة الإسلامية السمحاء” و “قيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية”.
وتارة أخرى نسجل حضورا لافتا لقيم المعاصرة والحداثة، وما يدور في فلكها مثل: “قيم حقوق الإنسان ” مع أن المرجعيتين بينهما ما بينهما من التمايز والاختلاف المرجعي.
وهذه الملاحظة لا تتعارض مع عالمية القيم القرآنية وكونيتها، لأن مفهوم عالمية القيم الإسلامية لا يعني أن نقبل التجرد من قيم الإسلام وخصائصه التي جاء بها للعالمين، وننصهر في قيم لا تعترف بالخالق أو بأخلاق الفطرة تحت غطاء الحداثة والمعاصرة والانفتاح على الآخر.
ـ الخلاصة الثامنة:
لمسنا من خلال تتبع الوثيقة المنهاجية أن قيم التوحيد والمحبة والإحسان من القيم القرآنية التي أفرزتها الدراسة الاستقرائية للقرآن الكريم، واستثمرها المنهاج باعتبارها قيما ناظمة، مع تفاوت في مستوى التناول التطبيقي في الكتب التعليمية والممارسات الصفية.
غير أن الملاحظ في تنزيل التصور القيمي المنهاجي على مستوى الممارسة الديداكتيكية داخل الفصول تشوبه مجموعة من النقائص،من أهمها:
الانفصام الكبير بين النسق الذي يحكم إدماج القيم وتدريسها في المنهاج الجديد لمادة التربية الإسلامية، والنظرة التجزيئية الذرية التي تقدم بها القيمة المركزية والقيم الناظمة في الكتب المدرسية، حيث اقتصرت لجان التأليف، في الغالب الأعم، على تأثيث الكتب المدرسية بالقيم الفرعية التابعة للمضامين المعرفية في كل درس عوض أن تربطها بالقيم الناظمة للمادة من جهة، وبمقاصد المادة ومداخلها من جهة أخرى.
التوصيات:
إن ما توصل إليه البحث من خلاصات واستنتاجات معرفية ومنهجية وتربوية، تفتح للدارس جملة من المنافذ البحثية التي أصوغها على شكل توصيات للبحث، أجملها في ما يلي:
ـ أولا: أهمية تحقيق التراكم المعرفي في مجالات القيم من خلال الدراسات والأبحاث، أو من خلال المراكز البحثية المتخصصة، أو من خلال مختلف مساحات النقاش العلمي الأكاديمي في المؤتمرات والندوات المتخصصة، وتبرز الأبحاث المؤصلة لنظرية القيم في الفكر الإسلامي، باعتبارها قضية ذات أولوية تفرضها طبيعة القلق المعرفي في ظل زخم تساقط النماذج الأخلاقية لبعض المرجعيات الثقافية في عالم اليوم، بما يدعو إلى ضرورة الاشتغال على إبراز النموذج الأخلاقي (المُخَلِص) من خلال منظومة القيم القرآنية، والترافع بشأنها لإبراز قوتها المرجعية، وإشراقاتها الحضارية، وأصالتها في الحفاظ على مصالح الإنسان، بل وإنسانيته.
ـ ثانيا: الاشتغال التأصيلي على منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم لا يزال يحتاج جهودا كبيرة على مستوى تتبع ما نتج من استقراء الكتاب العزيز من هذه الشبكة القيمية، وإبراز تجلياتها في السنة النبوية والتاريخ المشرق للأمة لتعزيز هذه المنظومة وإبراز صلابتها نظريا وصلاحيتها تطبيقيا.
ـ ثالثا: تطوير المنهجية المعرفية الإسلامية في التعامل مع الوحي، ومع التراث، ومع المخالف، وتطوير الخطاب الإسلامي انطلاقا من منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم، مجال بحثي خصب، وسيفتح أبواب الاستئناف المنهجي للفكر الإسلامية بما يجعله فكرا متجددا وقادرا على التعامل مع قضايا العصر وتحدياته من زاوية جديدة تشكل نقطة التقاء واتفاق مبدئي بين مختلف الثقافات والحضارات.
ـ رابعا: ضرورة تعميق الأبحاث التربوية المُبَينة لأوجه الاستثمار التربوي متعدد الأبعاد لمنظومة القيم الكونية في القرآن الكريم، في التربية الاسرية والوالدية منها على وجه الخصوص، وعلى مستوى بناء المناهج التعليمية، والخطاب التربوي الديني، والخطاب الإعلامي التوجيهي، وغيرها من مجالات التنشئة الاجتماعية للطفل بما يحقق تربية إسلامية أصيلة، تضمن الحصانة الفكرية، والمناعة النفسية، والانضباط السلوكي.
ـ خامسا: أهمية توجيه البحوث إلى تقييم المناهج الدراسية عموما، ومناهج التعليم الديني على وجه الخصوص في ضوء منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم، والعمل على إعداد تصورات منهاجية أُسها وقوامها القيم الكونية القرآنية.
ـ سادسا: ضرورة الحسم في الفلسفة القيمية التي تؤطر المجتمع المغربي بتحديد مصادرها وخصائصها، وذلك بعد الدخول في نقاش مجتمعي يستوعب جميع الأطياف المشكلة لبنية المجتمع، مع الحفاظ على الثوابت والمقدسات التي ينص عليها دستور المملكة.
ـ سابعا: تحتاج الكتب المدرسية والممارسات الصفية إلى تبني مقاربات أكثر عملية وفاعلية في تدريس القيم حتى تنسجم مع الرؤية الكلية لمنظومة القيم، ويعتبر التكوين المستمر في مجال تدريس القيم من القضايا التي تحتاج مزيد عناية واهتمام لتكوين أجيال من الباحثين من الجيل الجديد القادرين على التحكم في مدخلات ومخرجات المناهج الدراسية برؤية شمولية وبنفس قيمي غايته إعداد الفرد الإعداد الشامل في ضوء مبادئ التربية الإسلامية.
والحمد لله رب العالمين
زر الذهاب إلى الأعلى