الباحث الدكتور محمد بنينير
تقرير عن بحث أطروحة الدكتوراه:
كلية الآالداب والعلوم الإنسانية بن امسيك – جامعة الحسن الثاني / المحمدية
التاريخ: 28 ربيع الأول 1424/ 29 ماي 2003
تصميم التقرير:
ـ دوافع اختيار الموضوع.
ـ المنهجية واختيار العنوان.
ـ تصميم البحث.
ـ الخاتمة والنتائج.
*****
1- دوافع اختيار الموضوع:
لم يلق عصر من العصور الأدبية والسياسية ما لقيه العصر العباسي من عناية الدارسين والباحثين، واحتفائهم بجل آثاره الفكرية والفنية والحضارية، لأنه كان عصر الازدهار الإسلامي بدون منازع، العصر الذي ظل وسيظل – حتى اليوم – تاج الحضارة الإسلامية في القرون الأولى، ورغم كل ما كتب عن هذا العصر من طرف مختلف الدارسين والباحثين فإن أبواب البحث لا تزال مشرعة فيه لكل هؤلاء للكشف عن مزيد من خباياه وقضاياه، وقد تعرض أغلب الذين انبروا لدراسة هذا العصر في مختلف جوانبه إلى ما ساده من مظـاهر التنـاقـض فـي شتى الميادين حيث سجلـوا حضور الظـواهر التالية جنبا إلـى جنب: الترف وبجانبه الفقر المدقع – الإيمان وبجانبه الزندقة والمروق عن الدين – الطبع والوضوح وبجانبه الصنعة والتعقيد – التجديد والابتكار وبجانبه المحافظة والتقليد – الزهد والاستقامة وبجانبهما اللهو والمجون…إلخ.
وبسبب هذه الازدواجية في الظواهر الأخلاقية والحضارية لهذا العصر اختلفت آراء النقاد والباحثين في شؤون هذا العصر، ولم تخل قضية من قضاياه الفكرية والفنية والسياسيــة
والحضارية إلا واختلفت حولها الآراء، وتضاربت في شأنها المواقف بين مؤيد ومعارض، وناقد ومستحسن، ومعدل ومجرح، وناقم وراض، رغم اتفاق الجميع على أن هذا العصر كان عصر العظمة والعبقرية في تاريخنا الإسلامي، وقد حظي الأدب العربي في هذا العصر بمكانة لم تزل متميزة إلى يومنا هذا، حيث عاش أزهى عصوره وعطاءاته الكمية والنوعية، والتي تفتقت عنها مذاهب وتيارات فنية وفكرية، وتولدت عنها أسماء ورموز لمعت نجومها في سماء الأدب العربي خلال هذا العصر.
وقد برز على الساحة الفكرية والأدبية خلال هذا العصر تياران كبيران كفرسي رهان، لا يكاد أحدهما ينطلق حتى يجري الآخر على إثره، وهما تيار الزهد والتقوى وإلى جانبه تيار اللهو والمجون، وقد كانت آثار هذين التيارين بادية للعيان في هذا العصر، إلا أنها في ميدان الأدب والفن كانت أبين منها في ميادين ومجالات أخرى، ويكفينا أن نذكر مثالين واضحين وبارزين على ما نقول وهما: أبو العتاهية وأبو نواس أحدا كبار شعراء هذا العصر، واللذان تجلت من خلال أدبهما سيادة التيارين المذكورين في حياة الناس خلال هذا العصر بصفة عامة، وفي حياة الأدباء بصفة خاصة، مع العلم أن كلا الشاعرين يمثلان في أدبهما المدرسة الشعبية في ثقافة هذا العصر الأدبية على حد تعبير بعض الدارسين.
وقد كان وراء هذه الوضعية عدة عوامل أذكر منها:
ـ انتقال الناس إلى حياة الترف والسرف خاصة عند خلفاء بني العباس التاليين بداية من عهد هارون الرشيد.
ـ هيمنة الفرس على ميدان السياسة والتقاليد الاجتماعية في حياة ملوك بني العباس.
ـ طبيعة خلفاء بني العباس وما كان يتنازعها من ميل إلى اللهو تارة والجد تارة أخرى.
ـ ترسخ قيم الإيمان والدين في حياة المجتمع خاصة عند فئة العلماء وفئة العوام من الناس.
ـ الحرية النسبية التي طبعت هذا العصر في الجانبين الثقافي والسياسي.
ـ الصراع المتولد عن عملية التثاقف بين القيم الإسلامية الأصيلة وبين القيم الوافدة من الثقافات والحضارات الأخرى السابقة على الإسلام.
وقد كثرت الدراسات التي أنجزت حول أدبنا العربي القديم في عصرنا الحديث، حيث تعد اليوم بالعشرات بل بالمئات، وهي دراسات تحمل مقاربات نقدية متعددة الأهداف والمشارب والمناهج، ولعل الأدب العربي في العصر العباسي قد حظى بنصيب وافر من هذه الدراسات التي حاولت أن تأتي على جل القضايا والظواهر الفنية التي طرحت في هذا العصر، وحاولت أيضاً أن تستقصي أغلب الطاقات الإبداعية والفنية التي أنجبها وأفرزها هذا العصر من شعراء وكتاب وغيرهم، رغم أننا نجد تفاوتاً واضحاً لدى الباحثين والنقاد في التركيز على شخصيات معينة وإهمال أخرى، ولعل هذا الأمر يرجع إلى الماضي حيث وجدنا مثلاً أن شروح ديوان المتنبي تعد بالعشرات، بينما أهملت دواوين شعراء آخرين وكادت أن تضيع حتى أنقذت بقدرة قادر، وبعد أن ضاع منها الشيء الكثير، وقد استمر هذا الانتقاء والتفضيل في التعامل مع مبدعين دون آخرين في عصرنا الحديث، وهكذا مثلاً نجد كثرة الدراسات التي أنجزت حول أدب المجون في العصر العباسي وحول أهم رواده أمثال بشار وأبي نواس، في مقابل إهمال أدب الزهد وشعرائه الذين برزوا فيه أمثال أبي العتاهية الذي ملأت أشعاره الدنيا وضاع منها الكثير.
وقد أثار انتباهي منذ مدة ليست بالقصيرة كيف أن جملة من كبار الباحثين والنقاد في هذا العصر قد أنجزوا دراسات مختلفة وبمناهج متنوعة كان منها المنهج التاريخي الاجتماعي، وكان منها المنهج النفسي، وكان منها المنهج البنيوي، وكان منها المنهج الأسلوبي واللساني والسيميائي وغير ذلك، وكلها شملت ثلة من أدباء العصر القديم، وعلى رأسهم أدباء العصر العباسي كأبي نواس، وأبي تمام، وابن الرومي، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، وبشار بن برد، وتناولت مختلف الأغراض والمواضيع الشعرية التي برزوا فيها من: غزل، ومدح، وخمريات،وهجاء، وغير ذلك، وظل أبو العتاهية يشكل استثناء لدى هؤلاء الباحثين والنقاد الكبار فلم يخصوه بدراسة شافية تجلي جوانب الإبداع في شخصيته، وتكشف عن حقائق الإبداع الفني في شعره، وهو واحد من شعراء العصر العباسي الكبار الذي تنافس مع غيره على عرش الشعر واعترفوا به جميعاً خصماً عنيداً لهم، فلماذا يا ترى يتم الاهتمام بهم ويغض الطرف عنه؟.
نعم لقد أنجزت دراسات حول شعر أبي العتاهية وحياته من طرف عدة كتاب وباحثين أغلبهم من المغمورين، غير أنها سيطرت عليها نزعة من التحيز والتحامل ضده، حيث رددت أغلب هذه الدراسات جملة من الاتهامات في حق الشاعر وأدبه، لأنها ظلت منحازة إلى الروايات السلبية التي رددتها بعض كتب الأدب القديم عن الشاعر، خاصة تلك التي تطعن في عقيدته ونواياه، وتهون من شأن شعره وإبداعه، حيث تجمعت في حقه ثلاث تهم كبرى وخطيرة لو رمي بها أعظم شاعر على الأرض لنزلت به من سماء المجد إلى حضيض الذل، وهذه التهم هي:
ـ الزندقة وفساد الدين.
ـ تصنع مذهب الزهد وعدم الصدق فيه.
ـ ضعف اللغة وانحطاط الأسلوب.
والواحدة من هذه التهم كافية للحط من أي شاعر، خاصة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، فكيف إذا تجمعت هذه التهم في شاعر واحد، ولو كان هذا الشاعر ماجناً ومتهتكاً لهان الأمر في حقه، لكنه شاعر عرف بزهده وتقواه، وتوبته بعد تهتكه ومجونه، وصار رمزاً للصلاح والاستقامة، وصار أحد أعلام الزهد في أدبنا العربي القديم، وفي ثقافتنا الإسلامية العربية بصفة عامة.
ومع ذلك فقد كان من هذه الدراسات من حاول أن ينصف الشاعر ويدافع عنه في وجه خصومه ويرد عنه هذه التهم خاصة في المراحل الأخيرة من القرن العشرين، لكن جل هذه الدراسات ظل يطغى عليها طابع البحوث التاريخية المتأثرة بالمنهج الاجتماعي التاريخي في تفسيرها للظواهر الفنية والأدبية، وذلك من كثرة ما ركزت على سيرة الأديب وحياته والظروف الاجتماعية التي عاش فيها، كما ظلت معتمدة على ذوقها التأثري الانطباعي في الحكم على النصوص الأدبية واستخلاص الأحكام النقدية منها. ومن ثم فإن الأحكام فيها تأخذ غالباً طابع العفوية والارتجالية غير المعللة بالقراءة الأسلوبية الداخلية للنص المعتمدة على الاستقصاء والتتبع والإحصاء، وإنما عهدتها في ذلك فقط النقل عن المصادر التاريخية القديمة، مع غياب منهج واضح في التعامل مع هذه المصادر، خاصة وأن هذه المصادر تعج بالأقوال المتناقضة والمتعارضة، مما يفرض على الباحث أن يتعامل مع معطياتهاـ على الأقل ـ باعتبارها فرضيات قابلة للصواب والخطأ، وأن يضع الاحتمالين معا في حسبانه، لا أن يتقبلها كحقائق قطعية غير قابلة للنقاش.
2ـ المنهجية واختيار العنوان:
من هنا جاءت فكرة هذا البحث الذي سأحاول فيه قدر الإمكان تقديم دراسة شاملة عن شعر أبي العتاهية تجمع بين القراءة الداخلية لنصوص شعره، والتي تروم التقصي والبحث والإحصاء لأهم العناصر الفنية التي تحبل بها قصائده سواء على مستوى المعجم، أو الأسلوب، أو الإيقاع، وتسعى في نفس الوقت إلى ربط الظواهر الفنية ببعض مسبباتها الخارجية، لأن القراءتين معاً الداخلية والخارجية تتكاملان، ولا يمكن ـ في نظري ـ الاستغناء بواحدة منهما دون الأخرى، إضافة إلى الوقوف عند مختلف الآراء النقدية التي أفرزتها عملية التلقي لأشعار أبي العتاهية قديماً وحديثاً، في محاولة مني لتصنيفها والمقارنة بينها وتحديد خلفياتها ودوافعها، ومدى مقاربتها للحقائق الفنية التي اضطلعت بها قصيدة الزهد عند أبي العتاهية.
ومن ثم فإن هذا البحث سوف يسير في ثلاثة مسارات رئيسية هي:
ـ القراءة الأسلوبية الداخلية لنصوص الزهد في ديوان أبي العتاهية لتحديد الظواهر الفنية فيها.
ـ القراءة الخارجية التي تربط الظواهر الفنية ببعض مسبباتها.
ـ الموقف من عملية التلقي لقصيدة الزهد، عند مختلف القراء.
وهذه الأهداف الثلاثة هي التي لخصتها في عنوان هذا البحث:“في تلقي قصيدة الزهد العباسية: المكونات الفكرية والفنية، أبو العتاهية نموذجاً”.
وأقدم بين يدي هذا العنوان الملاحظات التالية التي تلقي مزيداً من الضوء على المنهجية المتبعة في هذا البحث والأهداف التي يروم تحقيقها:
ـ لقد اخترت هذه الصيغة التي تبدأ بشبه جملة مكونة من جار ومجرور “في تلقي” تتعلق بمحذوف قبلها تقديره إما فعل “أَبْحَثُ” أو مبتدأ “بَحْثٌ”، وظاهرة الحذف معروفة في لغتنا العربية قديما وحديثا، ولذلك فقد استعمل مجموعة من كبار كتاب عصرنا هذه الصيغة في عناوين بحوثهم ودراساتهم الأدبية وغير الأدبية، كما فعل طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي”، وكما فعل سيد قطب في تفسيره للقرآن الكريم “في ظلال القرآن”، وكما فعل الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه “في الشعر العباسي: الرؤية والفن” وغيرهم من كتاب العصر.
ـ لقد تضمن هذا العنوان ثلاثة عناصر أساسية هي: التلقي، والمكونات الفكرية، والمكونات الفنية.
وهذه العناصر الثلاثة تكشف عن الرؤية المنهجية التي تبناها هذا البحث وصدر عنها، والتي أوضحها على الشكل التالي من خلال هذه العناصر:
ـ لقد ألمحت بعنصر “التلقي” إلى اعتماد هذا البحث في جانب منه على بعض معطيات نظرية التلقي المعاصرة دون الاستناد إليها في كل شيء، فأنا لا أدعي إحاطة بهذه النظرية، كما أنني لا أرى فيها الكمال المطلق الذي يجعل منها نظرية فريدة في ميدان الدراسة الأدبية بحيث لا يجوز الخروج عنها، فذلك ما لا أدعيه وما لا أراه، غير أن هاجس التلقي ظل حاضراً في هذه المقاربة من خلال جل مراحل التحليل، حيث حاولت باستمرار فهم معاني النصوص ودلالاتها انطلاقاً من علاقة الشاعر/ المرسل بالمتلقي/ المرسل إليه، وقد خصصت الباب الثالث لفرز مختلف المواقف النقدية التي أفرزتها عملية التلقي لشعر الزهد منذ عصر أبي العتاهية إلى يومنا هذا، وحاولت تصنيفها وترتيبها، وتتبع أهم الظواهر الإيجابية والسلبية التي أفرزتها.
ـ أما عنصر “المكونات الفكرية” فقد ألمحت به إلى القراءة التي تجمع في نظرتها للأدب بين الشكل والمضمون، وذلك ما ساد في ثقافتنا العربية الإسلامية قديماً عند دارسي الأدب ونقاده، وهي نظرة ينبغي الحفاظ عليها لأن الأدب عندنا ثقافة والتزام، وهذا أمر يفرض نفسه في أدب الزهد على الخصوص، وعلاقة المضمون بالشكل هي كعلاقة الروح بالجسم كما قال ابن رشيق في تحديده لعلاقة اللفظ بالمعنى،والمضامين الفكرية في هذا البحث هي خلاصة ما تجمع لدي من خلال القراءة الداخلية والخارجية للنص في امتزاجها بمعطيات التلقي الآتية من مختلف حقب التاريخ الفني لقصيدة الزهد.
ـ أما عنصر “المكونات الفنية” فهو يشير بوضوح إلى اعتماد الدراسة الفنية المستندة إلى القراءة الأسلوبية الداخلية للنص التي تستعين بمعطيات الدراسة الإحصائية، وهذا لا يعني اعتماد البحث على مدرسة خاصة من مدارس القراءة الداخلية المعاصرة وهي كثيرة: بنيوية، ولسانية، وسميائية… الخ، وإنما هو اجتهاد خاص استحضرت فيه عدة تجارب ذاتية وغير ذاتية، وأتمنى أن أكون قد وفقت فيه.
ومن ثم فإنني في منهجية هذا البحث لن أدعي أنني سأقدم ابتكاراً جديداً، فهذا شرف لا أزعمه لنفسي، لكنني أربأ بنفسي أيضاً أن أكون مقلداً تقليداً أعمى لمنهج واحد من مناهج الغير في هذا البحث، وإنما حاولت أن أستفيد من معطيات عدة مناهج قديمة وحديثة مثل: الاتجاه البلاغي التراثي، والاتجاه الأسلوبي الإحصائي، ومدرسة التلقي، والمنهج الاجتماعي التاريخي، وغير ذلك.
وقد يرى البعض في هذا العمل ضرباً من التوفيق أو التلفيق بين عدة مناهج متباعدة ولا رابط بينها، لكنني أقول أن مناهج الدراسة الأدبية الصادرة حتى الآن بقديمها وحديثها، ينتظمها خيط واحد هو النص الأدبي، وهذا ما يعطينا مشروعية استثمار معطياتها مجتمعة أو متفرقة من أجل دراسة هذا النص الأدبي والكشف عن مكنوناته وخباياه، وإضاءة سراديبه وزواياه، مادام أن النص المبدع تبقى صورته واحدة لا تتغير، بينما المناهج متعددة ومتغيرة في الزمان والمكان وعند الأشخاص، وبالنسبة لي فمناهج الأدب هي أحد اثنين: إما قراءة للنص اعتماداً على معطياته الخارجية، وإما قراءة له بناء على معطياته الداخلية، وأنا حاولت أن أستفيد من الأمرين معاً، لأنه لدي اقتناع راسخ أن كلا القراءتين تتلازمان وتتكاملان.
3- تصميم البحث:
لقد قسمت هذا البحث إلى ثلاثة أبواب كبرى يتقدمها مدخل نظري وتاريخي حول موضوع الزهد في العصر العباسي، ركزت فيه الكلام ـ توخياً للاختصار وتجنباً للتكرار والتطويل ـ حول مفهوم الزهد ومصادره، وبعض الظروف التي أحاطت بنشأته وتطوره خلال القرنين الأول والثاني من الهجرة، فهو مدخل معرفي صرف ولذلك سلكت فيه سبيل الاختزال حتى لا يتحول البحث إلى دراسة التاريخ والفكر.
أما الأبواب الثلاثة فقد صغتها على الشكل التالي:
في الباب الأول الذي عنونته بالمكونات الفكرية وقسمته إلى خمسة فصول حاولت أن أقدم جرداً لأهم المواضيع والموضوعات (Themes) التي تناولها شعر أبي العتاهية الزهدي، فقد اعتمدت على قراءة شاملة وفاحصة لديوان الشاعر، حاولت من خلالها أن أتتبع الخيوط المتشابكة لهذه المواضيع والموضوعات في مختلف قصائد الديوان المرتكزة حول الزهد والحكمة، حيث خرجت بخلاصات ونتائج عكستها في عناوين الفصول أولا، والتي جاءت على الشكل التالي:
ـ مركزية الحكمة
ـ محورية الموت والفناء
ـ الدهر والغرار
ـ ثالوث الهلاك (الإنسان ـ الدنيا ـ النفس)
ـ ثالوث النجاة (التوبة ـ التقوى ـ الزهد) // الملاذ والمصير (الله ـ الآخرة)
ثم أكدت ذلك في المضامين التي تضمنتها هذه الفصول من خلال زخم من الشواهد والأمثلة المستقاة من ديوان الشاعر.
وقد ركزت في هذا الباب على مقارنة النصوص الواردة في الديوان بنصوص أخرى مستمدة من الثقافة الإسلامية للتدليل على أن أفكار الزهد عند أبي العتاهية هي أفكار إسلامية صرفة في مجملها، ولذلك اعتمدت على القراءة المباشرة في هذه النصوص دون اعتماد أدوات التحليل الفني إلا في النادر، لأني أرجأت ذلك إلى الباب الثاني، ولأن هدفي في هذا الباب الأول هو حصر الأفكار والموضوعات، ثم تحديد طبيعتها، وهذه العملية يستوعبها دارس الأدب المتخصص فيه وغيره، وهذا شيء أرى أن الدراسة الأدبية والنقدية ينبغي أن تحافظ عليه لتحقيق التواصل مع جماهير القراء الذين لا يأنسون للتحليلات الفنية الصرفة إذا أرادت أن تضمن لنفسها تلقيا واسعا في صفوفهم.
أما الباب الثاني فقد عنونته بالمكونات الفنية وقسمته أيضاً إلى خمسة فصول، وخصصته لتحليل العناصر الفنية، حيث أكدت النتائج التي توصلت إليها في الباب الأول حول موضوعات الديوان (themes) من خلال الإحصاء العجمي، وتتبعت جل الظواهر الأسلوبية اللغوية والإيقاعية، وتطرقت إلى ما تميزت به قصيدة الزهد من وحدة الموضوع وبعد اللغة عن التكلف والتصنع، وما عرفته من محاولات التجديد في الإيقاع وقد جاءت عناوين فصوله على الشكل التالي:
ـ بناء القصيدة ووحدة الموضوع.
ـ خصائص المعجم
ـ مستويات اللغة والصياغة الفنية
ـ الأساليب البلاغية والتداول.
ـ الموسيقى والإيقاع.
والباب الثالث والأخير عنونته بالصيغة الرئيسية في عنوان البحث كله وهي”في تلقي قصيدة الزهد” وقد قسمته هذه المرة إلى أربعة فصول وركزت فيه على مناقشة أهم الإشكالات النقدية التي تولدت عن ظاهرة شعر الزهد والحكمة، خاصة تلك الظواهر السلبية مثل:
ـ إغفال غرض الزهد والحكمة في نظرية الأغراض العربية القديمة.
ـ تعميم الأحكام من خلال القضايا الجزئية.
ـ غياب التوازن والإنصاف في تقويم الأفكار والمواقف.
ـ غياب رؤية نقدية للرواية التاريخية والأدبية مع تضارب الروايات.
كما تعرضت لبعض الظواهر التي صاحبت تلقي قصيدة الزهد بصفة عامة، وقدمت بعض المعايير النقدية الإسلامية كبدائل لتجاوز الظواهر السلبية في نقدنا العربي القديم والحديث، وقد جاءت عناوين فصول الباب كالتالي:
ـ التغريض وأفق التوقع.
ـ اتساع دائرة التلقي.
ـ الموقف السلبي لبعض النقاد وتضارب المواقف.
ـ التلقي والمعايير النقدية الإسلامية.
4- الخاتمة والنتائج:
وفي الأخير أنهيت البحث بخاتمة جمعت فيها أهم الخلاصات والنتائج التي توصلت إليها على الشكل التالي:
ـ تأكيد حضور تيار الزهد في الأدب العربي منذ مراحل مبكرة من تاريخ الشعر العربي بداية من العصر الجاهلي حيث ظهرت الإرهاصات الأولى له، ومروراً بالعصر الإسلامي الأول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده (شعر الفتوح الإسلامية)، ثم العصر الأموي الذي ازدهرت فيه حركة الشعر السياسي المذهبي الذي حمل كثيراً من سمات أفكار الزهد عند بعض شعرائه من الخوارج والشيعة وغيرهم.
ـ اكتملت قصيدة الزهد وأخذت شكلها النهائي مع بداية العصر العباسي، أي في المرحلة التي اكتمل فيها تشكل تيار الزهد في تاريخ الإسلام، والذي بدأت بذوره الأولى مع بزوغ فجر الدعوة الإسلامية، ثم بسقت شجرته وأخذت تتنامى حتى وصلت إلى هذا الاكتمال، ومن ثم صار غرض الزهد قاسماً مشتركاً بين زهاد نظموا الشعر وبرعوا فيه منهم علماء كعبد الله بن المبارك والإمام الشافعي، ومنهم عباد أمثال رابعة العدوية، وبين شعراء تبنوا فكرة الزهد وخصصوا شعرهم للنظم فيها على اختلاف فيما بينهم في درجة تزهدهم على رأسهم أبو العتاهية، وإلى جانبه نجد صالح بن عبد القدوس ومحمود بن حسن الوراق، بل إننا نجد تيار الزهد في الشعر قد فرض نفسه حتى على غير هؤلاء من شعراء المجون كما هو الحال مع أبي نواس في زهدياته.
ـ مساهمة قصيدة الزهد في تجديد الأدب العربي خلال مرحلة العصر العباسي الأول وذلك بطرحها للقضايا التالية، إن على صعيد المضمون أو الشكل كما يلي:
ـ ربط الأدب بالواقع الجديد وتمثيله لقيم المجتمع النبيلة والفاضلة في مقابل الاندحار الذي نزل إليه شعراء وأدباء آخرون ارتموا في أحضان الرذيلة وتمثيل قيم الانحراف والفساد.
ـ ابتكار لغة سهلة من صميم لغة الخطاب اليومي، لكنها لغة ذات خصائص فنية تربأ بها عن الوقوع في الإسفاف، ويمكن وصفها بالخطاب السهل الممتنع الذي يحقق أكبر قدر من التواصل مع جماهير القراء لكنه يحافظ على درجة من التميز تحفظه من السقوط والابتذال.
ـ التحقق بالوحدة الموضوعية والغنى الموضوعاتي، حيث يسيطر موضوع الزهد على جميع القصائد بعيداً عن التشرذم الغرضي والموضوعي الذي اتهمت به القصيدة العربية القديمة، لكنه في إطار هذه الوحدة تحضر موضوعات متنوعة ومتكاملة تمثل الأطراف المختلفة لجسد قصيدة الزهد، وهكذا نجد الموضوعات التالية: الحكمة ـ الموت ـ الزمان ـ الإنسان ـ الإيمان.
ـ تحقيق قصيدة الزهد لأبعاد متنوعة وخصبة من التلقي عبر مختلف مراحل وحقب التاريخ الأدبي العربي، حيث ساهمت في إغناء النقد الأدبي، ولا زالت عملية تلقي قصيدة الزهد في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتحليل.
ـ لقد كشفت هذه الدراسة عن الغض والإهمال الذي تعرض لـه غرض الزهد من طرف النقاد، حيث جاء ذلك مخالفاً للتوسع والانتشار الذي عرفته قصيدة الزهد، وهذا من المفارقات الغريبة المسجلة في أدبنا العربي القديم، فبقدر ما انتشرت وتوسعت دائرة تلقي قصيدة الزهد، بقدر ما أهمل النقاد ذكر هذا الغرض ضمن تصنيفاتهم النقدية لأغراض الشعر باستثناء البعض القليل منهم كابن وهب الكاتب.
وأخيراً لا يمكنني أن أزعم أنني قد أحطت علماً ودراسة بكل أو حتى بجل ما تفتقت عنه قصيدة الزهد من قضايا فكرية وفنية ونقدية، وإنما حاولت أن أقارب جل ما تبدى لي من أفكار وتصورات حول هذه القصيدة، انطلاقاً من قراءتي الخاصة لأشعار الزهد في ديوان الزهد لأبي العتاهية، وانطلاقاً مما قرأته عند القراء والنقاد الذين قرأوا مثلي هذه القصيدة، وتبقى قصيدة الزهد بعد ذلك مادة خصبة وبكراً لكل من أراد أن يقضي وطره منها، خاصة في جانب التلقي والتفاعل الفني الذي أحدثته هذه القصيدة في مختلف الأدباء والشعراء الذين جاؤوا بعد أبي العتاهية على الخصوص، فبدون شك فإن شعر الزهد كانت آثاره واضحة في كثير من الأغراض الفنية التي ظهرت فيما بعد مثل: شعر التصوف، وشعر رثاء الممالك، وشعر المديح النبوي، والشعر الإسلامي في عصرنا الحديث، وبهذه المناسبة لابد من التذكير بأن قصيدة الزهد هي من صميم الشعر الإسلامي قديماً وحديثاً، لكنها ليست كل هذا الشعر فهي جزء منه فقط، ومن ثم فلابد من دراسة هذا التأثير وتقصي آثاره والتقاط سوانحه وبوارحه.
وقدحاولت من خلال هذا العمل تقديم مقارَبَةٍ في البحث والنقد تروم إعطاء صورة مُقارِبَةٍ لحقيقة شعر الزهد في تراثنا الأدبي القديم خلال العهد العباسي، ولحقيقة شاعر كبير من شعراء الزهد في هذا العصر حمل شعره كل سمات الزهد في الثقافة العربية الإسلامية خلال ذلك العصر، والتي نشأت وترسخت عبر قرنين من الزمان، ثم تطورت قروناً بعد ذلك حيث أفرزت تأثيرات واضحة في تيارات أدب التصوف، وفي شعر المديح النبوي، وفي شعرنا الإسلامي المعاصر، فأتمنى أن أكون قد قطعت شوطاً كبيراً في ملامسة هذه الصورة.
وهنا لابد من التذكير ببعض الصعوبات التي واجهتني في طريق إنجاز هذا البحث والتي تتمثل في العناصر التالية:
ـ افتقاد النسخة المحققة من الديوان ولم تسعفني إلا النسخة اليتيمة في كلية الآداب بالرباط،ومع ذلك فقد عانيت كثيرا من صعوبة الاشتغال على نسخة مصورة، وحتى النسخة الموجودة الآن في السوق بينها وبين النسخة المحققة اختلافات كثيرة، فلماذا يا ترى لم يعد طبع هذه النسخة المحققة رغم وجودها في جامعة دمشق؟
ـ غياب أغلب المراجع الحديثة من سوق الكتاب والمكتبات مما جعلني ألتمسها من عند الأصدقاء، وقد أسعفني البعض ببعضها جزاهم الله خيرا، وبعضها نقبت عليه في المكتبات حتى وجدته، وأخرى لم أعثر لها على أثر، لكن أفادتني عنها بعض الدراسات الجامعة، ولحسن الحظ فهذه المراجع ينقل بعضها عن بعض.
ـ كثرة الروايات القديمة وتضاربها واختلافها وصعوبة الجمع بينها أحيانا.
ـ قلة الدراسات الحديثة عن شعر الزهد التي تتسم مقاربتها بالخصوبة والتنوع واستعمال المناهج المعاصرة، وفي مقابل ذلك اعتماد جل الدراسات المنجزة على المنهج التاريخي الاجتماعي.
ـ تشابه أشعار الزهد وتكرارها لنفس الغرض ونفس الموضوعات.
وأخيراً لا بد أن أعترف بالفضل لأهله لأتوجه بالشكر إلى أستاذي الفاضل الدكتور محمد علي الرباوي الذي شق معي طريق هذا البحث، وتتبعني فيه خطوة خطوة، يجود عليّ بأفكاره النيرة والسديدة، حيث لمست فيه تواضع العالم، وحدب الأخ الحنون، ومؤانسة الصديق المخلص، والله وحده يقدر جزاءه وثوابه في هذا العمل.
وأتوجه أيضاً بالشكر للأخ والصديق والأستاذ الفاضل الدكتور سعيد الغزاوي الذي احتضنت وحدته التي يشرف عليها “في نظريات القراءة” هذا البحث، والذي صبر وصابر معنا معشر المسجلين بهذه الوحدة، وهيأ لنا لقاءات علمية قيمة شكلت إطاراً وفضاء معرفيا توسعت فيه معارفنا وأفكارنا الأدبية والنقدية، وتداولنا الرأي مع أساتذتنا الأفاضل من المشرفين على بحوثنا وغيرهم، حيث أحسسنا بأن الإشراف كان فرديا وجماعيا في نفس الوقتً، وأن روح الفريق ستكون حاضرة في أعمالنا، فشكرا له ولكل الأساتذة الأفاضل الذين شاركوا في دورات الوحدة وأفادونا الكثير.
كما أشكر كل من أعانني على إنجاز هذا البحث من قريب أو بعيد، ولله المنة والفضل من قبل ومن بعد.
زر الذهاب إلى الأعلى
بحث موفق، بذل فيه مجهود مميز ،نسأل الله أن يوفق الباحث ويجعل مجهوده في ميزان حسناته