قاعدة: “لا إنكار في مسائل الاختلاف” وأثرها في تدبير الاختلاف

دراسة نظرية وتطبيقات فقهية

الباحث محمد منديل

عنوان أطروحة دكتوراه من إعداد الباحث: محمد منديل بكلية الآداب جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وتكونت لجنة المناقشة من الأساتذة:
ـ دة. مريم أيت أحمد رئيسا
ـ د. أحمد الزيادي مشرفا
ـ د. عبد المجيد محيب عضوا
ـ د. سلام أبريش عضوا
وكانت المناقشة بتاريخ الثلاثاء 29 جمادى الآخرة 1438 الموافق 28 مارس 2017م. وتم تقييم البحث من قبل اللجنة بميزة مشرف جدا.
تقرير البحث:
الحمد لله الذي جعل الاختلاف في الطبائع والألوان والألسن([1]) والأفهام من الآيات الدالة عليه، والصلاة والسلام على من ألف الله قلوب العباد على يديه رغم اختلافها، وعلى آله وصحبه الكرام الذين ضربوا أروع الأمثلة في حسن تدبير اختلافاتهم، فكانت قلوبهم متحدة رضوان الله عليهم رغم اختلافهم.
أما بعد: فإن المتأمل في مسيرة الدعوة الإسلامية في العصر الراهن يرى أن سعيها إلى إحياء الأمة وبث روح التجديد فيها تعترض سبيله تحديات، وتحول دون تحقيق أهدافها والوصول إليها عوائق وعقبات، يمكن إرجاعها إجمالا إلى:
عوائق خارجية: تتمثل أساسا فيما أشار إليه الحديث النبوي الشريف بتداعي الأمم على هذه الأمة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) ([2]).
وعوائق ذاتية داخلية: تتمثل فيما أصاب العقل الإسلامي من جمود أفقده حسن التعاطي مع مصادره، والاغتراف منها لإيجاد الحلول الشرعية لما استجد من القضايا والمسائل؛ وهكذا أصبح العقل الإسلامي المعاصر عاجزا عن إيجاد الحلول الناجعة لجملة من القضايا المؤرقة التي بقيت عالقة دون أجوبة شافية.
ومن هذه القضايا التي وجد العقل الإسلامي نفسه حائرا إزائها، هذا التشتت والتفرق المستشري بين المسلمين بسبب الاختلاف حول قضايا جزئية يتم على أساسها التعادي والتباغض والتهاجر، مما أثر سلبا على مسيرة الدعوة الإسلامية بسبب الفشل في تدبير هذا الاختلاف.
إن إلقاء نظرة على واقع الأمة الإسلامية اليوم وما يعرفه من تفرق وتشتت بسبب الاختلاف في جزئيات الشريعة، يحمل على القول بأن قضية تدبير الاختلاف بين المسلمين من القضايا التي ينبغي أن ترصد لها الجهود العلمية بالدراسة والبحث، وذلك لما لقضية الاختلاف غير المنضبط بين مختلف العاملين في مجال الدعوة الإسلامية من أثر سيئ، يتمثل أساسا في تبديد طاقات الأمة في صراعات هامشية، لا طائل من ورائها.
وإسهاما في حل هذا الإشكال المؤرق، وقع اختياري على إنجاز هذا البحث، الذي يروم نفض الغبار عن واحدة من القواعد الفقهية المهمة، التي كان لحضورها في التراث الفقهي الأثر البالغ، في تدبير الاختلاف وضبطه، وحسن التعاطي معه ألا وهي قاعدة: (لا إنكار في مسائل الاختلاف) التي تتعلق بتدبير الاختلاف بعد تبوثه واستقراره، حيث جاءت لتقف سدا منيعا أمام ما يستتبعه ذلك ـ أحيانا ـ من تبادل تهم التفسيق والتضليل والتبديع … بين المختلفين.
إن الناظر في واقع الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، يرى حجم الارتباك الذي تعانيه في مسيرتها، بسبب ولوع بعض المسلمين بإثارة الخلاف في فروع الشريعة، وتقديم اختياراتهم الفقهية في بعض المسائل الخلافية على أنها الحق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووصم آراء المخالفين لهم بأوصاف التبديع والتفسيق والتضليل، مما يؤدي إلى تمزيق وحدة الأمة، وتعميق هوة الانقسامات فيها، وزيادة التفرقة والخصومة بين المسلمين.
إن هذا الواقع المرير الذي تعيشه الدعوة الإسلامية في هذا العصر، يدفعنا إلى إدراك كم هي في مسيس الحاجة إلى الاستفادة، مما تضمنه التراث الفقهي من قواعد وضوابط، أسهمت في ترشيد الاختلاف وحسن تدبيره، ومنها هذه القاعدة الفقهية العظيمة التي قررها السلف من فقهاء هذه الأمة.
 أولا- أهمية البحث:
تتجلى أهمية دراسة هذه القاعدة وموضوع البحث عموما في عدة أمور منها:
أولا: إن دراسة هذه القاعدة الفقهية يكشف عن النفسية الفقهية، التي انصبغت بها الحياة الإسلامية العلمية على مر القرون، فاستدعاء هذه القاعدة للبحث والدراسة يجعلنا نكتشف مقدار (الاستيعاب الفقهي للخلاف سواء من حيث الاعتراف الواقعي بوجوده، أو من حيث كيفية التعامل معه، أوالاعتراف بمشروعيته فيما هو مشروع فيه، أو بالتوقي من شروره حال تأديته إلى ذلك)([3]).
ثانيا: إن دراسة هذه القاعدة الفقهية يبرز السبق الإسلامي النظري والتطبيقي إلى إقرار الكثير من المبادئ التي يتم رفعها والتنادي بها في هذا العصر، إن بحق أو باطل، مثل الحوار الهادئ واحترام الرأي الآخر…الخ.
ثالثا: إن النظر في واقع الدعوة الإسلامية في العصر الراهن، يظهر مدى عجزها عن تغيير واقع الأمة المأزوم، بسبب مخالفة منهج السلف في التعامل مع مسائل الخلاف ومع المخالفين في هذه المسائل([4]). فمن شأن دراسة هذه القاعدة، أن يعيد تشكيل ثقافة الاختلاف وفقه الخلاف، في العقل الإسلامي المعاصر (لنتعلم ونعرف كيف نختلف، والتسليم بأن ذلك من سنن الله في الخلق، وسنن الاجتماع البشري، وأن المشكلة ليست في الاختلاف وإنما في كيفية إدارته والتعامل معه، ليتحول من مشكلة إلى حل ومن نقمة إلى نعمة)([5]).
وتزداد أهمية هذا البحث إذا أدركنا أن أزمة المسلمين في هذا العصر ـ كما يذهب إلى ذلك بعض الدارسين ـ هي مع ذواتهم أكثر مما هي مع الآخر المتهم بالتآمر عليهم، وذلك بسبب فشلهم في تدبير خلافاتهم. إذ ما أكثر ما فوتت على المسلمين خلافاتهم في هذا العصر حول مندوب أو مباح أمرا مفروضا أو واجبا. لقد اتفق المسلمون ـ حسب بعض الباحثين ـ في الاختلاف وافتقدوا آدابه والالتزام بأخلاقياته. فكان أن سقطوا فريسة التآكل الداخلي والتنازع الذي أورثهم هذه الحياة القاتلة([6]).
ثانيا- أسباب اختيار الموضوع:
وقد دفعني إلى البحث في هذا الموضوع جملة أسباب أذكرها كالآتي:
أولا: سبب واقعي: يتمثل في أنه رغم كون أكثر جهود العاملين في الدعوة الإسلامية في هذا العصر هي أعمال تكاملية، إلا أن النزاع والتنافس ونبذ استيعاب هذا النوع من الاختلاف هي السمة الطاغية([7]). وآية ذلك ما يلاحظ من سريان روح العصبية عند كثير من التيارات الإسلامية في هذا العصر، حتى صارت أصلا من أصول الممارسات اليومية عندها، بل جزءا من التركيبة النفسية لأفرادها، وكذلك ما يلاحظ من تضحية بعض المسلمين في هذا العصر بالأخوة الإسلامية، التي تبث وجوبها بالأدلة القطعية غير المدفوعة، في مقابل مسائل جزئية محتملة، سبق الخلاف في مثلها بين أهل العصور الفاضلة، فما أذهبت لهم ودا ولا أوقدت في صدورهم بغضا، فلعل تناول هذه القاعدة بالدراسة والبحث أن يسهم في تصحيح الرؤية، عند بعض العاملين للإسلام في عصرنا، ممن اختلط عليهم التمييز بين مقتضيات الجندية التي تأبى أي اختلاف، وبين مقتضيات التفكير الشرعي الذي ينضج في ظل حق الاختلاف، الخاضع لقواعد تجعله عامل إثمار وضبط([8]).
ثانيا: سبب تربوي: يتمثل في أن الناظر في مقررات بعض المعاهد الإسلامية ومناهجها التربوية، يجد أن العلوم الشرعية يتم تدريسها بمنطق تعميق عقلية نفي الآخر، وتأثيم المخالف في مسائل الاختلاف. فإنجاز هذا البحث يأتي في سياق حاجة الأمة إلى إعادة تشكيل مناهجها التربوية والفقهية العلمية، بما يمكن من استيعاب الرأي الآخر المخالف داخل المنظومة الإسلامية، وكيفية التعامل معه والإفادة منه.
ثالثا- صلتي بموضوع البحث:
تعود صلتي العلمية بالبحث في هذه القاعدة الفقهية وفي موضوع الاختلاف عموما إلى سنوات الدراسة في الماستر حيث أنجزت بحثا تحت عنوان “من مظاهر احترام المخالف في القرآن الكريم” تعرضت فيه لمعنى الاختلاف في اللغة والاصطلاح القرآني، ثم ذكرت ما وسعني الوقوف عليه من مظاهر احترام المخالف في القرآن الكريم([9]).
وفي سنة 2012م، خصصت بحثي للتخرج من سلك الماستر من جامعة محمد الخامس، للقاعدة الفقهية موضوع الدرس تحت عنوان: (قاعدة لا إنكار في مسائل الاختلاف: مفهومها، مظانها، سياقها، أبعادها) تحت إشراف الدكتور عبد المجيد محيب.
كما شاركت سنة 2014م في المؤتمر الدولي السادس للأكاديميين الشباب بتركيا، ببحث تحت عنوان (مفهوم الاختلاف وضوابط تدبيره عند بديع الزمان النورسي).
هذا بالإضافة إلى مقالات في صحف وطنية ومواقع الكترونية، تصب كلها في اتجاه ترسيخ ثقافة الاختلاف والتسامح مع المخالف، ونبذ التعصب متى كان هذا الاختلاف معتبرا شرعا، وبناء على هذا فالبحث الذي أقدمه اليوم يعتبر امتدادا لكل هذه الجهود، وتتويجا لها في نفس الوقت.
 رابعا- الدراسات السابقة في الموضوع وتصنيفها:
لما كان موضوع هذا البحث من الأهمية بمكان، فقد اتجهت إليه أقلام العلماء والباحثين بالدراسة والبحث، ونذكر فيما يلي ما وقفنا عليه من هذه الدراسات والبحوث وقد بدا لنا تصنيفها كالآتي:
 أولا: المخطوطات:
ـ رسالة: (نهاية التحرير في رد قولهم ليس في مختلف فيه نكير) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت1182هـ).
هذه الرسالة ذكرها عبد السلام المجيدي([10])، وقال بأنها رسالة مخطوطة لم تطبع بعد، ولم يتسن لنا الوقوف عليها، وهي رسالة كما يبدو من عنوانها، تتضمن ردا على من يحتج بهذه القاعدة الفقهية.
ثانيا: الدراسات المتمحضة للقاعدة:
ـ الدراسة الأولى:”لا إنكار في مسائل الخلاف” لفضل إلهي ظهير([11])
عرضت هذه الدراسة أراء بعض أهل العلم، حول معيار الإنكار في مسائل الخلاف، حيث عرض الباحث في المبحث الأول رأي الإمام الغزالي (505هـ) الذي يرى ـ حسب الباحث ـ أن معيار الإنكار هو مذهب المحتسب عليه، وخصص المبحث الثاني لرأي بعض علماء الأمة، ممن يرون أن معيار الإنكار في مسائل الخلاف هو مذهب المحتسب عليه إلا في حالات استثنوها، أما المبحث الأخير فقد عرض فيه الباحث الرأي الذي رجحه، وهو لثلة من العلماء الذين جعلوا معيار الإنكار في مسائل الخلاف هو النص وليس مذاهب الناس.
ـ الدراسة الثانية:” لا إنكار في مسائل الخلاف” لعبد السلام المجيدي([12]).
اهتمت هذه الدراسة بمعالجة بعض الإشكالات، التي تثيرها هذه القاعدة الفقهية، مخافة المسارعة إلى الأخذ بها على ظاهرها وبإطلاقها، منها: تحديد معيار أهل العلم في الإنكار في مسائل المختلف فيها… وبيان بعض الآثار الخطيرة نتيجة الفهم الخاطئ لهذه القاعدة منها: تقليل الاعتماد على النصوص وتتبع زلات العلماء المنقولة كخلاف … وتسويق التناول السطحي لاختلاف العلماء…كما تناولت الدراسة مسألة التفريق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية، وتحديد الموضع الصحيح للاستشهاد بالقاعدة وبيان أسباب وضعها من طرف العلماء، والإشارة إلى معالم استيعاب الاختلاف في التقعيد الفقهي.
ـ الدراسة الثالثة:” لا إنكار في مسائل الاجتهاد: رؤية منهجية تحليلية،([13]) لقطب مصطفى سانو.
جاءت هذه الدراسة لتشكل ـ حسب مؤلفها ـ إسهاما في تخفيف حالة الرهق الفكري والتشتت المرجعي، الذي تعاني منه الأمة الإسلامية منذ آماد بعيدة، ورغبة في ترسيخ قيم التسامح والتكامل، وإقرار حق الاختلاف المشروع في مسائل الاجتهاد، وضرورة الابتعاد عن عقلية نفي الأغيار المخالفين في قضايا الاجتهاد. وحرصا من المؤلف على توحيد الصف الإسلامي الممزق، في هذه المرحلة الراهنة من تاريخ الأمة العصيب.
وقد انتظمت الدراسة في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، عرض الفصل الأول منها لمفهوم مصطلح مسائل الاجتهاد في الفكر الأصولي، من خلال استعراض وتحليل جملة من المفاهيم المرادفة المنسوجة حوله. واستعرض الفصل الثاني أنواع مسائل الاجتهاد، وبيان درجة الاجتهاد في كل نوع، وخصص الفصل الثالث لبيان موقع مسائل الاجتهاد بين ثنائية الإقرار والإنكار في الفكر الأصولي.
 ثالثا: الرسائل الجامعية حول القاعدة:
ـ “الإنكار في مسائل الاختلاف: دراسة تأصيلية”، سلطان بن محمد السبيعي([14]).
انتظمت هذه الدراسة في مقدمة ضمنها الباحث أهمية الموضوع، وفصل تمهيدي، خصصه للكلام عن الإطار المنهجي لدراسته، وتضمنت بقية فصول الدراسة تحديدا لغويا واصطلاحيا لمفاهيم البحث (الإنكار والخلاف)، مع التأصيل لمشروعية الإنكار وبيان أهمية معرفة الخلاف بين العلماء، وبيان أقسام المسائل الخلافية وحكم الإنكار في كل قسم…الخ.
 رابعا: بحوث جزئية حول القاعدة:
ـ البحث الأول: حكم الإنكار في مسائل الخلاف عند الفقهاء، لمحمد سليمان النور([15])
هذا البحث تناول فيه الباحث دراسة حكم الإنكار في مسائل الخلاف عند المذاهب الفقهية المختلفة، وبيان القول الراجح فيه من خلال: بيان معنى الإنكار في اللغة واصطلاح الفقهاء…وتحديد المراد بمسائل الخلاف، ثم استعرض الباحث بعض أقوال الفقهاء في حكم الإنكار في مسائل الخلاف وأدلتهم عليها، وذكر بعض الصور المستثناة من عدم الإنكار، وبيان القول الراجح عنده في حكم الإنكار في مسائل الخلاف([16])
ـ البحث الثاني: القاعدة في معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية.
تطرقت معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، لقاعدة (لا إنكار في مسائل الاختلاف) في المجلد الثاني تحت رقم 2210، فأوردت النص الذي اختارته للقاعدة والصيغ الأخرى لها، والقواعد ذات الصلة بها، ثم شرعت في شرحها معرفة الاختلاف في اللغة والاصطلاح الفقهي وأقسام الخلاف (معتبر وغير معتبر)، وضوابط كل قسم والفروق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف، كما تناولت المعلمة مسألة الاحتجاج بالخلاف، لما لها من خطورة عظمى في تقرير الأحكام وإثبات مشروعيتها في الدين، كما أشارت إلى بعض آداب الاختلاف وأدلة القاعدة وتطبيقاتها، سواء من الخلاف المعتبر الذي لا إنكار فيه، أو من الخلاف غير المعتبر الذي يقع فيه الإنكار.
ومع هذه العناية الظاهرة والجهود المشكورة، في دراسة هذه القاعدة الفقهية المهمة وتقريبها، فإنها ما تزال في حاجة إلى بحث وتحرير وضبط، حتى تتمهد الاستفادة منها وتوظيفها، بالشكل المطلوب في ترشيد الاختلاف الفقهي، وهو ما نطمح إلى تحقيقه من خلال انجاز هذا البحث الذي يطمح إلى الاستفادة من هذه الدراسات المنجزة في الموضوع، والبناء عليها مع سد الثغرات التي شابتها.
 خامسا- قضية البحث:
   إن هذا البحث مهموم بترشيد الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر، وبالتالي فهو مستوحى من واقع هذه الدعوة وما تعيشه من إكراهات تعرقل مسيرتها، فهو بحث يسعى إلى رصد الآثار الايجابية التي كانت لحضور هذه القاعدة الفقهية في تدبير الاختلاف في الساحة الفقهية التراثية، والتنبيه إلى أهمية استصحابها في العصر الحاضر، بما يضمن ترشيد جهود الدعوة الإسلامية، وتجنيبها شيوع الفوضى والتفرق والاقتتال، بسبب الاختلاف في مسائل جزئية في الشريعة.
فكيف أسهم وجود هذه القاعدة في المنظومة التراثية الفقهية في ترشيد الاختلاف، وحسن تدبيره بين المذاهب الفقهية السنية، وتحويله من ساحة المواجهة والصراع إلى رحابة التنوع والحوار؟ تلك هي القضية الرئيسية التي تؤطر هذا البحث، ويسعى إلى الإجابة عنها من خلال دراسة هذه القاعدة الفقهية المشار إليها دراسة نظرية.
سادسا- أهداف البحث:
يسعى هذا البحث إلى تحقيق مجموعة من الأهداف تتمثل أساسا في:
أولا: الوقوف على مدى استيعاب الساحة الفقهية التراثية للاختلاف، وكيفية التعاطي معه من حيث الإنكار والإقرار في مسائله، والإسهام في رسم صورة لما كان عليه العلماء في تدبير اختلافاتهم في التراث الإسلامي، من خلال استحضارهم لهذه القاعدة الفقهية موضوع البحث، وتفعيلها والاحتكام إليها في خلافاتهم العلمية.
ثانيا: الإسهام في إحياء هذه القاعدة الفقهية المهمة، التي تعتبر الساحة العلمية الإسلامية المعاصرة في أمس الحاجة إليها، من أجل تفعيل آداب الحوار بين مختلف أطياف الدعوة الإسلامية المتنوعة، والتماس الأعذار للمخالف وإحسان الظن به، للخروج من هذا الوضع المتأزم الذي تعيشه الدعوة الإسلامية، حيث يدعي كل فريق احتكار الحقيقة، ويجنح إلى إلغاء اجتهادات الآخرين باعتبارها منكرا وباطلا يجب تغيره، مما يؤدي إلى التضييق على المسلمين وركوبهم مراكب الحرج والمشقة، مما أدى إلى الفرقة والصراع.
سابعا- منهج التناول:
سلكت في هذا البحث منهجا يقوم على: استقراء المادة العلمية، وتتبعها في مظانها الأصيلة، وتحليلها ودراستها دراسة مقارنة.
ثامنا- خطة البحث:
أدرت البحث وفق الخطة الآتية:
مقدمة: ضمنتها الإشارة إلى أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، والدراسات السابقة فيه وتصنيفها، وبيان صلتي بالموضوع، وقضية البحث، والخطة والمنهج والطريقة المتبعة فيه.
الفصل الأول خصصته لتحديد معنى القاعدة من ناحية مفرداتها ومن الناحية التركيبية، وخصصت الفصل الثاني لبيان مقومات القاعدة، وكرست الفصل الثالث للتأصيل للقاعدة من نصوص الوحي، وعمل الصحابة، ومواقف أئمة المذاهب الفقهية السنية وتلاميذهم، وتضمن الفصل الرابع بيان الآثار التي كانت لهذه القاعدة على المستوى النظري في تدبير الاختلاف.
خاتمة: ضمنتها نتائج البحث وآفاقه.
وقد تتبعت في البحث طريقة يمكن إبراز أهم ملامحها الرئيسية كالآتي:
1 ـ الاعتماد على قراءة ورش عن نافع بالنسبة للآيات القرآنية المستشهد بها في البحث.
2 ـ تخريج الأحاديث النبوية الشريفة من مصادرها المعتمدة عند أهل السنة.
3 ـ الحرص على عزو النقول إلى أصحابها، عملا بمبدأ الأمانة العلمية، وتعرضا لبركة العلم بنسبة كل قول إلى قائله.
وقد أسفر هذا البحث عن جملة من النتائج نجملها كالآتي:
 أولا: تحقيق القول في مدلول القاعدة سواء من الناحية الإفرادية والتركيبية.
أما من الناحية الإفرادية فقد تبين لنا أن القاعدة تتركب من مفردتين رئيسيتين يتوقف معرفة المعنى التركيبي للقاعدة عليهما، وهما كلمتي: الإنكار والاختلاف.
أما من الناحية التركيبية فقد تحصل لنا أن معنى القاعدة هو: نفي كل أنواع الإنكار من لوم وتعنيف وطعن … نفيا استغراقيا عن جنس المسائل التي يصدق عليها أنها داخلة تحت مسمى مسائل الاختلاف.
وقد تقرر لنا من خلال هذا التعريف أن قاعدة (لا إنكار في مسائل الاختلاف)، تؤسس لمبدأ عظيم يتعلق بحسن التعاطي مع الخلاف المعتبر بعد استقراره.
وقد تحصل لنا في الشق التاريخي المتعلق بالقاعدة، أن ظهور القاعدة يعود إلى عصر أتباع التابعين، الذي عرف صياغة الضوابط والقواعد الحاكمة للحياة العلمية الإسلامية. لكننا مع ذلك لم ننف بحسب ما تحصل لنا في الفصل المتعلق بتأصيل القاعدة، أن جذور هذه القاعدة تعود إلى عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
وفيما يخص ورود القاعدة في مصنفات أهل العلم، فقد توصلنا بحسب المصادر التي اطلعنا عليها، إلى أن أول إشارة إلى هذه القاعدة كانت مع الفقيه الحنفي أبو بكر الجصاص (ت 370هـ)، في مدونته الأصولية “الفصول في أصول الفقه” وبعده توالى ذكر القاعدة في كتب أهل العلم، بمختلف مذاهبهم الفقهية حتى عصرنا الحاضر.
وفيما يتعلق بسياق ورود قاعدة (لا إنكار في مسائل الاختلاف) فقد سجلنا أن ذلك يختلف بحسب الحقول المعرفية الإسلامية، وقد بينا السياق الذي تأتي فيه القاعدة في كل حقل علمي على حدة، بدءا بأصول الدين، ومرورا بأصول الفقه، وانتهاء بكتب الفقه.
ثانيا: بيان المقومات التي تقوم عليها هذه القاعدة وهما:
المقوم الأول: مسائل الاختلاف: وقد بينا أن المقصود بهذه المسائل في اصطلاح البحث.
المقوم الثاني: وهو الحكم: أي حكم الإنكار في مسائل الاختلاف.
ثالثا: التأصيل للقاعدة من نصوص الوحي كتابا وسنة، وكذا عمل الصحابة ومواقف الأئمة وتلاميذهم.
رابعا: بيان أثر القاعدة في تدبير الاختلاف وترشيده من الناحية المنهجية والتنظيمية والاجتهادية.
آفاق البحث:
إن الناظر في الاختلاف الإسلامي سواء منه القديم والمعاصر، يدرك أن له أسبابا معرفية موضوعية وأسبابا نفسية.
ومن هنا يدعو البحث:
  أولا: فيما يخص الأسباب المعرفية والموضوعية، إلى المزيد من تكثيف دروس (فقه الاختلاف) وإعطائها ما تستحقه من الاهتمام في المنظومة التربوية، لزرع ثقافة الاختلاف لدى النشء، بالتعرف على مشروعيته وأسبابه، ونماذج من اختلاف السلف مع بقاء الأخوة والمودة بينهم، ذلك أن معرفة طالب العلم بأن الخلاف حقيقة واقعة لها أسبابها الموضوعية، يسهل اتخاذ الموقف الصحيح منه، مما يجنبه قطع عرى الأخوة لمجرد وقوع الاختلاف بينه وبين غيره، كما أن التعرف على اختلاف العلماء، يحصل للناظر تقدير جميع الأئمة واحترامهم، سواء منهم من خالف مذهبه أومن وافقه، وفي المقابل فإن الجهل بحقيقة الخلاف ربما أكسب المرء نفورا وإنكارا لكل مذهب سواه، وأورث حزازة في الاعتقاد في أئمة أجمع الناس على فضلهم وتقديرهم في الدين، وفي خبرتهم بمقاصد الشرع وفهم أغراضه، مما يهيئ التربية للتعصب الذي يؤدي إلى الإرهاب([17]).
  ثانيا: فيما يخص الأسباب النفسية للاختلاف والمتمثلة في علل النفوس، من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد الصواب فيما تقوله واتهام الاخرين بالتلبس بالخطأ. وبناء عليه فإن البحث يدعو إلى تطعيم المناهج العلمية بالمواد التربوية الكفيلة بتهذيب النفوس، وتخليتها من العلل والأمراض، التي تحول بينها وبين تقبل الخلاف الشرعي المعتبر، وحسن التعامل مع أصحابه.
  ثالثا: تفعيل هذه القاعدة الفقهية المهمة في الحياة العلمية الإسلامية المعاصرة، ونشر ثقافة التفريق بين القطعيات والظنيات، وبين ما هو من قبيل الحقائق الثابتة في الدين، وما هو من قبيل الآراء والاجتهادات الشخصية، التي تحتمل الخطأ والصواب، فضلاً عن تكثيف الحوار في الحياة العامة للمسلمين بكل حرية وأمانة وصدق وثقة، من أجل الإسهام في إشاعة ثقافة التسامح والتحرر من التعصب بكل أشكاله.
ولا يفوتني في الختام أن أتوجه بالشكر الجزيل لكل من ساعدني على إتمام هذا البحث سواء بالتوجيه المنهجي لفصوله ومباحثه، أو التدقيق اللغوي لألفاظه وعباراته، أو الترتيب لمصادره ومراجعه.
   ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                  
([1]) يقول تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات   للعالمين) الروم 22.
([2]) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام.
([3])  لا إنكار في مسائل الاختلاف: عبد السلام المجيدي ص: 23
([4])  “لا إنكار في مسائل الاجتهاد” قطب سانو ص: 100 ـ 101
([5])  من تقديم عمر عبيد حسنة لكتاب “لا إنكار في مسائل الخلاف” لعبد السلام المجيدي، ص: 19
([6])  أدب الاختلاف في الرأي وضوابطه، مكتبة الشروق ـ القاهرة الطبعة الأولى 1429هـ ص: 7.
([7]) لا إنكار في مسائل الخلاف، عبد السلام المجيدي، ص: 49.
([8])  ظاهرة الاختلاف في المجتمع النبوي، محمد ناصيري ص:59
([9]) نشرت مقالا ملخصا لهذا البحث في جريدة التجديد المغربية العدد 3567 بتاريخ 26 يناير 2015م.
([11])  انظر مقدمة “لا إنكار في مسائل الخلاف” ص: 20.
([12]) الكتاب الرابع والتسعون من سلسلة كتب الأمة، وزارة الشؤون الدينية بدولة قطر سنة 1424هـ.
([13])  دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1427 هـ ـ 2006م.
([14]) الماجستير سنة 1427هـ ـ 2006م 
([15])  مجلة الشارقة للعلوم الشرعية والإنسانية المجلد: 3 جمادى الأولى 1327هـ، يونيو 2006م.
([16])  من الخلاصة التي مهد بها الباحث لبحثه بتصرف.
[17]  تدبير الاختلاف الفقهي لأحمد العمراني، ضمن المؤلف الجماعي لدار الحديث الحسنية ص:352 بتصرف

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى