السؤال الأول: بداية نرحب بكم دكتور أبو بكر الحسني، ونشكركم على استجابتكم للمشاركة في هذا الحوار الأول من نوعه، والذي سيتناول قضايا هامة ومثيرة للجدال تتعلق بنسبية الحقيقة في مجال العلوم الطبيعية. يتأكد لنا اليوم مع تعاظم أضرار جائحة كورونا، مدى اهتزاز ثقة الإنسان المعاصر في العلوم التجريبية، حيث كان يغلب على الظن بأنها ستجلب له مزيدا من رغد العيش والأمن الصحي وقاية وعلاجا، وأنها سترفع قدرة الإنسان في شتى المجالات لمواجهة معضلات الحياة وتقلباتها المفاجئة، مما يراه البعض مؤسسا للتمييز بين ما قبل وما بعد كورونا. فهل يبدو لكم أستاذ من خلال هذا الوباء العالمي الشامل أن نظرة الإنسان بدأت تتجه نحو اتزان أكبر وإدراك أدق لحقيقة العلم التجريبي؟ بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على رسوله الكريم و على آله و صحبه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أود ابتداء أن أعبر عن سروري بهذه الاستضافة الكريمة و أن أتوجه بالشكر الجزيل للقائمين على موقع الأمانة وعلى موضوع هذا الحوار الهام، وأهنئكم على المجهودات الطيبة التي تبذلونها لنشر الفكر و الوعي الإسلاميين سائلا المولى جل و علا أن يتقبل منكم. لقد شكلت جائحة كورونا صدمة للبشرية على عدة مستويات صحية واقتصادية واجتماعية؛ رغم أنها على المستوى الوبائي أقل بكثير مما عرفته البشرية خلال القرون السابقة، حين كانت الأمراض المعدية تحصد ضحايا بنسب أعلى بكثير مما حدث مع الجائحة الحالية. إلا أن الإنسان خاصة في الدول الصناعية طال عليه الأمد، وأصبح أقل تقبلا للابتلاءات لما ألفه من نعم خالها لن تزول أبدا، فإذا به يصدم بوضع شلت فيه حركة الطيران، وفرض عليه حجر صحي كامل ألزمه بيته لعدة شهور، بالإضافة إلى توقف أنشطة اقتصادية واسعة؛ مما قطع الدخل عن بلايين البشر بصفة غير متوقعة. هذه الصدمة جعلت الإنسان العادي يوجه نظره إلى أهل الاختصاص من أطباء وباحثين وشركات أدوية، عساه يجد عندهم الحل السحري الذي يرفع عنه هذا الوباء. وبما أننا في عصر السرعة والوجَبات السريعة والقطارات الفائقة السرعة والاتصالات السريعة، فإن الناس غدوا في حاجة لحل سريع. إلا أن الوقت العلمي رغم الإمكانات التقنية الهائلة لا يمكن تقليصه. ورغم ذلك فالتراكمات الهائلة في علم الفيروسات والبيولوجيا الجزيئية والذكاء الاصطناعي، مكنت الباحثين من تحديد سبب المرض والتعرف على الفايروس وعلى مادته الوراثية، وعلى طريقة العدوى وطريقة انتشاره وإمراضه في وقت قياسي. غير أن كل هذه الإنجازات لم تكن كافية للوقاية منه ولتوفير علاج فعال ضده لإعادة الحياة إلى طبيعتها. ومما زاد الطين بلة وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت منصة يطلع منها كل من يحسن الحديث ويحفظ بعض المفردات من القاموس العلمي، ليدلي بدلوه بطريقة فولكلورية فيما يخص أصل الفيروس وطرق الوقاية والعلاج منه. كل هذا زاد من حيرة الناس وكثرت الآراء والنظريات. وكما يقول العلماء لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف. ولنكون منصفين فإن أهل الاختصاص كانوا على تواضع كبير، وأقروا بعجزهم عن تقديم الحلول العاجلة عن طريق الوصفات الجاهزة، وصرح كثير منهم أن الأمر يستلزم وقتا وجهدا ومعطيات لا يمكن تجاوزها، حتى يصلوا إلى ما يمكن أن يساهم في تجاوز الأزمة. بخلاف بعض المهرطقين الذين كانوا يصرحون جازمين أن عندهم العلم بحقيقة المرض وبالعلاج، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وساروا يفتون الناس في طريقة العلاج، دون أسس علمية ولا تجريبية، جريا وراء الشهرة وجنيا للمال. هذه الوضعية جعلت ثقة الناس في العلم التجريبي تهتز، خاصة بالنظر إلى الاختلافات الكبيرة التي نشبت بين أهل الاختصاص حول طرق العلاج. كما أن العامل الربحي دفع بعض المختبرات وبعض المجلات العلمية وحتى بعض الدول، لتجاوز التقاليد العلمية ونشر أبحاث لا تستند إلى ما يستلزمه العلم التجريبي من صرامة وموضوعية، بل قام بعضهم بنشر نتائج مزيفة في مجلة ذات صيت ذائع وهي ذا لانست The Lancet البريطانية التي سرعان ما سحبت البحث واعتذرت عن نشره. رغم كل ما ذكر لا مناص من القول بأن العلم التجريبي قطع أشواطا هائلة في التعامل مع الجائحة في وقت قياسي، بحيث تحسن بروتكول العلاج وتم إنتاج عدة لقاحات خلال سنة، بينما كان يستغرق تحضير اللقاحات عشر سنوات. بالإضافة إلى الثورة البايوتيكنولوجيةBiotechnology ، التي تتمثل في إنتاج لقاح على شكل الرنا (ARN) بتكلفة قليلة. وهذه التقنية بدأ استعمالها في العلاج الجيني وستشكل جزءا مهما من العلاجات المستقبلية. إلا أنه لا يمكن أن نغفل عن الاستغلال التجاري لهذه الجائحة، نظرا لتدخل صناع القرار في الدول الغربية مع مختبرات الأدوية ومع منظمة الصحة العامية، وغياب تفسير مقنع لأصل الفايروس، هل أطلق بإرادة فاعل من أجل أجندة خفية، أم أن التوسع العمراني والتغيرات المناخية كانت سببا وراء ظهوره؟ السؤال الثاني: هل لكم في البداية أن تقدموا لنا مقاربة لمفهوم الحقيقة في سياق العلوم التجريبية؟ قبل التطرق للحقيقة في سياق العلوم التجريبية، لا بد من التذكير بنطاق البحث في هذه العلوم وهو العالم المادي أو الطبيعي. وتبقى مجالات كبرى خارج نطاق البحث التجريبي، خاصة كل ما هو غيبي وما هو متعلق بالأسئلة الوجودية الكبرى. أما الحقيقة في سياق العلوم التجريبية فهي ما يتوصل إليه من اكتشافات عن طريق الرصد والملاحظة والتجربة. فانطلاقا من ملاحظة ورصد الظواهر الطبيعية يقوم العلماء التجريبيون بإنشاء فرضيات عقلية أو رياضية لتفسير هذه الظواهر ثم يقومون باختبار هذه الفرضيات عن طريق التجربة. إلا أن التجربة محكومة بمدى تقدم الوسائل التقنية المستعملة، ورغم أنها تمكن من التوصل ببيانات تثبت أو تنفي الفرضية، تبقى درجة صدقيتها ويقينيتها رهينة بالوسائل التقنية المستعملة. فمثلا مكنت الفيزياء الكلاسيكية من تقديم تفسير مقنع، وظل مقبولا ويقينيا على مدى عدة قرون، حتى اعتقد العلماء أنه لا مجال للزيادة عليه أو نقده. إلا أنه مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع تقدم وسائل الرصد والحسابات الرياضية، بدت فيزياء نيوتن غير قادرة على مسايرة البيانات الجديدة. وهذا أدى إلى إرساء مجالات أخرى حديثة للفيزياء لا تخضع لقوانين نيوتن كنظرية النسبية العامة والخاصة وفيزياء الكم. وقد مكنت النظريات الحديثة من تطبيقات غيرت وجه الحياة على مستوى الطاقة وعلم الحاسوب والأقمار الاصطناعية، ووسائل الاتصال الحديثة والفحص بالأشعة وغيرها. إذا فالحقيقة في الميدان التجريبي تبقى نسبية ومحكومة بالحسابات الرياضية وبدقة وفعالية الوسائل التقنية، التي مهما بلغت من الكفاءة تبقى دائمة عاجزة عن الإحاطة بالحقيقة المطلقة للعالم المادي، ناهيك عن العالم الغيبي الذي يوجد خارج مجالها. وتبقى الحقائق العلمية كمقاربة أو نموذج أو توصيف يعبر عن مستوى فهمنا للظواهر الكونية؛ يقوم الباحثون خلال عدة عقود بتعديل وإتمام هذا النموذج بغية تحسينه، علما أنه من المستحيل الوصول به إلى العلم المطلق، الذي لا يعلمه على حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. السؤال الثالث: متى يصح اعتبار حقيقة علمية بأنها مطلقة ومتى نعتبرها نسبية؟ الحقائق العلمية مبنية على معلومات جزئية، يتحصل عليها الباحثون عبر المنهج التجريبي، الذي يبدأ بالفرضية ثم التجربة ثم الاستنتاج. ولكي تكون المعلومة دقيقة يجب أن تكون الفرضية مبنية على أسس متينة، وأن تكون الوسائل التقنية المستعملة في التجربة دقيقة وفعالة، وقادرة على اختبار صحة أو خطأ الفرضية. أما الاستنتاج فهو جهد عقلي لا مجال فيه للتجربة، يقوم الباحث من خلاله بتحليل نتائج التجربة واستخلاص الحقائق العلمية الخاصة بظروف التجربة، والتي لا يمكن تعميمها إلا في إطار نفس الظروف التي أجريت فيها هذه التجربة. ولكي تصل المعلومة إلى حقيقة يقينية عليها أن تصمد أمام كل الانتقادات، وأمام التطور التقني الذي يمَكن في كثير من الحالات من دحض كثير من الحقائق، التي بدت في أول وهلة يقينية ثم ثبت بعد ذلك أنها خاطئة. وفي حالات أخرى يمَكن التقدم التقني والمعرفي من تعديل وتصويب كثير من الحقائق قصد الإبقاء عليها دون إلغائها. ومع تقدم الوسائل التقنية للعلم التجريبي أصبح الباحث أمام طوفان من البيانات لا يستطيع التعامل معها مباشرة وإنما يقوم بتحليلها عن طريق منصات ضخمة للحواسيب وهي بدورها لا توفر إلا معلومات احتمالية لا تبلغ درجة اليقين. وكمثال على ذلك دور العامل الوراثي في ظهور الأمراض ونتيجة للتقدم التقني الهائل فإن تحديد التسلسل الجيني للإنسان يوفر بيانات ضخمة حول الطفرات الجينية المصاحبة لمختلف الأمراض. إلا أن استخلاص النتائج التي تمكن من فهم علاقات هذه الطفرات بأعراض المرض، وبالتالي التوصل إلى التشخيص المبكر وربما للعلاج، يبقى بعيد المنال نظرا لتعقيد اشتغال الشفرة الوراثية التي لا زالت تشكل تحديا ضخما أمام الباحثين. بل كلما ازداد تطور الوسائل التقنية كلما اكتشف الباحثون مدى جهلهم بخصائص هذه الشفرة، وعلاقتها بوظائف الخلية وبالاختلالات التي تتسبب في مختلف الأمراض. السؤال الرابع: ظل الاتجاه المادي ردحا من الزمن، يعتبر بأن مصدر الحقيقة بات حكرا على المنهج التجريبي وحده، وذلك بعد التحرر الأوروبي من هيمنة الفكر الكنسي؛ الموغل في اللاعقلانية والخرافية. فما قيمة الحقيقة التي نتوصل إليها داخل المختبرات العلمية، هل يمكن أن تكون مطلقة في مجالها المحدود أم تظل نسبية؟ وما مدى قدرتها على الحسم المعرفي خارج مجالها المعلوم؟ كما ذكرت في الإجابة عن السؤال الأول العلم التجريبي يمكننا من التعامل مع العالم المادي والطبيعي فقط. بل حتى في هذا المجال فالتجربة لا تشكل إلا جزءا من المنهج التجريبي، تسبقه الفرضية ويليها التحليل والاستنتاج العقلي وكلاهما مبنيان على مسلمات لا تخضع للتجربة وللحس. كما هو الشأن بشكل أوضح في مجالات معرفية محسوسة كعلم الاجتماع وعلم السلوك والاقتصاد، التي تبقى فيها المعلومة نسبية إلى درجة كبيرة. أما خارج نطاق العالم المادي المدرك بالحواس أو بالآلات خارج هذا المجال، فالعلم التجريبي ليس قادرا على الإجابة عن الأسئلة الكبرى. بل تبقى حقائقه ملكا مشاعا لمختلف التيارات الفكرية والعقدية، تأخذ منها ما تراه صالحا لإثبات صدقية معتقدها أو كفيلا بدحض العقائد المخالفة. وحين يخوض الباحث التجريبي في هذه المجالات، فإنه ينزع وزرة الباحث ويرتدي عباءة الكاهن أو الفيلسوف أو عالم الدين. وهنا تكمن ممارسة الخداع حين تلبس العقائد الباطلة كالإلحاد والباطنية وما أضحى يسمى في الغرب “العصر الجديد”، New ageلباس العلم التجريبي وتموه على السذج وخاصة حديثي الأسنان، وتوهمهم أن مذاهبهم مبنية على التجربة العلمية وعلى العقلانية، وذلك باستخدام مفاهيم ومصطلحات مستقاة من العلم التجريبي مع إعطائها دلالات عقدية وفلسفية. خاصة إذا كان الباحث ذا صيت كبير في العلم التجريبي، فيستخدم رصيده العلمي للترويج لمعتقدات باطلة، كما نلاحظ ذلك في الروحانيات الحديثة؛ خاصة ديانة العصر الجديد التي افتتن بها الكثيرون ومنهم بعض الملتزمين بالإسلام. السؤال الخامس: ربما الكثير من القراء والشباب عموما ليس لديهم معرفة بحقيقة “حركة العصر الجديد”، فهلا قدمتم تعريفا مركزا بها وكيف يلبسون تصوراتها لباس العلمية خداعا وتضليلا. أعداد هائلة من المسلمين وقعت عن جهل تحت تأثير هذه الحركة، أو الدين القديم الذي يقدم للناس حاليا في حلة جديدة جذابة، ومزينة زورا بحقائق علمية وبنصوص دينية لممارسة التدليس على المتدينين. ومظاهر هذه الحركة متعددة منها ما هو سياسي وأكاديمي واجتماعي وهو الأبرز. ويتجلى هذا الجانب فيما يسمى بالتنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية والعلاج بالطاقة. هذا الدين له عقيدته وطقوسه وثوابه وعقابه وطريق الخلاص لمتتبعيه. أما أصله العقدي والذي يخفى على كثير ممن افتتنوا به فهو نهر آسن له عدة روافد وثنية من هندوسية وبوذية وأفلاطونية حديثة وهرمسية وغنوصية وقبالية وتصوفية باطنية. وما يوحد هذه السبل الشيطانية هي وحدة الوجود وألوهية الروح البشرية، وممارسة طقوس عرفانية وباطنية، تمكن الإنسان من العودة إلى أصله وتوحده مع الإله. وما يخفى على أتباع هذه الديانة أن الإله المقصود هو إبليس الذي يعتبرونه إله النور والمعرفة، الذي حرر الإنسان من قبضة الله سبحانه، الذي يعتبرونه إله القسوة والجبروت، والذي منع آدم من شجرة المعرفة ليبقيه تحت سلطته، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فالأوامر والنواهي الواردة في كتب الوحي المنزل، يعتبرونها حجرا على حرية الإنسان، فجاءت الفلسفات الإلحادية والروحانيات المحدثة لتحرير الإنسان وسن كل القوانين التي ترغب فيها الفطرة المنكوسة؛ من ممارسات أجمعت كل الشرائع الدينية على إدانتها ومعاقبة مقترفيها، وعلى الوعيد الشديد من الله لمن مارسها واستحلها من شذوذ وزنا المحارم وغيرها. أما لباس العلم الذي يسبغ على هذه الممارسات فهو نوعان؛ منه ما هو شرعي يبرر لألوهية الإنسان وأن بإمكانه تحقيق كل رغباته عن طريق قانون الجذب. فأتباع هذه الحركة من المسلمين والإسلاميين يستعملون نصوصا شرعية للاستدلال على ضلالهم كالآية الكريمة: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والقول الذي ينسبونه زورا للرسول صلى الله عليه وسلم: تفاءلوا بالخير تجدوه، والصحيح أنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الفأل الحسن. ومن أغرب الاستدلالات اعتبار الرقية الشرعية مقتبسة من الريكي، واعتبار العقد المذكورة في سورة الفلق هي الشاكرات، التي تحل عن طريق اليوغا والتأمل. من ناحية أخرى يتم استغلال نظريات فيزيائية كفيزياء الكم للاستدلال على وهم الطاقة الروحية التي تمكن من العلاج، بالإضافة إلى نظريات من علم الأحياء كالمجال المغناطيسي للقلب، والذي بزعمهم يتحكم في الدماغ وبالتالي في الأحاسيس والأفكار والعواطف والسلوك. ويستدلون على ذلك جهلا ببعض الحقائق العلمية التجريبية التي أثبتت أن هناك خلايا عصبية في القلب لقبت مجازا بالدماغ الصغيرthe little brain، والآيات التي تتحدث عن القلب في القرآن وكونه مصدرا للتعقل والتفكر والتذكر. علما أن جمهور المفسرين ينصون على أن القلب المذكور في القرآن لا يعني العضو العضلي الموجود في الصدر؛ والذي له دور حيوي بالنسبة للبدن بما أنه المسؤول عن الدورة الدموية بل المقصود به قلب غيبي لا يمكن إدراك كنهه عن طريق الحواس. السؤال السادس: ما هي العوامل التي دفعت بقوة في اتجاه تخلي بعض المفكرين نسبيا عن التهويل العلمي، الذي كان قد صاحب الثورة الصناعية، وما نجم عنها من الانبهار بإمكانيات المنهج التجريبي، في كشف الحقائق التي يلهث الإنسان دوما وراء تحصيلها. لا ينبغي التهوين من قدرة العلم التجريبي وفعاليته في الإجابة على كثير من الإشكالات وإسهامه في تقديم حلول ناجعة وفعالة في مختلف مناحي الحياة البشرية ولا ينبغي التهويل أيضا. فأنت حين تركب الطيارة أو تستعمل الهاتف أو الحاسوب أو تذهب إلى مختبرات التحليل الطبي، أنت ضمنيا تؤمن بالحقيقة العلمية التجريبية العملية. إلا أنه منذ القرن السابع عشر مع ديكارت Descartes وفرانسيس بيكون Francis Baconثم فلسفة الأنوار في القرن 18 وما تبع ذلك إلى بداية القرن العشرين، كان كما قلتم تهويل للعلم التجريبي، والادعاء بأنه قادر على حل جميع المعضلات، والجواب على جميع التساؤلات بما فيها الأسئلة الفلسفية والغيبية، وأنها ليست إلا مسألة وقت حتى يتمكن الإنسان من السيطرة سيطرة كاملة على الكون. بل اعتقد أصحاب هذه المذاهب المادية أن العلم التجريبي سيكون مصدر خلاص للعالم، وسيمكن الإنسان من دخول جنة الأرض دون انتظار جنة الآخرة. إلا أن عوامل كثيرة منها الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقنابل هيروشيما Hiroshima ونكازاكي Nagasaki وحروب الفيتنام وكوريا، والجرائم البشعة التي حصدت مئات الملايين من الأرواح، والتي كشفت عن الجانب الآخر المظلم للعلم التجريبي، جعلت كثيرا من علماء الغرب ينظرون إلى هذا العلم بحذر كبير، ويدعون إلى مزيد من التواضع والعودة إلى القيم الروحية. هذا فيما يخص الشق الأخلاقي لكن فيما يخص البحث التجريبي المحض، فقد أثبت التقدم التقني والتجريبي حدوده أمام عظمة هذا العالم ودقته على المستوى الكوني، وبين عدم قدرة الإمكانات التقنية الهائلة على سبر أغواره رغم النظريات الحديثة لفيزياء الكم والنسبية، اللتان كانتا مصدرا لاكتشافات هائلة مكنت الباحثين من تصور محتمل للحظات الأولى لنشأة الكون طبقا لنظرية البيغ بانغ Big Bang أو الانفجار العظيم وتشكل المادة، إلا أن هذا المجال لا زال محكوما بالاحتمالية والجهل المطبق لمعظم خصائص نشأة الكون. أما في العالم المتناهي الصغر، فرغم التقدم التقني يبقى العلم التجريبي محدودا، وقاصرا كذلك عن الإحاطة بمعظم الأسرار، التي تحجب الخصائص العميقة لهذا العالم. فقد تم اكتشاف جزيئات مكونة للبروتونات والنوترونات Protons et Neutrons وهي الكوارك Quark وتم اكتشاف الطاقة الهائلة التي تضم هذه الجزيئات فيما بينها كما تم اكتشاف ما يسمى ب بوزونات هيغس Bosons de Higs، والتي يظن أنها المسؤولة عن إعطاء الكتلة للمادة وبالتالي هي المسؤولة عن تكون النجوم والكواكب والمجرات. إلا أن حقيقة وكنه هذه الجزيئات لا يزال يكتنفه غموض كبير. مجال آخر ظهر فيه قصور العلم التجريبي عن الإحاطة بكنهه، بل يتعاظم فيه المجهول كلما توغل فيه البحث التجريبي؛ وهو ميدان الخلية وعالم الأحياء. وأكثر المجالات تعقيدا نجدها فيما يخص المعلومة الوراثية أوDNA، ومجال العلوم العصبية وجهاز المناعة. ولعل ما يحدث حاليا من تخبط في التعاطي مع جائحة الكوفيد راجع الى التعقيد الكبير الذي تمتاز به المادة الحية، وقصور العلم التجريبي في التعاطي مع هذا التعقيد. السؤال السابع: يقولون بأن الحقيقة العقلية الغير قابلة للتجربة تكون دوما نسبية، والحقيقة القابلة للتجربة قد تكون أقرب إلى الواقع. فإلى أي حد تتفقون أوتختلفون مع هذه القاعدة وما هو تقويمكم لها؟ في الميدان المادي كثير من الحقائق الحسية، التي كانت تعتبر مطلقة تبين فيما بعد بأنها خاطئة. فالإنسان كان يرى يقينا أن الشمس تدور حول الأرض، فتبين بعد ذلك أن العكس هو الصحيح وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس. وحتى هذه الحقيقة أصبحت محل نظر مع نظرية النسبية التي صاغها إنشتاين. ومع تقدم التكنولوجيا المستعملة في البحث التجريبي يتم دحض أو تجاوز كثير من النظريات التي تمتعت بمصداقية لفترة طويلة. أما الحقائق العقلية فمنها ما هو مبني على الرياضيات والمنطق وهو يتسم بالدقة مع الأخذ بعين الاعتبار الانتقادات التي وجهت للمنطق، ومنها ما هو مبني على الحدس وعلى التلقي عن طريق السمع كالمعتقدات، فهذه إن كانت مبنية على الوحي القطعي الثبوت والقطعي الدلالة فهي تفيد اليقين، وهذا هو حال النصوص الشرعية من قرآن وسنة صحيحة إذا استثنينا النصوص المتشابهة أو الظنية ثبوتا أو دلالة، وقد تكون باطلة إذا خالفت المسلمات العقلية أو النصوص الشرعية الصحيحة وهذا هو حال المعتقدات والفلسفات الباطلة. السؤال الثامن: لكن القضايا الإيمانية أحكام عقلية غير خاضعة للتجربة، وذلك لم يمنع كونها حقائق مطلقة عند المؤمن، ولو دخل شيء من الشك فيها لبطل الإيمان بها، وفي المقابل تجد من اختار أن يجحد بها وينفيها. كيف يمكن تفسير ذلك؟ هي حقائق مطلقة عند المؤمن ولا إيمان مع الشك، لكن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يلزم بها من لا يؤمن بها. وهو لوشاء سبحانه لهدى الناس جميعا، ولنزل عليهم آية من السماء فظلت أعناقهم لها خاضعين كما جاء في القرآن الكريم. ولكن شاء سبحانه وقدر أن يكون هناك مؤمن وكافر. أما المؤمن فسلك طريق الهداية فوفقه الله وأما الكافر فسلك سبيل الغواية فزينته له النفس والشيطان. وأصل الضلال إما شبهات أو شهوات. وضلال الشبهات أشد من ضلال الشهوات. فالحقائق الغيبية لا يتوصل إليها إلا من طريق الوحي الصحيح. والعقل والفطرة إذا كانا سليمين يدفعان الإنسان إلى الاعتقاد بوجود خالق، وأنه خلق الخلق لغاية ولحكمة وليس عبثا. ومعطيات العلوم التجريبية داعمة بطبيعتها للإيمان ما لم يتعمد توجيهها ضده، وهذا الاعتقاد يحفزه على البحث عن الحق، فإن كان يريد الخير والحق فإن الله سيوفقه للدين الحق وهو الإسلام والكتاب والسنة، اللذان سيجد فيهما اليقين والشفاء من الحيرة ومن الضلال. أما من ملأ قلبه هوى وزيغا فإنه يتبع المتشابه من الكتاب ابتغاء تأويله ويقول على الله بلا علم. وهذا الصنف يتفاوت ضلاله بدرجة قربه أو بعده من الكتاب والسنة.. والدليل على ذلك أن بعض من ولدوا في بيئة مسلمة وإيمانية ربما انتهت بهم الأهواء إلى الإلحاد، وبالمقابل فإن من نشأوا في بيئة غير مسلمة قد تصل بهم إرادة الإيمان إلى الهداية لدين الحق. السؤال التاسع: من المعلوم أن تطور المعرفة العلمية يمكن من اكتشاف الكثير مما كانت البشرية تجهله؛ فهل يتوقع تقليص مساحات الجهل الإنساني والإمساك بخيوط الحقيقة المطلقة في المستقبل مع تقدم البحث العلمي وزيادة وتيرته؟ التقدم العلمي التجريبي لا يتوقف منذ فجر التاريخ، واليوم نحن نعيش تطورا هائلا في وسائل وتقنيات البحث، مكنت الإنسان من الكشف عن أسرار كانت خفية، بدءا بما هو متناهي في الصغر كعلم الذرة وفيزياء الكم إلى علم النجوم مرورا بأسرار الخلية والمادة الحية. ولقد مكنت التطبيقات لهذه العلوم من الحصول على فوائد جمة خاصة على المستوى التكنولوجي. ولعل الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي (Big data – Deeplearning) سيمكنان الإنسان من تسريع وتيرة الاكتشافات. فهذه التكنولوجيا تتمكن من معالجة بلايين البيانات في الثانية، مما لم يكن بإمكان العقل البشري أن يتعاطى معه. ولعل هذا المعنى هو المقصود من قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5]. فبالذكاء الاصطناعي يتمكن الانسان من التصدي لظواهر ومعلومات كان التعامل معها مستحيلا قبل ذلك. وستمكن هذه الوسائل من توسيع دائرة الاكتشافات، إلا أنها في نفس الآن تكشف عن عوالم ما كانت تخطر على البال مما تتسع معه دائرة المجهول. إذن فالاكتشافات العلمية تجعل الانسان أكثر وعيا بجهله، والمفترض أن يدفعه ذلك لمزيد من التواضع. إلا أن الإنسان كما ذكر الله في نفس السورة: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]. حين اعتقد أنه استغنى بما من الله به عليه من العلم، فظن أنه بعلمه هذا يمكن أن يستغني عن الله وأن يخضع الكون لإرادته. إلا أن الضعف البشري سرعان ما يتجلى ويتأكد، فمثلا حين سلط الله عليه فيروسا ضعيفا، مكونا من معلومة وراثية تحتوي على ثلاثين ألف حرف وراثي؛ تمكنه من التكاثر داخل الخلية وإنتاج بلايين النسخ منه، فأودى بحياة أربعة ملايين شخص خلال سنة ونصف، ولا يزال الإنسان عاجزا عن السيطرة عليه. كما أن النشاط الاقتصادي المبني على هذا التقدم العلمي لم يكن نافعا كله دون أي أضرار، بل أدى إلى تغيرات مناخية مدمرة، وإلى تلوث للبيئة اكتسح البر والبحر، بالإضافة إلى التردي الأخلاقي من شذوذ ومخدرات، وجرائم منظمة كالاتجار بالبشر وإبادة شعوب وبلدان عن آخرها. السؤال العاشر: يصح القول بأن المجهود البشري في مجال العلوم التجريبية، لا يعدو كونه ممارسة استخلافية محصورة في اكتشاف القوانين الثابتة، التي أجرى الله عليها خلقه حيا وجمادا، وقيام الإنسان المستخلف باستغلال ما ركبه الله فيها من قابليات التسخير والتطويع والتكييف مع حاجات الإنسان، للقيام بمهام العمران في شتى مجالاته المختلفة. فكيف تقيمون إسهام العلم التجريبي في تمكين الإنسان من ممارسة الاستخلاف في الأرض، على نحو غدا أكثر بروزا في العصر الحديث، وبشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية؟ لقد جعل الله آدم خليفة في الأرض وكرم ذريته، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا. ووهب له عقلا وعلمه الأسماء كلها وأسجد له ملائكته. وقد مرت على البشرية قرون مارست فيها الاستخلاف، دون اكتشاف الكثير من القوانين والسنن التي أودعها الله في السماوات وفي الأرض وفيما خلق الله من نبات وحيوان. ولقد تداولت عدة شعوب الزعامة وسيطرت على مناطق شاسعة من الأرض؛ فشيدت حضارات مذهلة كالحضارة المصرية والصينية والبابلية والإغريقية والرومانية وغيرها. وطورت هذه الحضارات علوما بلغت فيها شأوا كبيرا خاصة في الرياضيات والفلك والطب. بالتوازي مع ذلك طورت هذه الحضارات فلسفات وديانات وعقائد، ربما كان أصلها ما أوحى الله به إلى رسله، إلا أنها أدخلت عليها من التبديل والتحريف ما جعل منها إلحادا في آيات الله وأسمائه. ورغم ما وصلت إليه هذه الحضارات من عمران وعلم وأنظمة سياسية واجتماعية متقدمة، إلا أنها في الميدان العلمي اعتمدت على التنظير والملاحظة دون خوض تجارب لاستكشاف القوانين الفيزيائية للكون وللمادة. وأهم ما كان يمارس عمليا هو الكيمياءl’Alchimie وهي ممارسات لا عقلانية مبنية على الفلسفة الهرمسية نسبة إلى هرمس. وكان الفلاسفة الذين يمارسونها يبتغون تحويل المعادن الخسيسة كالرصاص إلى معادن نفيسة كالذهب، عن طريق حَجَر الفلاسفةPierre philosophale أو اكتشاف الإلكسير Élixir، الذي سيمكن من شفاء جميع الأمراض. فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين الحق، حرر العقول من الشرك ومن الخرافة، ففك الاشتباك بين ما هو غيبي وما هو طبيعي، ثم أعاد تنظيمه على أسس متينة: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”. فكأنما هيأ العقل البشري لخوض غمار التجربة ومساءلة العالم المادي، لاستخراج وفهم النواميس التي أودعها الله فيه. ولما ترجمت علوم الحضارات السابقة وخاصة الإغريقية، تمكن منها العلماء المسلمون وأبدعوا فيها رغم أن غالبيتهم أخذ منها الغث والسمين، فخلطوا بين الطبيعيات والغيبيات تبعا لفلسفة أرسطو. فكانت هناك إضافات وإبداعات غنية جدا في الطب والفلك والرياضيات والكيمياء. بل استدرك العلماء المسلمون على الإغريق كابن الهيثم في البصريات والفلك والتشريح، والرازي في الطب والخوارزمي في الرياضيات وجابر ابن حيان في الكيمياء. وبغض النظر عن مساهمة العلماء المسلمين في تطور العلوم يبقى الإسهام النوعي والذي أحدث ثورة في التعامل مع نواميس الكون، هو عدم الاكتفاء بالتنظير والملاحظة بل الاحتكام للرصد والتجربة، للتمييز بين الصواب والخطأ في المعارف الطبيعية، واختبار صحة النظريات بالاحتكام إلى التجربة. هذا المنهج التجريبي الذي لازال معمولا به إلى اليوم، هوما مكن الإنسان من اكتشاف القوانين والنواميس التي أودعها الله في الطبيعة. كما أن استغلال هذه النواميس مكن الإنسان من إحداث ثورة علمية وتقنية غيرت وجه العالم على مدى عدة قرون، وأفضى بالبشرية للتطور المذهل الحالي. لقد مارس الإنسان مهمة الاستخلاف اعتمادا على ما حققه من خلال العلم التجريبي، مما أدى إلى تحسين ظروف الحياة من نقل وشغل وصحة ومواصلات وتعليم، بشكل لم تشهد له البشرية نظيرا، وبات الحديث عن دولة الرفاه نسبة إلى ما تحققه الدول لمواطنيها. إلا أن هذه الممارسة الاستخلافية رافقها انحدار على المستوى الديني والأخلاقي كانت له انعكاسات كارثية على المستوى الأمني والاجتماعي والبيئي. فعلى المستوى الأمني أدى هذا التطور للدول الغربية إلى الهيمنة على دول العالم، التي بقيت على الهامش ومعظمها دول إسلامية، بحثا عن الموارد والأسواق مما أدى إلى المنافسة الشرسة بين الدول الاستعمارية كانت سببا لحروب عالمية طويلة ومدمرة. وعلى المستوى الاجتماعي عرفت الدول الأوروبية تفككا أسريا وانحدارا أخلاقيا وتحررا من جميع القيود الشرائعية، وأصبح هم الإنسان تلبية رغباته دون رقيب أو حسيب. وساهمت في ذلك الفلسفات المادية التي أعلنت عن موت الإله كما زعم نيتشه، والتي أوهمت الشعوب أن لا حساب ولا عقاب ما دام المرء يحترم حقوق الآخرين فله أن يمارس كل ما يحلو له وما يشتهيه، وأن الأخلاق نابعة من ثقافة المجتمع وليست مستمدة من الوحي. وما دام كل شيء تطوريا فالأخلاق كذلك يجب أن تتطور دون ثوابت، فاستُحل الزنا والشذوذ، وهم يخططون لإباحة زنا المحارم وممارسة الزنا حتى على الأطفال، تحت ذريعة الحقوق الجنسية التي تنادي بها الأمم المتحدة. أما على المستوى البيئي فقد أدى النموذج التنموي الناتج عن العلوم التجريبية، إلى استنزاف الثروات والمياه الجوفية وتدمير الغابات، وتلوث الهواء والتربة والأنهار والبحار، مما أدى إلى التغير المناخي الذي ينذر بكوارث طبيعية واجتماعية وسياسية مدمرة؛ كارتفاع نسبة الفقر والهجرة والمرض والعنف بشتى أشكاله. وعلى المستوى السياسي فقد تشكلت مِؤسسات دولية كنواة لحكومة عالمية، تمارس سلطتها على دول العالم مستعملة ضغوطا مالية واقتصادية وسياسية وعسكرية، مما أدى إلى رهن مقدرات هذه الأمم للدول الغربية، وجعل مواردها البشرية والمادية رهن إشارتها. إذا يمكن أن نتحدث عن استخلاف مبني على العلم التجريبي واستغلال ما أودعه الله في الكون من نواميس، إلا أن هذا الاستخلاف بني على منهج عقائدي وأخلاقي مناف لإرادة الله الشرعية رغم موافقته لإرادته القدرية. فهو رغم ما حقق من قوة ومنعة وسطوة فإنه لن يعدو قدر الله {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. السؤال الحادي عشر:يُعرف العلم التجريبي بكونه علما وصفيا يوفر غالبا معلومات ظاهرية وجزئية وإجرائية مفيدة، لكنه قد لا يقدم تفسيرا كافيا ولا حقائق نهائية في الكثير من إشكالات المادة خاصة و قضايا الحياة وتحدياتها عامة. نريد منكم شيئا من التوضيح. أهداف العلم التجريبي نوعان. معرفي ويتعلق بدراسة العالم المادي لفهم خصائصه وماهيته وتفاعله. وهذه المعرفة ازدادت دقة على مدى عدة قرون ووصلت لمستوى الذرة وأجزاء الذرة، وعند هذا المستوى بدت الخصائص والتفاعلات مختلفة عما عهده العلماء في العالم المرئي، أوما يسمى بفيزياء نيوتن التي تتسم بالحتمية وإمكانية توقع التحولات التي تطرأ على الأجسام بحسابات رياضية دقيقة. فأبحاث فيزيائيين كإنشتاين Enstein وبورBohr وهيزنبيرغ Heisenberg وشرودنغر SchrodingerوبلانكPlanck أوضحت مثلا أنه لا يمكن معرفة مكان وسرعة الإلكترون في نفس الوقت، وأن الجزيئات لها طبيعة مزدوجة تتفاعل تارة على أنها موجات كهرومغناطيسية وتارة كجزيئات. وهذا الجانب المعرفي لطبيعة المادة لعله وصل إلى حدوده، نفس الشيء ينطبق على فهم طبيعة المادة الحية أوالحياة. فقد مكن التقدم التقني من الوصول إلى البنية الجزيئية للمادة الحية، وتبين أنها مكونة من نفس العناصر التي تتكون منها الجمادات بنسب مختلفة. ولعل أعظم الاكتشافات هي معرفة تكوين ال د ن أ DNA وفهم الشفرة الوراثية المكونة من شريط من ثلاثة ملايير حرف؛ تحوي كل المعلومات الوراثية الضرورية لتشكل أنسجة وأعضاء الجنين، وكذلك كل المعلومات الوراثية الضرورية لوظائف الخلية والأعضاء. ويشكل ظهور الشفرة الوراثية تحديا أمام التفسير المادي للحياة المبني على الصدفة، ذلك أن ترجمة هذه الشفرة إلى بروتينات تحتاج وجودا مسبقا للبروتينات التي تحتاج بدورها إلى شفرة لتكوينها فيلزم الدور كما يقول العلماء. ولذلك لم يكن من بد لكبير الملاحدة ريشارد داوكينز Richard Dawkins أن يصرح أن الشفرة الوراثية، ربما جاءت من الفضاء داخل المذنبات، التي اصطدمت بالأرض قبل ملايير السنين. وهذا التفسير الخيالي لا يحل المشكلة، لأنه لا يخبرنا عن أصل هذه الشفرة في الفضاء قبل وصولها للأرض، وأصل البروتينات الضرورية لقراءة الشفرة وتحويلها إلى بروتينات. والتحدي الكبير كذلك هو إنشاء كائن حي من ملايير الخلايا على شكل أنسجة وأعضاء متناسقة ومتكاملة، انطلاقا من شفرة وراثية داخل خلية واحدة ناتجة عن تلقيح البويضة من طرف الحيوان المنوي. فالخلايا تشتغل كطابعات ثلاثية الأبعادimprimante 3D ، تستقي المعلومة من الشفرة الوراثية، لتطبع أشكالا بديعة من الأنسجة والأعضاء، لإنشاء جسم متناسق ومتكامل، سميع بصير مفكر مريد في نهاية المطاف. فمن أين جاءت الشفرة الوراثية التي تفوق النظم المعلوماتية تعقيدا، والتي تزود الروبوتات والطابعات الثلاثيات الأبعاد بالمعلومات، التي تمكنها من إنشاء أشكال هندسية أقل روعة وكفاءة، من أبسط المخلوقات الحية. إلا أن هذه التحديات، التي تبين عجز الإنسان ومحدودية قدرته على فهم ماهية المادة، وتفسير أصل الحياة وفهم المادة الحية، كل هذه التحديات لم تمنع الإنسان من الإفادة من المعارف العلمية التجريبية المكتسبة واستغلالها، لإحداث ثورة تكنولوجية غيرت أسلوب حياة الإنسان في ظرف وجيز. فوسائل الاتصالات وتكنولوجيا النانو والذكاء الاصطناعي، والبوتيكنولوجيا وعلم الأعصاب، ستشكل أساسا لتغيرات عميقة في نمط الحياة، خلال العقود القليلة القادمة. إذن ما يتميز به العصر الحالي، هوالوقوف على مدى عجز الإنسان وجهله بحقيقة وكنه جميع مستويات الكون من جهة، وقدرته على تسخير الأسرار المادية التي تحَصل عليها، لتحقيق ثورات تكنولوجية هائلة، تنسيه ضعفه وتنفخ في غروره، وتدفعه إلى التجبر والطغيان من جهة أخرى. ولعلنا نقترب شيئا فشيئا من مفهوم الدجال، الذي يفتتن به معظم الناس في آخر الزمان، لما يجريه الله على يديه، من خوارق وأمور عظام، مع عجزه الحقيقي وهوانه على الله، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى الخوف منه في أعين الصحابة فقال هوأهون على الله من ذلك، كما في الحديث المتفق عليه، الذي رواه شعبة ابن المغيرة رضي الله عنه. ويبقى الإنسان قادرا على فهم السنن الكونية، التي أودعها الله في العالم المادي، والإفادة منها مع عجزه عن الوصول إلى الحكمة الإلهية، التي شاءت أن تكون الآيات الكونية على ماهي عليه، رغم أنهم يعتقدون أن تغيرات ولو جد طفيفة على المعادلات الرياضية، التي ينتظم بها الكون بدءا بالذرة والجزيئات، وانتهاء بالمجرات، سيؤدي إلى اختلالات هائلة في الكون، بل يجعل ظهور الكون والحياة مستحيلا انطلاقا من حساباتهم. هذه استنتاجاتهم الرياضية، لكننا على يقين أن الله شاء أن يكون الخلق على ما هو عليه، وأن لو يشاء لخلق الخلق طبقا لسنن مغايرة؛ فهو سبحانه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. فحين شاء جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، وقلب العصا حية، وشق البحر لموسى عليه السلام، وأحيا الموتى لعيسى، وأجرى آيات عديدة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. السؤال الثاني عشر: لعل مما يكرس ابتعاد العلم التجريبي عن بلوغ الحقيقة المطلقة، وما هو أدنى منها؛ وهو المعلومة الصادقة دون زيادة أو نقصان، ما يتعرض له أحيانا من سوء الاستغلال والتوظيف، في مآرب تجارية وسياسية وأيديولوجية. يتحول معها من أداة بناء وإعمار إلى أداة إفساد ودمار، وقلب للحقائق والتعتيم عليها وتزييفها. فهل تؤكدون هذا الاستنتاج؟ من أعظم الاختلالات التي يعرفها البحث التجريبي دخول الأهواء فيه. فالأهواء الأيديولوجية والمادية الربحية، تدفع المختبرات والشركات، بل حتى الدول، إلى توجيه الجهود البحثية بشكل غير موضوعي ومتحيز. وقد ظهر هذا جليا في أزمة الكوفيد الحالية بحيث قامت مختبرات ومجلات عالمية بنشر بحوث تبين فيما بعد بأنها مزورة. كما أن هناك أهواء أيديولوجية خلف عدة نظريات وعلى رأسها نظرية التطور؛ التي تدعم بمبالغ مالية هائلة، ويحارب كل من يعارضها بل يفصل من عمله، أو تقطع عنه الاعتمادات، وترفض المجلات نشر أبحاثه. رغم أن هذه النظرية لا تعدو كونها وجهة نظر؛ تحاول تفسير تاريخ ظهور الأحياء بميكانيزمات، أقل ما يقال عنها أنها تتنافى مع أبسط مقتضيات العقل، ولا دليل تجريبي عليها. كذلك الحال بالنسبة لنظرية النوع والحريات الفردية، التي تقنن للشذوذ وزنا المحارم، بل حتى شرعنة ممارسة العلاقات الرضائية مع الأطفال، بناء على أبحاث فاسدة، أجراها باحث فاسد على المنحرفين، وهو ألفريدكينسي Alfred Kinsey. هناك نوع آخر من التوظيف المضلل للعلم التجريبي وهو ما بات يعرف بالروحانيات الجديدة؛ وهي مزيج من الديانات الأسيوية والغنوصية والقَبالَة والتصوف الفلسفي، يقدم كل ذلك بلباس علمي، لتسويق معتقدات الطاقة الكونية، وقانون الجذب والشاكرات والريكي، وجعل المؤمن بها يعتقد بألوهيته وقدرته على التحكم في مصيره. السؤال الثالث عشر: يمكن القول بأنه كلما عجزت مناهج العلم التجريبي عن تفسير ظاهرة طبيعية لا يمكن إخضاعها للتجربة، يلجأ العقل الإنساني إلى نوع من الإيمان بالغيب، ليصوغ جوابا متلبسا بشكل ما بمنهج العلم التجريبي، يسد حاجته إلى ادعاء امتلاك الحقيقة، ولو كانت نسبية أو لنقل متهافتة، ويكون استبعاد تكذيبها تجريبيا، مغريا بالتمادي على هذا النهج الخادع، إلى أي حد تؤكدون هذا المسلك لدى أنصار نظرية التطور. الخداع يمارسه العلماء الماديون والملاحدة منذ القدم، وهو الخلط والتمويه بين العالم المادي والعالم الغيبي لإلغاء الإيمان بالعالم الغيبي. ولقد ظن هؤلاء خلال القرون الماضية، أن تتابع الاكتشافات مع الزمن ستمكن الإنسان من الإجابة عن جميع الأسئلة، بما فيها الأسئلة الوجودية الكبرى، وأن الكون بما فيه ليس إلا مادة مدركة بالحواس أو بالأجهزة، وأننا لن نكون بحاجة لعوامل غيبية لتفسير الوجود. لذلك وضع هؤلاء الفلاسفة نظريات مادية كنظرية التطور والتحليل النفسي والمادية الجدلية معتبرين أن الزمن والتقدم العلمي كفيل بتصديق هذه النظريات. إلا أن الحقائق جاءت عكس التوقعات وجرت الرياح بما لا تشتهيه السفن. أما المادية الجدلية والتحليل النفسي فقد ثبت تفنيدهما ولم يعد يتبناهما إلا الطوباويون الذين يمنعهم العناد من رؤية الأمور على حقيقتها. بقيت نظرية التطور صامدة أمام التحديات لعدة أسباب، منها ما هو موضوعي ومنها ما هو غير موضوعي. الجانب الموضوعي مبني على الأحفوراتFossiles وعن تاريخ ظهور الأحياء على وجه الأرض الذي عرف تعقيدا مطردا، ولكن ليس بالشكل الذي اشتهاه داروين، ويعطي انطباعا بتغير في أشكال الحياة مع تشابه بين هذه الأنواع وتشابه الخلايا المكونة لها. وهذا أمر محسوس ومبرهن عليه لا يستطيع أحد أن يجادل فيه. وانطلاقا من هذه المعطيات الموضوعية وضع داروين وجهة نظره لتفسير هذه الظاهرة، علما أن وجهة نظره ليست مبنية على أي تجربة على الإطلاق، بل فقط على الملاحظة في وقت كان فيه علم البيولوجيا بدائيا، ودون القدرة على الخوض في التفاصيل، ولتكون وجهة نظر داروين صحيحة يلزمه عدة أمور، على رأسها تفسير ظهور المعلومة الوراثية وهي شيفرة والشيفرة مناقضة للصدفة. فعندما نتحدث عن الشيفرة يلزم أن تكون قد وضعت من طرف حكيم عليم. وداروين لم يكن يعلم بوجود الشيفرة الوراثية أصلا، بل كانت الخلية تعتبر كائنا بسيطا مكونا من سائل يحتوي على بعض المواد العضوية والمسؤولة عن وظائف الخلية. ولحد الآن ليست هنالك نظرية أو تجربة تفسر أصل المادة الوراثية. بالإضافة إلى ذلك تستلزم وجهة نظر داروين وقوع طفرات عشوائية صغيرة جدا في هذه الشيفرة تتراكم على مدى ملايير السنين، ينتج عنها تغيرات طفيفة في أشكال الحياة، كان يتوقع أن يعثر عليها الباحثون في قابل الأيام. إلا أن الاكتشافات كذبت توقعاته؛ ذلك أنه خلال أكثر من 3 ملايير سنة لم تحدث إلا تغيرات طفيفة على الكائنات الحية، ثم بغتة وقع ما يسمى بالانفجار الكامبريcambrian explosion مابين 541- و530- مليون سنة أي حوالي 10 ملايين سنة ظهرت فيه معظم المخططات الجسمية plans d’organisation المعروفة حاليا، وهوزمن جيولوجي قصير لا يمكن أن يفسر بطفرات صغيرة تراكمية. فبينت الاكتشافات الأحفورية قصة أخرى لظهور الأحياء، وأنها ليست شجرة كما توقع داروين بل غابة تنفصل أشجارها بعضا عن بعض. بالإضافة لعجز النظرية عن تفسيير ظهور الإنسان بقواه العقلية الاستثنائية، وبقدرته على اللغة والكلام والفكر. والسؤال هو لماذا صمدت هذه النظرية رغم عجزها عن تفسير مقنع لظهور الأحياء. والجواب جاء في سؤالكم؛ ذلك أنها تحولت إلى عقيدة تبنتها القوى الغالبة، وأنفقت عليها الأموال وألزمت بها المناهج التربوية والبحثية، وحوربت كل النظريات المخالفة بعدة أشكال دون اللجوء إلى محاكم التفتيش كما كان سابقا، ولكن بالإعدام المعنوي والعلمي لكل من سولت له نفسه الكفر بهذه العقيدة الملحدة. فهناك علماء مرموقون عبروا عن رفضهم لهذه النظرية وتسفيهها، لعل أشهرهم عالم الأحياء الفرنسي المرموق غراسيه Pierre-Paul Grassé. فقد فند دور الطفرات العشوائية في ظهور الأحياء ودافع عن وجود إرادة موجهة للتطور. ولعل من أسخف النظريات في هذا المجال تعود لزعيم الإلحاد المعاصر داوكينز الذي يتحدث عن صانع الساعات الأعمى The Blind wachmaker، وهو عنوان لكتابه الذي يدافع فيه عن الداروينية، حيث اعتبر أن ظهور الكائنات الحية رغم دقة تصميمها تعود إلى الصدفة العمياء. وهذه قمة الغباء فهو حين عجز عن رؤية يد الخالق خلف بديع الصنعة توهم غياب الصانع. السؤال الرابع عشر: نريد أن نعود إلى محاولة تحديد علاقة الحقيقة المطلقة بالإيمان، بحيث إن الإنسان كلما وجد أن المعطيات المعرفية المتوفرة لديه سواء كانت تجريبية أو غير قابلة للتجريب لا يمكنها منحه إلا حقيقة نسبية، فإنه يكمل ما بها من النقص عن طريق الاعتداد بالنتيجة المحصلة المجاوز لطبيعتها النسبية، ليرفعها إلى درجة الحقيقة المطلقة، وهذا هو النهج المتبع في الإيمان بالغيب، الذي ينطلق من معطيات عالم الشهادة، ليبني في النفس اليقين المطلق بما خفي عن الحواس من عالم الغيب. فما رأيكم في هذا التوصيف؟ الاعتقاد في المسائل الغيبية، لا يمكن الحسم فيه انطلاقا من المعطيات الحسية، سواء كانت تجريبية أو استقرائية، لذلك فهي تحتمل الظن الغالب المفضي لليقين الجازم، كما تحتمل الظن الخفيف القابل للتحول إلى الشك المستحكم، والانتهاء إلى الكفر والجحود حسب الاستعداد النفسي، الذي غالبا ما يسبق على المعرفة ويتأكد ويزداد بعد تحصيلها، ومن ثم فهي مفتوحة على الخلاف في أوسع مداه. وتبقى الحقائق التجريبية ملكا مشاعا، كما قلت يتم حولها الإجماع في الغالب، رغم عدم تمكنها من الوصول إلى الحقيقة المطلقة، حول كنهها وطبيعتها الأصلية. فكل المذاهب تأخذ من هذه الحقائق التجريبية، ما يسعف مذهبها ويفند المذاهب المخالفة. ونفس الحقيقة التجريبية قد تدفع الإنسان إما للإيمان أو الكفر. هذا ليس فقـط في الحقائق الحسية والتجريبية، بل حتى في القرآن الكريم. كما جاء في سورة التوبة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]. إذا فنفس السورة ونفس الكلام يزيد المومن إيمانا ويزيد الكافر والمنافق كفرا ونفاقا. والقرآن آيات مسطورة والحقائق الحسية آيات منظورة، إذا توجه إليها القلب السليم، مريدا الحق وفقه الله وزاده هدى، أما إذا تيممها معاجزا متحديا سائرا وراء الشبهات والشهوات، زين الله له سعيه وأمد له في ضلاله وطغيانه ليزداد رجسا على رجس، ولكيلا يجعل الله له حظا في الآخرة، وليوفيه حظه كاملا في الدنيا: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. فالحقائق الحسية والتجريبية، التي يرى فيها المؤمن أدلة على علم الله وحكمته وقدرته ولطفه، يرى فيها الكافر دليلا على الصدفة والعبثية وغياب خالق مدبر حكيم، كما زعم كبيرهم داوكينز أن الصدفة العمياء تشبه صانع الساعات الأعمى، فهي وراء الخلق! متهما المؤمنين بالخرافة والجهل، ناسيا أن ادعاءاته لا تستند على يقينيات حسية وإنما هي عقيدة ووجهة نظر. ولقد أمر الله المؤمنين ألا يحزنهم كفر الكافرين، وأن يجادلوهم بالتي هي أحسن وبالموعظة الحسنة. وأخبرهم أن الهداية بيد الله يهدي بها من يستحقها فلا تذهب أنفسهم على الجاحدين والغافلين حسرات. السؤال الخامس عشر: إلى أي حد يمكن القول بأن المنهج العلمي التجريبي يحسم الخلاف ويوحد المواقف، ويحاصر الذاتية ويحد من تجاوزاتها مقارنة بمناهج العلوم الإنسانية؟ الخلاف بين البشر سنة إلهية لا يمكن أن يرتفع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأسباب الخلاف متعددة لا يتسع المجال هنا لعرضها. والعلم التجريبي مصدر من مصادر الحقائق التي تختلف درجات يقينيتها. ورغم أن حقائقه مادية ملموسة ويمكن التأكد من صدقيتها ويحصل على أغلبها الإجماع، إلا أن قصورها على العالم المادي وعدم قدرتها على حسم المعتقدات الفلسفية والدينية من جهة، ونظرا لما يتميز به الكائن البشري في غالب الأحيان من غياب للموضوعية واستفحال للذاتية والأنانية والنزعة القوية للظلم والجشع، فقد استمر الاختلاف بين البشر بل اشتد واتسع، وكانت نتائجه أكثر فسادا وتخريبا بالنظر إلى القدرة التدميرية الهائلة الناتجة عن تقدم العلم التجريبي. فمثلا الحربان العالميتان الأولى والثانية، واللتان وقعتا بين دول وصلت كلها آنذاك لذروة التقدم العلمي والتقني؛ قتل فيهما ما لا يقل عن سبعين مليون إنسان، بالإضافة إلى تدمير كامل للقارة الأوروبية، وهو ما يقدم الدليل الواضح، على أن العلم التجريبي كما بقية العلوم الإنسانية والفلسفية والدينية، غير قادر على حسم الخلافات بين البشر، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]. ويعتبر العلم التجريبي محايدا، إزاء الاستعمالات الصائبة والخاطئة لنتائجه من قبل الإنسان. حيث أن جل الاكتشافات والاختراعات لها تطبيقات سلمية وحربية وأخلاقية وغير أخلاقية. وتبقى المسؤولية على من يوجه هذه الاختراعات نحو التوجه الصائب أو الخاطئ. إنما يشترك الباحث في المسؤولية الأخلاقية، حين يساهم في برامج بحثية، مع العلم مسبقا أنها موجهة من قبل المسؤولين عنها لأهداف غير أخلاقية، كصناعة المخدرات والأسلحة البيولوجية والكيميائية والنووية. ويتحمل المسؤولية كذلك حين يزيف المعطيات العلمية لصالح جهات ترمي تحقيق منافع مادية، كالمختبرات المنتجة للأدوية أو منتجة للخمور أو الأغذية المضرة بالصحة. ونفس المسؤولية يتحملها الباحثون الذين يزورون المعطيات العلمية، لتمرير قوانين مخالفة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومخالفة للشرع الحنيف. وهذا كثير ومعروف موثق في كثير من الحالات؛ كالشيوعية والنازية والنظام الدولي الجديد، الذي يرعى نظرية النوع التي يراد فرضها قسرا على مختلف الدول والثقافات، اعتمادا على أدلة علمية واهية. السؤال السادس عشر: هل يمكن تصور استقلال العلوم الطبيعية عن التأثر بالثقافة المجتمعية، وما تشتمل عليه من معتقدات ونظام سياسي وأخلاقي، أم يكون لكل ذلك دخل معين قد يزيد أو ينقص ولا يختفي نهائيا، رغم التسليم بأن مجال الثقافة المجتمعية أقل تدخلا في نتائج العلوم التجريبية داخل الدول، مقارنة مع غيرها من المضامين المعرفية الأخرى؟ البحث التجريبي له أهداف معرفية، ترمي إلى استكشاف كنه المادة، وفهم الظواهر الطبيعية لهدف معرفي بحث. والإنسان جُبل على حب الاستطلاع وحب الاستكشاف لإشباع فضوله. ولعل هذا الدافع هو الذي كان وراء معظم العلماء والفلاسفة لمحاولة وضع تصور للكون، بل تجاوزوا ذلك فصنفوا في الغيبيات. ومرت عدة قرون اقتصر فيها العلم على الملاحظة والاستقراء والاستنتاج العقلي مع غياب التجربة. ولعل من أوائل من اعتمد التجربة كوسيلة لبلوغ الحقيقة هو ابن الهيثم، الذي وضع مصنفات في جل الحقول العلمية، معتمدا على التجربة، وإبداع عدة آليات، مكنته من إحداث ثورة علمية، أسست للعلم التجريبي في أوروبا بعد تبنيها من طرف كوبرنيك Copernicوغاليليو Galileo ونيوتن Newton وفرانسيس بيكون Francis Bacon وويليام هارفي ،William Harvey الذي استفاد كذلك من اكتشافات عالم مسلم فذ، وهو الطبيب ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية. والسؤال المؤرق هو لماذا نجح العلماء الغربيون حيث فشل العلماء المسلمون، في تحويل هذه الاكتشافات العلمية الجبارة إلى تطبيقات تفيد البلاد والعباد؟ والجواب أن العلماء في الغرب وجدوا تجاوبا وآذانا صاغية من طرف الحكام ومن طرف أصحاب المال، الذين كان أغلبهم من اليهود والذين لمسوا في هذا المنهج الجديد إمكانية هائلة لتطويع القدرات الهائلة الكامنة في المادة والسيطرة عليها بغية تحقيق الغلبة والغنى والتفوق. وهنا أعود إلى سؤالكم أن ما كان بحثا نابعا عن فضول علمي، أصبح بحثا عن منافع مادية نفعية، منها ما هو مشروع ومحمود ومنها ما هو سبيل للسيطرة والتجبر والطغيان. فاعتنى أصحاب النفوذ بالعلماء أيما اعتناء، وأسسوا الجامعات والأكاديميات وأغدقوا عليها الأموال. أما العالم الإسلامي فلم يلتفت حكامه وأغنياؤه لجهود العلماء الأفذاذ، ولم يلمسوا فيها ما لمسه نظراؤهم في الغرب. فالغرب تقدم لما لفظ فلسفة أرسطوAristoteالعقيمة، التي بقيت لقرون تدور في حلقة مفرغة، وأخذ بالمنهج التجريبي، الذي مكنه من الإفادة من الطاقة الكامنة في الطبيعة، بينما بقي المسلمون يجترون فلسفة ومنطق أرسطو الذي لا يقدم ولا يؤخر. بل الأدهى من ذلك انحدر المسلمون إلى درك أسفل، لما اعتمدوا الإلهيات الإغريقية خاصة الأفلاطونية الحديثة عن طريق الإسماعيلية، والتي أخذها عنهم التصوف الفلسفي عن طريق ابن مسرة وابن عربي وابن الفارض والرومي وغيرهم. وعوض أن يتجه المسلمون في مجال الغيبيات للقرآن والسنة، وفي الطبيعيات للملاحظة والتجربة، جمعوا بين الغيبيات والطبيعيات في شخص الإمام عند الشيعة، وفي شخص الولي والقطب، والغوث والأبدال والحقيقة المحمدية لدى السنة. فطلبوا الهداية ممن لا يهتدي وطلبوا العون والمدد من الموتى وأئمة الضلال. مساران مختلفان: غرب أخذ بأسباب المادة، فوصل إلى ما وصل إليه من قوة ومنعة وسيطرة، وشرق نسي كتاب الله وسنة رسوله وأدار ظهره للسنن الكونية وتبع الخرافة والجهل والشعوذة. وحين دخل الاستعمار بلاد المسلمين وجد أقواما لا يكادون يفقهون قولا، وحصلت الصدمة الكبرى التي لم نفق منها بعد بل عدنا إلى سيرتنا الأولى وإلى التصوف الفلسفي، بتشجيع من الغرب لما رأى فيه من مخدر ومشل للطاقات حتى يبقينا تحت رحمته. السؤال السابع عشر: بناء على ما بينتموه سابقا، هل يمكن استنتاج بأن الدين أكثر اعتبارا لحرية الإنسان ومسؤوليته، وأكثر تحقيقا لهما، لأنه مؤسس على الإيمان بالغيب وما يتفرع عنه من يقينيات مطلقة، لاتلزم إلا من أراد أن يلتزم بها وتجاوز فيها الشك إلى اليقين والنسبي إلى المطلق باختياره، عكس المنهج التجريبي الذي يعزل الذات عن مقرراته في الغالب الأعم، ويمارس عليها ضغطا أكبر وسلطانا أقوى لتسلم بنتائجه واستنتاجاته. لقد أنزل الله آيات بينات لهداية العباد، وكفل لعباده الحرية من شاء آمن ومن شاء كفر. ورتب على ذلك أحكاما شرعية وقدرية حسب الأحوال والظروف. كما أنه أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، والحديد كناية عن المادة وما أودع الله فيها من طاقة هائلة، من أخذ بها أخذ بالقوة والمنعة والبأس الشديد. فالآيات القرآنية تدور بين النفي والإثبات اللذان يوجبان التصديق، والأمر والنهي اللذان يوجبان الامتثال. إلا أنه في كلتا الحالتين يبقى التصديق والامتثال اختياريين وغير ملزمين. أما الحقائق الطبيعية فهي آيات كونية قدرية، يخضع لسلطانها المؤمن والكافر. فقد قدر الله أقدارا لا يمكن للإنسان الفكاك منها. إلا أن الله وهب الإنسان الحواس والعقل وسخر له ما في البر والبحر ودعاه للنظر والاستكشاف، ولم يمنعه من إخضاع هذه السنن والمخلوقات للملاحظة والتجربة للإفادة منها، ورتب على ذلك عواقب وجزاء في الدنيا والآخرة. فالإنسان خاضع للسنن الكونية قدرا، لكن الله وهبه كذلك القدرة على إخضاع هذه السنن وتسخيرها لما ينفعه في دنياه وآخرته، وهومحاسب ومجازى على سلوكه فيما وهبه الله إياه، حسابا في الدنيا لا يعيه إلا أولو الألباب، وحسابا في الآخرة يراه المؤمن والكافر، فيثيب الله المؤمنين بإيمانهم، ويعاقب الكافرين بكفرهم، في يوم القيامة {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. فلقد شاء الباري جلت قدرته، ألا يلزم الناس بالآيات الكونية، وترك لهم الاختيار من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، كما أن آيات الوحي لا تلزم الناس بالإيمان، بل تترك لهم المجال مفتوحا ليتخذوا الاعتقاد الذي يريدونه، متحملين بذلك مسؤوليتهم أمام الله كاملة يوم القيامة. والتعويل على الاكتشافات العلمية لإقناع الناس بالدين الحق لا يراعي هذه الحقائق. وهذا لا يمنع من إقامة الحجة على العباد، انطلاقا من الآيات القرآنية و الآيات الكونية، و هذه مهمة الرسل و من تبعهم من المؤمنين، الذين عليهم البلاغ وعلى الله الحساب، ولكي لا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل. السؤال الثامن عشر: من المعلوم أن ممارسة الأبحاث والدراسات في أي حقل معرفي، لا تجنى ثمارها إلا على أساس التوجه الفكري، الذي يشتغل الباحث في إطاره، وهذا التوجه تتأتى غالبا صياغته من خارج الحقل المعرفي التخصصي نفسه، فالتوجه الفكري والاستعداد النفسي، هو الذي يفسر المعلومات المحصلة والخاضعة بطبيعتها للتوظيف الذاتي، المختلف والمتفاوت بين الباحثين والدارسين ابتداء و بين عامة الناس انتهاء. كيف يمكن للباحث في مجال العلوم الطبيعية، أن يوظف الحقائق العلمية في تشكيل وتصحيح نظرته لنفسه والحياة، ويهتدي في مواجهة قضاياها الشائكة؟ البحث العلمي يرمي إلى الحصول على معلومات موضوعية، حول مختلف مناحي العالم المادي أو عالم الشهادة. والباحث أيا كان توجهه الفكري أو العقدي، بإمكانه التعامل مع العالم المادي، لسبر غوره وفهم السنن التي تحكمه، والإفادة من هذه الخصائص فيما ينفعه. وسواء كان يهوديا أو نصرانيا أو مسلما أو ملحدا، يبقى تعامله مع العالم الموضوعي واحدا، وتبقى الحقائق الموضوعية المحصلة من الأبحاث متماثلة ومتشابهة. إلا أن هذا التعامل مع العالم المادي، تؤطره وترافقه وتلحقه نظرة خاصة للكون، تتمثل في الفكر والمعتقدات التي يتبناها الباحث. ورسوخ هذه المعتقدات في العقل والوجدان، لا تجعل الباحث ملزما دائما بتحري المسوغات والأدلة المادية والموضوعية، التي تسعف معتقداته، وإنما قد يختار خلاف ذلك تماما. وهذا يظهر جليا خلال المؤتمرات العلمية التجريبية، حين يلتقي الباحثون من مختلف الديانات يهودا ونصارى ومسلمون وملاحدة، ويناقشون مختلف البيانات والمعـطيات المادية بتجرد وموضوعية. بل يقنع بعضهم البعض بالأدلة القاطعة، التي لا تقبل الرد، بالنظر إلى ما وصلت إليه العلوم في مجال البحث، دون تشنج ودون مكابرة. أما المعتقدات فلا تناقش بتاتا خلال المؤتمر، بل قد تناقش خارج جدول الأعمال، أثناء تناول الطعام مثلا أو خلال الجولات، وحين ذاك تظهر الخلافات، وقد يشتد النقاش ويتمسك كل ذي عقيدة بعقيدته، ويحاول كل منهم استعمال المعطيات المادية المتفق عليها لتأييد مذهبه ومعتقده، وهو ما لا يسلم له به خصمه، ويفترقان وقد اتفقا على جل المعطيات المادية الموضوعية المقدمة في المؤتمر، مع بقاء كل منهما متمسكا بمذهبه لا يحيد عنه. والسؤال الذي قد يطرح، هو ما الذي يجعل الناس تغير من معتقدها في بعض المراحل من التاريخ؟ مثلا كان العرب على الإسلام والحنيفية، بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ثم تحول جلهم للوثنية بعد ذلك. كما أن الذين جاؤوا بعد المؤمنين بنوح وهود وصالح وموسى وعيسى عليهم السلام، سرعان ما بدلوا وغيروا؛ فمنهم من عبد الأوثان ومنهم من بدل وحرف وغير الوحي المنزل، وبلغ به الإلحاد في أسماء الله وآياته ما تجاوز به شرك الوثنيين. بل حتى الذين أسلموا وآمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم منهم من ارتد بعد وفاته، ومنهم من رام تحريف الدين الحنيف، بتأويلات باطلة للقرآن والحديث، وبوضع الأحاديث المكذوبة على الرسول عليه الصلاة والسلام، التي تخدم مذاهبهم الباطلة كالشيعة والقدرية والإسماعيلية وغلاة المتصوفة. بل حتى البقية الباقية من الوحي في الديانات الكتابية، والتي كانت تعصم النصارى مثلا من الانحدار الأخلاقي، حتى هذه تم التخلي عنها تدريجيا، من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، فعم الإلحاد أوروبا وأمريكا، وتم التخلي عن منظومة الأخلاق، التي تجعل البشر متميزا، وتعصمهم من الانحدار لدرك الأنعام أو أضل سبيلا. وحتى المجتمعات الإسلامية، شهدت في الستينات والسبعينات مع بروز نجم الماركسية، شهدت موجة إلحاد عاتية، تلتها بحمد الله عودة للالتزام بالإسلام، عمت جميع البلاد الإسلامية، بل امتدت حتى للدول الغربية عن طريق المسلمين الأصليين، بل وبتزايد أعداد الغربيين الذين يهديهم الله للإسلام. ونشهد حاليا مع وسائل التواصل ومع الأحداث المأساوية، التي رافقت وتلت ما يسمى بالربيع العربي، نشهد موجة عاتية من الإلحاد،ومن الدعوة إلى التخلي عن ثوابت الإسلام، تحت مسمى التجديد وملاءمة الإسلام مع روح العصر. بل أدهى من ذلك اتبع كثير من الملتزمين بالإسلام، ما أصبح يعرف بالإلحاد الروحاني والباطني، مع إلباس كل ذلك لبوسا علميا تجريبيا. وهنا تكمن مسؤولية الباحثين التجريبيين، وعلماء الشرع الحنيف. فواجبهم تبليغ الدين الحنيف، دون تبديل ولا تغيير من جهة، وتبيان بطلان المذاهب الضالة، وأن هذه المذاهب لا تنبني على معطيات العلم المادي التجريبي، بل هي عقائد قديمة، تعود للفلسفة اليونانية والديانات الأسيوية، تبناها التصوف اليهودي والتصوف الفلسفي الإسلامي، ثم فلاسفة النهضة وفلاسفة القرن السادس عشر، وأهمهم ديكارت Descarte وسبينوزا Spinoza ولايبنتزLeibniz، لتشكل في نهاية المطاف العمود الفقري لما يسمى بفكر الأنوار، الذي نتجت عنه الثورة الفرنسية والمنظومة الأخلاقية، وحقوق الانسان والعلمانية من جهة، والمادية الجدلية من جهة أخرى. والفتنة التي يقع فيها كثير من الناس، هو ربط علاقة سببية بين هذه المذاهب الضالة والعلم التجريبي، نظرا لأن الذين شاء الله أن يظهر على أيديهم التطور العلمي والتقني، هم أنفسهم الذين يتبنون هذه المذاهب والفلسفات. وتجديد الإسلام في هذا العصر يجب أن يتم عبر فك الارتباط بين العلم التجريبي والتقني، والمبني على سنن الله من جهة، وبين المذاهب الباطلة من جهة أخرى،وذلك بإنشاء وتكوين كوكبة من الباحثين، لهم تمكن من العلم الشرعي وإلمام بالعلم التجريبي، واطلاع واسع على الأصول الفاسدة للمذاهب الفاسدة، وهذا ما يسهل تفنيدها أمام العوام. السؤال التاسع عشر: لقد أضحى اليوم انغلاق الباحث الطبيعي داخل تخصصه الدقيق، نهجا معيبا في ظل تشعب المسالك البحثية، في إطار كل حقل من الحقول المعرفية المتكاثرة، لأنه في هذه الحالة، يتعذر عليه امتلاك ناصية المقاربة المعرفية الشمولية، المتوقفة ضرورة على تنويع مصادر المعرفة قدر المستطاع، بإنجاز دراسات جامعية، جامعة بحسب الإمكان بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، أو الاهتمام كحد أدنى بالدراسات المنهجية، الخاصة بالمعارف المغايرة للتخصص. هل لكم أن تَبسُطوا للقراء تجربتكم الشخصية، وتقدموا توجيهاتكم في هذا الاتجاه؟ ليس من التجني، اعتبار كثير من الباحثين في الميدان التجريبي، مجرد تقنيين من الدرجة العالية، بالنظر إلى حجر اهتمامهم على تخصص يضيق يوما بعد يوم، بسبب تشعب الاختصاصات. ونادرا ما يحاول الباحث التجريبي الخروج من مجال اختصاصه، والاطلاع على التخصصات الأخرى وبالذات مجال العلوم الإنسانية، وتاريخ العلوم، وعلاقة العلم بالفلسفة و الدين. وهذا ربما راجع لمناهج التكوين، التي تبالغ في التخصص، وتهمل التكوينات الأفقية، التي من شأنها أن تربط بين التخصصات، و تسهل التواصل بين الباحثين من مختلف حقول المعرفة. ويبقى في هذه الحالة الجهد والاهتمام الفردي للباحث، هو الذي يمكنه من الاطلاع على حقول المعرفة خارج مجال تخصصه. ومهما بلغ هذا المجهود، فإنه يظل قاصرا، ما لم تنشأ هيئات و مراكز ومحاضن، توفر مجالا للتواصل وتلاقح الأفكار و تبادل التجارب. ولعل مركز الامانة يعد من بين الهيئات القليلة، التي توفر مثل هذه الفرص. وعودة لتجربتي المتواضعة، ونظرا لاهتماماتي العلمية بمجالات الغدد الصماء والعلوم العصبية والمناعة، وهي كلها أجهزة بالغة التعقيد، وتنم وظائفها عن تدبير محكم، ينطبق عليه ما بات يسمى بالتصميم الذكي والتعقيد غير القابل للاختزال، وهما مفهومان يتبناهما معارضو نظرية التطور الداروينية، فقد مرت بي عدة سنوات، اقتصرت فيها اهتماماتي بالتخصص التجريبي الضيق، إلا أن التحولات الفكرية التي رافقت بداية الألفية الثالثة، وموجات الارتداد عن الدين، والتشكيك في توابثه عامة وفي الإسلام خاصة، بالاعتماد الزائف على العلم التجريبي، كل ذلك دفعني إلى مزيد من الاهتمام بتاريخ العلم والفلسفة، والاطلاع على الأصول الباطنية للمذاهب المعاصرة، التي تتدثر بثياب العلم لنشر مذاهبها متبنية ما يسمى بالعلموية Scientism. ولست أزعم أنني أحرزت باعا طويلا في هذا الميدان، إلا أنني اعتبر نفسي قد وضعت قدمي على الطريق وإن متأخرا. وأرجو أن ينتبه الباحثون في ميادين الفلسفة والعقيدة والعلوم الشرعية، والباحثون في العلم التجريبي، للأهمية البالغة للتواصل بين هذه التخصصات، لبلورة منهج جديد يناسب التحديات الجديدة، التي تواجه الأمن العقدي للأمة، والتي تشكل أزمة وجود، إذا لم يتم التعامل معها بما يلزم، فقد يتكرر عندنا السيناريو الأوروبي خلال القرون الثلاثة الماضية، والذي أدى إلى انتكاسة خطيرة بالتطبيع مع الإلحاد، ومع النظم الأخلاقية المصادمة لثوابت الدين. فقد بات ضروريا إقامة مراكز وهيئات كمركز الأمانة وإمدادها بما يلزم من موارد مادية وبشرية، تمكنها من القيام بالدور الريادي المطلوب لمواجهة التحديات الجديدة. وبالله التوفيق وعليه الاتكال.