في حوار مع المؤلف الأستاذ الدكتور عبد الإله بن مصباح الأستاذ الدكتور عبد الإله بن مصباح
السؤال الأول: بداية يسرنا استضافتكم الأستاذ الدكتور عبد الإله بن مصباح في هذا الحوار العلمي بمناسبة صدور كتابكم باللغة الفرنسية، بفرنسا عن دار النور في 312 صفحة بتاريخ 10 أكتوبر 2024، وكل الشكر والثناء على تلبيتكم الدعوة. والرجاء إعطاء القراء نبذة من سيرتكم العلمية. جواب: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات من الأعمال، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد منقذ الإنسانية من الجهالة والضلال، وداعيها إلى الرقي في أسباب العلم والحكمة والكمال. أما بعد: بادئ ذي بدء أشكر أخي الفاضل الأستاذ عبد السلام الأحمر، رئيس مركز الأمانة للأبحاث والدراسات العلمية، على استضافتي لهذا الحوار، الذي أسأل الله أن يجعل لنا فيه حظا من التوفيق، حتى تعم به الفائدة. ثم أوافيكم بنبذة موجزة عن سيرتي العلمية: الاسم: عبد الإله بن مصباح من مواليد مدينة القصر الكبير سنة 1958. حاصل على شهادة الإجازة في البيولوجيا والجيولوجيا من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1984 وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في المواد الأولية والطاقية من المدرسة الوطنية العليا للجيولوجيا بنانسي Nancy بفرنسا سنة 1985، ثم على شهادة الدكتوراه في البيئات الجيولوجية القديمة، في موضوع إعادة تقويم البيئات الترسبية، التي كانت عليها سفوح الريف الجنوبية بالمغرب في العصر الجوراسي، كذلك من جامعة نانسي بفرنسا سنة 1988. أستاذ علم الرواسب والبيئات الجيولوجية، بقسم علوم الأرض جامعة ابن طفيل بالقنيطرة. عضو مؤسس لمختبر البيئة وعلوم الأرض. صدرَتْ لي مقالات علمية محكمة في تخصص الجيولوجيا والبيئات القديمة. كما نشرتُ عدة مقالات باللغتين العربية والفرنسية حول الترابط بين العلم والإيمان في مجلات فكرية وعلمية، كمجلة دعوة الحق التي تصدر بالمملكة المغربية، ومجلة الإعجاز العلمي بالمملكة العربية السعودية، ومجلة الفرقان بالمملكة الأردنية، ومجلة حراء بتركيا. كما صدر لي كتاب بالعربية تحت عنوان “آفاق اليقينيات العلمية” بدار النيل سنة 2012، وصدرت لي ثلاثة كتب بالفرنسية كان هذا الذي سنتناوله آخرها. لي مشاركات عديدة في مؤتمرات وندوات وطنية ودولية، في مواضيع علمية متخصصة في الجيولوجيا، وكذلك في مواضيع فكرية تهتم بمقاربات الجيولوجيا لمفاهيم القرآن العلمية. السؤال الثاني: نريد منكم أستاذنا الفاضل أن تتحدثوا لنا عن الدوافع الفكرية والمعرفية التي جعلتكم تقدمون على تأليف هذا الكتاب؟ وكذا عن تأليفه باللغة الفرنسية بدل اللغة العربية؟ جواب: هذا الكتاب جاء في سياقٍ نقدي لمسار العلوم المعاصرة، قصد إعادة النظر في مقاصد هذه العلوم المكتسبة. ذلك أن العلوم في هذا العصر جنحت إلى البحث في ماديات الأشياء، وابتعدت عن النظر في مغزى دلالاتها الموصلة إلى سر حقيقتها، الشيء الذي انعكس سلبا على مساراتها بما جلبته من تجاوزات في العديد من تطبيقاتها. وهذا استرعى اهتمامي بما يمليه عليّ الضميرُ العلمي من طموح إلى إعادة اكتشاف الذوق المعرفي السليم، ذلك الذوق الذي بات يحمّسني أكثر من أي وقت مضى، على التفكير في إعادة ربط أواصر التقارب بين العلم والإيمان، كما تم ذلك في التاريخ المشرق لحضارتنا الإسلامية. فلطالما كان مثل هذا التقارب مثمرًا، لأنه من خلال تعبيره عن جمالية تلك اللمسة المقدسة التي تظهر في كل شيء، يجعل الناظر للكون لا ينحصر نظره في النظرة المادية لتلك الأشياء بل يتسامى إلى جوهرها الذي يضعه على المسار الصحيح للفهم، ذلك المسار الذي يسمح له بالتأمل في معنى الأشياء والغوص في عمق أسرارها. فمثل هذا المسار، إذا تم استثماره اليوم في السياق العام لإعادة قراءة الكون، عند التقاطع بين العقلاني والمقدس الذي هو تقاطع بين النسبي والمطلق، يمكن أن يسهم إلى حد كبير في حل المسائل الجوهرية التي تؤرق العالم. من جهة أخرى وجدت من خلال تدبري في الإشارات الكونية للقرآن الكريم، أن للقرآن فنا إشاريا جعلني من منطلق موقعي كمتخصص في علوم الأرض والبيئة، ومن خلال تأملاتي في الإشارات الجيولوجية التي تثيرها الآيات القرآنية، وميلي للتأمل في دلالاتها العلمية، التي في كل قراءة تُطل عليّ بمعاني جديدة، وتجلب إليّ من الأفكار ما إن مفاهيمه لتثقلني بفيض الإلهام، جعلني أتحمس كثيرا لتأليف هذا الكتاب الذي لا تشكل فيه المواضيع العلمية التي تناولتها فيه سوى مقاربة بسيطة لمجال من التأمل والتفكير لا سقف له ولا حدود. ففي مجال استعراضه لظواهر الأرض والبيئة، يخاطب القرآن الإنسان في موضوعهما من خلال إشارات، تظهر للقارئ العادي وكأنها في عالم التجريد، لكنها في الواقع أجدها رموزا دالة، وتلميحات قوية تبعث في القارئ حماسا كبيرا، على البحث والتفكير في أسرارها الخفية، وانجذابا مثيرا إلى التأمل في دلالاتها العلمية، تلك الدلالات التي لا يفتر العلم البشري عن الكشف عن حقائقها، وصدَق الله العظيم حيث قال: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر: 21). إلا أننا وللأسف، لا نرى اليوم من الباحثين في علوم الأرض تلك الالتفاتة إلى مثل هذه الإشارات التي يبعث لنا بها القرآن، وهي التي ما فتئت تنبض بسبقها العلمي الدال على إعجاز هذا الكتاب. ذلك أن هذه العلوم نظرا لتوجهها المادي، لم تعد تتعامل مع الأرض على أنها موضوع علمي يستدعي الاستكشاف، بقدر ما أصبحت تعاملها كمورد طبيعي يستهوي الاستغلال. الأمر الذي عرّض هذه العلوم لتجاوزات عديدة، ظهرت تداعياتها خصوصا على المستوى البيئي. أما عن اختياري اللغةَ الفرنسية لهذا الكتاب فلدواعي؛ أولها أنني أخذت العهد على نفسي منذ كنت طالبا بفرنسا، ونظرا لما لمسته من اهتمام للمجتمع الفرنسي المثقف، بمناقشة القضايا المتعلقة بالإسلام، أن أقدم للناطقين باللغة الفرنسية عملا يعرفهم على القيمة العلمية للقرآن الكريم. وثانيها أنني لما ألّفت كتاب “اليقينيات” بالعربية سنة 2012، جاءتني طلبات من كثير من الزملاء أن أنجز ترجمة له بالفرنسية، حتى يستفيد منه غير الناطقين بالعربية. وثالثها أنه طُلب مني أن أشارك في مجلة فرنسية رقمية تصدر في باريس، تعنى بمسلمي فرنسا يديرها أستاذ فرنسي في المعهد العالي للصحافة بباريس. فكانت هذه مقدمات تأليف هذا الكتاب، الذي توخيت من مواضيعه تبسيط المسارات التي يرسمها القرآن للإنسان من أجل علم هادف ورزين، وذلك من خلال تقديم الأرض ليس كمجرد مورد للاستغلال المادي فقط، ولكن كموضوع للاستكشاف العلمي، يهدف من خلال سبر أغوارها الوصول إلى سر حقيقتها، ورصدتُ له نماذج ميسّرة لتسهيل قراءة الإشارات العلمية المخفية في الآيات القرآنية، حتى يتسنى للقارئ الفرنسي الاطلاع على تجليات القدرة الإلهية، التي يعرضها القرآن في مجالات الأرض، والتي من شأنها أن تعرّف الباحث في ميادين العلوم، بحقيقته ككائن محتاج مهما بلغ من العلم إلى هداية خالقه. فكان أملي من هذا الكتاب أن أقدم للقارئ عملا مثمرا، من شأنه أن يشجع الباحثين على تعميق أبحاثهم من أجل إعطاء معنى لعلومهم. فالكتاب يبتدئ بالمواضيع التعريفية التي ألهمتني تلك الرؤية الشمولية، المؤسسة لمفاهيم القرآن العلمية، ثم يتناول في الجزء الثاني منه إشارات من علوم الأرض والبيئة، تهدف إلى إعطاء نماذج توضيحية لهذه الرؤية، لينتهي في قسمه الثالث، من خلال دمج هذه النماذج التوضيحية في الرؤية الشمولية للقرآن، إلى تحديد المسارات التي يجدر بالعالِم أن يسلكها، من أجل عالَم يكون فيه العلم ذا بعد حضاري. السؤال الثالث: ماهي الإشكاليات الفكرية التي انطلقتم منها لبناء مضمون الكتاب وما هي أهم النتائج التي استطعتم التوصل إليها وما هي الصعوبات التي ما زالت قائمة، ولم تتمكنوا من تدليلها على النحو المطلوب؟ جواب: أهم الإشكاليات التي انطلقت منها تجلت في محاولتي تذليل تلك العقبات، التي تحول دون التواصل بين أهل الدين وأهل العلوم المكتسبة، ومحاولة جمعهم من مختلف تخصصاتهم على مائدة القرآن. ثم من الإشكاليات التي دفعت بي إلى تناول مواضيع هذا الكتاب، كون الاستخدام الحالي لمصطلح “العلم” في العلوم الكونية المعاصرة لا يخرج عن كونه تجلٍّ لمفهوم “الموضوعية”، إذ ينحصر في مجال البحث في عالم الواقع المبني على العقل والتجربة، في حين أننا إذا حاولنا استجلاء أبعاد هذا المصطلح، من خلال الإشارات التي جاءت في موضوعه في الخطاب القرآني، فإننا نجده ذا دور استكشافي أعمق، وبعد شمولي أوسع، نظرًا لقيمة هذه الإشارات الدلالية، التي ترفعه إلى مستوى من المعنى يتجاوز بكثير رؤيتنا الموضوعية للعالم. كما أن من الإشكاليات التي جعلتني أتوسع في موضوع الكتاب، إظهار زيف المستشرقين والرد على تلفيقاتهم، التي تحاول المساس بقدسية القرآن، بادعائهم أنه كتاب بشري، وأنه محدود في الزمان والمكان وغير ذلك. إلا أنني من خلال وقوفي على الدلالات الإعجازية، التي تضمنتها إشارات القرآن الكونية، استطعت أن أصل إلى نتائج علمية تبرز الدور الاستكشافي لآيات القرآن، تلك الآيات التي تأتي دائما في سياق الربط بين الوحي والخلق، وأظهرتُ أن أي محاولة لضرب هذه الوحدة التكاملية بين الخلق والوحي، التي هي أيضًا وحدة بين العقل والقلب، تحت غطاء “الموضوعية” القائمة على النظرة المادية، إنما هي ضرب لجوهر العلم، إذ تختزل البحث العلمي في مجرد مفاهيم محدودة، قد تجرد الإنسان من الأبعاد الحقيقية للعلم، التي يجب أن تبقى متعالية، تلك الأبعاد التي لو أمكن للعلوم أن تستثمرها اليوم بحكمة ورزانة، ما كانت لتحرم مشاريعَها من أدوارها الاستكشافية في البحث عن الحقيقة. ومن هنا خلصت إلى نتائج أهمها أن العلم الذي من المفروض أن يقدّم للناس الحقائق من خلال رسالته الاستكشافية، يجب أن يحررنا بدلًا من أن يُخضعنا لإملاءات المادية. فبدلاً من الزج بالعقل في السخرية من الوحي ونبذ منظومته القيمية، يجب على العلم أن يسعى إلى التصالح مع الدين، لأنه الضامن الأساسي لتحرير العقل، ذلك العقل الذي لو تُرك لحياده، لكشف عن حقيقة الوحي، ولألقى باللوم على الرؤية المادية، وعدم اكتراثها بالأخلاق والقيم. وهذا منطقي لأن الإشارات العلمية الموسومة على رأس العديد من الآيات القرآنية، هي دليل على أصالة رسالة القرآن الخالدة وسبقها العلمي، وهذا يحيلنا إلى القول بأن دلالات هذه الإشارات تبقى دائما متحدية لتفسيراتنا. وبالحديث عن أن المتحدي بهذا الكتاب، هو الذي أوحى هذه الإشارات وخلق ظواهرها، يعني ببساطة وبمنطق العقل أن الكون الذي يبدي هذه الظواهر، والقرآن الذي جاء بالإشارة إليها هما معا نتاج لمصدر واحد، هو الله الذي خلق والذي أوحى، الشيء الذي يعني أن الخطاب القرآني حول العالم متوافق تماما مع ما هو عليه هذا العالم. في معرض الرد على من يريد النيل من قدسية القرآن، أظهرت أن خطابه العلمي يتصف بصفة الخلود والأبدية، ذلك أن القرآن يخفي في إشاراته الكونية، تلميحات إلى العديد من الحقائق التي يكتشفها العلم باستمرار، وحيث إن أسلوبه الاستكشافي يدفع بنا إلى الكشف عن معاني هذه الإشارات، كلٌ في أوانه وفقًا لمطلق خطابه، الذي لا تحتوي الكلمات فيه كما في علومنا على تعريف مرجعي جازم، وإنما ترمز إلى المغزى بإشارات تلغي أي قراءة لفظية، وتفتح الطريق لقراءة المعنى التطوري، فإن بُعد الزمن الذي يحدد مفاهيمنا العلمية، يَظهر وكأنه بلا قيمة في الخطاب العلمي للقرآن. ذلك لأننا لما نقرأ في الآيات القرآنية التي تستحضر منذ زمن الوحي حقائق علمية جد معقدة كحقيقة الجبال أوتادا: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ (النبأ: 7-8)، أو تلك المتعلقة بفوران البراكين في قاع البحار: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ (الطور: 6)، أو تلك التي تشخص لنا المشهد المائر لباطن الأرض: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ (الملك: 67)، فهل سنعتبر هذه الحقائق موجهةً إلى المجتمع المكي الذي لم يكن عند نزول الوحي، قبل 15 قرنًا، سوى مجتمع قبلي لا يعرف شيئًا لا عن هيكلة الجبال، ولا عن طبيعة قاع البحار، ولا عن أسرار باطن الأرض، أم أننا سنعتبرها آيات موجهة لمجتمعات هذا الزمان، الذي بدأ العلم فيه يرفع الحجاب عن كثير من مغازي إشاراتها العلمية ؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يناقش مع كل متطاول على قدسية القرآن، إذا أردنا فهم الخصوصية الزمنية للخطاب القرآني. فهذا الخطاب من خلال تناوله لهذه الحقائق ذات الطابع العلمي بالتصوير الرمزي، كان منذ زمن التنزيل يهدف إلى تنشيط فكر الإنسان، وتحسين قراءته لعالم الأكوان بعجائب أرادها الله أن تكون محفزًا خالدًا لعقولنا، توقظ في كل جيل من الأجيال، وعلى امتداد الزمان روح التفكير. أما فيما يخص عالمية خطاب القرآن، فإنني أجد في استحضاره للكون، أنه استخدم لغة علمية جعل فيها لكل مصطلح ولكل حرف ولكل حركة سببا ومعنى، مما أضفى على اختياراته المصطلحية بلاغة لغوية لم يسبق لها مثيل، ودقة علمية ليس لها نظير، بحيث نجد المصطلحات التي استعملها القرآن في الظواهر الكونية، تظهر اليوم على شكل واسع في التقارير العلمية الحديثة، تلك التقارير التي باتت اليوم أكثر استعمالا من أي وقت مضى، لمصطلحات القرآن الكونية مثل “نسيج الكون”(cosmic web) و”بناءه “(cosmic building) و”توسعه” (expansion) و”تزيينه بالمصابيح” (beads on a string) وحبكه (filaments) وما إلى ذلك من المصطلحات التي تؤكد السبق العلمي للقرآن الكريم ودقة تعبيره البلاغي. فميلاد الكون الذي يصفه علم الكونيات الحديث، ب “الانفجار العظيم” “Big Bang”، الذي من خلال التعبير، يصور لنا الحدث وكأنه تشتت فوضوي دون أي نظام، أشار إليه القرآن الكريم بعبارة “فتق الرتق”: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (الأنبياء: 30)، وهي عبارة استخدم فيها النص القرآني مصطلحي “رتق” الذي يشير إلى لمّ شطري قطعة من قماش، و”فتق” الذي يمثل الفعل المعاكس أي فك ذلك اللمّ. ومن هناك يتبين حسب تعبير القرآن أن ميلاد الكون تم بطريقة فصل منتظمة ومحسوبة بين كيانين: السماوات من جهة والأرض من جهة أخرى، واللذان شكلا عند بدء التكوين كتلة واحدة كانت في الأصل متماسكة. ومن هذه الأمثلة وغيرها التي ذكرتها في الكتاب تتجلى صفة العالَمية لمصطلحات القرآن الكونية، حيث إن العلم باكتشافه لأسرار الكون، يرفع الستار تدريجياً عن دقة اللغة العلمية للقرآن، وأبدية خطابه وعالمية دعوته. إلا أنه في الوضع الحالي للعالم، هناك إشكاليات ما زالت قائمة تهدد مسار العلم، ولا يبدو في شأنها أي انفراج يطمئن، لأن العقلية العلمية المسيطرة، من خلال مسارها المادي الصرف، لم تعد تشارك فقط في استبعاد تلك النظرة الخالدة والعالمية للقيم المقدسة التي جاءت بها الرسالات السماوية، بل تسعى في تشويهها بطمس معالمها، من أجل سد الطريق أمام أي ظهور قيَمي، يتجه إلى إعطاء معنى للعلم، بحجة أن سؤال المعنى لا مكان له في العلم. الأمر الذي أسهم بشكل خطير في النيل من منظومة القيم، وشجّع على التبرم من أخلاقيات العلم، التي أصبحت بفعل هذا الغزو المادي هدفا سهلا لهجمات المفسدين. وهكذا طالما أن الرؤية الشمولية، المبنية على التزاوج بين الفكر والإيمان لا تزال تتعرض للاضطهاد من قبل الرؤية المادية، التي تفرض نفسها بقوة وعناد، فإن العلوم على الرغم من أنها تُبني بوفرة الوسائل، فإنها تُهدم بانعدام الغايات. السؤال الرابع: يشير عنوان الكتاب” la science donne raison à la croyanceQuand” أي “عندما يؤكد العلم صحة الاعتقاد” إلى كون العلم يثبت صحة الإيمان بالله. فهل تقصدون أن هذا الإثبات يكون حاسما، أم ترون بأن نتائج العلم المؤيدة للإيمان لا تملك سلطانا قاهرا على النفس في هذا الاتجاه؟ جواب: العلم يقدم دلائل ولا يحسم الأمر، لأنه كما أن سلطة العلم لا تفرض نفسها على أحد، فكذلك الدين الذي جاء بالهداية لا يُفرض كرها على أحد، ذلك أن الهداية والإيمان يكتبهما الله لمن يسعى إليهما سعيا صادقا، وحينئذ تصير الدلالات العلمية أو العقلية وسائل بشرية يستأنس بها في الإرشاد إلى الله. لذلك نجدها مطلوبة في الخطاب القرآني للاحتجاج بها. ففي مناظرته مع نمرود (الملك الآشوري) واجه سيدنا إبراهيم عليه السلام – كما يسرد علينا القرآن – ادعاءات هذا الملك بأنه قادر على إعطاء الحياة والموت، واجهه بدلائل كونية كانت حججا عقلية دامغة على بطلان ادعاءاته إحياء الموتى، حيث لم يتوان عليه السلام عن إحالته، من خلال تلك الدلائل على يقينيات لا لبس فيها، كما حكى عنه ربه تعالى في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 258). من هذا الحدث ندرك لماذا الله سبحانه وتعالى، عندما أراد أن يكلف سيدنا إبراهيم بالرسالة، سلك به مسلك الدلالات الكونية من خلال نهج عقلاني، أظهر له به عن طريق التأمل والتفكير حقيقة الأجرام السماوية التي كان قومه يرفعونها إلى مرتبة الآلهة، كما جاء ذلك موصوفا في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 75-79). من بيان هذه الآيات، نرى كيف استطاع سيدنا إبراهيم عليه السلام، من خلال تيقنه بتفرد الله بالألوهية، أن يضع قومه أمام حقيقة وحدانية الله. ثم كيف استطاع عن طريق الافتراضات المبنية على أسس عقلانية، وما خلص إليه من نتائج بعدم استحقاق هذه المكونات السماوية لصفة الألوهية، أن يوضّح لهم أن هذه الصفة لا يتفرد بها إلا الله فاطر السماوات والأرض. فهو عندما ادعى ربوبية الكوكب ثم القمر ثم الشمس، إنما أراد عليه السلام أن يضع قومه جدلا أمام فرضية ألوهية هذه الأجرام السماوية، حتى إذا أخضعها لمنطق القوانين الفيزيائية التي تحكمها، أظهر لهم، بحكم التجربة، أن هذه الأجسام تختفي، وخلص بالمنطق والعقل إلى أن ما يختفي لا يستحق صفة الإله، لأن الإله لا يمكن له أن يأفل وإلا فمن سيدبر نظام هذا الكون. ومن هنا نسجل أن سيدنا إبراهيم، على الرغم من أن يقينه كان مستمدا من إيمان عميق، يملي عليه أن الإله الذي يستحق صفة الربوبية، لا ينبغي له أن يأفل، ذلك أنه قال عليه السلام: (لا أحب الآفلين)، فنهجه هذاكان عقلانيا قائمًا على منطق الدليل بالملاحظة والفرضية والتجريب لإقامة الحجة على مخاطِبِه، الذي بإمكانه اختيار الانصياع لها أو عدمه. من هذه القصة ندرك كيف أن هذا الكون الذي نعيشه بحواسنا وذكائنا، هو عالم يعج بالإشارات والدلائل التي تستدعي الفهم، باستثمار العقل للوصول إلى حقيقته. تلك الحقيقة التي هي السبيل إلى طمأنة القلوب على غرار ما كان عليه نهج سيدنا إبراهيم في حواره مع ربه، الذي قال في شأنه وهو أصدق القائلين: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 260). فالإيمان كما أشارت إليه الآية في قوله تعالى: (أو لم تؤمن) رغم أنه يبقى أساسيا في المعرفة بالله، إلا أنه يتقوى أكثر بالطمأنينة القلبية، التي كما في هذه الآية طلبها سيدنا إبراهيم بالمشاهدة الحسية. لذلك فسيدنا إبراهيم رغم يقينه بقدرة الله على إحياء الموتى، سأل ربه عن مشاهدة الكيفية (أرني كيف تحيي الموتى) أي المعاينة الميدانية ليطمئن بالرؤية المباشرة، فيكون ذلك سندا له في تعزيز موقفه ودعم دعوته في مواجهة التحديات اللاعقلانية، التي كانت سببا في ضلال قومه وانقطاعهم عن الله. هذا النهج يدل على أن سيدنا إبراهيم عليه السلام من خلال سؤاله (كيف)، الذي هو اليوم أساس العلوم التجريبية، حيث البحث يكشف عن كيفية عمل الأشياء في مجال الواقع، لم يسْعَ قط إلى إثارة الشك في القدرة المطلقة لله على إحياء الموتى، ولكنه طلب رؤية الكيفية، أي الطريقة التي تمكّنه معاينة تفاصيلها التجريبية، من إيجاد الأدلة والبراهين لإقناع قومه. لهذا أعد الله له “مختبرا علميا تجريبيا” في وسط الطبيعة وأجبره على إجراء تلك التجارب على الطيور فوق رؤوس الجبال المتباعدة، حتى تزوده الوقائع بالدليل المادي، الذي يحتاجه في مواجهة انحرافات قومه. ومع ذلك تبقى الدلائل العلمية لا تملك سلطانا قاهرا على النفس، وإنما بإثارتها للعقل تفتح باب الفهم الذي يُبعد الإنسان عن الوهم والضلال، فيوقظ فيه روح البحث عن الحقيقة حيث يرى نفسه منجذبًا إلى عالم من الفكر لا حدود له، فيكون ذلك مدعاة له إلى السعي بلا كلل في طلب الحقيقة، التي هي السبيل إلى حصول اليقين. السؤال الخامس: تعرف ظاهرة ما يسمى “الإعجاز العلمي في القرآن” جدلا واسعا بين مؤيدين ومعارضين. فما هي نظرتكم الخاصة لهذا الاختلاف وماذا تقترحون لترشيده؟ جواب: نعم هناك جدل واسع حول البحث في قضايا الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. وأنا مع من يدعو إلى تصحيح مسار هذه البحوث. فالإعجاز أكان علميا أم غيره هو من صفات القرآن، الذي ظهر إعجازه على عدة مستويات وفي كل الفترات. فالقرآن برسالته الخالدة، تحدى في البداية بإشراقة أسلوبه الخطابي وفصاحة لسانه العربي، أدباء وفصحاء مكة، ثم تحدى شعراءها بنبرة إيقاعه وانضباط نظمه. كما أبلغ عن أخبار غير معلومة سجلها التاريخ لحضارات وأمم تلاشت معالمها ولم يبق لها أثر، أو عن أحداث لم تحدث بعد ثم حدثت كما وصفها، مثل فتح مكة: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح: 27) وكانت كذلك، أو هزيمة الروم أمام الفرس التي ستنقلب إلى نصر لهم بعد بضع سنين: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ (الروم: 2-3-4) حيث تعني كلمة “بضع” عدداً بين 3 و10، وكان كذلك حيث انتصر الروم على الفرس كما نبأ به القرآن بعد سبع سنوات من هزيمتهم. هذا دون الاستشهاد بوعده الأبدي بالتكفل بضمان الحفاظ على محتواه وصيانته من أي تحريف أو تلف أو تزييف: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)، ذلك الوعد الذي لا يزال ساريا على مر الزمان نظرًا لحالة الحفظ الكامل لنص القرآن، الذي لم يتعرض في أي وقت من الأوقات لتلف أو تغيير طيلة خمسة عشر قرنا. ثم جاء عصر الاكتشافات العلمية وعصر التكنولوجيا وغزو الفضاء، حيث أثبتت الحقيقة القرآنية أنها أكثر جدارة بدقة لغتها العلمية، التي تأتي فيها الإشارات الواحدة تلو الأخرى، تتحدى عالَم البحث العلمي، حيث كلما أعلن هذا الأخير عن جديد مكتشفاته، إلا ووَجد في القرآن ما يشير إلى دلالاته. الأمر الذي يثبت أن دلالات القرآن غير محدودة في الزمان، بل إنها تبقى منارا للتفكير لا حدود لإشعاعها، متجلية على كل الأزمان بجديد معانيها. ومن هنا فحيث إن الاستكشاف العلمي للكون، والإخبار القرآني عن أسراره، هما خطان لمسارين متوازيين مصداقا لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 53)، فإنه نظرًا لأن حل المعادلات في هذا التوجه هو صاعد في الافتراضات، ولا يمكن له أن يهبط بحكم التقدم العلمي، فإن هذين المسارين لا بد أن يتقاربا في النهاية ويلتقيا، لأن كل ما يرتفع إلى الأعلى ويعرج في السماء يتقارب في النهاية. وهكذا نلمس أن التقدم العلمي لا يمكنه إلا أن يسهم في توسيع الفهم الصحيح للقرآن، بحيث يقدم كلَّ اكتشاف علمي كفتح جديد على أحد مفاهيم القرآن، التي تظل غير محدودة، كما أن القرآن بتوجيهاته السامية والخالدة، لا يمكنه إلا أن يغذي هذه الفتوحات العلمية بعقل متذوق لمعانيها. بهذا التفاعل بين العلم والإيمان سيجد الباحث نفسه منجذبا إلى عالم من البحث، يشجعه فيه التفكير في قوانين الكون، على التساؤل عن سبب وجودها. ذلك السبب الذي كان ومازال وسيبقى محط اهتمام الأجيال، التي من خلال هذه التطورات في الأحداث التي يشهدها العالم، لا تنتظر من العالِم فقط نماذج تصورية، تمكّن من قراءة العالم في جوانبه المادية البحتة فحسب، بل تفسيراتٍ منبثقة من الميول الذوقية التي يمكن أن تحيي تلك الفطرة المبثوثة في الإنسان، والتي من خلالها كان دائما يسعى لإيجاد علامات حضور الله في كل شيء، تلك الفطرة التي بأصالة العقل فيها، لا يمكن إلا أن تنير الطريق للإيمان فتمنع العلم من الانغلاق على نفسه، وتحفظ الدين من الوقوع في الأيديولوجيات المنحرفة. إلا أنني أشاطر رأي من له مؤاخذات على الخوض في قضايا الإعجاز العلمي. فمن المعلوم يقينا أن ما يكتنزه القرآن من أسرار لا يمكن لعلم بشري أن يرفع عنه الستار. لكن ما يمكن لهذا العلم أن يقدمه بخصوص فهم القرآن، هو توسيعه لمفاهيم آياته المتجددة معانيها مع تجدد علم الإنسان، وليس التفسير الجازم لآياته. ففي الآيات الكونية التي تشكل أهم مواضيع البحث والتفكر، نجد القرآن يخاطبنا فيها بأسلوب تأملي عن طريق ضرب الأمثال. والهدف من وراء ذلك، الدفع بالقارئ إلى نهج طريق البحث النظري، المفضي من خلال التفكر العقلي إلى الاطمئنان القلبي، الذي به يحصل اليقين. وهذا تظهر حاجة الباحث العلمي إلى الاستئناس دوما بالقرآن. لكن ما يُسجل في كثير من مواضيع البحث في قضايا الإعجاز العلمي يعكس غير ذلك، حيث نجد الباحثين يحتجون في قضايا كثيرة بالعلم على القرآن، فيهيمون في متاهات تبعدهم تكاليفها كل البعد عن الحقيقة، التي يرمي إليها الخطاب القرآني. فنجد الباحث من أجل إثبات تصورات بشرية يحمّل النص القرآني فوق ما يتحمل، ليطابقه مع التفاسير التي جاء بها العلم لظاهرة كونية معينة. وهذا من شأنه أن يوقع الباحث في مأزق الإساءة إلى قدسية القرآن، لأنه بفعله هذا إنما يكون أقحم القرآن في سباق خاسر وراء العلم، واهما أنه بِليّ أعناق الآيات وإخضاعها للتصورات البشرية يكون أظهر السبق العلمي للقرآن، بينما هو في الحقيقة إنما يكون دافع عن تفاسير اجتهادية غالبا ما توجد متغيرة. فهذا المسار الذي عليه مآخذُ كثيرٍ من الناقدين، يجب أن يصحَّح بالضوابط العلمية والشرعية، لأن الهرولة وراء توظيف كل ما أظهره العلم من حقائق في تفسير القرآن مثلا، أو استعمال النصوص القرآنية الاستعمال المجاني لتبرير سبقها العلمي، هو خوض غير مجدٍ في التآويل. فالعلم البشري وُضعت مصطلحاته بتصورات عقلية محددة المعنى، على خلاف النصوص القرآنية التي تحتمل كلماتها أكثر من معنى. الشيء الذي يمنع أيَّ تفسير بشري لأي ظاهرة علمية من أن يرقى إلى مستوى التفسير الحقيقي للآية القرآنية، بل كل ما يمكن أن يصل إليه إنما هو ملامسته لجوانب بعض معانيها الخفية. وعليه فقراءة النصوص القرآنية خارجاً عن سياقها “المثالي” الذي به يخاطب الله تعالى الإنسان في الكونيات، لا يعرّض الباحث فقط للتقليل من شأنها الدلالي، بل يجعله من خلال انسلاخه عن أبعادها الشمولية مجانبا لحقائقها اليقينية. كما أن ظن آخرين بأن تفسير الظواهر الكونية لا يمكن أن يُستنبط إلا من تعاليم القرآن خطأ ووهم كبير، لأنه ليس فقط يسُد أمامهم باب البحث النظري والمخبري الذي فتحه لهم القرآن، بل ودعاهم إلى ولوجه، بل يعرّضهم أيضا إلى النهل من مزاعمَ وتآويلَ ليس لهم عليها أي دليل. فكلمات القرآن لا يمكن تحديد معانيها بالتعريف المرجعي، كما هو معمول به في العلوم الطبيعية، التي حُددت كلماتها في قواميس العلوم بإجماع العلماء. لأن من معالم كلمات القرآن التنزه عن التحديد في المكان والزمان. والظن بأن المعنى الحقيقي لكلمة من كلمات الآيات الكونية، التي وردت في القرآن هو ما فهمناه فقط، وهمٌ كبيرٌ وتطاول على هذه الكلمات، التي مصدرها من الله الذي ليس كمثله شيء. فكيف بكلامه الذي لا تنقطع عجائبه ولا تنقضي غاياته، أن تنحصر معانيه في تصوراتنا المحدودة. هذا عن الآيات المشاهدة أو المعقولة فما بالك بالآيات الغيبية، التي ليس للباحث عليها أي تصور حسي أو عقلي وهو يخوض فيها بمعطياته العلمية؟ ولهذا أقترح ألا يكون البحث في قضايا الإعجاز في القرآن من أجل التباهي بمفاخر الكتاب، ولكن من أجل استنهاض الهمم للبحث والتنقيب. لأن استظهارنا لما جاء به القرآن من إعجاز، القصدُ منه أن يترجم على مائدة الإنجاز عملا تتكامل فيه شمولية القرآن، تكاملا يعيد ذلك الماضي المشرق، الذي كان فيه الفقيه عالما والعالم فقيها. السؤال السادس: هناك من يرى بأن اعتماد المحتوى العلمي في القرآن تواجهه صعوبات عديدة منها على الخصوص ما يتعلق بكون المعلومات العلمية قابلة دوما للتطور تبعا لتقدم البحث العلمي، في حين أن المضمون القرآني ثابت لا يتغير. فإلى أي حد تتفقون أو تختلفون مع هذا الرأي؟ جواب: نعم هذا الرأي صائب فهناك صعوبات في اعتماد المحتوى العلمي للقرآن، لأن السر في إعجاز القرآن أن نصه يبقى ثابتا مع متغيرات الزمان والعلم متغير، وهذا ربما يوحي بصعوبة تكيف محتواه مع تطور العلوم. لكن الصعوبة الحقيقية تكمن في مدى فهمنا لإشاراته. ولهذا فبما أن المضمون القرآني ثابت والعلم متغير، فلا يمكن لنا أن نقول إننا حسمنا استيعاب المفاهيم العلمية للقرآن، لأن كل فترة زمنية ستطل علينا بمفاهيم جديدة لمعاني ودلالات القرآن العلمية. فكما سبق أن فصلته في كتابي “آفاق اليقينيات العلمية” أن الصلة بين العلم والدين هي صلة أبدية، تربط بين موضوعين أزليين قدر الحق سبحانه أن لا فراق بينهما بدليل الآيات. ومهما حاول الإنسان أن يفصل بينهما، لم يزده فعله إلا خروجا عن الطريق الصحيح، وتضييعا للأمانة التي حملها. لأن العلم الذي يكتسبه الإنسان، لا بد إن هو سلمت فطرته، أن يلتقي مع القرآن فيكون ثروة للدين. لكن إن هو ضعفت فطرته فإن علمه قد يتعارض مع القرآن فيكون فتنة للدين. ومن هنا تظهر آثار الفطرة السليمة على سلامة مسار العلوم، التي يجب أن تستقيم باستقامة الإنسان. من أجل ذلك جعل الله للإنسان من التناسق بين العقل والقلب، ما ينسجم تماما مع تناسق الكون والقرآن. وهداه إلى هذا الانسجام بيقينيات علمية فصلها له سبحانه في آيات قرآنية ثابتة، يتناسق سياقها مع تناسق علل الكون، تناسقا يجعل المتعامل مع كتاب الله إن هو أقبل عليه بقراءة علمية متجددة، يصل إلى قناعات تمكّن من إثبات صحة ما جاءت به العلوم المكتسبة من جهة، ثم توظيف الحقائق الثابتة لهذه العلوم، في توسيع الفهم الصحيح لمعاني آيات الذكر الحكيم من جهة أخرى. أما الصعوبات التي يمكن أن تواجه الباحث في اعتماده المحتوى العلمي للقرآن، فهي تكمن في أن القرآن على خلاف العلم البشري يخاطب الناس بطرق متنوعة منها ضرب الأمثال مصداقا لقوله عز وجل: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: 43). وهذه الأمثال الني تنطوي على معاني علمية عميقة، غالبا ما نجد الآيات الكونية تعرضها كفضاءات واسعة للتفكر والتدبر، من خلال ما تحمله دلالاتها من مغازي علمية، لا تنقطع عجائبها ولا تنقضي غاياتها. فهي وإن لم تأت بالتفصيل العلمي للظواهر التي تناولتها، إلا أنها رمزت إلى أسرارٍ تستبطنها والإنسانُ مدعوٌّ إلى سبر أغوارها. فلا نجد في كتاب الله مثلا تفاصيل علم الأحياء، ولا ميكانيزمات فيزياء رفع السماء، ولا معادلات نصب الجبال، ولا آليات تسطيح الأرض، ولكن نجد فيه الدعوة صريحة إلى البحث في أسرارها، لا لشيء إلا لأنها تريد منك أيها الباحث، الوصول إلى معرفة ما وراء كل ذلك وهو الله عز وجل. ولهذا فالباحث مدعو لئلا يأخذ نصوص الوحي فذة، ويحصر معانيها في مفاهيم علمه المخبري، حتى لا يُخضع كلام الوحي لبراهين العقل. لأن ما جاءت به هذه النصوص لا يمكن للعلم البشري أن يحصر معانيه في تصوراته العقلية. فالعلم الذي جاء به العقل، لا تخرج معاني كلماته عن محدودية ألفاظها، لكن علم القرآن هو أوسع من ذلك بكثير، إذ يخاطب الإنسان من خلال أمثال ورموز، قد تبعُد كل البعد عن التصانيف المتعارف عليها في المراجع العلمية. وعليه فإذا نحن قرأنا نصوص الوحي قراءة لفظية فذة، مجردة عن أبعادها الدلالية التي تحملها الأمثال التي جاءت بها، فسنكون قد مررنا بجانبها مكبلين بمحدودية اللفظ. لكن إذا أخذناها من بعدها التأملي الدلالي، الذي تضربه لنا الأمثال التي جاءت بها، فسنكون قد تحررنا معها من محدودية اللفظ إلى فضاء البحث والتفكر، الذي سطر كتاب الله مجالاته بين بعدي المكان والزمان. وهما البعدان اللذان عليهما يتأسس المختبر التجريبي، الذي فيه تتم صياغة الفكر العلمي الموجِّه لمصير الإنسان، والذي يبقى دورُ العالِم فيه دورَ تدبير للحياة هو مسؤول عنه إلى يوم القيامة. السؤال السابع: تتجه بعض الاستنتاجات إلى كون دراسة القرآن في ضوء المعارف العلمية تؤكد خلوه من التناقض مع المعطيات العلمية الراهنة والتي ستظهر مستقبلا أيضا، وذلك لكون القرآن الكريم كلام الله والكون صنع الله. فهل تبدو لكم هذه الاستنتاجات دقيقة. أم يمكنكم تقديم توضيحات إضافية من خلال أمثلة قرآنية محددة؟ جواب: الوحي والخلق وجهان لحقيقة واحدة: فعل الله الخلاق. وعليه لا يمكن أن تجد في كتاب الله ما يتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة حول الخلق. كما أن الحقائق العلمية الصحيحة عن الخلق لا يمكن أن تتعارض مع كتاب الله. فكما أن آيات الكون فُصلت للمتفكرين وأحكمت لهم، بحيث لا تجد من خلل في ملكوت الله بحكم قوله تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ (الملك 3)، كذلك آيات الكتاب فصلت للذاكرين وأحكمت لهم إحكاما يطابق ذاك الذي يسري في الكون إظهارا لمكانة العلم في الخطاب القرآني، حيث قال عز وجل: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير﴾ (هود 1). فشمل الكتاب بتفصيله وإحكامه قوة مستنهضة للعقل، تدفع بالإنسان على قدر تجلي علومه إلى سبر أغوار الكون. وهذا الإحكام الساري في آيات الكون والمتجلي في تناسق علله، جعله الله تعالى مرجعا تجريبيا للناس، لعلهم يستدلون به على تصوراتهم العقلية ومفاهيمهم العلمية، فيؤسسوا على قاعدته النماذج التفسيرية المفضية بهم إلى اليقين، كما نستشف ذلك من قوله عز وجل: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ (الرعد 2). فإذا انطلقت معرفة الإنسان العلمية من الوحدة التكاملية بين الخلق والوحي، تكاملَ في يقينه عالم الشهادة مع عالم الغيب، فترقّى بذلك في مراتب الكمال التي من أجلها خلق. أما إذا انطلقت معرفته من قراءة تجزيئية لا تعتمد النظرة التكاملية الجامعة بين المسطور والمنظور، فإن الإنسان يبقى بعيدا عن هذا المنال، ولا يمكن له أن يصل إلى كمال المعنى المراد من الإشارات الكونية بقدر ما يقع في توظيف اللفظ القرآني أو الظاهرة الكونية فيما شاء من تآويل. فالقرآن والكون بوحدتهما التكاملية يذكّر كل منهما القارئ بعلاقة التلازم القائمة مع الآخر، إذ لا يمكن فهم أحدهما إلا من خلال حسن قراءة الآخر. فكان بناء الكتاب المسطور متناظرا مع بناء الكون المنظور. ومن هنا يجب أن تكون الوحدة التكاملية بين القرآن والكون، المدخل لكل قراءة علمية تهدف إلى الإحاطة بحقائق الأشياء وفق منهاج القرآن، الذي يرسم للعقل البشري الطريق الواضح، الذي يجب أن يسلكه في بناء الفكر العلمي والإدراك المنطقي. فالقرآن لما دعا الإنسان إلى البحث في علم الأرض، الذي جاء في قول الله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت: 20)، اختزل في ذلك النظر كل المنهاج التجريبي الذي وصل إليه العقل البشري من ملاحظة وفرضية وتجربة، بل وتجاوزها إلى حد التوثيق الزماني والمكاني لموضوع البحث، بإقرار الأرض كعنصر دال على البعد المكاني وتطور أحداثها كعنصر دال على البعد الزماني. وذلك لإضفاء صفة الدراسة المقارناتية على ظواهر الخلق بالتنقل بين أرجاء الأرض، ثم الربط الزمني بين مراحل تاريخها على اعتبار عامل الزمن مؤثرا في تطورها. وهذا ما تستبطنه الإشارات الكونية في القرآن الكريم، التي غالبا ما تأتي الآيات بها في سياقات مهيأة للتعامل مع المنهاج التجريبي بالدعوة إلى النظر، أي الملاحظة وافتراض التساؤلات لإخضاع الظاهرة للتجربة والاختبار، والغاية من كل ذلك تحريك العقل البشري لسبر أغوار الكون والكشف عن أسراره، من أجل تقويم فكر الإنسان على درب الاستقامة الكونية التي هو جزء منها. فمن خلال هذه الاستشهادات العلمية، يتضح أن القرآن يقر المنهاج التجريبي كأساس لبلوغ اليقين. فالخطاب القرآني بخصوص الكون يشكل عين المنهاج ونبع الاستقامة العلمية، إذ يستوعب بتوجيهاته كل وسائل الملاحظة والفرضية والاختبار، بل ويهيمن عليها بالتوثيق الزماني والمكاني لموضوع البحث، حتى يفضي من خلال حقائق الكون النسبية، إلى الحقيقة المطلقة التي ليس بعدها إلا الضلال وهي أن الله على كل شيء قدير. وهذا ما ينبغي أن يستوعبه كل متطلع لبناء فكر علمي سليم، وكل باحث في حقل العلوم التجريبية، لأن القرآن آيات تهدي إلى الحق، والكون بصائر تعصم الناس من الخطأ، فمن لم يستدل بها على الحق بمنهاج علمي حكيم حُجبت عنه كل الحقائق. السؤال الثامن: لا شك أنه واجهتكم صعوبات معينة خلال دراستكم العلمية للقرآن. نود منكم بيان أهمها، وكيف تغلبتم عليها، وهل منها ما لم تتمكنوا من تدليلها استنادا إلى المعرفة العلمية الراهنة؟ جواب: في الحقيقة أنه لا بد في كل دراسة من صعوبات. لكنني في جلساتي مع كتاب الله وتدبري لمغزى دلالات آياته العلمية، وخاصة تلك التي جاءت بها الإشارات إلى موضوع الأرض، كنت أجد نفسي في كل جلسة تدبرية لتلك الآيات منجذبا إلى كتاب الله. فكنت أعيش معها من خلال التأمل في مغزى دلالاتها فترات من المتعة العلمية. فحيث إن القرآن لا يعطي تفاصيل الظاهرة العلمية وإنما الإشارة إليها بعبارات موجزة ومركزة، فهذا كان يدفع بي إلى التحليق في فضاء البحث عن مغازي هذه الآيات، طالبا تفاصيل الإشارات التي تحملها، فكان ذلك يشكل لي محفزا على المزيد من البحث العلمي، المقترن مع التدبر والتفكر في الآيات، وما تحمله من معاني ودلالات. هذه الخصوصية التي يتميز بها الخطاب القرآني في قضايا الظواهر الكونية، التي هي في نصه حقائق علمية، من خلال إثارتها لمواضيع علمية دقيقة بإشارات مشفرة غاية في التركيز والإيجاز، كانت تضعني دائما على طريق البحث، الذي كان يسلك بي مسلك التفكر في المعنى الذي تستبطنه. فكان الخطاب القرآني من خلال استحضاره لأمثال ترمز إلى حقائق علمية، غالبا ما يجعلني أتغلب على صعوبات التدبر في كتاب الله، حيث كان يسلك بي طريق التحرر من محدودية اللفظ الذي تحمله الآية، إلى فضاء المعنى الذي يجعلني أسبح في عوالم الاستكشاف العقلاني، المبني على الملاحظة والتجريب كأساس متين لفهم الخلق، والوصول منه إلى معرفة الخالق. وهكذا من خلال نسبية معارفنا التي تجعل فهمنا للآيات مجرد مقاربات لمفاهيمها العلمية، تبينت لي حالة عدم كفاية المعرفة الإنسانية أمام الصدق المطلق للخطاب القرآني. وهذا شكل لي صعوبة في التعاطي مع كتاب الله وأظنها صعوبة ستبقى دائما قائمة، لأن الإنسان هذا الكائن الضعيف الذي يفتقر إلى كل شيء، يمكن أن يكون بمنطقه صادقًا، ولكن نسبة لزاوية رؤيته للأشياء؛ كما لو أن مجموعة من المشاهدين شاهدوا نفس الحدث، فإن كل واحد منهم سيُخبر عنه بشكل مغاير حسب الجانب الذي عاينه منه، والذي يتناسب مع زاوية الرؤية التي التقط منها الصورة. في حين أن رؤية القرآن للأحداث هي رؤية شاملة ملمّة بجميع الزوايا. لذلك فهي حقيقة مطلقة لأنها تحيط بجميع الجوانب مصداقا لقول الله عز وجل: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ (فصلت: 54)، وهو ما أكد لي ضعف مقدرات الإنسان العلمية أمام القوة العلمية القاهرة للقرآن، الذي يخبر أن العالم يتطور وفقًا لضوابط يمليها قانون إلهي محكم، مصداقا لقول الله تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر: 43). ومن هنا تبين لي أن العقل البشري عاجز لوحده عن بلوغ اليقين، وأن العلم المكتسب، بسبب افتقاره إلى مصوغات هذا اليقين، لا يمكن له أن يكون معيارا وحيدا للحقيقة. فكان من أجل ذلك أن جاء الخطاب القرآني بقواعد فكر علمي رزين، يؤصّل لترشيد منظومة الإنسان العلمية بهدف إيصاله إلى تلك الحقيقة. فالقرآن الكريم من أجل إرساء منظومة علمية قويمة، سلك بالقارئ مسلك التفكّر، الذي هو أعظم باب يدخل منه الإنسان على الله لفهم حقيقة هذا الوجود، حيث جعل السالك لمساره يعيش فترات من المتعة العلمية، ينعم فيها بين النظر العقلي والحس الروحي، نعيما يجعل فكره دائم التوسط بين العقل والقلب، إذ لكي يصل القارئ إلى فهم معاني الإشارات الكونية، الواردة في القرآن الكريم ويدرك مغازي دلالاتها العلمية، كان لا بد له من أن يلج عوالم البحث العلمي، التي في آفاقها تتجلى المفاهيم القرآنية، شاهدة على تجدد معاني الآيات مع تقدم البحوث والدراسات. ثم لكي يستقيم بحثه العلمي مع استقامة الكون الذي هو جزء منه، وضع له القرآن في آياته الميسرة للذكر ضوابط تجعل فكره ينبني على النظر العقلي المرتبط بالحس الروحي. فكان الخطاب العلمي في القرآن من خلال عقلنته المدارك في فهم نصوص الوحي، يرمي إلى تدعيم تلك الحلقة الواصلة بين عقل الإنسان وقلبه، بحيث يؤسس لوحدة معرفية متكاملة، كلما جال من خلالها الباحث بعقله في عوالم الأكوان ناظرا، أرجعته شوارق أنوارها إلى القرآن متذكرا، وكلما تمعن من خلالها في آيات الكتاب متدبرا أحالته أسرارها على الكون متفكرا. فكانت المرجعية القرآنية من خلال تكامل معاني الخطاب العلمي في القرآن ومن خلال توافق إشاراته العلمية مع الحقائق الكونية، مصدر إلهام دائم في تحقيق ذلك التوافق الرصين بين العلم والدين، إذ تؤسس لفكر علمي منسجم ينسجم فيه العقل مع الوحي في وحدة بنائية غايتها الحقيقة. تلك الحقيقة التي لا تستطيع المعرفة العلمية الراهنة من خلال ابتعادها عن الوحي، تدليل العقبات إليها علما بأنها تبقى دائما في آفاق تطلعاتها. السؤال التاسع: تعتبر علوم الأرض الجيولوجية وعلوم الفلك مجالا واسعا لمقاربة عظمة الخالق من خلال عظمة خلقه وعجائب صنعه. فهل لكم أن تقربونا من تجربتكم الشخصية في هذا الصدد؟ جواب: الأرض كوكب صغير بالمقارنة مع شساعة الكون، لكن باستخلاف الإنسان فيها صار لها شأن كبير في الخطاب القرآني. من أجل ذلك جعل الله للإنسان في هذه الأرض آيات كثيرة، هي في الحقيقة يقينيات علمية كما جاء في قول الله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ (الذاريات: 20)، حيث تظهر هذه الآيات في تناسق علل الأرض، وتناغم حركة قِطَع سطحها، ونصب جبالها وفرش مجالاتها وجريان مياهها، وما إلى ذلك من المظاهر الدالة على قدرة الله على تذليل هذه الأرض، ودقة إحكامه سبحانه لنُظمها. لنوضح أكثر هذه الرؤية، نذكر أنه عندما أراد الله أن يرشد الإنسان إلى البحث في تطور البيئات الطبيعية للأرض عبر تاريخها، سطّر له سبحانه في كتابه الكريم منهاجًا استقصائيًا بحتا، لإعادة تقويم تاريخ الخلق بإعلانه عز وجل: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت: 20). لوضعنا على سكة هذا المنهاج، حددت لنا الآية القرآنية خمس إشارات هي في الواقع خمس تعليمات، تتْبع بعضها البعض في نص الآية على النحو التالي: – أولاً: كلمة “قل” التي تدل على أن الدعوة التي جاءت بها الآية في موضوع البحث، هي أمر من الله إلى الإنسان. – ثانيا: “سيروا في الأرض” التي تشير إلى مفهوم المكان باعتباره البعد الأول في موضوع البحث. – ثالثا: “انظروا كيف” التي تختزل عملية البحث برمتها في المنهاج العلمي، المبني على الملاحظة والفرضية والتجريب. – رابعا: “بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة” التي تشير إلى مفهوم الزمان، الذي تترجمه المدة الفاصلة بين بدء الخلق ونشأته الآخرة، وهي إشارة إلى مفهوم الزمان كبعد ثاني في موضوع البحث. – خامسا وأخيراً: عبارة “إن الله على كل شيء قدير” التي تشير إلى الحقيقة المطلقة التي يجب أن تؤول إليها كل الحقائق النسبية الناتجة عن هذا البحث. من هذه الإشارات المرتبة في الآية الواحدة تلو الأخرى، ندرك كيف يركز الخطاب القرآني في مجال البحث في الخلق على محورين رئيسيين: أحدهما أفقي يحدد المكان كبعد أول، والآخر عمودي يشير إلى الزمان كبعد ثاني. إذن هو مفهوم زمكاني أوصى به القرآن لإعادة تقويم تاريخ الخلق. وهو المفهوم الذي سنحاول مناقشته لتحديد الاتجاهات العامة لهذا النهج في تناول مسألة تطور بيئات للأرض. في التاريخ التطوري للأرض، تعبّر كل بيئة، كما يقر بذلك علم الجيولوجيا، عن مجال للحياة والترسيب محدد بمميزاته الفيزيائية والكيميائية والحياتية، بما يكفي لتمثيل ظروفها في الزمان والمكان المعينين. لذلك فهي تشكل تعبيرًا عن كيان مكاني-زماني معيّن بخصائص تجعله مميزا بدرجة كافية، ليتم تحديده على مقياس التاريخ التطوري للأرض. لكن ما لوحظ مع تقدم الدراسات البيئية على مستوى تقويم البيئات القديمة هو أن هذه الخصائص يمكن أن تتكرر بمرور الزمان، مما يعكس نوعًا من الإعادة على مستوى التعبيرات التي يقدمها المكان. وهو ما نلمس التلميح إليه في السؤال التي وضعته الآية، التي سبقت تلك التي جعلناها في الجواب عن هذا السؤال، وذلك في قول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (العنكبوت: 19). ومن هناك فنظرًا لعامل الزمان الذي يؤثر بشكل كبير على تطور العلاقات التفاعلية بين الكائنات، وبينها وبين محيطها، فإن البحث يتحتم عليه أن يسعى إلى دمج جميع بيانات البيئة المراد إعادة تقويمها، بما في ذلك تنظيمُها البنيوي وتركيبها الصخري وتشكيلها الأحفوري. ومن هنا جاءت دعوة القرآن للسير في الأرض (قل سيروا في الأرض)، كتوجيه علمي من شأنه أن يحدد السِّمات الأساسية والأصلية للبيئات القديمة، من خلال الأحداث والوقائع الأصلية المرسخة آثارها في التوضعات الرسوبية، التي تشكل سجلا لمختلف التفاعلات التي سادت بين الكائنات، التي عاشت في تلك الحقب وبين الأوساط الحاضنة لها. لذلك يوجهنا القرآن إلى البحث عبر التنقل في أرجاء الأرض: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ (العنكبوت: 20)، ذلك البحث الذي تكمن فيه الصعوبة الكبرى في حقيقة إعادة وضع الكائنات البائدة في مجالاتها الحيوية الأصلية. وهي المجالات التي لا يمكن الكشف عنها إلا من خلال السير في الأرض على امتداد تشكيلاتها الرسوبية، التي من خلال حفظها لبقايا وآثار هذه الكائنات في ثناياها يمكن أن تبرزها في نقاط معينة، حيث يؤدي التواء الطبقات الرسوبية ثم تعريتها إلى إظهارها على السطح. وهكذا تكشف هذه التشكيلات عن سجلاتها الأحفورية، حيث يمكن للباحث أن يقرأ من خلال الآثار المرسخة في الصخر إشارات بدء الخلق. ومن هنا تأتي أهمية الخطاب القرآني، الذي يوصي بالسير في الأرض كخطوة أساسية وضرورة حتمية لاستجلاء أسرار الحياة الماضية. تلك الحياة التي تُعتبر إعادةُ تكوين آلياتها وتوازناتها مجرد مقاربة، لأنها تستند إلى ملاحظة حقائقَ أسبابُها الأصلية غير موجودة. الشيء الذي يتطلب من الباحث مزيدا من الحجج التي تكمّل وتؤكد بعضَها البعض من مختلف المجالات. وهنا يكمن السر في المنهجية الاستقصائية التي وضعها القرآن. فهذه المنهجية تأخذ بعين الاعتبار من خلال إلحاحها على السير في الأرض (سيروا في الأرض فانظروا) دراسة المنطقة بأكملها، سواء من حيث تنظيمها البنيوي أو تشكيلها الرسوبي أو مخزونها الأحفوري، وذلك لإنشاء قاعدة بيانات يتم بواسطتها معالجة جميع الملاحظات، التي تم تسجيلها من الميدان. هذا سيجعل من الممكن تجميع الحقائق التي تمكّن البحث من إثبات العلاقات التفاعلية التي سادت بين الكائنات الحية المختلفة، وبينها وبين أوساطها الطبيعية القديمة، حيث تكون كل حقيقة تتويجًا لأسبابها الخاصة بها في الزمن الذي كانت فيه. وهكذا فإن الإشارات الجيولوجية والكونية هي في الحقيقة يقينيات علمية، أي تثبيتات إيمانية للقلب يخاطب الله تعالى بها العقل، من خلال أمثال يضربها سبحانه لنا في آفاق تطلعاتنا العلمية، لعلنا بكل يقينية تستقر في قلوبنا نترقّى في مراتب الخشية من الله، كما جاء ذلك منصوصا عليه في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28). والعلماء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لهذه الآية وهو مذكور في تفسير ابن كثير: “هم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير” فهؤلاء كما يتضح من الوصف القرآني لظواهر الكون، الذي جاءت في سياقه هذه الآية، هم الذين ينطلقون من مراجع الكون المنظور ليثبّتوا في يقينهم آيات الكتاب المسطور، حتى إذا تكونت الصورة في عقل الناظر، نفذت أنوارها إلى القلب فحصل هنالك اليقين بأن الله على كل شيء قدير. وعليه فلما كان الله في كل شيء يراه الإنسان أو لا يراه، وكان هو الكل متجليا نوره في كل مكونات الكون، وجّه سبحانه المتعرفين عليه إلى النظر والتفكر في هذه المكونات العاكسة لنور ضيائه، لعل هذا الإنسان المكرم بالعقل إذا نفذ إليه ذلك الشعاع الساطع من نور هذه المكونات، التي تعكس نور المكوّن ارتقى من خلال تلك المدارك العلمية في درجات الكمال، الموصلة إلى الانسجام مع كمال الكون. فجاء الخطاب القرآني من أجل ذلك موجها الإنسان إلى الجمع بين القراءتين: قراءة المسطور وقراءة المنظور على اعتبار أن القرآن الذي هو الكتاب المسطور، يقدم للإنسان قواعد العلاقة التفاعلية بينه وبين الكون، وأن الكون الذي هو الكتاب المنظور، يشكل المرجع التجريبي لوضع النماذج التفسيرية لهذه العلاقة في ظل وحدة بنائية متكاملة يتكامل فيها العلم مع الدين. السؤال العاشر: أشرتم في أكثر من موضع من كتابكم إلى محدودية العقل في المسار العلمي مما يعد حالة صادمة جدا للمراهنين عليه في حل ألغاز الحياة وتحديد معنى لها. فهل لكم أن تسلطوا بعض الأضواء على إيجابيات وحكمة الله في محدودية القدرات العقلية؟ جواب: في الحقيقة أن العقل وحده له مجال محدود في المسار العلمي الحقيقي، لأن رزانة البحث العلمي يعكسها ذلك التوازن الحاصل عند التقاطع التفاعلي بين ثلاث ملكات رئيسية للباحث: الذاكرة التي هي مركز تخزين ما هو محسوس، والعقل الذي يستدعي الذكاء للتعامل مع ما هو مفهوم، والإلهام الذي به تتجاوب الروحُ الإنسانية مع عالم الوحي. فحالة التوازن بين هذه الملكات الثلاث، من خلال تنميتها لمدارك الإنسان هي التي تستنهض فيه همة البحث في مضامين الأشياء، تلك الهمة التي من خلال وظيفتها الاستكشافية تخلق في الإنسان ذلك الفكر الإبداعي الرزين. من أجل ذلك يقدم لنا القرآن صورًا لظواهر علمية تثير الإعجاب والتشويق من جهة، وتتحدى مداركنا العقلية من جهة أخرى، كتلك التي تعرض لنا السماوات على شكل سقف بلا أعمدة: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ (الرعد: 2)، أو تلك التي تمثل الأرض مرساة بالجبال من فوقها: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا﴾ (فصلت: 10)، أو تلك التي تشير إلى وجود النار في قاع مياه البحار: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ (الطور: 6). هذه الصور التي وإن كانت تثير أشياء لا يستسيغها العقل، إلا أنها تشير إلى حقائق واقعية تتحدى معرفتنا. وهذا يشوقنا إلى مزيد من البحث والتفكير. فهي ظواهر إعجازية حيث إن الإنسان بمداركه العقلية لا يمكنه تصور سقف مبني بدون أعمدة، أو هيكل مثبت برواسي من فوقه، أو ماء متساكن مع النار علما بأن الماء والنار ضدان لا يلتقيان. مما يُظهر الطابع الإعجازي للخطاب القرآني، الذي بأسلوبه المتحدي للعقل، يبين للإنسان قصور قدراته العقلية وحالة فكره، التي تظل محدودة للغاية أمام المعرفة الإلهية المطلقة، التي لا حدود لها ولا انقضاء: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء، 85)، ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (لقمان: 27). الشيء الذي يحسس الإنسان بمحدودية عقله، ويحرك فيه الهمة لطلب المزيد من العلم، حتى يحصل له الاطمئنان القلبي، كما حضنا القرآن على ذلك في قول الله تعالى: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (الإسراء: 14). وهكذا إذا استوعب قارئ القرآن هذه التوجيهات القرآنية بروح تدبرية يتحكم فيها منطق التحليل، فإنه لن يجد في كتاب الله ما يتعارض مع العلم المكتسب بقوة العقل بل سيجد فيه ما يتحدى هذه القوة العقلية. مما يزيده يقينا بصدقِ مطلقِ كلام الله، وخاصةً في شأن ما لا يمكن تصوره من العالم الآخر، الذي لا يستطيع العقل استكشافه بسبب قصوره ومحدودية إحاطته بالأشياء. ومع ذلك فالقرآن لم يهن العقل أو يقلل من شأنه، بل على العكس دعا في آيات كثيرة إلى إعماله، ولم يدعْ عذرا لمن لم يسِر على هذا الطريق، طريق إعمال العقل، بل جعله في موقع اللوم: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (يونس: 100). وهذا دليل على أن هذا الكون، بكل مكوناته وعجائبه وأسراره إنما هو مرآة عاكسة لنور المكوِّن، يهدي إلى طريق الحق حتى لا يضيع الإنسان في متاهات الجهل، التي هي السبب الرئيسي للتكذيب. لذا فإن عدم الوقوع في التكذيب الذي هو المدخل الرئيسي إلى الكفر، يتطلب الخروج من الجهل بعقل يدعو إلى استثمار الطاقات في العلم، حيث يجد المتفكر من خلال تأمله في أسرار الخلق نفسه في بحبوحة الفرح بقربه من الله. إلا أن هذا العقل رغم شروده أحيانا في مغامرات قد تفرز عيوبا ونقائص على عدة مستويات، فإنه قد يفيد في استلهام الحقيقة، ذلك أن العقل من خلال انشغاله في البحث العلمي، ربما يلج من خلال انجراره إلى أهدافه النفعية مسالكَ تجعله يقف على حقائق تضطره في حالات معينة إلى إعادة النظر في مساراته، والتفكير في إعادة بناء تلك الروابط المفقودة منذ زمن طويل مع الوحي. وعليه فحيث إن جزءًا كبيرًا من حقيقة هذا العالم يبقى محجوبًا وراء معناه، حيث إن العالَم قبل أن يكون مبنى كان معنى، وبما أن العلم لا يمكن أن يكتشف من خلال زاويتي الواقع والعقل، سوى جانبا واحدا من جوانب العالم وهو الظاهر من الأشياء، مصداقا لقول الله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7)، فمن مصلحة العلم الذي يرمي إلى فهم معنى الكون، دمج مستوى ثالث من المعرفة فوق مستويي المحسوس (الواقع) والمفهوم (العقل)، وهو مستوى المغيّب عن الحواس والعقل، الذي جاء به إخبار الوحي. فالجمع بين هذه المستويات الثلاثة من المعرفة هو الذي يمكن أن يولّد حدث هذه الألفية، التي باتت تفرز الكثير من التناقضات في فهم العالَم، وذلك بتوجيه البحث العلمي على خطى رزينة، تمكّن من اقتراح حلول للمشاكل المعاصرة والمستقبلية. أما استبعاد أحد هذه المستويات الثلاثة من المعرفة، فلن يكون إلا عائقا في طريق البحث عن الحقيقة. وهذا صحيح لأن سؤال المعنى الذي تثيره رؤيتنا للعالم، لا يمكن حله إلا في سياق تكاملي عند نقطة التقاطع بين العلم والدين. في هذا التلاقي يفتح العلم بنظرياته البحثية الطريق لفهم الألغاز المخبأة في أسرار هذا العالم، فيسمح من هنالك بإعطاء تفسيرات لهذه الأسرار، التي طالما أثارها القرآن في إشارات مشفرة، مقابل ذلك يمكّن الدين من خلال دعوته الباحث، إلى استثمار نصوص الوحي من توجيه البحث العلمي وفق الاستقامة الكونية، التي ما فتئت الرسالات السماوية تأتي مذكرة بها وبضرورة استقامة أحوال الناس عليها. وهكذا نظرًا لأن معرفة الإنسان بالعالم، هي بالفطرة منبثقة من هذه الدوائر الثلاث المكمّلة لبعضها، والمؤسسة لعالم المعرفة، والتي هي: دائرة المحسوس ودائرة المفهوم ودائرة المغيّب المخبر عنه بالوحي، فمن المطلوب أن تكون الحقيقة التي يطمح إليها العلم منبثقة من تقاطع المجالات المكوّنة لهذه الدوائر الثلاث، إذ يوفر مجال المحسوس بيانات الواقع، التي يدركها الإنسان من هذا الكون بحواسه، ويمكّن مجال المفهوم من إدراك ما غاب عن الحواس بقوة العقل، ويجلب مجال الوحي إيضاحات غيبية من عالم لا يمكن للمحسوس ولا للمفهوم إدراكه وذلك عن طريق الإلهام الإلهي. أما استكشافنا للعالم خارج إطار التوازن بين هذه المجالات الثلاثة للمعرفة، فلا يقودنا إلا إلى الضلال والتيه في الادعاءات الاستبدادية للعلم. كما أن قراءة مشاعره خارج نسَق هذا التكامل، الذي هو في الأصل نسَق التحرر من قيود الاستبداد العلمي، يحرمنا من الرؤية الاستكشافية التي يعلمها لنا القرآن. أي بعبارة أخرى، أننا من خلال محاولة تطوير معرفتنا بالعالم دون الرجوع إلى نقطة الالتقاء بين هذه الدوائر الثلاثة للمعرفة، فإننا نواجه فوضى كبيرة وأحوالا شاذة قد تؤذي معايشنا ولن يكون الخلاص منها بالشيء الهين. كما أننا بسعينا لفهم أسرار العالم من خلال تسليم معرفتنا فقط للإشارات المخفية بين سطور النصوص المنزلة، فإننا نتخلى عن المشاركة الفعالة في مغامرات البحث الموصلة إلى فهم هذه الأسرار. وهذا صحيح لأن هدف العلم ليس استكشاف العالَم في جوانبه المادية البحتة أو في جوانبه الروحانية البحتة فقط، ولكن في تلاقي هذه الجوانب التي من تناغم مفاهيمها تبرز الحقيقة الأبدية للقرآن. هذه الحقيقة التي تغيب عن محصّلات العلم الحالية، والتي هي في الأصل مسطّرة في آفاقه المتعالية، لا يمكن أن تدرك إلا من خلال تقعيد العلم على هذه الدوائر الثلاثة للمعرفة: – دائرة المحسوس التي تعبر عن واقع الأشياء المدركة بالحواس. – دائرة المفهوم التي تتناول الحقائق المغيبة عن الحواس والمدركة بقوة العقل. – دائرة الغيب التي هي فوق المحسوس والمفهوم، تخبِر عن حقائق خارقة منبثقة مما جاء به الوحي. وهكذا، في عالمنا، لا يمكن للحقيقة أن تكتمل صورتُها، إلا من خلال التداخل بين نطق هذه الدوائر المعرفية الثلاث، التي هي المجالات الثلاثة للعلم: مجال المحسوس الذي يعالج واقع الأشياء المدركة بالحواس، ومجال المفهوم حيث الحقائق لا تكشف عن ذاتها بصورة تلقائية، بل تستدعي من الإنسان إعمال العقل، الذي بقوته الفكرية يكشف عن الأدلة الموصلة إليها، ومجال الغيب المطلق الذي هو مغيب عن الحواس وعن العقل، ولا يُستلهم إلا من إخبار الوحي. من هذه الرؤية الثلاثية الأبعاد للأشياء، تتم إعادة تشكيل الصورة الحقيقية للعالم. صورة تتضح معالمها من خلال التوازن الذي يجب أن يحصل بين الزوايا الثلاث لمثلث متساوي الأضلع، حيث تمثل زاوية المحسوس الأشياء المدركة بالحواس، وتمثل زاوية المفهوم الأشياء المدركة بقوة العقل، وزاوية الغيب الأشياء الغائبة عن الحواس وعن العقل والتي لا يمكن إدراكها إلا من خلال إخبار الوحي. لذا فإن المسار السليم للبحث العلمي، الذي من شأنه أن يضع الباحث على الطريق الصحيح لفهم معنى العالم، يتطلب انخراطا متوازنا في استثمار هذه الدوائر الثلاث للمعرفة، التي في وحدتها وتكامل مجالاتها، تتوسع المعارف مع تطور الفكر البشري، إذ في تقاطع هذه الدوائر وتوسع مساحاتها، يؤدي التداخل بين نُطُقِها إلى نمو مجالٍ للتجانس متنامي مع القدرات الحسية والعقلية والروحية للإنسان. وفي الأخير آمل أن أكون قدمت للباحثين من خلال هذا الحوار أفكارا مثمرة، من شأنها أن تحمسهم أكثر على تعميق أبحاثهم من أجل إعطاء معنى لإنجازاتهم العلمية. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.