توضيحات المؤلف حول كتابه “رؤية العالم”

حضور وممارسات في الفكر والعلم والتعليم

د. فتحي حسن ملكاوي


    صدر لي بفضل الله قبل بضعة أشهر (حزيران/يونيو 2021) كتاب بعنوان: “رؤية العالم: حضور وممارسات في الفكر والعلم والتعليم” وهو موضوع انشغلتُ بالتفكير فيه منذ وقت مبكّر في حياتي. ويمثل صدوره مثالاً على القلق المعرفي الذي يلازم الإنسان فيفكّر ويقرأ ويبحث ليشبع نهمه، ولا يَنِي في السعي بشأنه حتى يُنجز فيه شيئاً مما كان يتمنَّاه. ولكل كتاب قصة. ومن الممتع في كثير من الأحيان أن يطلع القارئ على قصة المؤلف في تأليف كتابه. وربما يجد القراء -ولا سيما الشباب منهم- في قصة الكتاب تجربة مفيدة ينفعلون بها أو يتفاعلون معها فيما يقومون به من أعمال. ولكن قليلاً من المؤلفين من يسرد قصة كتابه في الكتاب نفسه، وقد يتحدثون عن ذلك أحياناً في مناسبات الحديث عن الكتاب.
     ويعود أقدم موقف عن صلتي بما أسميه الآن “رؤية العالم”، إلى عام 1959، وكنت حينها في الصف العاشر من التعليم المدرسي. فقد وقع بيدي الأجزاء السبعة عشر الأولى من كتاب في ظلال القرآن، الطبعة الأولى غير المنقحة، التي صدرت قبل عام 1954 قبل الحكم بالسجن على المؤلف. فقرأت في الجزء الرابع تعليقات المؤلف وتفسيره لقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وما بعدها من آيات من أواخر سورة آل عمران. وقد وضع في الهامش عبارة وعد فيها أن يخرج بحثاً مستقلاً بعنوان: “التصور الإسلامي للوجود أو فكرة الإسلام عن الله والكون والحياة والإنسان.” ثم أضاف “يظهر قريباً إن شاء الله”.[1] وقد تحقق هذا الوعد بالفعل عام 1964 عندما صدر كتاب “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”، وأشار في مقدمته إلى ذلك الوعد، وإلى سبب اختياره لمصطلح “التصور” من بين مصطلحات أخرى.
      ومن بين الحوافز التي عزّزت اهتمامي بهذا الموضوع، اطلاعي على ما أشار إليه محمد عبدالله دراز في كتابه: “دستور الأخلاق في القرآن”، وسمّاه: الفلسفة الدينية في القرآن، وذكر من بين عناصر هذه الفلسفة أصل الإنسان ومصيره، وأصل العالم ومصيره، ومبادئ السبب والغاية، وأفكار عن النفس، وعن الله… ثم ذكر و”أنّ هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة.”[2]
     وقد أتيح لي الإقامة سنة كاملة في بريطانيا لدراسة دبلوم عالي في تدريس العلوم، وكانت فرصة للتفاعل مع طلبة من أكثر من عشرة بلدان مختلفة من آسيا وأفريقيا، ولكل منهم خبرات تعليمية مقدرة، إضافة إلى عدد من المدرسين في تخصصات متنوعة، وقد كانت فرصة للحوار حول خبرات هؤلاء الطلبة والمدرسين حول الكيفية التي يفهم فيه الطلبة المادة العلمية في ضوء مرجعياتهم الدينية والثقافية.
     وفي أثناء دراستي في برنامج الماجستير في أواسط سبعينيات القرن العشرين في تخصص علم النفس التربوي، أتيح لي أن أطلع على نظريات تكوّن المفاهيم وبناء الحكم الأخلاقي، وغير ذلك من العمليات العقلية. وبحكم عملي في مجال تدريس العلوم اخترت أن تكون أطروحتي في العمليات التي يتضمنها التفكير العلمي، واختبار الطرق التي يفكر فيها الطلبة من أجل التعامل مع المواقف العلمية. وقد تطور لديّ اهتمامٌ كبيرٌ بموضوع بنية العلم structure of science والتأكيد على أن عناصر مادة العلم (المفاهيم والقوانين والنظريات…) ليست إلا بُعداً واحداً من بنية العلم، وأن عملية التفكير التي تتكون بها هذه العناصر في البنية العقلية للمتعلم هي بُعدٌ آخر لا يقل أهمية عن البعد الأول، وأن بنية العلم لا تكتمل إلا بوجود بعد ثالث يتمثل في تقدير المتعلم للعلم والعلماء وبناء الاتجاهات والمشاعر النفسية التي يكوّنها عن العلم وأهميته وكيفية توظيفه.
     وفور انتهائي من دراسة الماجستير التحقت ببرنامج الدكتوراه في تدريس العلوم في الولايات المتحدة الأمريكية. وواصلت اهتمامي بقضية بنية العلم، وشاركت في بحث لمقارنة تصورات ثلاث فئات من أساتذة الجامعة: فئة العلماء المتخصصين في قضايا العلوم البحتة من كلية العلوم، وفئة فلاسفة العلم من قسم الفلسفة، وفئة أساتذة تدريس العلوم من كلية التربية. واغتنمت فرصة طول إقامتي في الجامعة لدراسة تخصصين فرعيين إضافة إلى التخصص الرئيسي في تدريس العلوم، التخصص الفرعي الأول في فلسفة العلوم، وقدمتُ فيه بحثاً عن فلسفة العلوم في الرؤية الإسلامية، والتخصص الفرعي الثاني في مناهج البحث الكيفي وكان موضوعاً جديداً في الجامعات الأمريكية وقتها، وقد وظفتُ تحصيلي في هذا التخصص في إجراءات بحثي في أطروحتي للدكتوراه. ومن الجدير بالذكر أن مقررات هذه التخصص ومراجعه ومناقشاته وخبراته الميدانية كانت أشبه ما تكون بالبحث في رؤية العالم.
     ومن المؤكد أنّ الصلة بين هويتي الإسلامية الواضحة ورؤية العالم قد أسهمت فيها عوامل متعددة، لعلّ منها إقامتي مدة أربع سنوات في دمشق في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى، صاحبتها خبرة غنية جداً في مجال الثقافة والعلوم الإسلامية عن طريق حضور محاضرات كلية الشريعة، ودروس المساجد والتعرف عن قرب إلى عدد كبير من العلماء والمفكرين من مختلف التوجهات الفقهية والصوفية والسياسية.[3]
     ومن هذه العوامل إقامتي الطويلة نسبياً في الولايات المتحدة، وكانت على مرحلتين رئيستين فضلاً عن زيارات متعددة غيرهما، المرحلة الأولى هي مرحلة الدراسة الجامعية للدكتوراه، وقد امتدت ست سنوات ما بين عامي 1978-1984، ولم يكن الإسهام في نشاطات العمل الإسلامي هناك أقل أهمية في خبرتي من الدراسة العلمية نفسها، فقد كانت النشاطات الإسلامية بطبيعتها نشاطات تكاملية تتسع لاستيعاب وإعادة بناء خبرات الطلبة الذين يأتون من بلدان العالم الإسلامي على اختلاف تخصصاتهم العلمية، ومرجعياتهم المذهبية والسياسية. وقد كنت أشبِّه وضعنا هناك بمن يقف على قمة العالم ليرى ما فيه بصورته الكلية عن بعد، كمن ينظر في جهاز التلسكوب، ثم يتعامل مع عناصر هذا العالم وجزئياته عن قرب، وكمن ينظر في جهاز الميكروسكوب. والجهازان ضروريان لبناء الرؤية الكلية.
     أما المرحلة الثانية فقد امتدت إلى عشر سنوات من عام 1997-2007م. وهي فترة عملي مديراً تنفيذيا للمعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن. وكان من طبيعة العمل أن أتابع نشاطات المعهد في مكاتبه، ومع المؤسسات المتعاونة في عدد كبير من بلدان العالم، فضلاً عن المؤتمرات والندوات، التي تعقد في مركز المعهد، ويشارك فيها علماء ومفكرون مسلمون وغير مسلمين. ولعل رسالة المعهد ومحور اهتماماته في إسلامية المعرفة وتطوير المشروعات البحثية، التي تعتمد منهجية التكامل المعرفي بين العلوم المتخصصة من جهة، والمرجعية الإسلامية من جهة أخرى، هي مثال واضح على تطبيق مفهوم رؤية العالم في التفكير والبحث والممارسة. 
     إنّ قضية “رؤية العالم” في تقديري: هي قضية أساسيات الاعتقاد في المسائل الكلية، وهي قضية كانت تتصل بـمباحث الفلسفة الرئيسية: الوجود والمعرفة والقيم منذ وقت مبكر في تاريخ “الفلسفة”، وهي قضية أساسيات “الدين” فيما يختص بالخالق والمخلوقات، والإنسان والحياة، والدنيا والآخرة. ثم أصبحت قضية أساسية في ميدان العلم، عندما بدأ يحاول تقديم تصورات بديلة عن التصورات الدينية والفلسفية.
     وقد كان لهذه القضية تجلياتها في كثير من عناصر تجربتي الشخصية في التدين منذ وقت مبكر، ولا سيما في دراستي الجامعية للعلوم الطبيعية والتخصص في الكيمياء والجيولوجيا، منذ عام 1962 في جامعة دمشق. وهي تختص بما كنا ندرسه في الجامعة في مواد الجيولوجيا، ولا سيما في تطور بنية الأرض والطبقات الجيولوجية وما فيها من بقايا الكائنات الحية. فقد كان أستاذنا الفرنسي يأخذنا في رحلات جيولوجية بصورة متكررة لنرى في الميدان الطبيعي ما كنا ندرسه عن طبقات القشرة الأرضية، وما يظهر فيها من طيات وفوالق وتكوينات، وما تحتويه من بقايا الكائنات الحية، التي كنا نسميها مستحاثاتfossils . وقد كان يتبين لنا اختفاء أصناف من بقايا كائنات حية في طبقات جيولوجية عليا كانت موجودة في طبقات أسفل منها، وظهور بقايا كائنات جديدة، وكان علينا أن ندرس “التطور” الذي حصل على الأصناف الجديدة، ونفسّر هذا التطور بما يحصل من تغيرات في البيئة. وكان عليّ شخصياً بحكم خلفيتي الدينية أن أفك الاشتباك بين مسائل الدين والفلسفة والعلم. ولا أذكر أنني كنت أشعر بأي قلق لأنني ببساطة كنت أعتبر أية نظريات علمية هي تفسيرات محتملة، وأن أيّ تغير حصل بالفعل، قد تم بعلم الله وإرادته، لحكمة يعلمها سبحانه، قد ينجح الإنسان في معرفة شيء منها في الحاضر أو في المستقبل. وقد كنت أرتاح إلى الاعتقاد بأن المعرفة العلمية ونظرياتها تتصف بأنها مؤقتة ودائمة التغير، وبخاصة عندما أستحضر ما درسناه في المرحلة الثانوية عن التطور في النظريات المتتابعة في الكيمياء، لتفسير بنية المادة بحيث تعدل كل نظرية ما كان قبلها أو تنقضه تماماً.
     وقدر الله لي أن أكون في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في نيويورك وواشنطن. وبدأ الإعلام العالمي ودور النشر يضخان الأخبار والتعليقات عن أسباب الأحداث ونتائجها، وكان كثير منها يدور حول عالم الإسلام بسبب أن الأحداث نُسبت إلى مسلمين. وفي مثل هذه الأجواء تتوالد الألفاظ والعبارات والمصطلحات، ويشيع استعمال بعضها، ويأخذ دلالات جديدة خاصة، تتصل بالبحث والجدل الدائر حول الأحداث، وتفسير سلوك الفاعلين فيها، وتعبّر عن مشاعر المتحدثين واتجاهاتهم ومواقفهم نحوها. وكان من بين هذه المصطلحات التي انتشر استعمالها بصورة واضحة مصطلح رؤية العالم، للتعبير عن الكيفية التي يفهم فيها كل طرف ذاته وغيره، والعالم الذي يعيش فيه من جهة، ويتصرف في مواقفه وعلاقاته وفق هذا الفهم من جهة أخرى. وأصبح من الشائع القول بأنَّ كل شخص له رؤية للعالم، وأفراد كل مجتمع لهم رؤية مشتركة للعالم، وكل دين هو رؤية للعالم. وقد تكون رؤية العالم ظاهرة يكتسبها أصحابها ويتصرفون على أساسها بوعي وإدراك، وقد تكون خفية ضمنية، يتصرف أصحابها بصورة تلقائية غير واعية. ومعظم ما يدور في العالم هو تنافس أو صراع بين رؤى مختلفة للعالم: clash of worldviews .
     وكان من الطبيعي أن يلفت ذلك اهتمامي، وأن أتابع ما يصدر من كتب عن رؤية العالم، التي بدأت تأخذ دلالات إعلامية وسياسية واقتصادية، بعد أن كانت معظم الكتب الصادرة حتى ذلك الوقت باللغة الإنجليزية ذات مرجعية دينية مسيحية، أو اجتماعية أنثروبولوجية. وكان من بين هذه الكتب التي اطلعتُ عليها كتاب صدرت طبعته الرابعة عام 2004م، وكانت الطبعة الأولى لهذا الكتاب قد نشرت في سبعينيات القرن العشرين، وصدرت الطبعة الثانية في الثمانينيات، والثالثة في التسعينيات. وأهم ما في الكتاب هو حصره لرؤى العالم السائدة في العالم المعاصر، والتعريف بكل رؤية وتحديد الطريقة التي تجيب بها عن الأسئلة الوجودية التي يتضمنها مفهوم رؤية العالم. وأشار المؤلف في مقدمة الطبعة الرابعة إلى أنّ هذه الطبعة تأتي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكان عليه أن يُضَمن هذه الطبعة فصلاً عن رؤية العالم الإسلامية، لكنه ليس مؤهلاً لكتابة هذا الفصل، على الرغم من أن تصنيفه لرؤى العالم يقوم على رؤية دينية مسيحية. فبدأتُ أسأل نفسي: من هو المؤهل إذن؟ وأين هي الكتابات عن رؤية العالم الإسلامية.[4]
     وبالمناسبة فقد صدرت الطبعة الخامسة للكتاب عام 2009م، جدَّد فيها المؤلف الحاجة إلى عرض رؤية العالم الإسلامية، ونوّه بأنّ: “رؤية العالَم الإسلامية (وربما رؤى العالَم الإسلامية) تطرُق اليوم حياة الناس حول العالَم، كما تظهر في الجرائد اليومية … عندما يحاول الكتَّاب فهم الأحداث الملتهبة وتفسيرها. ولسوء الحظ فإنَّنِي شخصياً لست مؤهلاً للاستجابة لحاجتنا هذه في أمريكا، لندرك كيف يفهم الإسلام عالَمنا. ولذلك طلبت من الدكتور واينفريد كوردوان أستاذ الفلسفة والدين في جامعة تايلر، ومؤلف عدد من الكتب لا سيما كتاب “أشكال الإيمان المجاورة لنا”، لكتابة فصل عن رؤية العالَم الإسلامية”. وقد لخص مؤلف هذا الفصل رؤية العالَم الإسلامية كما يراها في ثلاث نقاط، هي: تأكيد وحدانية الله وتجاوزه وهيمنته، ولا شيء يحدث في العالَم خارج الإرادة الإلهية، والمسلمون المخلصون يسعون إلى اتباع الأوامر الإلهية حتى في أبسط أمور الحياة.
     وتواصل اهتمامي بهذا الكتاب فوجدت أن الطبعة السادسة من الكتاب صدرت عام 2020، وأصبحت رؤى العالم عنده 11 رؤية، فقد أضاف رؤية مستقلة بعنوان رؤية الفلسفة، وأضاف عدداً من المخططات والجداول والمقارنات.
     والحقيقة أنني شعرتُ بعد قراءة الكتاب عام 2004م بشيء من التحدّي الذي يواجهني شخصياً، بحكم اهتماماتي السابقة بالموضوع. فبدأت أتحدث عنه وأكتب فيه، واستغل الفرص المتاحة في وسائل الإعلام والمجلات والمؤتمرات لإثارة الاهتمام برؤية العالم. ففي مؤتمر عن العلوم الاجتماعية في المغرب، شاركت فيه ببحث عن رؤية العالم في العلوم الاجتماعية، وفي مؤتمر عن ابن خلدون في تونس شاركتُ ببحث عن رؤية العالم عند ابن خلدون، واستضافني برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة التلفزيونية القطرية للحديث عن رؤية العالم عند الإسلاميين، وكتبتُ عدداً من كلمات التحرير في مجلة إسلامية المعرفة عن رؤية العالم. وبطبيعة الحال كنت في كل مرة أرجع إلى ما كان متوفراً من الكتابات عن الموضوع باللغتين العربية والإنجليزية، وما ترجم إليهما.
     وكنت اتتبع ما يكتب في الموضوع بعناوينه ومصطلحاته المختلفة. فليس كل ما كتب عن موضوع “رؤية العالم” كان يستخدم هذا المصطلح، فلم يكن عند كثير ممن كتب في الموضوع مشكلة في استخدام مصطلح الفلسفة الإسلامية مثلاً. كما فعل محمد عبد الله دراز، أما سيد قطب فقد نظر في مصطلح الفلسفة، والفكرة الكلية، ولكنه اختار مصطلح التصور في كتابه “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته” وقد كنتُ أعود في مناسبات متعددة إلى هذا الكتاب، وأجدُ في كلِّ مرَّة أنّ الكتابَ ذو قيمة تحفيزية وجدانية كبيرة، لكنَّه لا يلبّي متطلبات التحقيق والتدقيق الأكاديمي الذي يمكن أن نبحث عنه في كتاب منهجي جامعي على سبيل المثال.
     ونحن نجد بالإضافة إلى مصطلحات رؤية العالم والفلسفة الإسلامية، والتصور الإسلامي، مصطلحات أخرى: الرؤية الكونية، والرؤية الوجودية، النموذج التفسيري، النظرة الكلية، ولم يكن عندي مشكلة في استعمال أيٍّ من هذه المصطلحات حسب ما كنتُ أجده مناسباً للسياق، وما قد يقتضيه الموقف في الكتابة أو الحديث. لكنني وبدءاً من عام 1989 تبينت لي الحاجة إلى الاستقرار على بعض المصطلحات التي تكون أكثر تعبيراً عن فهمي من جهة وأكثر قرباً من أشكال الفهم السائد في الثقافة المعاصرة، ثم استقر رأيي منذ عام 1996 على اعتماد اللفظ القرآني كلما كان ذلك ممكنا. واكتفيت باستعمال مصطلح رؤية العالم، تاركاً الألفاظ التي تعتمد وصف الرؤية بأنّها: عامة، أو كلية، أو شاملة، لأنَّ رؤية العالم لا بد أن تكون عامة وكلية وشاملة. واستبعدت مصطلح الرؤية القرآنية لتبقي الصفة القرآنية صفة لما نريد أن تكون عليه الرؤية المنشودة. واستبعدتُ مصطلح الرؤية الكونية، لأن مصطلح الكون أصبح يتأرجح بين معنيين: معنى عام يرتبط بالعالم الطبيعي وأشيائه وأحداثه وظواهره، ويقابل في الغالب معنى كلمة cosmos بالإنجليزية، وإلى حد ما كلمة universe، ولم نجد في القرآن الكريم ما يتصل بالأصل اللغوي للكون إلاّ الفعل كان ومشتقاته، إضافة إلى أنّ لفظ الكون ارتبط بما يقابله وهو الفساد. واستبعدتُ كذلك مصطلح الرؤية الوجودية للدلالات الفلسفية التي تلبّست بلفظ الوجود، مثل الوجود المطلق، وعملية الحدوث الكامل للشيء أو التحول أو الاستحالة أو الفساد في الجوهر من حالة إلى أخرى، إضافة إلى أن لفظ الوجود ارتبط بما يقابله وهو العدم، وأنّ مصطلح الوجود ارتبط بمذهب فلسفي هو “الوجودية” Existentialism له مبادئه وأعلامه وكتاباته. ولذلك جاء اختياري لعبارة رؤية العالَـم، لأنّ لفظ العالَـم لم يختلط بما اختلط به لفظ الكون أو الوجود من مصطلحات فلسفية.
     والأهمّ من ذلك أنني وجدتُ مصطلحي “الرؤية” و”العالم” أقرب في المعنى الذي نريده لعبارة “رؤية العالم” إلى الدلالات المتعددة التي يعطيها القرآن الكريم لهذين اللفظين. ذلك أنّ لفظ رؤية، وليس نظرة أو تصور أو منظور أو أي لفظة أخرى، هي الأنسب لترتبط بلفظة العالَـم، لتصبح عبارة “رؤية العالَـم” مصطلحاً-عَلَماً على مفهوم محدد. ذلك أنَّ معنى الرؤية يتكرر في القرآن الكريم بالدلالات التي نريدها لرؤية العالَـم، ولا سيما ارتباط الدعوة إلى الرؤية بالعلم والتدبّر والوعي والبصيرة. “أرأيت، ألم تر، سنريهم، … أمّا لفظ “العالَم” فقد ارتبط بكثرة ورود عبارة “رب العالمين” في القرآن الكريم سواءً كان معنى العالَـم كلَّ ما عدا الله سبحانه، وتتضمن العوالِـم الطبيعية، والاجتماعية، والنفسية، وعالَـم الغيب، وعالَـم الشهادة، كما تشير إلى ذلك آيات سورة الشعراء تحديداً، وكثير من الآيات في السور الأخرى. أو كان معناه في بعض الأحيان عالماً محدداً من العوالَـم، مثل عالَـم الإنسان “نساء العالمين، والذكران من العالمين…”
   ثم إني وجدتُ عبارة “رؤية العالم” أقرب ما تكون في اللفظ والمعنى لمصطلح worldview بالإنجليزية، وربما ما يقابلها في اللغات الأخرى. وشاع المصطلح في العقود الثلاثة الأخيرة في الكتابات العربية وفي الترجمة إلى العربية، بصورة تعبّر عما نريد أن يميّز ما نعنيه بمصطلح رؤية العالَـم الإسلامية، أو القرآنية عن رؤى العالَـم الأخرى.
     وعلى الرغم من أنَّ العالَـم هو ما سوى الله سبحانه، فقد أصبح مصطلح رؤية العالَـم في الدلالة المستعملة تعني مجموعة الإجابات عن الأسئلة الكلية الخاصة ب: “الكون” و “الوجود” و “الحياة”، والطبيعة، وما وراء الطبيعة، أو الغيب والشهود… إلخ. ومن بين ذلك تلك الأسئلة ذات الصلة بالاعتقاد، والسؤال عن وجود الخالق أو صفاته أو عدم الحاجة إلى وجوده. وبذلك أصبح المصطلح شاملاً لأية معتقدات عن الغيب ووجود الله سبحانه وصفاته وأفعاله. فالسؤال الأول في أية رؤية للعالم، يختص بمعتقد أهل هذه الرؤية عن وجود خالق للكون. وإجابات أية أسئلة أخرى تعتمد على الإجابة عن هذا السؤال الأول.
     ومع حلول عام 2019 كنت قد أنجزتُ عدداً من المشروعات البحثية، التي انشغلت بها طوال السنوات العشر التي سبقت ذلك التاريخ، فقُدِّر لي أن أعود إلى ما كتبته عن رؤية العالم ومحاولة جمعه وتطويره في كتاب بعنوان رؤية العالم، لكنَّني وجدتُ أن معظم المادة التي كتبتُها سابقاً ربما أدَّت دورها في حينها، ولم تعد تعبّر عما أتطلع إليه في فصول كتاب يصدر عام 2021، فجاء تصميم الكتاب ليكون أكثر تعبيراً عن حالتي الفكرية الراهنة، وليستوعب القضايا المثارة حالياً والكتابات الصادرة بشأنها، لا سيّما وأنني اعتمد في مراجعتي للكتابات السابقة في أي موضوع على ما نشر في السنوات العشر الأخيرة، إلا فيما تظهر لي ضرورة خاصة تستدعي الإشارة إلى ما نشر قبل ذلك. فجاءت مادته جديدة، سواءً في تحديث ما كتب سابقاً أو في الفصول الجديدة التي لم يسبق أن كتبتُ في موضوعها.
     وقد خصصتُ لمصطلح رؤية العالَـم بمقابلاته الأجنبية وتأصيله القرآني الفصل الأول من الكتاب. وخصصتُ الفصل الثاني من الكتاب لحضور هذا المصطلح في الكتابات، التي تستند إلى مرجعية إسلامية أو إلى مرجعيات غير إسلامية. وجاء الفصل الثالث مناقشة لرؤية العالم عند الإسلاميين لكثرة ما جرى الاهتمام بهذه الموضوع في السياسة والإعلام والثقافة منذ بدء الألفية الجديدة. وتناولتُ في الفصل الرابع حضور مفهوم رؤية العالم في العلوم الاجتماعية، ليكون مثلاً على صلة المفهوم بفئات العلوم المختلفة. واخترتُ للفصل الخامس علَمَا من أعلام التراث الإسلامي هو عبد الرحمن ابن خلدون لبيان حضور المفهوم عنده، وسببُ اختياره هو وضوح دلالة المفهوم لديه، بالإضافة إلى طبيعة اهتماماته القريبة من اهتماماتنا المعاصرة وقرب لغته من لغتنا المعاصرة. وعلى الرغم من التنوّع والتعدّد في رؤى العالم، فإنَّ العولمة أصبحت منذ العقد الأخير من القرن العشرين وحتى الآن، تعبيراً عن حالة ثقافية عالمية تصلح أن تسمى رؤية العولمة إلى العالم، وبخاصة بعد أن انتشرت مؤسسات وبرامج ومفاهيم التعليم العالمي والدولي، وهو ما تولى الفصل السادس مناقشته. أما الفصل السابع والأخير، فقد خصصته للحديث عن تعليم رؤية العالم بوصفها هدفاً من أهداف التعليم، ومعالجة هذا الهدف في برامج تعليم كلٍّ من العلوم الدينية والطبيعية.
     أما العنوان الذي اخترته لهذا الكتاب: “رؤية العالم: حضور وممارسات في الفكر والعلم والتعليم” فلم أكن حريصاً فيه على استعمال مصطلح “رؤية العالم الإسلامية”، على الرغم من أنني كنت صريحاً منذ البداية في أنَّني أنطلق من هذه الرؤية فيما أكتب، بالقدر الذي يتوفر لي من اجتهاد في الفهم، لكنني أتحدث في الكتاب عن “مفهوم” يَستعمل هذا “المصطلح” كثير ممن يكتبون عنه بالعربية وبدلالاته المباشرة في اللغات الأخرى. ولم يكن مصطلح “رؤى العالم” -بصيغة الجمع- مناسباً للسبب نفسه. أما العنوان الفرعي فقد جاء ليعبر عن محتوى الكتاب، فقد تتبَّعْتُ بقدر ملحوظ الحالات التي يحضر فيها المفهوم والمصطلح في الثقافات والعلوم والكتابات المعاصرة، والممارسات التي تكشف عن هذا الحضور بصورة صريحة أو خفية. وقد رأيت أنَّ هذه الصورة من تتبع الحضور والممارسات- كما تظهر في البحوث العلمية والتغطيات الإعلامية والمواقف السياسة- هي مسألة فكرية في نهاية المطاف، وبخاصة في الوعي على ما في العلوم المختلفة وما في كتابات العلماء والباحثين من “أفكار” والكيفية التي تحضر فيها هذه الأفكار في مناهج التعليم وبرامجه.
     والآن وقد مرّ على صدور الكتاب بضعة أشهر، ولقي بفضل الله اهتماماً ملحوظاً، أجد أنني لو بدأت من جديد في كتابة كتاب في الموضوع نفسه، فإنَّني سأكون بصدد كتاب جديد. وهذا يذكرنا بمقولة القاضي الفاضل حول حاجة الكاتب أن يغيّر في غَدِهِ ما كَتَبَهُ في يَوْمه.[5]
والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 [1]بقيت هذه الملاحظة في الهامش في الطبعات اللاحقة، انظر:
ـ قطب، سيد. في ظلال القرآن، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية – عيس البابي الحلبي، ط2 1961، ج4، ص 185.
[2] دراز، محمد عبدالله. دستور الأخلاق في القرآن: دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن، ترجمة عبد الصبور شاهين، ومراجعة السيد محمد بدوي، بيروت: مؤسسة الرسالة، والكويت: دار البحوث العلمية، ط1، 1973، ص 15. والنص المشار إليه هو قوله: “الحقّ أنَّه لا مراء في أنّ القرآن مشتمل على جميع العناصر الأساسية للفلسفة الدينية: أصل الإنسان، ومصيره، وأصل العالم ومصيره، ومبادئ السبب والغاية، وأفكار عن النفس، وعن الله… إلخ. وإن دراسة مثل هذ الموضوع لجديرة أن يخصص لها عمل مستقل.”
[3] كتبت شيئاً عن خبرتي في مجال الدراسة العلمية والنشاطات الإسلامية أثناء دراستي في دمشق، لعلها تظهر في مقال خاص.
[4] عنوان الكتاب بالعربية: العالم المجاور لنا: دليل رؤى العالم الأساسية”. انظر.
Sire, James, W. The Universe Next Door: A Basic Worldview Catalogue, Downers, Il: InterVasity Press, 2004.
[5] القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني العسقلاني، في رسالة بعث بها إلى العماد الأصفهاني، وكان الاثنان من الكتّاب في حاشية صلاح الدين الأيوني. والعبارة هي: “إِنِّي رَأَيتُ أَنَّهُ لاَ يَكْتُب أَحَدٌ كِتَاباً فِي يَومِهِ إِلاّ قَالَ فِي غَدِهِ: لَو غُيِّرَ هَذَا لَكَانَ أَحْسَن، وَلَو زِيدَ هَذَا لَكَانَ يُسْتَحسَن، وَلَو قُدِّمَ هَذَا لَكَان أَفْضَل، وَلَو تُركَ هَذَا لَكَانَ أَجْمَل، وَهَذَا مِن أَعْظَمِ العِبَرِ، وهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اِستِيلاَءِ النُقصِ عَلَى جُملَةِ البَشَر.” وقد شاعت هذه العبارة، منسوبة خطأً إلى العماد الأصفهاني انظر في ذلك:
ـ حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي (توفي1067ﻫ) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ت، ج1، ص18.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى