مشاريع مدونات الأسرة

توضيحات واقتراحات

حوار مع الأستاذ سعيد هلاوي

ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعريف بالأستاذ الدكتور سعيد هلاوي
– أستاذ التعليم العالي مؤهل بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط منذ العام 2011، بعدما قضيت إحدى عشرة سنة منتدبا قضائيا إقليميا بوزارة العدل.
– كاتب عام الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في ركن الزكاة ورئيس تحرير مجلة شؤون الزكاة
ـ عضو المكتب المسير لجمعية ملتقى العلوم والمجتمع
ـ عضو المكتب المسير للمركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية
-عضو بعدة مختبرات وفرق للبحث وبنيات للتكوين في الدكتوراه بجامعة محمد الخامس وجامعة ابن طفيل وجامعة عبد المالك السعدي وجامعة الحسن الثاني.  
ـ عضو مؤسس بعدة جمعيات ثقافية وتنموية وعلمية.
من مؤلفاته:
ـ كتاب العقل والتفكير السليم عند ابن القيم، الرباط، سلسلة رسائل في الفكر والتربية عند ابن القيم رقم 1، مطبعة طوب بريس، الطبعة الأولى 2009م.
ـ كتاب آراء ابن القيم في فنون مصطلح الحديث، سلسلة علوم ابن القيم رقم 1، الرباط، مطبعة طوب بريس، الطبعة الأولى 2012م / 1433هـ.
ـ كتاب دليل المقاصد التربوية لمرحلة التمييز، الجزء الخامس من موسوعة المقاصد التربوية للمراحل العمرية للطفولة والشباب، جدة، إصدار مركز قراءات لبحوث ودراسات الشباب ومركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط، ط 2، 2017م.
ـ عضو فريق إعداد موسوعة القيم الكونية في القرآن الكريم وتطبيقاتها الفكرية والتربوية
البحوث والدراسات العلمية المنشورة:
ـ “التحيزات المذهبية والحاجة إلى تأسيس التقائية جديدة بين العلوم الإسلامية”، بحث منشور ضمن كتاب الاختلاف في العلوم الإسلامية والإشكال المرجعي، تنسيق المصطفى الهند، المحمدية، منشورات كلية الآداب بالمحمدية، سلسلة دفاتر البحث العلمي رقم 29 الطبعة الأولى، 2018م.
ـ “إشكال المنهج في البحوث العلمية الجامعية”، مقال علمي ضمن كتاب مناهج البحث في العلوم الإسلامية، تنسيق ذ محمد قجوي، ضمن منشورات مؤسسة النور للبحوث والدراسات، سلسلة دورات تكوينية علمية، رقم 1، الطبعة الأولى، 1919م / 1440هـ.
ـ “الأسس الدينية الإسلامية لراية التنوع الثقافي”، بحث منشور ضمن كتاب جماعي (رهانات التفاعل الثقافي)، تنسيق الدكتورة عواطف الكوشي، الرباط، منشورات كلية الآداب بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات، رقم 83، ط الأولى 2020/ 1441هـ.
سؤال 01:
     بداية نرحب بالأستاذ الدكتور سعيد هلاوي ونشكره كثيرا على قبول الإجابة على أسئلة هذا الحوار الهام.
      من المعلوم أن الله تعالى استخلف الإنسان في الأرض تكليفا وتشريفا، فما هي الأدوار الاستخلافية الأساسية، التي ينهض بها كل فرد داخل الأسرة، والتي تنهض بها الأسرة في حياة الأمة انطلاقا من الحديث النبوي “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..”؟
      لقد كرم الله عز وجل الإنسان وميزه على سائر المخلوقات، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، فقال سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)(الإسراء/70)، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية/12 ـ 13)، وجعله مستخلفا في الأرض، وذلك بمقتضى العهد الذي أخذه الإنسان على نفسه مع خالقه، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب/72)، وبمقتضى قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ)(الأنعام/165)، وقوله سبحانه: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)(الحديد/7) وقوله سبحانه: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود 61).
      وينهض الإنسان بمقتضى هذا التكريم الذي حظي به وبمقتضى أمانة التكليف والمسؤولية التي تحملها بعدة أدوار استخلافيه، بعضها يتعلق بعلاقته بالكون وبسائر المخلوقات فيه، مثل عمارة الأرض، والمحافظة على النظام الكوني، وإقامة العدل ونبذ الظلم، ونشر الفضيلة والصلاح؛ وبعضها يتعلق بصفته وموقعه القانوني والتربوي داخل الأسرة، مثل مقام الأبوة للآباء، ومقام الأمومة للأمهات، ومقام البنوة بالنسبة للأبناء اتجاه آبائهم، وغيرها من الأدوار التابعة للمواقع والمقامات القانونية والتربوية لأطراف الأسرة كالعمومة والخؤولة وغيرها من الصفات، علما أن هذه المواقع والصفات تترتب عنها أدوار استخلافية ومسؤوليات تكليفية، لقوله صلى الله عليه وسلم: ” كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ) (رواه البخاري ومسلم).
      وتبعا لما ذكر ولأن الأسرة هي الوحدة الأساسية في المجتمع وهي بمثابة الخلية في الجسم، فهي تقوم بعدة أدوار ووظائف استخلافية في حياة الأمة، مثل وظيفة المحافظة على النوع الإنساني من خلال الإنجاب، ووظيفة التنشئة الاجتماعية، ووظيفة تحقيق أهداف الأمة، ووظيفة إشباع الحاجات الأساسية لأفراد الأسرة، وامتصاص التوترات التي يتعرضون لها بفعل ضغوطات الحياة؛ وقبل ذلك كله وبعده ومعه توريث القيم الإنسانية العليا والتنشئة الدينية للأجيال على العقيدة الصحيحة والتوعية السليمة، كل هذه الوظائف وغيرها تقوم بها الأسرة التي تكون أسرة سليمة مبنية على أسس صحيحة.
سؤال 02:
      بعد تطبيق إصلاح مدونة الأسرة في المغرب على مدى عقدين تقريبا، انكشف ما اكتنف بنودها من اختلال وقصور، هل لكم أن تسوقوا لنا بلغة الأرقام ماذا كانت الحصيلة في الواقع؟ وما هي أهم الاختلالات المسجلة.
      يعد إصدار مدونة الأسرة التي دخلت حيز التنفيذ سنة 2004 تطورا مهما في التشريع المغربي المعاصر، وذلك بالنظر إلى ما كان يتوقع من هذه المدونة، في مجال حل النزاعات الأسرية، وتحقيق التوازن بين أطرافها الأساسية، مع تحقيق المصلحة الفضلى للأطفال. وبعد أكثر من ثماني عشرة سنة من التطبيق، بينت الدراسات والبحوث العلمية، أن مجموعة من الظواهر السلبية المرتبطة بالأسرة المغربية التي ربما كانت خافية ازدادت حدتها، وعوض أن تقوم التشريعات والمساطر بالحد منها زادتها اشتعالا. يصدق هذا على الطلاق الذي فتحت مسطرة الشقاق بابه على مصراعيه، لتصل هذه الظاهرة إلى أكثر من مائة وعشرين ألف طلاق سنة 2021.
      وفي مقابل ارتفاع الطلاق وما يتبعه من التفك الأسري، وتشرد الأطفال وما إلى ذلك من الظواهر، تراجع الزواج وارتفعت نسب العنوسة في صفوف الإناث، وكذا العزوف عن الزواج في صفوف الذكور.
      ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أنني أحمل المسؤولية للتشريعات والمقتضيات الواردة في المدونة، فالمسؤولية في نظري تتحملها الثقافة، التي تم الترويج لها وللأسف أحيانا حتى في الإعلام الرسمي، خلال مواكبة إخراج هذه المدونة، والتي قدمت في غالب الأحيان كما لو كانت انتصارا للمرأة على الرجل، ما جعل الميزان يختل، وسرب الريبة والشك إلى أفراد الأسرة، وأضحت الأسرة المغربية تشهد تحولات عميقة، انتقلت بالعلاقات بين أطرافها من علاقات مبنية على المكارمة إلى المشاحة، ومن الفضل إلى الحسابات الضيقة، ومن المسؤولية إلى حرص كل طرف على موقعه القانوني.
سؤال 03:
      يغلب على الخطاب النضالي في واقعنا العربي الإسلامي المطالبة بالحقوق دون اعتبار يذكر للالتزام بأداء الواجبات، فما مدى حضور هذا الخلل في الدعوات، التي تتطلع لمراجعة مدونات الأسرة عربيا وإسلاميا، وكيف يمكن تصحيح هذا الخطاب؟
      العمل النقابي في أصله عمل إنساني نبيل، لأنه يحقق وظيفة التوازن الاجتماعي، من خلال الدفاع عن المظلومين وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، وغير ذلك من الوظائف التي يحققها. لكن للأسف رافقه خلال القرن الماضي الترويج لثقافة المظلومية وخطاب المطالبة بالحقوق دون التوعية بأهمية القيام كذلك بالواجبات. وسبب هذا هو تسرب أفكار مادية، ونزعات غريبة على الثقافة الإسلامية، إلى المعامل والمؤسسات والحركات النقابية، ثم بعد ذلك انتشرت هذه الثقافة في المجتمع كله بما في ذلك الاسرة. فالتصور الإسلامي الصحيح للفعل الاجتماعي هو أن يكون مبنيا على شعار “أداء الواجبات بأمانة ومسؤولية والمطالبة بالحقوق بالعدالة”؛ لكن طغيان الخطاب الليبرالي وثقافة الفردانية والنزعات المادية، لدى كثير من الحركات المناصرة لحقوق المرأة، جعلتها تركز على الحقوق دون التوعية بالواجبات، في حين أن ضياع كثير من الحقوق سببها عدم أداء كثير من الرجال والنساء لواجباتهم، فحقوق بعض أفراد الأسرة واجبات آخرين. وللأسف عوض أن نحافظ على تلك الروح المؤسساتية، التي يهدف نص المدونة إلى بثها في المجتمع، من خلال تسمية المدونة بمدونة الأسرة، أصبحت كثير من الجهات الثقافية والحقوقية والإعلامية، تركز على المواقع القانونية لأفراد الأسرة خاصة موقع المرأة، دون الانتباه إلى أهمية تقوية المؤسسة الأسرية ككل، لخير أفرادها كلهم رجالا ونساء وأطفالا.
سؤال 04:
      تتعالى صيحات المطالبة بالمساواة بين النساء والرجال، والرامية إلى تحقيق العدل بين الجنسين، فكيف يمكن بيان غلط هذا المسلك وزيغه عن جادة العدل إلى عين الظلم؟
      المساواة بين الرجال والنساء مبدأ مقرر حتى في التصور الإسلامي، فحينما نتحدث عن الرجل والمرأة بشكل مجرد فالنساء والرجال متساوون في النوع الإنساني، ومتساوون في التكليف وفي تحمل المسؤولية الاجتماعية ومسؤولية الاستخلاف، متساوون أمام القانون، متساوون في أصل الخلقة الإنسانية، متساوون في الأحكام كما ورد في الحديث النبوي (النساء شقائق الرجال في الأحكام) .لكن ما تنادي به بعض الحركات الأنثوية المتأثرة بالنسوية المتطرفة في الغرب، من أفكار غريبة تحمل مسؤولية هضم حقوق المرأة للرجل، والقول بأن العصور الماضية كانت لصالح الرجل (أبيسية) والآن ينبغي أن تكون (أميسية)، وما إلى ذلك من الأفكار الغريبة، إلى حد إنكار الاختلافات الفيزيولوجية بين الرجال والنساء، والقول بأن الرجل لا يولد كذلك ولا المرأة إنما التنشئة الاجتماعية هي التي تصنع من الإنسان رجلا أو امرأة، كل هذا لا يمت بصلة إلى مبدأ المساواة الذي تحدثنا عنه. ثم إن مبدأ المساواة لا يعني المماثلة في الوظائف والأدوار، فحينما يأخذ الرجل والمرأة كل واحد منهما موقعه التربوي أو القانوني أو الاجتماعي فلا يمكن آنذاك الحديث عن المماثلة، لأن مواقع المسؤولية تختلف، فوظيفة الأمومة مثلا تقتضي تهيء المرأة لتلك الوظيفة، والأبوة تقتضي تهيء الرجل كذلك لها، وهكذا شأن كل الأدوار والوظائف.
سؤال 05:
      يمكن القول بأن الشرع الحكيم يعتبر المسؤولية التكليفية هي الأساس المكين للمساواة بين الجنسين، وداخل كل جنس على حدة، فهل لكم توضيح حِكَم وأبعاد هذا الاتجاه؟
     تتأسس العلاقات الاجتماعية والإنسانية عموما في التصور الإسلامي، على جملة من المفاهيم المركزية، تشكل في مجموعها نظاما يؤطر هذه العلاقات، في اتجاه أداء الإنسان لأمانة التكليف والمسؤولية على وجه الأرض. في هذا الإطار يأخذ مفهوم المساواة مكانه إلى جانب مفاهيم أخرى كالعدل والإنصاف والتعاون والأمانة وغيرها من القيم الكبرى. وهذه الشبكة من المفاهيم تشتغل في نظام ونسقية وليس بشكل منفرد كما يتصور أدعياء الفردانية. فالحقوق إزاء الواجبات، والأخذ مقابل العطاء. فمن الخطأ أن نتصور الحياة كما لو كنا كائنات تعيش بشكل منفرد، نحن بشر خلقنا الله في هذا الكون، بيننا علاقات اجتماعية، لا ننفك عنها منذ الولادة، تترتب عن تلك العلاقات مسؤوليات وأدوار، ومواقع قانونية واجتماعية وتربوية، نتبادل من خلالها حقوق وواجبات. والمساواة هنا وفي هذا الإطار تبقى مبدأ عاما يؤكد مساواة الناس في الإنسانية أمام الشرع وأمام القانون، لكن ليس من العدل أن يتساوى أصحاب المسؤوليات المختلفة، والأدوار المختلفة والتضحيات المختلفة والوظائف المختلفة، آنذاك ستكون التسوية بين غير المتماثلين، والشرع الإسلامي أسس قاعدة عظيمة! تأسست عليها منظومة الحقوق في الإسلام؛ هي قاعدة “التسوية بين المتماثلين من كل وجه” أما المتفاوتان فلا تسوية بينهما.
سؤال 06:
      تعول معظم مشاريع الإصلاح الأسري على تغيير القوانين، دون اعتبار محدودية تأثيرها في النهوض بواقع الأسرة، ما لم يؤسس له بإصلاح تربوي مجتمعي شامل، فإلى أي حد تؤكدون صدق هذا الرأي؟
      التشريع مهم لتأطير الأفراد والمجتمعات، وتقرير الحقوق واستيفائها، وضبط سلوك الإنسان عموما وفق مرجعيات معينة. لكن التشريع والتقنين لا يكفي لوحده: فمثلا في مجال الأسرة قد لا نحتاج إلى التشريع إلا عند تأسيس الأسرة (الزواج) أو عند إنهاء الرابطة الزوجية، أو في محطات قليلة بين هاتين المحطتين. وتبقى التربية هي التي ترافق الأسرة خلال دورة حياتها كلها. فحين صدرت مدونة الأسرة ساد الاعتقاد لدى الناس أن مشاكل الأسرة ستقل، لكن ازدادت هذه المشاكل واتسع نطاقها، لأن مؤسسات التربية والتوجيه والإعلام، والاتصال والتأطير والدعم لم تقم بدورها كما ينبغي. هذا أولا وثانيا هناك غياب لمؤسسات داعمة لمؤسسة الأسرة؛ كالوساطة والإرشاد الأسريين، ومؤسسات الحضانة وغيرها من المؤسسات، التي يمكن أن تواكب الأسرة في دورة حياتها. على العموم نحن نحتاج إلى إصلاح تربوي مجتمعي، فالتربية والتعليم هما أساس النهوض بالمجتمع، وعبر التربية والتعليم يتم بث القيم الإيجابية في النفوس ويتم استنهاض الهمم، ثم ستأتي نتائجها الطبيعية بعد ذلك تدريجيا على مستوى التنمية والتقدم، وإحقاق الحقوق وأداء الواجبات.
سؤال 07:
      يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] تشير هذه الآية إلى كون الزواج عقد مكارمة وتراض لاعقد مشاحة ومحاسبة، أين يتجلى ذلك في نظركم من خلال التشريعات الأسرية؟
      تؤسس هذه الآية لطبيعة العلاقات، التي ينبغي أن تسود داخل الأسرة، ومن تم داخل باقي مؤسسات المجتمع. فالزواج الذي هو مفتاح هذه المؤسسة عقد شرعي مقصده المساكنة الشرعية، بمعنى أن كلا الزوجين يسكن إلى الآخر. والمساكنة هي أقصى درجات الانسجام. وطبيعة العلاقة، التي ينبغي أن تسود بين طرفي هذه المؤسسة الأساسيين وهما الزوجان، ثم تسري إلى باقي أفراد الأسرة، ينبغي أن تحكمها المكارمة لا المشاحة كما يقول الفقهاء. فالمكارمة تقتضي المودة والرحمة وما في معناهما، أما المشاحة فتقتضي المحاسبة والمشاكسة وما في معناهما، وطبيعة الأسرة بما هي محضن كل أفرادها تأبى ذلك. لذلك يخطئ من يتحدث عن الصراع داخل الأسرة، كما تذهب إلى ذلك النظرية الماركسية، ويخطئ من يسعى إلى إقامة العلاقة بين أطراف الأسرة كما لو كانوا أفرادا في شركة. فروح التضامن والتساكن والمودة والرحمة وما في معنى هذه القيم، هي وحدها الكفيلة بضمان جو إيجابي داخل الأسرة ينأى بها عن النزاعات التي تعيق مسيرتها.
سؤال 08:
      تنطلق جهات معينة من التغيرات الكبيرة، التي طالت واقع الناس في هذا الزمان، لتدعو إلى تجاوز بعض الأحكام المقررة في الشرع، واعتماد بدلا عنها قوانين وضعية، تبدوا لهم أكثر إنصافا وملائمة لإنسان العصر الحديث، فما هو تقويمكم لهذا الموقف، وما نصيبه من الصواب والخطأ.
      لقد أرسى الشرع الإسلامي الأسس الثابتة، التي ينبغي أن تقوم عليها مؤسسات المجتمع بما فيها الأسرة. وهي أسس لا تخضع للتبدل ولا للتغيير، فحدد كيفية إنشاء الأسرة، وطبيعة العلاقة التي يتعين أن تسود بين أفرادها، وحدد الحقو ق والواجبات والمعايير، التي ينبغي أن تحكم مسيرة هذه المؤسسة، وترك مساحات كثيرة هي التي يمكن أن تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، والعوائد والأعراف وما إلى ذلك. فالله عز وجل الذي خلق الإنسان ويعلم نفسيته هو الذي وضع تلك المعايير. فالقوانين التي يضعها الإنسان بناء على هواه أو شهواته، لم ولن تكون أفضل مما وضعه الشرع الإسلامي. هذا إجمالا حينما يتعلق الأمر بالأسس النظامية للأسرة ومنها الإرث وتقسيم الإرث والمهر وغيرهما، فالشرع الحنيف قد وضع هذه الأسس، وحدد الأدوار والمسؤوليات وحدد طبيعة العلاقة، التي ينبغي أن تسود بين مكونات نظام الأسرة، وترك مساحات كثيرة للاجتهاد هي ما نسميه اليوم مجال السياسات العمومية في مجال الأسرة، كالحماية الاجتماعية للأسرة، ومساعدتها لكي تؤدي وظائفها ودعمها ماديا، وما إلى ذلك من البرامج والخطط والسياسات.
سؤال 09:
      تواجه الأسرة اليوم عدة تحديات مقوضة لأركانها، ما لم يتم رفعها أو تخفيف وطأتها عليها، ومن أهمها العزوف عن الزواج وارتفاع نسب الطلاق، وهو ما يعزى غالبا لبطالة الشباب وزيادة تكلفة المعيشة، رغم توافر هذه الظاهرة لدى الطبقة الغنية، وربما بصورة أكثر بروزا.
      فإلى أي حد تتفقون أو تختلفون مع هذا التفسير؟
      بالفعل تواجه الأسرة اليوم تحديات حقيقية، لا تعرقل قيامها بوظائفها وأدوارها المختلفة فقط، بل تهددها في كيانها وفي وجودها. وأول المؤشرات الدالة على هذه الحقيقة ارتفاع نسبة الطلاق، وانحلال ميثاق الزوجية بشكل مطرد، وتراجع نسبة الزواج بالنسبة لما ينبغي أن تكون عليه. فأن تصل نسبة الطلاق إلى أكثر من مائة وعشرين ألف حالة في سنة واحدة، مع ما يصاحب هذه الكارثة من تفكك وضياع للحقوق، وتشرد الأطفال وانتشار الفساد، وما إلى ذلك من الظواهر المرضية، هذا كله يدعو إلى وقفة حقيقية من مجموع القوى الحية الغيورة على هذا البلد، وذلك بالدراسة العلمية لواقع الأسرة وما تتعرض له من تحديات. وهنا لا يكفي إعادة النظر في التشريعات على أهميتها، لكن يتعين تفعيل استراتيجيات وتنزيل سياسات عمومية، تساعد هذه المؤسسة من جهة على القيام بأدوارها، وتحافظ على تماسكها، وتقيها من التفكك من جهة أخرى.
      الجانب المادي بات يطرح نفسه بحدة أمام الزواج؛ بسبب ما تعيشه بلادنا والعالم كله من أزمات اقتصادية وبطالة، وانعدام العدالة الاجتماعية وتزايد الفوارق المجالية والفئوية، لكن في نفس الوقت هناك تحولات قيمية لدى الشباب، تجعلهم يتهيبون مسؤولية الارتباط من خلال الزواج، بسبب التوجيه الخاطئ أو سيادة تمثلات غير سليمة عن الزواج، مصدرها للأسف نقاشات خاطئة في وسائل التواصل الاجتماعي، تؤطر أحيانا سلوك واختيارات فئات واسعة من الناس.
               شكرا جزيلا فضيلة الأستاذ على هذه البيانات والتوضيحات النيرة

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى