أطروحة دكتوراه من إعداد الباحث إدريس الحسيني، بكلية الآداب واللغات والفنون، جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، السنة الجامعية: 2023-2024 ./ 1445
وتكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: الأستاذ الدكتور امحمد هموش مشرفا،
الأستاذ الدكتور محمد صبري رئيسا، الأستاذة الدكتورة ثريا وقاص عضوة ومقررة، الأستاذ الدكتور إسماعيل الموساوي عضوا مقررا، الأستاذ الدكتور معاذ أوزال عضوا ومقررا.
الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية:
اخترنا لهذه الأطروحة عنوان ” سرديات المهجر: قراءة في الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية”، وذلك لأننا ارتأينا مقاربة مجموعة من النصوص الروائية، التي صدرت باللغة الإنجليزية خارج الوطن العربي؛ لأدباء عرب من المهاجرين أو أبناء المهاجرين. وينبع اختيارنا هذا الموضوع من مجموعة مختلفة من الأسباب، منها الذاتي، وهو رغبتنا في الاستمرار في البحث عن الكتابات التي صدرت لعرب المهجر، باللغة الإنجليزية بعد أن اشتغلنا على عمل إدوارد سعيد “خارج المكان” والذي صدر باللغة الإنجليزية قبل ترجمة فواز الطرابلسي باللغة العربية. وهناك أسباب موضوعية ترتبط أساسا بما يفتحه هذا النتاج الأدبي من ميادين بحثية وما يطرحه من إشكالات وأسئلة تقودنا إلى التنقيب فيه من زوايا مختلفة ومتعددة.
وتكمن أهمية موضوع ” الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية” فيما يثيره في اعتقادنا من النقاش حول مجموعة من القضايا، والتي تأتي في مقدمتها مسألة التمثيل، ونعني بها تمثيل الإنسان والمجتمع العربي وقضاياه في الكتابات التي تصدر لأدباء عرب من المهاجرين، وأبناء المهاجرين بلغة الآخر. بهذا المعنى يتيح لنا الأدب العربي الأنجلوفوني الفرصة لاكتشاف الصورة التي يصدرها هؤلاء الكتاب عن الإنسان والثقافة العربية عموما، خصوصا ونحن أمام أدب يخاطب الآخر بلغته، ويرفع عن القارئ الغربي كلفة البحث عن النص المترجم، وما يطرحه ذلك من إشكالات نقدية. بهذا المعنى ينفتح نقاش الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية على سؤال التمثيل كما تعاملت معه الأدبيات النقدية؛ لتيار ما بعد الكولونيالية[1]، كما ينفتح على قضية العلاقة بين الأنا والآخر من موقع تصير فيه الأنا آخرا ينظر إلى الذات العربية من الخارج، أو من منطقة وسطى بين الأنا والآخر، منطقة تأخذ بعد الفضاء الثالث كما أسس له هومي بابا وغيره من رواد نظرية ما بعد الكولونيالية.
إن ما يزيد من أهمية البحث في التمثيلات التي تحضر داخل النصوص الروائية العربية المكتوبة بالإنجليزية هو ما تحظى به اللغة الإنجليزية في عالم اليوم من الحضور والقوة والهيمنة على وسائل الإعلام، وعلى صعيد دور النشر وغيرها.
من هنا سيكون من المهم أن نطلع على الكيفية التي يتعرف بها الآخر الغربي، الذي يحترز من مزالق الترجمة، ومن انحياز أدب المؤسسات الغربية، على الإنسان العربي وثقافته بعيدا عن ما سبق.
في المقابل، يتمثل المحدد الثاني لأهمية الموضوع في تغطية النقص الحاصل على صعيد المكتبة العربية في نقد السرد العربي المكتوب بالإنجليزية بمختلف أجناسه، خصوصا ونحن نشتغل في هذه الأطروحة على موضوع تندر بخصوصه الدراسات النقدية باللغة العربية. وتزداد أهمية هذا المعطى إذا أدركنا ما يفتحه هذا الموضوع من أسئلة نقدية تمتد نحو قضايا الهجرة والشتات والمنفى، في مقاربة نستهدف من خلالها الخروج من النظرة التي دامت طويلا لمسألة المنفى من زاوية نظر المثقفين المنفيين، لنحاول مقاربة الموضوع من وجهة نظر كل المنفيين والمهاجرين، ومن يعيشون تجربة الشتات، والانتقال إلى مقاربات نظرية لقضايا الهجرة والمهجر من وجهة نظر ثقافية تبحث في الهجرة بوصفها نسقا لا بوصفها ممارسة فردية بعيدة عن المجتمع وبنياته.
بالإضافة إلى ما سلف، نعتقد أن من العناصر التي تمنح الموضوع أهميته ما يتيحه لنا من رصد التغييرات التي طرأت على مدار أكثر من مئة عام بخصوص تعامل الكتاب العرب الأنجلوفونيين[2] في كتاباتهم مع قضايا العلاقة بين الأنا والآخر، أو مع قضية التاريخ الاستعماري وواقع فترة ما بعد الاستعمار، ومع مسألة الذاكرة الشعبية وصناعة الوعي الجماعي للشعوب العربية بالهوية وبالذات الفردية والجماعية. وغير بعيد عن هذه المسألة، نعتبر أن هذه الأطروحة تستمد أهميتها أيضا من البحث في الكيفية التي تتعامل بها نصوص السرد العربي الصادر بالإنجليزية مع أحداث تاريخية كان لها دور كبير في تشكيل العلاقة بين الشرق والغرب والعلاقة بين الإنسان العربي والإنسان الغربي، من قبيل ما واكب الاستعمار الفرنسي والبريطاني للعديد من البلاد العربية، وما جاء بعد الاستقلال وتشكل الدول الوطنية، ثم أيضا فهم الكيفية التي يتعامل بها الإنسان العربي مع المعيقات التي تواجهه في المهجر من قبيل مسألة الاندماج في المهجر، وتغطية الإسلام داخل الدوائر الرسمية الغربية وغيرها من الإشكالات والقضايا.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن اختيارنا التركيز على الرواية دون غيرها من الأجناس التعبيرية مرده إلى العديد من الاعتبارات التي يبقى أهمها في هذه الحالة التراكم الكمي والنوعي الذي سجلناه، ونحن بصدد اكتشاف المتن الأدبي، الذي نناقشه لصالح الرواية في مقابل الشعر.
من هنا قررنا أن نخصص هذه الأطروحة لمقاربة الأعمال الروائية العربية الصادرة بالإنجليزية، وقررنا إخراج الشعر عن دائرة البحث والتقصي لما يقتضيه الجمع بينهما من البحث وإعادة التوجيه والبناء والتشكيل، وما يحتاجه التنقيب في تمثلات السردي والشعري معا داخل أطروحة واحدة من الجهد المنهجي والكمي، في جمع وتحقيب ثم تفكيك وتحليل متن يمتد على أكثر من قرن من الزمن. ينضاف إلى هذا المعطى ما يمكن أن نلاحظه من تعاطي السرد الروائي مع قضايا الذات الفردية والجماعية ومع أسئلة التاريخ والهوية وقضايا الهجرة والاستعمار من زوايا تتجاوز تلك التي يعتمدها الشعر والشعراء في تعاطيهم مع القضايا ذاتها.
أهمية البحث
تنطلق أهمية هذا البحث في نظرنا من مجموعة من المعطيات التي تتداخل لتجعل من البحث في تمثيلات الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية، مسألة مهمة وذات راهنية لا يمكن تجاوزها.
فأما بخصوص المعطى الأول، فنعتقد أن كون اللغة الإنجليزية من بين أكثر اللغات استعمالا ومقروئية وحضورا، يجعل العديد من القراء في العالم بأسره، وفي الفضاء الأنجلوساكسوني على وجه الخصوص في مسعاهم للتعرف على الآخر العربي، وفي محاولتهم تجاوز مزالق الترجمة وتجاوز انحياز الأعمال الأدبية الغربية في تصويرها للعرب وثقافتهم، قد يقبلون على قراءة ما يكتبه الأدباء العرب بالإنجليزية، ومن ثمة تشكيل تصورهم عن الإنسان والثقافة العربية من هذه الأعمال. من هنا تظهر أهمية فهم الأدب العربي المكتوب بالإنجليزية، وإن اقتصرنا هنا على شق السرد، لما قد يوفره لنا من مداخل لفهم الصور الغربية عن الإنسان العربي أو المسلم أو القادم من الشرق عموما.
تحكمت هذه الأهداف والغايات في طبيعة الاختيارات المنهجية التي ننطلق منها في هذا العمل، خصوصا ما يتعلق باختيار مقاربة النصوص الروائية، التي تشكل المتن المدروس، أو ما يتصل باختيار المفاهيم التي نعتمد عليها في التأسيس؛ لقراءة مختلفة لتاريخ الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية. من هنا جاء اختيار مقاربة الموضوع من زاوية مفاهيم الذات، والعلاقة مع الآخر، ومفاهيم التاريخ والذاكرة، وكذا من زاوية تأثير الموقع الذي يكتب منه الكاتب على اختياراته النصية، لأن كل هذه الأمور تخدم الهدف المحوري في هذه الأطروحة وهو تشكيل صورة واضحة عن اشتغال آلية التمثيل داخل نصوص السرد العربي الصادر بالإنجليزية في المهجر.
إشكالية البحث
تتمثل الإشكالية التي تحرك أطروحتنا “سرديات المهجر: الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية” في التعريف بالمسار الذي قطعه تيار الكتابة باللغة الإنجليزية في أوساط الكتاب العرب المهاجرين، أو من أبناء المهاجرين، واستقصاء علاقة المتن الروائي الذي خلفه هؤلاء بعنصري الهجرة من زاوية أولى، والاستعمار وما بعد الاستعمار من زاوية ثانية، وفحص حضور هذين العاملين في النتاج الأدبي الذي خلفه هذا التيار، إلى جانب الوقوف عند قضايا التمثيل والهوية الثقافية والتاريخ والاستعمار وغيرها في هذه الأعمال الأدبية.
اقتضى منا البحث في تاريخ وحاضر الكتابة الروائية العربية بالإنجليزية المرور عبر طرح مجموعة من الأسئلة، والبحث في العديد من المداخل. تأتي في مقدمة هذه الإشكالات التي حاولنا الوقوف بها قضية الاصطلاح، الذي يصح استعماله لوصف هذا التيار الإبداعي، وهو ما استدعى منا أن نقف عند مختلف التوصيفات، التي استعملت للإحاطة بهذه الظاهرة، وذلك عبر استعراض تاريخ مفهوم المهجر، ثم مقارنة الدلالات التي يحيل عليها بمجموعة من المفاهيم التي نرى أنها تنتمي إلى الحقل ذاته، مثل مفهوم المنفى أو النفي، ثم مفهوم الشتات. لا تقتصر أهمية هذا المبحث في نظرنا في جرد تاريخ هذه المصطلحات فقط، بقدر ما تكمن أهميته في إبراز الإمكانات التحليلية والنقدية التي يتيحها كل مفهوم من هذه المفاهيم، خصوصا ونحن نحاول أن نصل إلى التوصيف الأمثل؛ لظاهرة الكتابة باللغة الإنجليزية؛ في أوساط الأدباء العرب في المهجر.
ينضاف إلى إشكال التوصيف إشكال نظري لا يقل أهمية عنه ويتصل أساسا بموقف السرد الروائي العربي المكتوب بالإنجليزية من المؤسسة الأدبية في الغرب، أو في المنطقة العربية، وكيف يمكن التعامل مع وضع البينية التي يقف فيها في المسافة الفاصلة، بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، وسؤال الانتماء فيه.
بعيدا عن مسألتي التوصيف والانتماء، وفي اتصال بالنقاش التطبيقي النصي، تثير الرواية العربية الأنجلوفونية أمام الباحث العديد من الإشكالات، التي يلزم التعاطي معها، خصوصا كما أسلفنا الحديث عن ذلك، مسألة التمثيل ومسألة العلاقة بين الأنا والآخر والموقف من الاستعمار، وواقع ما بعد الاستعمار ثم قضية الموقف من التاريخ بصفة عامة. إجمالا، ننطلق في هذه الأطروحة من محاولة الوقوف عند العديد من الإشكالات، والبحث في امتداداتها وعلاقتها بالمنجز النصي الذي راكمته تجربة الأدب العربي الأنجلوفوني، ونعدد هنا من بين الإشكالات التي استوقفتنا ما يلي:
ـ ما هي الأنساق الأساسية التي تحكمت في ظهور وتطور الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية؟
ـ كيف تفاعل السرد الروائي العربي الأنجلوفوني، مع قضية الاستعمار، ومع واقع ما بعد الاستعمار؟
ـ ما مدى تأثير الهجرة في تعامل الروائيين العرب الأنجلوفونيين مع مسألة التمثيل؟ هل كان للهجرة والحياة في المهجر تأثير في الكيفية التي يقع بها تمثيل الإنسان العربي وقضاياه في كتابات الأدباء العرب؟
ـ كيف يمكن قراءة الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية في سياق العلاقة مع المؤسسة الثقافية في الغرب أو في البلاد العربية؟ أو بتعبير آخر، كيف يساهم موقع الهجنة الذي يتحرك فيه هذا الأدب في تشكيل الصورة الفنية والرؤية الموضوعية لهذا الأدب؟
فرضيات البحث
تحكمت إشكالية البحث في ماهية المنطلقات النظرية التي اخترنا أن نقارب من خلالها الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية في المهجر، ذلك أننا في هذه الأطروحة ننطلق من مجموعة من الافتراضات المختلفة، على الرغم من تكاملهما في الآن ذاته.
يتمثل الافتراض الأول في أن السرد الروائي العربي الأنجلوفوني في المهجر اهتم بشكل كبير برصد تأثير الظاهرة الاستعمارية في الشعوب العربية، والآثار التي خلفها الاستعمار في بنية المجتمعات العربية وفي رؤية الإنسان العربي لذاته ولعلاقته مع الآخر الغربي، كما أدت الممارسات الاستعمارية التي احتكرت تمثيل الشعوب العربية المستعمرة إلى ظهور رغبة ممتدة في الرد على السرديات التي أنتجها الخطاب الاستعماري عبر خطاب سردي يعتمد كثيرا إعادة كتابة التاريخ من خلال مرويات الذاكرة الشعبية ومن خلال كل ما حاول الخطاب الرسمي الاستعماري دفعه نحو زاوية النسيان.
من هنا، نعتبر أنه لا يجوز فصل السرد الروائي العربي المكتوب بالإنجليزية عن فكرة “الرد بالكتابة” كما جاءت في أدبيات نظرية ما بعد الاستعمار، ما يعني أن هذا السرد يشتغل بشكل كبير على تفنيد ونقد ونقض السرديات الغربية عن الشرق وعن الإنسان العربي وثقافته وإرثه الحضاري. على أن وجه الاختلاف في مقاربة الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية لمسألة الإرث الاستعماري في الفعل وفي الخطاب بالمقارنة مع السرد العربي الصادر باللغة العربية تكمن في طبيعة التعاطي مع الظاهرة وفي الكيفية التي اختار بها الكتاب العرب الأنجلوفونيين مخاطبة القارئ الغربي ومحاورته بلغته ومن خلال قوالب فنية وأدبية ألفها وصارت جزءا من بنية خطابه الفكري، وهو ما حاولنا أن نبرزه على مدار هذه الأطروحة.
في المقابل، يتمثل الافتراض الثاني في أطروحتنا في أن السرد الروائي العربي الأنجلوفوني الصادر في المهجر عميق الصلة بوضع المهجر، وبثقافة الشتات أو وضع الأقلية في مقابل ثقافة الأغلبية في البلد المستضيف.
من هنا نفترض أن من بين الأنساق المضمرة التي تحكمت في تشكل هذا التيار الإبداعي- إن صح هذا الوصف- طبيعة العلاقة التي يقيمها المهاجر مع البلد المستضيف، وثقافته ونمط حياته في مقابل علاقته مع البلد الأصل والإرث الثقافي والاجتماعي، الذي يحمله المهاجر، خصوصا ونحن نلاحظ كيف أن الكتاب العرب الأنجلوفونيين في المهجر يختلفون فيما يتعلق بطبيعة وجودهم في الغرب، بين من ولدوا هناك لآباء عرب أو نتيجة زواج مختلط، وبين من قدموا إلى المهجر بعد أن قضوا فترات من حياتهم في أوطانهم الأصلية. يفتح هذا المعطى الحياتي في حياة كتاب هذا الأدب النقاش حول مدى الارتباط الذي يجمع هذا السرد العربي الأنجلوفوني بالثقافة العربية، وخصوصا حول الكيفية التي يقع بها تمثيل الإنسان العربي وثقافته في هذا السرد، وما إذا كان الكتاب يراعون في هذا الأمر التوافق مع التصورات الغربية عن الثقافة العربية أم أنهم يشتغلون على محاولة تفنيد الصور الغربية عن العرب والرد عليها.
تصميم الأطروحة:
سيكون من نافلة القول أن نعود إلى أن الغايات المنهجية التي تحكمت في بناء أطروحتنا “سرديات المهجر: الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية” تمثلت، في مرحلة أولى، في التعريف بهذه الظاهرة والعودة إلى بدايتها ورصد الأنساق الثقافية التي تحكمت في تشكل هذا التيار وتطوره، وفي طبيعة الانتقالات الفكرية التي مر منها، وفي مرحلة ثانية همت الوقوف عند بعض النصوص السردية التي نعتبر أن من شأنها أن تقدم للقارئ صورة عن اشتغال السرد الروائي العربي المكتوب بالإنجليزية. من هنا جاء بناء الأطروحة متناسبا مع هذه الغايات المنهجية، وهو ما سنحاول أن نبينه من خلال استعراض هيكل الأطروحة العام.
تنقسم الأطروحة إلى خمسة فصول، يضم كل فصل منها عددا من المباحث الفرعية التي يختلف عددها بحسب طبيعة الفصل ذاته، أو طبيعة المباحث المتضمنة فيه. من هنا جاء الفصل الأول بعنوان “الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية: المسار والإشكالات” ويتضمن خمسة مباحث ذات طبيعة نظرية، خصصناها لتمهيد الأرضية العامة، قبل المرور إلى الشق التطبيقي، الذي نتعامل من خلاله مع مجموعة من النصوص الإبداعية. من هنا تطرقنا في المبحث الأول من هذا الفصل لإشكال الاصطلاح، وحاولنا أن نبرز كيف أن الأدب العربي المكتوب بالإنجليزية يقف في موقع تتقاسمه فيه العديد من التسميات، وعدنا من خلال هذا إلى تسمية “أدب المهجر الجديد” وكيف كان هذا المصطلح يعين تجربة الكتابة في الأمريكيتين عند كتاب الديوان والرابطة القلمية من أمثال الريحاني وجبران خليل جبران وغيرهما. ثم استعرضنا الفروق الكامنة بين مصطلح “كتابة المنفى” ومصطلح “كتابة المهجر” وكيف أن بعض النقاد ينتصر لأحدهما دون الآخر مع استحضار العناصر، التي يدافع بها كل فريق عن تصوره، كما توقفنا عند تاريخ مصطلح كتابة الشتات، وكيف انتقل هذا المفهوم من الاستعمال الحصري لوصف التجربة اليهودية لينتقل مع شابيرسون وكوهن لوصف تجربة العيش خارج المجتمع الأصلي. كانت غايتنا من هذا المبحث أن نصل إلى تحديد الفوارق الكامنة بين كل مصطلح من هذه المصطلحات وطبيعة الظروف التاريخية والثقافية التي أفرزت كلا منها، من أجل الوصول إلى أيها أقدر على التعبير عن خصوصية تجربة الكتابة باللغة الإنجليزية بين الكتاب العرب من المهاجرين أو أبناء المهاجرين في الغرب.
وغير بعيد عن الموضوع ذاته، خصصنا المبحث الثاني من هذا الفصل لإقامة تأطير نظري نقف من خلاله على الاختلافات التي يقيمها الدرس النقدي، بين مسألة الهجرة والمنفى والشتات، كما توقفنا عند تأثير الهجرة على مفهوم الهوية، وعلاقة الهجرة باعتبارها ظاهرة اجتماعية بالنص الأدبي بوصفه ظاهرة إبداعية، أو بمعنى آخر كيف يقع التعامل مع الهجرة داخل النص الأدبي. أما المبحث الثالث من هذا الفصل فقد اخترنا أن نخصصه للوقوف عند نظرية ما بعد الاستعمار، من خلال التركيز على الأسس النظرية والخلفيات الفكرية والفلسفية التي تأسست عليها هذه النظرية، ثم من خلال استعراض الجهاز المفهومي الذي تعتمده هذه النظرية في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، بشكل عام. ويرجع تخصيصنا هذا المبحث لنظرية ما بعد الاستعمار إلى أنها تشكل مدخلا مهما في اعتقادنا لفهم تعقيدات ظاهرة الهجرة نحو الغرب الأنجلوساكسوني ولصعود تيار الكتابة بالإنجليزية بين الكتاب العرب المهاجرين أو أبناء المهاجرين، وفهم العديد من المعطيات النصية التي نقف عندها تواليا على مدار تحليلنا لنصوص هذا التيار، الذي لا يمكن بأي حال فصله عن واقع الاستعمار الغربي للبلاد العربية وعن محاولات الرد على الخطاب الذي استعان به الغرب الإمبريالي في تبرير استعمار البلاد العربية، ثم عن واقع البلاد العربية بعد الاستقلال وتكون الدول الوطنية.
في المقابل خصصنا المبحث الرابع من هذا الفصل للعودة إلى بدايات تيار السرد العربي الأنجلوفوني، منذ مرحلة البدايات مع أمين الريحاني ورواد الديوان والرابطة القلمية، مرورا عبر مرحلة العمل الفردي بين أربعينيات وسبعينات القرن الماضي، وصولا إلى الفترة الحالية التي يحكمها سؤال كبير هو ما إذا كنا بصدد تجربة المنفى أم أمام كتاب يحاكون تجربة العيش في الشتات ضمن جاليات عربية في بلدان غير بلدانهم الأصلية. ارتكز عملنا في هذا المبحث على تتبع الانتقالات التي طرأت على مسار السرد العربي الأنجلوفوني، ورصد التأثير الذي مارسه الواقع السياسي والاجتماعي، سواء في بلدان الأصل أو في المهجر، على الكتاب العرب وعلى كتاباتهم، وعلى تصورهم لواقع الحياة في المهجر، واستعراض أهم القضايا والموضوعات التي اهتم بها الأدباء العرب الأنجلوفونيون في المهجر.
لم نخرج في المبحث الخامس من هذا الفصل عن الاتجاه العام للفصل الأول، إذ توقفنا عند سؤال يحمل طابعا نظريا، ويتعلق أساسا بمدى تأثير الاختيار اللغوي على النصوص الإبداعية لكتاب المهجر الأنجلوفونيين، ومعه بحثنا في امتداد هذه القضية نحو هوية هذا الأدب، وما إذا كان أدبا إنجليزيا أم أدبا عربيا، قبل أن نعكف على سؤال قريب من الإشكال ذاته، وهو ما إذا كان يجب اعتبار الأدب العربي المكتوب أدب أقليات، في مقابل الأدب الرسمي الذي تعتبره المؤسسة الثقافية جزءا منها. انطلقنا في هذا المبحث من سؤال اللغة لكنه حتما ينفتح على مجموعة من القضايا ذات الطابع الثقافي والاجتماعي والتي حاولنا أن نتوسع فيها بقدر ما يتيحه مجال البحث.
وجاء الفصل الثاني من الأطروحة تحت عنوان “الذاكرة وبناء الهوية الفردية والجماعية في رواية بينما ينام العالم[3]” للروائية الفلسطينية الأمريكية “سوزان أبو الهوى”[4]. ينقسم هذا الفصل هو الآخر إلى مقدمة بطابع نظري تطرقنا من خلالها لحضور مفهوم الذاكرة في الدراسات الإنسانية، وراجعنا من خلالها ما قدمه الدرس النقدي بخصوص الذاكرة الفردية والجماعية ووظائفها وعلاقة الذاكرة بعملية تشكل الهوية الثقافية للأفراد والجماعات على حد السواء. كانت الغاية من هذا التمهيد النظري بسط الأرضية التي سنعمل من خلالها على إبراز الكيفية التي تتعامل بها نصوص الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية مع قضية الهوية، عبر التركيز على دور الذاكرة في تشكيل وبناء الهوية الفردية والجماعية، وعبر استحضار سؤال الهجنة الثقافية وعلاقته بوعي المهاجر باختلافه عن مواطنيه ممن خلفهم في وطنه الأصلي وعن أولئك الذين يقاسمهم العيش في مجتمع المهجر، وتأثير هذا الوعي بالاختلاف على مسعى الاندماج في كلا المجتمعين على حد السواء.
عملنا في المبحث الثاني من هذا الفصل على استقصاء دور الذاكرة في بناء الهوية الوطنية من خلال نموذج الذاكرة الجماعية الفلسطينية ومساهمتها في تشكيل الوعي الجماعي بالقضية الوطنية وبتاريخ الإنسان الفلسطيني. ارتكز عملنا في هذا المبحث على الدور الذي لعبته سردية العودة إلى جانب سردية الصدمة في بناء وتعزيز وعي الأفراد بوجود هوية وطنية فلسطينية يجب الدفاع عنها وضمان استمراريتها ضدا على السردية الصهيونية التي تنفي وجود شعب فلسطيني بمقومات ثقافية واجتماعية واضحة، مع الوقوف عند صيغ التعامل مع مسألة العودة، والكيفية التي تشكلت بها الصدمة في المخيال الجمعي الفلسطيني بوصفها محددا مهما من محددات الهوية الوطنية الفلسطينية.
وبالانتقال إلى الفصل الثالث، فقد خصصناه لمناقشة قضية الأنا والآخر على ضوء التاريخ الاستعماري وعلى ضوء واقع الدولة الوطنية بعد الاستقلال أو واقع ما بعد الاستقلال، من خلال “خارطة الحب[5]” لأهداف سويف[6]. يمثل هذا النص نوعا من المواجهة مع التاريخ الرسمي الذي سطرته الكتابات الاستعمارية، إذ تقدم لنا الرواية أحداثا تاريخية في قالب مغاير من خلال مجموعة من الكتابات الشخصية لمجموعة من النساء اللواتي عايشن هذه الأحداث كالمذكرات واليوميات والرسائل، بغية تفكيك الخطاب الاستعماري عبر إبراز الدوافع الحقيقية للحضور الغربي في الشرق، ثم عبر دفع الصور النمطية التي يربطها الاستعمار بالشعوب الأصلية، وفضح النزوع الاستعماري نحو أقصى درجات العنف مع السكان الأصليين، إلى جانب عمل الإدارة الاستعمارية على تفكيك الهوية الأصلية للشعوب المستعمرة، وكلها عناصر نعتقد أن الروائية قصدت من خلالها إبراز تهافت الخطاب الاستعماري ومناقضته لواقع الحال، وهي كلها معطيات حاولنا أن نبينها من خلال المبحث الأول من هذا الفصل.
وجاء المبحث الثاني من هذا الفصل لمناقشة صورة العلاقة الممكنة بين الأنا والآخر كما تقدمها رواية “خارطة الحب”، ومن خلاله توقفنا عند صورة الإنسان العربي عند الأفراد الأجانب أو عند الإدارة الاستعمارية، ثم استعرضنا صورة الآخر المستعمر عند الإنسان العربي وميزنا فيها هي الأخرى بين صورة الأفراد الأجانب وبين صورة رجال الإدارة الاستعمار، ثم خلصنا إلى أن الرواية تحاول أن تقدم الصورة الممكنة لعلاقة سليمة بين الشرق والغرب، علاقة قوامها تقبل الاختلاف والابتعاد عن الصور النمطية ومحاولة بناء فهم صحيح لثقافة الآخر عبر الاقتراب منه، بدل الانطلاق من أفكار وتصورات متناقلة عن هذا الآخر.
المبحث الثالث من هذا الفصل اشتغلنا فيه على حضور التاريخ في رواية “خارطة الحب”، حيث تتبعنا كيف عملت الرواية على استغلال التداخل بين الشخصي والسياسي، واستغلال حالة التوازي بين الماضي والحاضر بغية الدفاع عن فكرة مفادها أن الفرق بين الواقع العربي فترة الاستعمار وفترة ما بعد الاستعمار ليس كبيرا، بقدر ما يتعلق الأمر بتغير الفاعلين المؤثرين في الوضع العام، إذ تصور الرواية واقعا تهيمن عليه الاتكالية وغياب القدرة على إنتاج القرار السيادي إلى جانب حالة من التكلس على الصعيد الثقافي خلفت نزوعا مجتمعيا نحو التفكير السلفي الذي يريد العودة إلى عالم العصر الذهبي في اختيار يناقض شروط التاريخ وآليات عمله.
في حين جاء الفصل الرابع من هذه الأطروحة تحت عنوان” التابع ونقد التجربة الاستعمارية من خلال رواية” ما رواه المغربي[7]” للروائية ليلى العلمي[8]. ارتكز عملنا في هذا الفصل على شق شكلي بينا فيه كيف عملت الروائية على تنسيب خطاب الرحلة العربي لتقدم من خلاله قصة أول مغربي يصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويأتي هذا التنسيب من خلال اعتماد أسلوب كتابات الرحلات العربية القديمة على مستوى التواريخ والبنية الفنية والتصوير وغيرها. أما على الصعيد الموضوعاتي فقد بينا كيف أن الرواية تعتمد قصة حياة مصطفى بن عبد السلام الأزموري [9]لتنتقد ما درج التاريخ الأوربي على اعتباره رحلات استكشافية قام بها الإنسان الأبيض لنقل منجزات الحضارة الغربية للشعوب الأخرى، وتبرز كيف أن هذه الرحلات كانت بغية الاستفادة من الثروات التي تختزنها هذه الأراضي البعيدة وبغية استعباد الشعوب الأصلية. عملنا أيضا في هذا الفصل على تبيان الكيفية التي يقع بها تحوير التاريخ عبر استغلال ما تتيحه الذاكرة من القدرة على الاستعادة عبر الحذف أو الاختلاق أو غيرها، وعبر الهيمنة على سلطة الحكي وسلطة التمثيل، حكي أحداث الماضي وتمثيل الأنا والآخر، وهي عمليات تخرج التاريخ الرسمي في الصورة التي ترتضيها المؤسسات التي تمثل السلطة عموما.
لقد كان الشغل الشاغل لنا في الفصول السالفة من الأطروحة أن نقف عند تأثير ظاهرة الاستعمار وما بعد الاستعمار في صياغة تعامل الروائيين العرب الأنجلوفونيين مع أسئلة الهوية والذات والتاريخ والذاكرة والعلاقة مع الآخر، خصوصا وهم يقفون في منطقة وسطى أو في فضاء ثالث. أما في الفصل الخامس فقد ارتكز اهتمامنا على رصد تأثير الهجرة والحياة ضمن مجتمعات الشتات في بناء الأعمال السردية لكتاب المهجر، فاخترنا لهذا الفصل عنوان ” تجربة الشتات في السرد الروائي العربي المكتوب بالإنجليزية” من خلال رواية “عداد الليالي” لعلياء يونس[10]. كان رهاننا من خلال هذا الفصل أن نفهم الكيفية التي تتفاعل بها نصوص الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية مع مسألة الاندماج في المجتمع المضيف، وطبيعة العلاقة مع المجتمع الأصلي الذي قدم منه المهاجر أو أجداده. نتطرق أيضا في هذا الفصل للطرق التي يمر عبرها البحث عن تأسيس هوية المهاجر وارتباط هذا الأمر بسؤال الانتماء الثقافي والاجتماعي لديه، وبمسعى مقاومة الصور النمطية وعمل الذاكرة في استرجاع صورة الوطن الذي غاب عنه المهاجر، أو لم يسبق له أن عاش فيه في حالة أبناء وأحفاد المهاجرين.
خلاصات واستنتاجات:
توصلنا على مدار عملنا على هذه الأطروحة إلى أن العناصر التي تتدخل في بناء وتشكيل تيار الأدب العربي المكتوب بالإنجليزية كثيرة ومتعددة، ولكن يبقى أهمها وأكثرها حضورا ظاهرة الاستعمار وواقع ما بعد الاستعمار، ثم ظاهرة الهجرة وما يتصل بها من الحياة في المنفى ضمن مجتمعات الشتات. من هنا كان لزاما علينا أن نتوقف عند هاتين الظاهرتين بالبحث والتمحيص، عبر استجلاء العلاقة بين واقع الاستعمار الغربي للمنطقة العربية وصعود تيار الكتابة باللغة الإنجليزية بين الأدباء العرب، وكيف أن الإدارات الاستعمارية البريطانية عملت على تعزيز حضور اللغة الإنجليزية في الفضاء الثقافي والتربوي على امتداد خريطة الوطن العربي، شأنها في ذلك شأن الإدارة الاستعمارية الفرنسية في الكثير من البلاد العربية، التي كانت تحت الاستعمار أو الحماية الفرنسية. استدعى منا هذا المعطى أن نعود لاستجلاء خصوصيات تجربة الاستعمار ونستعرض مقومات نظرية ما بعد الاستعمار لما نعتقد أنها توفره من مداخل مهمة لقراءة تجربة الكتابة باللغة الإنجليزية في أوساط العرب المقيمين في الخارج.
إضافة إلى هذا حاولنا أن نرصد كيف أدى واقع الاستعمار وواقع ما بعد الاستعمار في البلاد العربية إلى تصاعد موجات الهجرة، نحو المراكز الإمبريالية، إما تحت ضغط الواقع الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو بتأثير من الصراعات الأهلية في عديد البلدان العربية، أو بسبب ما مارسه الاحتلال الصهيوني لفلسطين من تهجير عدد مهول من العائلات الفلسطينية خارج أراضيها نحو الملاجئ العربية ولاحقا نحو مجتمعات الشتات في الغرب أو في البلاد العربية.
في المقابل يدفعنا البحث في تأثير الهجرة في الأدب العربي المكتوب بالإنجليزية، إلى طرق العديد من المداخل البحثية، فلا يمكن جمع العرب المقيمين في الغرب في إطار واحد، إذ يكشف البحث عن أن العرب في المهجر الأنجلوساكسوني انتقلوا نحو المهجر لأسباب مختلفة وفي ظروف مختلفة، من هنا نجد أن الأمر يتعلق بتشكيلة متنوعة تضم المهاجرين الذين انتقلوا نحو المهجر لأسباب اقتصادية، كما نجد داخل هذا النسيج العديد من المثقفين المنفيين الذين اختاروا المنفى أو أكرهوا عليه لاختلافهم مع الأنظمة السياسية في البلاد العربية، كما يضم هذا النسيج حالات أخرى من قبيل اللاجئين الفلسطينيين أو اللبنانيين الذين غادروا بسبب الاحتلال الإسرائيلي أو الحرب الأهلية تباعا. كما لا يمكن أن نغفل موجات الهجرة التي كانت غايتها البحث عن فضاء أفضل للعيش بإمكانات اقتصادية وسياسية أهم. من هنا كان لزاما علينا أن نقف عند العديد من التصورات والأطر النظرية التي تحاول أن تقيم تمييزا منهجيا بين الهجرة من جهة واللجوء والمنفى من جهة ثانية، ثم الشتات من جهة ثالثة، كما اشتغلنا على إبراز الفروقات القائمة بين هذه المفاهيم وما يوفره كل منها من مقومات نقدية وتحليلية قد تفيد الباحث في فهم خصوصيات تجربة العيش في المهجر والكتابة من خارج الوطن الأم.
وغير بعيد عن العوامل الموضوعية والذاتية التي كان لها دور في تشكل تجربة الكتابة باللغة الإنجليزية بين العرب المقيمين في المهجر، وبتأثير من أسئلة الاندماج الثقافي وقضايا التمثيل الثقافي ودور الكتابة في تجسير الهوة بين الواقع والتخييل، تطرقنا إلى مسألة نعتقد أنها مهمة في هذا الباب بخصوص علاقة نصوص الأدب العربي المكتوب بالإنجليزية بالفضاء الثقافي العربي أو بالمؤسسة الأدبية الأنجلوساكسونية. ينفتح هذا السؤال على هوية النص الأدبي وطبيعة الجمهور الذي يخاطبه، وما إذا كان هذا النص يستحضر التاريخ القرائي للإنسان الغربي وبنية الصور التي شكلها عن عالم الشرق وعن الإنسان العربي وثقافته، أم أن هذا الأدب على العكس من ذلك يحاول أن يقدم صورة حقيقية عن الإنسان والثقافة العربية ويتخلص من الصور الكولونيالية والخصائص التي أسبغها الخطاب الاستشراقي عن العربي وثقافته.
وفي الإطار ذاته حاولنا أن نجيب عن إشكال مرتبط بمسألة انتماء نصوص هذا التيار إلى ما يمكن اعتباره أدب أقليات من عدمها. وفي هذا الباب استعرضنا تصور فيليكس غواتاري وجيل دولوز حول مفهوم “أدب الأقليات” وطبيعة الصلة التي تربط هذا الأدب بأدب الأغلبية الثقافية، خصوصا وأن الساحة النقدية في الغرب تتعامل مع الكثير من الأعمال الأدبية على اعتبار الانتماء الإثني لكاتبها، أو على اعتبار الموضوعات التي يجري التعامل معها داخل هذه النصوص، ومن هناك يقع تصنيف العديد من الأعمال بوصفها خارج أدب المؤسسة الثقافية تحت صنف “أدب الأقليات”.
قادنا هذا البحث النظري في الخلفيات الفكرية والمعرفية، وفي العوامل الاقتصادية والثقافية التي كانت وراء ظهور وتطور الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية، وهذا الاشتغال التطبيقي على نماذج نعتقد أنها قادرة على تمثيل مسار تطور هذا الاختيار الأدبي نحو مجموعة من الخلاصات والنتائج التي نفردها هنا كما يلي:
سار بحثنا، إذن، في اتجاهين مختلفين حاولنا من خلالهما أن ننظر إلى الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية من زاويتين مختلفتين، زاوية تاريخية تنظر إلى هذا الاختيار الإبداعي على أنه بناء تشكل ولا زال على يد أدباء قادمين من جغرافيات، وثقافات مختلفة، وزاوية وصفية تحاول أن ترصد مكونات هذه الأعمال فنيا وموضوعاتيا. انعكس هذا الاختيار القرائي الذي تبنيناه على النتائج والخلاصات التي توصلنا إليها، والتي سنميز فيها بين تلك التي تتصل بظهور وتطور الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية، وبين تلك التي ترتبط ببنية النصوص داخليا، وتبحث في تشكلاتها الفنية والإبداعية. من هنا جاءت خلاصاتنا على الشكل التالي:
أـ على مسار تطور الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية:
ـ ظهر السرد العربي المكتوب بالإنجليزية نتيجة التفاعل بين العالم العربي والعالم الأنجلوساكسوني بفعل تأثير مجموعة من العوامل التاريخية والثقافية، وتأتي في مقدمة هذه العوامل ظاهرة الهجرة ثم التجربة الاستعمارية وكيف ساهمت كل منهما في تحقيق اللقاء بين الثقافتين.
ـ تحكمت عناصر ذاتية وأخرى موضوعية في اختيار الكتاب العرب الإبداع والكتابة من داخل اللغة الإنجليزية، فجاء الاستعمار والهجرة ضمن العوامل الموضوعية، في حين تحكمت ظروف التنشئة الفردية في اختيار بعض الكتاب اللغة الإنجليزية أداة للتعبير.
ـ يخدم هذا الاختيار الكاتب، إذ يفتح أمامه مجالا أوسع من القراء والنقاد، ويتيح له ممارسة الانتقال بين ثقافتين مختلفتين. يمارس التوجه نحو الكتابة باللغة الإنجليزية في أوساط الكتاب العرب أو من أصول عربية في المهجر تأثيره على الاختيارات الأدبية، التي يشتغل من داخلها الأديب، ولا يمكن أن نغفل هذا التأثير في سياق التعامل النقدي مع هذه النصوص الإبداعية الصادرة عنه.
ـ يطرح الاختيار اللغوي أمام الأدباء العرب الأنجلوفونيين مسألة تصنيف أدبهم على أنه “أدب أقليات” من قبل المؤسسة الأدبية في العالم الأنجلوساكسوني. يرفض الكثير من الكتاب العرب تصنيف أدبهم في هذا الإطار لما يرونه حصرا لأعمالهم في زاوية الانتماء الاثني والعرقي لكتابها دون الاهتمام بما يمكن أن تقدمه من إضافات للمشهد الثقافي العام في الغرب. وعلى الرغم من حالة الرفض فإن الأعمال الأدبية للكتاب العرب في مجملها تعكس الخصائص التي وضعها غواتاري ودولوز، بوصفها محددات لهذا الأدب من حيث الجمع بين الفردي والسياسي، وغلبة الصوت الجماعي على النص ومن حيث اشتغال الأدباء على صبغ لغة الأغلبية الثقافية بخصائص وعناصر جديدة قادمة من ثقافة الأقلية.
ـ ضعف النتاج الروائي العربي باللغة الإنجليزية في بداية الأمر واقتصاره على المهاجرين العرب نحو الأمريكيتين، وعلى العرب الذين هاجروا للدراسة في أمريكا أو بريطانيا أو غيرها من العواصم الأوروبية، لكن هذا النتاج ازدهر منذ العقد الثامن من القرن العشرين، خصوصا مع ظهور نظرية ما بعد الاستعمار وانفتاح المجال الأدبي الغربي على الكتابات القادمة من المستعمرات السابقة.
ـ ارتبط ارتفاع منسوب قراءة الأدب العربي الصادر بالإنجليزية، بواقع ما بعد هجمات الحادي عشر من شتنبر، حيث بدأ القارئ الغربي المختص، وغير المختص يبحث عما يسمح له بالتعرف على هذا الآخر العربي الذي تصوره الآلة الإعلامية على أنه تهديد للحضارة الغربية وقيمها وثقافتها ووجودها.
ب ـ على مستوى القراءة التشريحية للنصوص الروائية:
ـ اهتمت الرواية العربية بالعديد من القضايا والموضوعات التي فرضتها الظروف العامة؛ لنشأة هذا التيار الإبداعي، خصوصا مسائل الهوية والعلاقة بين الأنا والآخر وتأثير الظاهرة الاستعمارية في الأفراد والجماعات، وحضور قضية المنفى والشتات. وانطلقت في تعاطيها مع هذه المفاهيم من مداخل متعددة من قبيل استغلال الإمكانيات التي يوفرها مدخل التاريخ أو مدخل الذاكرة أو قضية المرأة.
ـ ينفتح تيار السرد الروائي العربي المكتوب بالإنجليزية بشكل مهم على قضية التمثيل، إذ يقدم شخصيات أدبية تتحرك بين مناطق الأنا والآخر باستمرار، لتصور لنا كيف يتم النظر إليها في كل فضاء بوصفها تعبيرا عن الآخر دون أن تصل إلى التماهي كلية مع المجتمع الجديد ولا مع المجتمع الذي قدم منه.
ـ يمارس اختيار الكتابة من المهجر تأثيرا بالغا على الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية، فبقدر ما يمنح الشتات للروائي الحرية، للتعاطي مع واقع بلده الأصل، أو للتعبير عن مواقفه بخصوص ما يجري في البلد، فإن الشتات يمارس على الروائي ضغطا مختلفا، إما عبر تغيير بعض مقاطع الكتاب أو العنوان أو عبر التماهي مع الصور الاستشراقية عن الشرق وعوالمه.
ـ تتحرك الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية في المجال القائم بين عالمين، عالم الأغلبية التي تمثلها اللغة الإنجليزية وعالم الأقلية الذي يظهر في طبيعة القضايا التي يتناولها هذا الأدب، والتي تركز كثيرا على واقع المهاجر العربي أو واقع الوطن الذي خلفه وراءه. يمارس هذا الموقع البيني ضغطا على هذا النتاج الأدبي، إذ لا تنظر إليه الممارسة النقدية الغربية على أنه جزء من المؤسسة الثقافية في الغرب، كما لا تأخذه الممارسة النقدية العربية بالكثير من الاهتمام والجدية بسبب عامل اللغة، بشكل يكرس حالة الفضاء الثالث التي يتحرك من داخلها رواد هذا التيار الأدبي.
ـ يحضر الصوت النسائي بقوة في الرواية العربية المكتوبة بالإنجليزية، خصوصا بعد فترة الرواد، ويعود الأمر بالدرجة الأولى إلى صعود تيار الحركة النسوية في العالم بأتمه منذ منتصف القرن الماضي، وتزايد عدد النساء العربيات اللواتي خضن تجربة الهجرة نحو أمريكا، أو المملكة المتحدة، خصوصا في أوساط النساء المتعلمات المنتميات إلى الطبقات الميسورة من المجتمعات العربية.
ـ لم ينفصل السرد الروائي العربي المكتوب بالإنجليزية عن الوطن وعن الثقافة العربية، ويمكن رصد هذا الاتصال في مستويين اثنين، يتعلق الأول بتقنيات الكتابة الإبداعية، والتي تستحضر الأساليب العربية القديمة مثل الرحلة أو الرموز الثقافية العربية مثل تقنيات السرد في ألف ليلة وليلة. ويتعلق المستوى الثاني بطبيعة القضايا التي يتناولها، سواء ما تعلق منها بواقع البلاد العربية في فترة الاستعمار، وما تعرضت له هذه المجتمعات من محاولة الطمس الثقافي أو محاولات الوصم الحضاري لها، أو ما تعلق منها بواقع الدول الوطنية الناشئة بعد الاستعمار وما عانته من أجل الخروج من الهيمنة الغربية، ثم التخلص من الإشكالات الاجتماعية مثل الفقر والتهميش والقمع السياسي والفساد وغيرها.
ـ عمل الكتاب العرب الأنجلوفونيون، خصوصا في الفترة التي تلت استقلال البلاد العربية، على صبغ اللغة الإنجليزية بما يتوافق مع طبيعة الثقافة العربية، فيما يمكن أن نعتبره عملية تنسيب لهذه اللغة أو عملية نقل لها من الفضاء الجغرافي الذي ارتبطت به للتعبير عن فضاء جغرافي مختلف وعن قضايا ثقافية واجتماعية جديدة، من قبيل إدراج بعض العبارات العربية ضمن النسيج العام للنص باللغة الإنجليزية في ما يشبه الترجمة الحرفية لهذه العبارات دون البحث عن البدائل الإنجليزية القريبة منها، مثل عبارات الشكر والحمد لله أو عبارات الثناء أو الأدعية أو المتمنيات، وهي عبارات تنتمي إلى الثقافة العربية وتقع ترجمتها مباشرة بصيغها العربية وإدراجها ضمن النص لتنتج قوالب وصيغا غير معتادة في الإنجليزية بالأساس.
ـ لا يمكننا الجزم باقتصار هذه الملاحظات والخلاصات التي توصلنا إليها على الرواية العربية الصادرة بالإنجليزية، إذ نجد ملامح من كل ما تحدثنا عنه في فنون القول المختلفة من القصة والقصة القصيرة، كما نجد عناصر منه في كتابات الأدباء العرب المهاجرين في الفضاء الأنجلوساكسوني من شعر وخلافه. وإنما جاء اقتصارنا في هذه الأطروحة على فن الرواية لما تفرضه الخصائص المنهجية في الأطاريح الجامعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هي ما بعد الاستعمارية وهي الدراسة الأكاديمية للإرث الثقافي للاستعمار والإمبريالية، وهي تركز على التبعات البشرية لاستغلال السكان الأصليين في الأراضي المستعمرة والسيطرة عليهم وعلى أراضيهم. تعتبر ما بعد الاستعمارية تحليلًا نظريًا نقديًا لتاريخ وثقافة وأدب وواقع القوى الاستعمارية الأوروبية، بُني اسم ما بعد الاستعمارية على نمط مصطلح ما بعد الحداثة، والذي يشترك معه بعدد من المفاهيم والوسائل. موقع: ويكيبيديا.
[2] نقصد هنا الكتاب العرب من المهاجرين أو أبناء المهاجرين ممن يعتمدون اللغة الإنجليزية أداة للتعبير في أعمالهم الأدبية شعرا ونثرا.
[3] Susan Abulhawa, Mornings in Jenin, Published by Bloomsbury USA, New York, 1st edition 2010
اعتمدنا في الأطروحة على الترجمة العربية التي قامت بها سامية شنان التميمي لدار النشر بلومزبري ونشرت طبعتها الأولى سنة 2012
[4] سوزان أبو الهوى هي كاتبة فلسطينية أمريكية وناشطة في حقوق الإنسان. ومؤلفة الرواية الأكثر مبيعا لعام 2010″ بينما ينام العالم”، ومؤسسة المنظمة غير الحكومية ملاعب من أجل فلسطين. ولها عدد من الأعمال كما يلي:
ـ ضد عالم بلا حب 2020
ـ الأزرق بين السماء والماء، رواية (دار بلومزبري، 2015)
ـ سعى لي صوت الريح، مجموعة شعرية (نوفمبر 2013)، موقع ويكيبيديا.
ـ البحث عن فلسطين: الكتابة الفلسطينية الجديدة في المنفى والمختارات الرئيسية(2012). موقع ويكيبيديا.
ـ بينما ينام العالم ، رواية (بلومزبري، 2010).
ـ البحث عن جنين، مقتطفات (كيون برس، 2003).
[5] أهداف سويف، خارطة الحب، ترجمة فاطمة موسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة العربية الأولى،2010
[6] أهداف سويف، أديبة وأستاذة جامعية مصرية، تعيش بين القاهرة ولندن، اختيرت روايتها ” خارطة الحب” ضمن اللائحة القصيرة لجائزة البوكر سنة 1992ترجمت إلى قرابة ثلاثين لغة. صدر لها أيضاً مجموعة من الأعمال القصصية والروائية مثل:
ـ في قلب الشمس (1992): رواية تتبع حياة فتاة مصرية شابة تُدعى آسيا، وتستكشف مواضيع الهوية والحب والصحوة السياسية.
ـ خريطة الحب (1999): فازت هذه الرواية بجائزة بوكر وتدور أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. تُحكي الرواية قصة علاقة بين امرأة إنجليزية وقومي مصري، متداخلة مع الأحداث التاريخية والقصص الشخصية.
ـ الكرّوان (1996): مجموعة من القصص القصيرة تعمق في حياة شخصيات متنوعة، ملتقطة جوهر المجتمع المصري.
ـ القاهرة: مدينتي، ثورتنا (2012): مجموعة من المقالات التي تقدم رواية شخصية من الداخل حول الثورة المصرية في عام 2011، تقدم رؤى حول الأشخاص والأحداث التي شكلت هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ مصر الحديث.
[7] صدر هذا النص في نسخته الإنجليزية سنة 2015 بعنوان The Moor’s Account، وترجمه إلى العربية نوف الميموني تحت عنوان ” ما رواه المغربي” سنة 2017 عن دار أثر للنشر والتوزيع.
[8] روائية مغربية مقيمة بالولايات المتحدة الأمريكية، أستاذة بالجامعات الأمريكية، وصدرت لها مجموعة من الكتب والروايات نذكرها كما يلي:
ـ “Hope and Other Dangerous Pursuits” (2005)
ـ “Secret Son” (2009)
ـ “The Moor’s Account” (2014)
ـ “The Other Americans” (2019):
ـ “Conditional Citizens: On Belonging in America” (2020):
[9] يعتقد أن هذا المغربي كان أول إفريقي يصل إلى لافلوريدا على متن رحلة بحرية مع مجموعة من الجنود البرتغاليين، بعد أن تم استعباده في أزمور ونقله إلى لشبونة ثم القارة الجديدة. اشتهر في التاريخ الغربي باستيبانكو وهو الشخصية المحورية في رواية ليلى العلمي ” ما رواه المغربي”، كما أنه الشخصية الأساس في مجموعة من الأعمال الروائية.
[10]Alia YUNIS , The Nights Counter, Crown (July 1, 2009)، صدرت هذه الرواية باللغة الإنجليزية ولم تتم بعد ترجمتها، وهي الرواية الأولى للمخرجة والكاتبة علياء يونس، ولقيت إشادة كبيرة بين النقاد وكتاب الرأي في المشهد الثقافي الغربي
زر الذهاب إلى الأعلى