الدكتور محمد منصف العسري باحث في الفقه المالكي
تستعرض هذه المساهمة خلاصة مركزة لأهم ما جاء في الأطروحة الجامعية المتمحورة حول موضوع: “الفكر المقاصدي عند الإمام مالك وعلاقته بالمناظرات الأصولية والفقهية في القرن الثاني الهجري”، ونال بها الباحث الدكتوراه في الآداب في شعبة الدراسات الإسلامية، بميزة مشرف جدا، من جامعة محمد الخامس أكدال، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، بتاريخ: 6 ذي الحجة 1424 هـ / 28 يناير 2004 م.
إن من أهم ما تهدي إليه نصوص الشريعة في مجال الاجتهاد الفقهي، هو امتلاك القدرة على التفريق بين ما أحكمه الشرع من قواعد وأحكام قطعية، وبين ما ترك فيه مجالا لاجتهاد العلماء؛ ومن هذا القبيل ما كان من النصوص ظنيا في دلالته، فنتج عنه الاختلاف بينهم فيما توصلوا إليه من أحكام، من حيث اختلاف نظرة كل واحد منهم إلى القواعد الأصولية وما يعمل به منها، ومدى مراعاته للمقاصد في اجتهاداته وغوصه في الكشف عنها. وتبعا لاختلافهم كان كل منهم يسعى إلى الإقناع بآرائه واجتهاداته، ويرغب في توسيع آفاق مداركه، عن طريق الحوار والتناظر في مجال التشريع الإسلامي أصولا وفروعا، الذي كان من أزهى عصوره القرن الثاني بما شهده من حركة علمية واسعة ونبوغ عديد من الفقهاء والأئمة، الذين كانوا متفاوتين في درجة الاهتمام بالمقاصد واعتبارها؛ فكان من المفيد الكشف عن علاقة فكر مالك المقاصدي بالمناظرات التشريعية التي كانت مزدهرة في عصره؛ بمحاولة إبراز مدى استحضار المقاصد ومراعاتها عند إمام دار الهجرة، مع النظر في مدى ارتباط تفاوت درجات اعتبار المقاصد في الاجتهاد بالخلافات التي دفعت إلى التناظر التشريعي بين العلماء، وإلى أي حد كان مالك موفقا بفكره المقاصدي في أبرز ما كان محل خلاف وتناظر بين علماء عصره من قضايا أصولية ومسائل فقهية.
1 ـ الفكر المقاصدي في تراث مالك ومنهجه الاجتهادي:
1 ـ 1 ـ الفكر المقاصدي في تراث مالك:
الفكر المقاصدي هو الفكر المتشبع بمعاني الشريعة وأسسها، اطلاعا وفهما واستيعابا، وهو الذي يفهم نصوص الشريعة ويفقه أحكامها في ضوء ما تقرر من مقاصدها العامة والخاصة. ويتجلى هذا الفكر عند مالك في المجال الفقهي في اهتمامه بمراعاة كل من مقاصد الشارع ومقاصد المكلف؛ فأما الأولى فتبرز في حرصه على مراعاة قصد الشارع إلى تحصيل مصالح العباد في الدارين، واعتباره لقصد الشارع في التيسير ورفع الحرج وعدم التكليف بالمشاق، واهتمامه بمراعاة قصد الشارع في إخراج المكلفين عن داعية أهوائهم. وأما الثانية فتتضح في أنه كان مهتما باعتبار مقاصد المكلف بصفة عامة في كل ما يصدر عنه من تصرفات وما يبرمه من عقود، ومراعيا لموافقة قصد المكلف في العمل لقصد الشارع في التشريع، مع إبطاله لعمل كل مكلف يبتغي في التكاليف ما لم تشرع له، ومعاملته له بنقيض مقصوده الفاسد كلما ظهر بالدلائل لذلك المقصود.
كما يتجلى هذا الفكر عند مالك في المجالين العقدي والأخلاقي؛ من خلال ما أثر عنه من أقوال وآراء في هذين المجالين؛ فأما المنحى المقاصدي في المجال العقدي فكان واضحا عنده في سيره وفق منهج الصحابة والتابعين؛ كما يتجلى ذلك في اعتصامه بالكتاب والسنة، وذمه للجدال في أمور الدين، وإفتائه بهجر أهل الأهواء والبدع، وعدم بحثه عن كيفية أسماء الله وصفاته، وقوله باقتران الإيمان بالعمل، وبيانه لمعنى الإيمان بالقضاء والقدر وحكمته…
وأما المنحى المقاصدي الذي سلكه في المجال الأخلاقي؛ فيتبين في اهتمامه بكل من الأخلاق الاجتماعية والآداب الفردية، وتركيزه على الجانب العملي في ميدان الإصلاح الأخلاقي سيرا مع النهج الذي التزمه في اجتهاده وفكره العام، ومن هذا المنطلق أقام بناء فكره في المجال الأخلاقي على الربط بين العلم بالأخلاق والعمل بها، مركزا في عرضه للقيم الأخلاقية على النماذج العملية. وبهذا أبرز اتساع مفهوم الفكر المقاصدي وشموله لجميع المجالات العلمية والعملية، وخاصة منها قضايا العقيدة ودستور الأخلاق، وعدم اقتصاره على الميدان الفقهي.
1 ـ 2 ـ الفكر المقاصدي في منهج مالك الاجتهادي:
إذا كان المنهج عامة هو مجموعة من القواعد والضوابط التي تتيح لمن يلتزم بها التوصل إلى معرفة الأمور المتعلقة بها بكيفية واضحة، والصدور في أعماله عن منظور استدلالي ومنطق منظم؛ فإن منهج مالك الاجتهادي كان متسما بتوجه مقاصدي، لتميزه بالالتفات إلى المقاصد والعمل بها ومراعاتها في اعتدال؛ بما يتوافق مع قواعد الشرع وما يقرره العقل وما يتطلبه الواقع المعيش ويحقق مصالح الناس في الدارين.
كما يتجلى ذلك في كيفية تعامله مع نصوص القرآن والسنة والآثار من حيث أخذها بمقاصدها وتفسيرها تفسيرا مصلحيا، وموازنته بين القواعد الكلية العامة والأدلة الجزئية الخاصة جمعا بين ما تدل عليه كل منهما، واستحضاره للأساس الشرعي الذي تقوم عليه كل مقاصد الشرع متمثلا في رعاية جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم، مع ما تستلزمه تلك المراعاة من استثناء حالات الضرورة من القواعد العامة، واعتباره للمآلات بعد تقديرها التقدير الصحيح المبني على مجموعة من الأصول والقواعد الاجتهادية؛ التي تتخلص في سد الذرائع وفتحها حسب ما تفضي إليه، وإبطال الحيل والمنع منها، والعمل بالاستحسان، ومراعاة الخلاف، وتحقيق المناط الخاص، مع مراعاة المقاصد عامة.
كما يتجلى ذلك أيضا في حكمه على تصرفات المكلفين بالنظر إلى مقاصدهم مراعاة منه لأساسيات المكلف في الاجتهاد الفقهي، واعتباره كذلك لأساسيات الواقع بمراعاته للأعراف الجارية بين الناس مما لا يصادم نصا أو مبدءا شرعيا مع مراعاة ظروف الزمان والمكان والأحوال واختلاف الفتوى باختلافها، إضافة إلى اعتماده القرائن القاطعة وسيلة لإثبات الأحكام إيمانا منه بأن ما يثبت بالبرهان مثل ما يثبت بالعيان. علما بأن الإطار الذي اهتم فيه إمامنا بالمقاصد وحرص فيه على الاجتهاد وفقها غالبا هو ما كان من قبيل المعاملات وما يشاكلها، وأما العبادات فقد وقف في تعليلها والاجتهاد فيها غالبا عند النصوص عليه.
ومجمل القول بخصوص المنهج التشريعي الذي سلكه مالك أنه كان يدور حول فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وتأييد ذلك الفهم بالآثار، لتنزيلها على الواقع، موافقا في ذلك رأي من ارتضى من العلماء وما جرى عليه العمل بالمدينة، مع اجتهاده في سبيل إدراك مقاصد الشرع من تشريع الأحكام واستحضاره لها وتطبيقها بعد تمحيصه لما يصلح أن يكون مقصودا في المسائل المطروحة والنوازل الواقعة، وفق قواعد وضوابط المنهج المشار إليها. مما جعل آراءه متميزة ورائدة في اعتبار رتب المصالح الثلاث: الضرورية فالحاجية ثم التحسينية؛ محافظة على الكليات الخمس وما قد يلحق بها، مما يثبت وفاءه في الأغلب للنهج المقاصدي الذي سلكه.
وقد كان لفكر مالك المقاصدي آثار إيجابية واضحة كما يتجلى ذلك عند بعض أعلام المذهب المالكي على وجه الخصوص باعتبار أنهم الأكثر تأثرا بمنهج إمامهم؛ ففي مجال الاجتهاد الفقهي والإفتاء فيما يستجد من وقائع تطور التوجه المقاصدي في الاجتهاد عندهم؛ فبالإضافة إلى ما اجتهدوا فيه وخرجوه على وفق أصول إمامهم في المسائل المشابهة، كانت لهم أيضا اجتهادات كثيرة استنبطوا الأحكام فيها من أدلتها الشرعية مستعملين الأصول التي بنى عليها مالك منهجه الاجتهادي.
وفي مجال التنظير المقاصدي كان لفكر إمام دار الهجرة أثر كبير في بناء الأفكار والنظريات المقاصدية واستلهام قواعدها منه؛ حيث استفادت من فقهه وأصوله ومنهجه أجيال من العلماء الذين تعاقبوا عبر القرون، حتى إن تطور البناء الفكري عندهم في هذا المجال أدى بهم إلى استخلاص الضوابط والقواعد المقاصدية التي استعملها وتنظيمها وتحريرها، فكان الشاطبي أكثرهم ضبطا لها وإحاطة بها وأجودهم صياغة لها في إطار نظريته عن المقاصد.
2 ـ المناظرات الأصولية والفقهية في القرن الثاني وعلاقة فكر مالك بها:
2 ـ 1 ـ المناظرات الأصولية والفقهية في القرن الثاني:
من الحقائق المسلمة أن الإنسان لا بد له من الممارسة التناظرية؛ لأنها منبثقة عن الاختلاف بين الناس في المجال الشرعي وغيره لنسبية المعارف البشرية؛ ومن ثمة انتشرت المناظرات وازدهرت في مختلف العهود الإسلامية، وأنتجت ثراء فكريا في كثير من المعارف؛ منها ميدان التشريع الإسلامي في أصوله وفروعه، الذي شهد حركة علمية واسعة في القرن الثاني الهجري. فكانت المناظرات التشريعية في ذلك القرن مرتبطة بتلك الحركة العلمية ومنبثقة عن مجموعة من الدوافع والأسباب؛ منها اختلاف مناهج المدارس الفقهية، والتقاء الأئمة والفقهاء واستغلال مناسبات اجتماعهم في المذاكرات العلمية، مع اهتمام الخلفاء العباسيين بالمجال الفقهي وتشجيعهم لحركة التناظر، التي ازدهرت أيضا برحلات بعض العلماء من بلاد إلى أخرى طلبا لمناظرة مخالفيهم، وظهور حركة التأليف تأييدا من أصحابها لمذاهبهم وردا على المخالفين، مع ما صاحب بعض ذلك أحيانا من دافع التعصب الإقليمي.
وقد تنوعت موضوعات المناظرات التشريعية التي كانت سائدة في ذلك العصر؛ حيث شملت في المجال الأصولي مقاييس الاستدلال وأصول الاستنباط في القضايا الكلية؛ ممثلة في التناظر حول السنة وحجيتها، ومفهوم الإجماع وحجيته بما فيه إجماع أهل المدينة، والعمل بالرأي والأدلة المرتبطة به وعلى رأسها القياس والاستحسان، بالإضافة لدلالات النصوص الشرعية، وعلاقة كل تلك القضايا بالنزاع التشريعي بين مدرستي الرأي والحديث. ثم اتجه الفقه اتجاها كليا؛ بما أبرز جوانب من الاختلافات المنهجية في هذا المجال الفقهي، كانت موجودة بين العلماء في مجموعة من الضوابط التي حكمت الاجتهاد الفقهي؛ ومن ذلك اختلافهم في مدى اعتماد الدليل النقلي أو استعمال الرأي ووضع الافتراضات ثم الإجابة عنها، وما يرتبط بذلك من الاختلاف حول أخذ النصوص بحرفيتها أو استعمال النظر العقلي في فهمها، مع الاختلاف في إدراك المقاصد واستنباط الأحكام وفق ما تدل عليه، ثم الاختلاف في الحكم على التصرفات بظواهرها أو اعتبار البواعث التي تقف وراءها، والتفاوت في المعرفة بنصوص السنة ومدلولاتها والإلمام بسائر الأدلة وأثر ذلك في الاختلاف الفقهي، الذي كانت المناظرات المرتبطة به شاملة لكثير من المسائل الفرعية، كما أنها كانت أيضا متميزة في كل من المجالين الأصولي والفقهي بالقصد السليم والأدب الرفيع.
ومن ثمة كان القرن الثاني الهجري عصر المناظرات المثمرة، حتى إن الفقه الذي استنبط في ذلك العهد كان مدينا لها، بل إنها تعتبر سجلا للأدلة والقواعد الأصولية التي استمدت منها الآراء المتنوعة في الفروع، وهذا الأمر يشمل كلا من المناظرات الأصولية والفقهية؛ فأما التناظر الأصولي فواضح أنه كان يدور حول عدة قضايا تعتبر مصادر الفقه وينابيعه، وأنه كان يتجلى في دفاع كل طرف عن رأيه وموقفه في الاحتجاج ببعض القواعد والأدلة والأصول أو عدم احتجاجه بها، أو كيفية تعامله معها واستدلاله بها. وأما التناظر الفقهي فإلى جانب ما كان يبرزه من الآراء المختلفة في الفروع؛ فإنه كان مجالا لإدلاء كل طرف بما يعتمده من حجج وأدلة يستدل بها ويؤيد بها قوله بما يبين مسلكه الاجتهادي. ولذلك كان للتناظر التشريعي أثر كبير في توسيع دائرة التقعيد الأصولي وتنشيط الحركة الفقهية عامة؛ فكانت تلك المناظرات وما تتكون منه من مادة أصولية وفقهية خلافية مصدرا هاما لانبعاث وتحرير الأصول والقواعد المذهبية، كما أنها من جانب آخر ساهمت في توضيح معنى الاختلاف في المجال التشريعي وأنه جائز توسعةً على المسلمين، مع ملاحظة أن منه ما يرتفع إذا تبين فيه الصواب ومنه ما يستمر فيه الاختلاف؛ وهو يتعلق غالبا بالمجال الفقهي الفروعي، على أن هذا المجال يمكن تقليص الاختلافات فيه ببيان الرأي الراجح في كثير منها؛ كما كانت تفضي إليه جل المناظرات بما أفاد في تقريب وجهات النظر، وحمل العديد من العلماء على دراسة أدلة مخالفيهم، فكان من نتائج ذلك المساهمة في التقارب بين المذاهب.
2 ـ 2 ـ علاقة فكر مالك المقاصدي بالمناظرات الأصولية والفقهية في عصره:
كان الاجتهاد الفقهي عند علماء القرن الثاني يرتكز على استنباط الأحكام من القرآن والسنة مع اعتماد ما تحقق فيه الإجماع عندهم وما بلغهم من أقوال الصحابة والتابعين، كما كانوا يرجعون إلى القواعد الكلية والمقاصد العامة للشرع؛ فيعملون بما تدل عليه حينما لا تسعفهم النصوص وحيث لا يكون في المسألة إجماع، أو حينما تتزاحم على النصوص عدة معان فيحتاجون إلى ترجيح أقربها لمقصود المشرع. على أن اعتمادهم هذا النهج العام لم يمنع وجود الاختلافات بينهم سواء في ميدان الأدلة والقواعد الأصولية أو في مجال الأحكام الفقهية؛ لعدة اعتبارات وأسباب ترجع في جملتها إلى المسلك الخاص الذي كان يعتمده كل واحد منهم في اجتهاده، والتوجه الذي كان يدافع عنه في مجال استنباط الأحكام من أدلتها، وما يرتبط بذلك من اختلافات ومواقفهم بخصوص تفسير النصوص، وتباين مناهجهم الاستدلالية المعتمدة على ما يقتنع به كل واحد منهم في منهجه التشريعي. على أن ما يهمنا أكثر ونريد التنبيه عليه هو أثر تفاوتهم في درجة التعويل على المقاصد والاهتمام بها في الاجتهاد فيما كان بينهم من اختلافات، وما يرتبط بذلك من مدى التوسع والمرونة في إعمال الأدلة بما يساعد على جعلها وسيلة أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع من التشريع عند الاجتهاد واستنباط الأحكام.
وفي هذا الإطار كان المنهج التشريعي للإمام مالك متميزا بارتكازه في آرائه وفتاويه على مذهب جماعي يستمد منهجه من أصول عمرية، واعتماده في استنباطاته على أصول تتسم بالكثرة بالإضافة إلى توسعه في إعمالها، واختصاصه أكثر من غيره بالتوفيق بين الاعتماد على الحديث واستعمال الرأي مما جعله رائدا في رعاية المصالح، مع ما كان منه من مشاركة وقوة في المجال التناظري، وغوص في عمق المسائل المطروحة لتعرف أحكامها وتقريرها بما يوافق المقاصد الشرعية؛ حتى أنه تفوق على علماء عصره في كثير من المسائل. على أنه قد تأثر بالتناظر الذي كان سائدا في عصره من خلال مناظراته لبعض الفقهاء؛ مما عمق معرفته ومنهجه الاجتهادي ونظره المقاصدي، وجعل مسلكه ونهجه التشريعي يتميز بالشمول والتكامل والوسطية بين المدارس الفقهية؛ ومن ثمة كان فقهه فقها مقاصديا. كما يتجلى ذلك بالنظر إلى أصوله وفروعه؛ ففي المجال الأصولي تميز منهجه الاجتهادي بمنحى يحقق الغرض من استعمال أدلة ومصادر التشريع في الاستنباط بما يعين على بلوغ الأحكام المناسبة لما تدل عليه مقاصد الشريعة؛ وفي هذا الإطار اتسم تعامله مع السنة المروية بطريق الآحاد بموقف معتدل وسط بين الشافعي الذي ألزم العمل بها مجدر استيفائها شروط العدالة والضبط، وأبي حنيفة الذي ذهب بعيدا في تضييق مجال العمل بها، كما تميز بموقف خاص يتعلق بدفاعه عن الأخذ بعمل أهل المدينة وإجماعهم مراعيا في الاحتجاج به اعتبار امتزاج النقل بالعقل مع التصاقه بظروف الواقع، كما أنه تميز بتوسعه في دائرة استعمال القياس مخالفا في ذلك بعض أئمة عصره؛ كما هو الشأن في قياسه على الفروع الثابتة بالقياس وإكثاره من بناء القياس على مراعاة المصالح، بالإضافة إلى اهتمامه بالاستحسان وإعطائه إياه المكانة اللائقة به وكثرة احتجاجه به تحقيقا للمصالح المعتبرة شرعا.
وقد دفع هذا النهج الذي سلكه مالك بعض أئمة عصره إلى إبراز مواقفهم بخصوص الاحتجاج بتلك الأدلة والاستدلال بها، بل والاعتراض أحيانا صراحة على منهج مالك في الاحتجاج ببعضها؛ كما هو الشأن في الردود القوية للشافعي على مالك في عدم أخذه بدلالات بعض الأخبار التي استوفت شروط العمل بها في نظر الشافعي، ويضاف إلى ذلك اعتراض كل من الليث بن سعد والشافعي على مالك في احتجاجه بعمل أهل المدينة وعدم تسليمهما بوقوع الإجماع عليه بالمدينة، ويقرب من هذا الاعتراض مواقف بعض العلماء الرافضة للقياس الذي كان مالك من أبرز العاملين به، وكذا ما وجهه الشافعي من نقد للعاملين بالاستحسان وعلى رأسهم كل من أبي حنيفة ومالك؛ فكانت هذه أبرز القضايا المكونة لجوهر العلاقة التي كانت قائمة بين فكر مالك المقاصدي في مجال التقعيد الأصولي وما جرى في عصره من تناظر تشريعي في هذا الميدان.
وأما علاقة فكره في مجال الاجتهاد الفقهي بمناظرات عصره فتتجلى في أن آراءه في كثير من المسائل الفقهية كانت تخالف آراء بعض الفقهاء الذين عاصروه، فكان ذلك دافعا لهم لمناقشته فيها ومناظرته رغبة في الوصول إلى الصواب بشأنها، بالإضافة إلى أنه كان أحيانا يرد على مخالفيه بالكتابة حينما يبلغه رأيهم في بعض المسائل التي يخالفونه فيها فيبين خطأهم ووجه الصواب فيما يذهب إليه، كما تتبين تلك العلاقة أيضا فيما تتميز به آراؤه من توجه مقاصدي في العديد من المسائل المتناظر فيها بين فقهاء عصره -وإن كان هذا لا يعني انفراده بتلك الآراء- علما بأن أقواله وأدلته في تلك المسائل تعتبر بمنزلة ردود على أصحاب الآراء المخالفة له من الطرفين المتناظرين أو أحدهما؛ ذلك أن من آرائه ما هو وسط بينهما ومخالف لهما مما يدل على أن اجتهاده فيها متميز عن غيره، بينما منها ما هو موافق لرأي أحدهما، وفي جميع الحالات كانت آراؤه تمتاز بالتوفيق والسداد وموافقة قواعد الشرع ومقاصده في المسائل المطروحة.
وأخيرا فإن من أهم النتائج العلمية المستخلصة من الموضوع؛ أن الاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي له علاقة بالفروق الفردية؛ على أنه ينبغي أن يكون ظاهرة صحية تغني العقل بالاطلاع على عدة رؤى وآراء مما يتيح رؤية الأمور من أبعادها المتنوعة. وهو أمر يدعم ما نطمح إليه من العمل بالاجتهاد الجماعي الذي يساعد على التقارب بين المذاهب ويساهم في توحيد ما يمكن توحيده من أحكام في مختلف الأقطار الإسلامية، ويؤكد ضرورة اللجوء في إيجاد الحلول لما تطرحه المستجدات المعاصرة إلى هذا النوع من الاجتهاد، خاصة إذا علمنا أن المصلحة التي يرجى جلبها والمفسدة التي يراد دفعها تتصفان بالنسبية بالنظر إلى إمكان اختلاف المجتهدين فيهما عند التطبيق، مما يتطلب أيضا دعم هيأة الاجتهاد التشريعي بمتخصصين في فروع المعرفة الأخرى للتمكن من الوصول إلى أحكام أكثر انسجاما مع قواعد الشريعة ومقاصدها.
كما أنه في إطار مواجهة مشكلاتنا التشريعية المعاصرة لابد من محاولة الاتفاق على منهج تشريعي يقتبس ضوابطه ومسالكه الرئيسية من منهج الإمام مالك مع الاستفادة من مناهج سائر الأئمة؛ لكي تكون اجتهاداتنا في المسائل المطروحة والنوازل الواقعة مفضية إلى أحكام تتميز بالوسطية والاعتدال سيرا على نهج شريعتنا الإسلامية السمحة؛ خاصة أن عصرنا يشهد جملة من المستجدات والتطورات التي تختلف فيها الأنظار والآراء وتتطلب الاجتهاد في بيان أحكامها؛ كبعض المعاملات المالية عامة والمصرفية منها خاصة لما تثيره من اختلاف بين الفقهاء في الحكم المناسب لكل واحدة منها، وكبعض المسائل الجديدة المرتبطة بالتقدم العلمي عامة والطبي منه على وجه الخصوص؛ حيث تختلف وجهات النظر فيما يلائمها من أحكام شرعية.
ولعله من الواضح أن إيجاد الأحكام المناسبة لتلك المسائل وأمثالها وفق قواعد الشريعة ومقاصدها؛ يعتبر من باب تفعيل تلك المقاصد وجعلها أكثر خدمة للاجتهاد الفقهي المعاصر ومتطلبات الحياة المتجددة؛ ومن ثمة ينبغي السعي إلى توسيع النظر في المقاصد لأجل تجاوز مستوى تعليل الأحكام الفقهية في إطار أنواع المقاصد ومراتبها المعروفة، نحو تحديد معالم الاختيارات المجتمعية والحضارية وبيان ضوابطها الشرعية، مما يكون من شأنه أن يحكم الممارسات والمسائل المستجدة ويضعها في إطارها الشرعي بما يساهم في تحقيق مصالح الأمة.
زر الذهاب إلى الأعلى