أطروحة دكتوراه من إنجاز الباحث: محمد لهوير- بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس، وتمت مناقشتها بتاريخ 09 محرم 1446 / 15 يوليوز، 2024م، وقد تكونت لجنة المناقشة من الأستاذ الدكتور عمر جدية رئيسا، والأستاذ الدكتور محمد البنعيادي عضوا، والأستاذ الدكتور محماد رفيع عضوا، والأستاذ الدكتور الحسان شهيد عضوا، والأستاذ الدكتور الحسن حمدوشي مشرفا. ونال صاحبها ميزة مشرف جدا مع التنويه والتوصية بالطبع.
تقرير البحث:
تتجلى أهمية الموضوع في استئناف النظر في المقارنة بين الشاطبي وابن خلدون في منهجهما التكاملي بين العلوم، والإفادة منه في الإحياء الحضاري للأمة.
وتأسست عندي أهمية البحث على دوافع ذاتية وموضوعية، سَوَّغَتْ اختياري للشاطبي وابن خلدون بالخصوص.
وبالنظر في الدوافع الذاتية لاختيار موضوع هذا البحث، فإن قصتي مع الشاطبي وابن خلدون بدأت عندما تلقيت أبجديات علم المقاصد بالكلية، وتعرفت عن قرب على الدرس المقاصدي عند الشاطبي، ثم بعد ذلك أتيحت لي فرصة التعرف على الدرس العمراني عند معاصره ابن خلدون؛ فتبدَّت لي من خلال كتابه “المقدمة” قواسم الالتقاء المعرفي والتكامل المنهجي بين الرجلين، حتى تطور ذلك إلى مشروع بحث أكاديمي تقدمت به لنيل درجة الدكتوراه في إحدى الكليات المغربية سنة 2014م.
وعندما لم يُكتب للمشروع القَبول في هذه الكلية، فكرت في ترجمته إلى رواية أدبية وتاريخية تحكي سيرة الشاطبي بالخصوص، ويلتقي فيها مع ابن خلدون في المخيال الأدبي على الأقل. وبقِيتُ محتفظًا بفكرة البحث الأكاديمي إلى أن نال الاستحسان والموافقة بكلية الآداب سايس- فاس.
وقد أسعفتني أسبابٌ موضوعيةٌ أخرى لهذا الاختيار، وقواسمُ مشتركةٌ تضع حدودًا زَمَكَانِيَةً للبحث، وتستدعي المقارنة بين الرجلين، أهمها: القواسم الحضارية والتاريخية، والقواسم الجغرافية، والقواسم المنهجية والمعرفية.
فالدارس لكتاب “الموافقات” لا يشعر أنه يقرأ كتابًا مستقلاً في أصول الفقه، أو كتابًا مستقلاً في مقاصد الشريعة، فهو كتاب أصولي بروح مقاصدية، وكتاب مقاصدي بمنهج أصولي.
وانطلاقًا من هذا المنهج الفريد، تساءلت في البحث؛ كيف انطلق الإمام الشاطبي من نصوص الوحي ومن واقعه المعيش، ومن التراث الأصولي والمقاصدي؛ ليتجاوز التشتت الفكري والنظر التجزيئي لعلماء عصره، ويبني صورةً كليةً ومتكاملةً للشريعة تهتدي ببوصلة المقاصد والأخلاق؟ وكيف انطلق العلَّامة ابن خلدون من نصوص الوحي ومن واقعه المعيش، ومن سنن التاريخ وعِبره؛ ليخرج بقواعد منهجية وكلية لأصول العمران والاجتماع البشري؟
وانطلاقًا من الدوافع الذاتية والموضوعية لاختيار الموضوع، فإن إشكالية البحث تنطلق من التساؤل الآتي:
كيف يمكننا استثمار المقارنة بين المنهج التكاملي عند الشاطبي وابن خلدون في الإجابة عن سؤال التكامل بين العلوم، واستئناف الشهود الحضاري للأمة الإسلامية؟
أما بخصوص منهج البحث، فإن طبيعة الموضوع القائم على دراسة شخصيَتين، تقتضي اعتماد المنهج المقارن، بحكم اشتراك الرجلين في فترة زمنية واحدة وبيئة فكرية متقاربة. ولتحقيق المنهج المقارن على الوجه المطلوب، التزمت بمنهجية موحدة في مناقشة الإشكالية، وهي:
أولا- آثرت عدم الترجمة للشاطبي وابن خلدون، ورأيت أن ذلك مجرد تحصيل حاصل؛ فهناك عشراتُ الرسائل والبحوث تكلفت بذلك، إلا إذا رأيت توظيف محطة من محطات سيرتهما الذاتية تخدُم موضوعَ البحث وإشكالَه.
ثانيا- اِخترت مفهومًا إجرائيًا للتكامل بين العلوم، ووضحت عناصره، وانطلقت منه في مقاربة سؤال التكامل عند الشاطبي وابن خلدون.
ثالثا- قصدت بعبارة “العلوم” الواردة في عنوان البحث ثلاثة علوم: علوم الوحي، والعلوم الإنسانية، والعلوم المادية، ووضحت معانيها وتكاملها الداخلي والخارجي.
رابعا- اِستندت في الإجابة عن سؤال التكامل بين العلوم عند الشاطبي وابن خلدون إلى ثلاث أَثَافِي، شكلت بنية مندمجة للمفهوم الذي اخترته، ووحدة متكاملة للنمط المعرفي عند الرجلين، وهي:
الأُثْفِيَةُ الأولى التي تشمل الوجود، والمعرفة، والأخلاق. والأُثْفِيَةُ الثانية التي تضم علم الكلام، وعلم التربية، وعلم التصوف. والأُثْفِيَةُ الثالثة التي تشير إلى الوجهة، والجودة، والجدوى.
فمبحث الوجود يرتبط بعلم الكلام ويجيب عن سؤال الوجهة، ومبحث المعرفة يرتبط بعلم التربية ويجيب عن سؤال الجودة، ومبحث الأخلاق يرتبط بعلم التصوف ويجيب عن سؤال الجدوى.
وللإجابة عن سؤال التكامل بين العلوم عند الرجلين قسمت البحث إلى بابين:
ففي الباب الأول حررت مفهوم التكامل بين العلوم، واخترت مفهومًا إجرائيًا انطلقْتُ منه في مقاربة سؤال التكامل بين العلوم عند الشاطبي وابن خلدون، وفي الإجابة عن إشكالات منهجية ومعرفية أفرزها النقاش المعاصر.
ثم بَيَّنت أن هذا التكامل أضحى في وقتنا الراهن من الضرورات الوجودية والمعرفية والأخلاقية الباعثة على النهوض، والمحددة لوجهة الأمة، وجَوْدَة علومها وتعليمها، والجدوى من وجودها. كما أكدت في هذا الباب أن بناء المفاهيم والوعي بالنموذج المعرفي عند الشاطبي وابن خلدون من أهم أسس التكامل بين العلوم، من خلال تتبع البناء النسقي للمفاهيم عندهما.
وفي أفق التأسيس لنمط معرفي إسلامي مستمَدٍ من الرؤية التوحيدية للوجود والإنسان والمصير يكون أساسًا للتكامل بين العلوم، خصصت الباب الثاني لقضايا معرفية وتربوية اشتبك فيها الرجلان، وارتبطت بنظامهما الفكري المنبثق من نسق معرفي متماسك ومتين.
أما خاتمةَ الأطروحة، فقد ضَمَّنتُها نتائجَ البحث وآفاقَه، مؤكدًا فيها أن النظر في سؤال التكامل بين العلوم مشروع فكري متجدد لا يقتصر على هذا البحث، ولا يمكن أن تُسْهِم مخرجاته في النهضة المنشودة إلا بتشجيع البحث في الدراسات المقارنة بين الرجلين.
ومن النتائج التي توصل إليها البحث:
أولا- إن استلهام التجربتين الشاطبية والخلدونية في الإجابة عن سؤال التكامل في الفكر الإسلامي المعاصر لا يعني تَكرار التجربة نفسها، أو الحنينَ إلى ما كان يسمى بالموسوعية التي عُرف بها بعض علمائنا. وإنما المقصد هو استمداد المنهج التكاملي بين العلوم، واستلهام كيفية التعامل مع التجربتين في الإجابة عن بعض أسئلة المجتمع والتفاعل مع قضاياه.
ثانيا- إن موضوع التكامل بين العلوم ليس غايةً في حد ذاته، بل وسيلة لإبراز منظومتنا المعرفية الإسلامية وتنزيلها في أرض الواقع، وتحقيق أمانة الاستخلاف والشهود.
ثالثا- لقد كشفت المقارنة التزامنية بين الشاطبي وابن خلدون نقاط الائتلاف أكثر من نقاط الاختلاف. كما أوضحت المقارنة بينهما ذلك التكامل بين نظرة عمرانية وسُننية تَعْتَبِرُ بسنن التاريخ في النهوض، ونظرة أصولية وفقهية تسترشد بمقاصد الشريعة وأخلاقها في تحقيق أمانة الاستخلاف والإعمار، والإجابة عن أسئلة الوجهة والجودة والجدوى.
رابعا- إن ارتباط سؤال التكامل بين العلوم عند الشاطبي وابن خلدون، ينطلق من ضرورات يراهن عليها تجديد الخطاب الإسلامي المعاصر، وهي: الضرورة الوجودية من خلال تجديد علم الكلام بمعيار الوجهة، والضرورة المعرفية بإصلاح مناهج التربية والتعليم وفق معيار الجودة، والضرورة الأخلاقية بأَخْلَقَةُ التصوف وفق معيار الجدوى.
وأحسَبُ أن هذا البحث يفتح للباحثين آفاقًا مستقبلية جديدةً تستحق مزيدًا من البحث والنظر، خصوصًا استثمار المقارنة بين الرجلين في الإجابة عن بعض الأسئلة الراهنة. ومن الدراسات المقارنة التي أرى أنها ستسهم في اكتمال هذا المشروع الكبير:
أولا- تحليلُ خصائص النسق المعرفي الإسلامي عند الشاطبي وابن خلدون والمقارنةُ بينهما.
ثانيا- المقارنة بين مفهومين ارتبطا بالنموذج المعرفي التوحيدي عند الشاطبي وابن خلدون، وقفت عليهما كثيرا في الموافقات والمقدمة بالخصوص، وهما: “الافتقار والاستظهار” عند الشاطبي، و”الاستماتة والاستبصار” عند ابن خلدون، وهما مفهومان يرتبطان عندهما بمفهوم آخر هو: “اتحاد الوجهة”.
ثالثا- القيام بدراسة تحليلية ومقارِنة بين الشاطبي وابن خلدون في “فلسفة الأخلاق والتصوف”، تستكشف خيوط الدرس الأخلاقي عندهما، وتبرز العلاقة بين الأخلاق ومقاصد الشريعة الإسلامية والعمران البشري المنشود.
رابعا- تعميق النظر في قضايا مشتركة بين الرجلين، واستثمارها في التجسير بين العلوم مثل: معالم المنهاج التربوي والتعليمي، وتجديد الدرس الكلامي، وأسس الفكر السنني.
خامسا- تتبع القراءات “الحداثية” لفكر الشاطبي وابن خلدون، والمقارنة بينها؛ بغية الوقوف عند مظاهر التوظيف الحداثي لهما سلبًا أو إيجابًا.
وختمت آفاق البحث بتشجيع الباحثين على اقتناص بعض الإشارات الدقيقة التي دعا فيها الشاطبي إلى مد الجسور بين علوم القرآن وعلوم الحديث؛ بإدراج مبحث المكي والمدني ضمن مباحث علوم الحديث، وتأكيده أن الفهم السليم للأحاديث المدنية يكون في ضوء فهم الأحاديث المكية، واستثمار هذه الإشارات في فهم خطاب الشارع.
زر الذهاب إلى الأعلى