أطروحة دكتوراه من إنجاز الباحث: طارق أوميرة، بمركز دراسات الدكتوراه: الآداب والعلوم الإنسانية والفنون وعلوم التربية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، تكوين: التاريخ والتراث، مختبر العلوم الدينية والإنسانية وقضايا المجتمع، تخصص: العقيدة والفكر الإسلامي، وتمت مناقشتها يوم الأربعاء 04 محرم 1446هـ/ الموافق 10 يوليوز 2024م.
وقد تكونت لجنة المناقشة من الأستاذ الدكتور: إدريس الشرقي رئيسا، والأستاذ الدكتور: لخضر بن يحيى زحوط عضوا، والأستاذ الدكتور: محمد البنعيادي عضوا، والأستاذ الدكتور: الحسن حمدوشي مشرفا.
تقرير البحث:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن مطلب تجديد علم الكلام أضحى من الظهور بحيث لايمتري باحث في وجوبه، ذلك أن المباني الفلسفية الحديثة، والمرتكزات العلمية المعاصرة، والأسئلة الميتافزيقية وغيرها لدى إنسان اليوم أبرزت قصورا في الأسس المنهجية، وضعفا في المعرفة الكلامية القديمة، أو على الأقل جعلتها غير ذات موضوع بالنسبة للواقع المعرفي الجديد.
وأمام هذه المطلبية الشرعية والواقعية كان لزاما على علماء الأمة ومفكريها البحث في سبل تجديد هذا العلم، واستلزم ذلك ضرورة بناء علم موف بمطالب النهضة والتحديث، يضمن له الاستمرار في الدفاع عن هوية الأمة ونظامها المعرفي في الصراع الفكري بين الفلسفات والعقائد.
لقد كان هذا وغيره باعثا على السعي في تجديد هذا العلم الذي يعتبر أصلا للدين، بإعادة النظر في مناهجه، وتوسيع حمى اشتغاله، بما يجعله في المقدمة الدفاعية عن النظام المعرفي الإسلامي، ومجيبا عن الأسئلة الجائشة في صدر الإنسان من حيث هو إنسان.
هذا، وإن المقصود ببواعث التجديد في هذه الدراسة (تجديد علم الكلام: بواعثه الموضوعية، وإشكالياته المعرفية والمنهجية –دراسة تحليلية نقدية-) ما يجعله مرآة لملاحظة الهيكلة الجديدة لعلم الكلام لا مجرد تعداد المثالب، أي ما يجعل المنطوق فيه مطية إلى المفهوم سلبا وجلبا، بمعنى تخلية علم الكلام من أوضاره، وتحليته بما استجد من المناهج والمعارف.
ولا منافاة بين تقييد هذه البواعث “بالموضوعية” وذاتية بعض المواقف من علم الكلام جملة أو تفصيلا، لأن قصدنا بها اعتبار المعتبر بقطع النظر عن حقيته في نفس الأمر، وعلى هذا الأساس حاولنا الوقوف على الموضوعي والذاتي من تلك المواقف، والعوارض الذاتية من الغريبة… مستحضرين في ذلك السياق التاريخي لبلورة هذه الأفكار والاتجاهات في علم الكلام الكلاسيكي، لأن عزل كلمة عن سياقها مخل بالمقصود، فكيف بعلم تداخل فيه التاريخي بالسياسي، والأصيل بالدخيل؟
ثم إن قصد هذه الدراسة من “المنهج” ما هو شامل لمسالك الاستدلال أصولا وفروعا، أجناسا وأنواعا، ومن “المعرفة” ما هو أعم من مجرد المسائل.
ومما لابد أن نشير إليه: أن “علم الكلام الجديد” باعتبار مآله، هو مشروع من المشاريع البارزة في تجديد علم الكلام، وعلى هذا المبنى كان مجمل النقد منصبا على تصوراته الهيكلية للتجديد، سعيا في إبراز مشروع يستقي من ينبوع الكلام القديم وتصوراته ما يمكن أن يجعل أساسا في تجديد علم الكلام.
وعلى هذا المبنى تكتسي هذه الدراسة أهميتها من موضوعها الذي هو علم الكلام، ذلك أن مركزيته في المنظومة الشرعية، من حيث كونه كليا بالنسبة لها يجعل التجديد فيه سيما في بعض مبانيه زعزعة للمنظومة كلها.
وأهميتها تتجلى في استئناف جملة من الأحكام المأخوذة مسلمات عند جملة من الباحثين في موضوع التجديد الكلامي، ومحاولة التسامي عن الحوم بساحها في المشروع التجديدي، والأخذ بما استجد من المناهج والمعارف من غير التفات إلى موضوع العلم ومقتضياته، وما يستلزمه في تناول قضاياه ومطالبه.
كما أن هذا البحث مسهم في نقد جملة من التصورات التجديدية المتشربة لمبادئ الفلسفة واللاهوت الغربيين، المناقضة لأسس الفكر الكلامي، الساعية إلى تنزيله على النظام المعرفي الإسلامي، من جهة إلجام العقل عن الماورائيات، والاكتفاء بالأدلة الأخلاقية والنوازع النفسية في بناء المعتقد، والاستنجاد بالنسبية في تصويب الأنظار.
وعلى هذا الملحظ تم الاختيار لهذا الموضوع الذي هو من جزئيات الاهتمام بعلم الكلام وإشكالياته، ذلك لأنه أصل الدين، ولارتباط العلوم الشرعية به، إذ عليه مبنى مسائلها.
كما أن هذا العلم في عصورنا المتأخرة لم ينل حقه من الدراسة والبحث، وهضم كشأن علمائه، إذ نرى كثيرا من الأحكام الصادرة فيه تحمل من الهضم والتعميم ما يأباه الإنصاف، ويجفوه البحث العلمي.
وقد حاولت بيان بعض الظروف الموضوعية المؤثرة في السير الكلامي، ذلك أن قصور علم الكلام عن الغاية المرجوة منه مما لا يمترى في ظهوره، ولكن محاولة الوقوف على أسبابه واستكناه مكامن الضعف فيه محل نظر، وإلقاء اللوم على المتكلمين تجن وغلو، إذ توقف علم الكلام عن التطور لابسته سياقات اجتماعية ومعرفية أقصت المدرسة الكلامية، وأزرت بالمتكلمين، غير أنهم قد عاشوا عصرهم وأجابوا عن أسئلته، ووقفوا أمام الفلسفات والتيارات الفكرية بمختلف مناهجها، وليس من واجباتهم العينية ولا الكفائية الإجابة عن إشكاليات عصرنا، ولا مسايرة اهتماماتنا الآزفة.
إن دافع البحث في هذا الموضوع بالذات هو الرغبة في الاطلاع على المناهج المراد استثمارها، والمعارف المقصود إدراجها في البحث الكلامي الجديد، إسهاما منا في الدفع بالبحث في هذه القضايا لبناء علم قادر على القول في معترك الأنظار، ومستوعب لمرجعيات الأفكار.
كل هذا في محاولة تنقيح مناط بواعث التجديد من حيث كونها ملحوظة في صياغة التصورات التجديدية لعلم الكلام، وإن ذلك لمن الدوافع الموضوعية الباعثة على اختيار هذا الموضوع الذي بحث من جوانب اهتمت بتفصيل مكامن الضعف والقصور، من غير أن تصدر عن رؤية واضحة، أو تضع معالم جلية يمكن أن يبنى عليها هذا العلم من جديد.
وعليه، فإن هدف هذه الدراسة أصالة هو الدفع في تجديد علم الكلام بما يستوجبه الظرف الراهن، ويقتضيه منطق البناء المعرفي، ذلك أن النقد لجملة من قضايا التجديد في منطوقها غير دافع من حيث لحن الخطاب في السعي لوضع معالم إرشادية بين يدي الدعوة التجديدية، حتى لا تكون صيحة في واد، ولا سعيا في تباب.
ذلك لأن دافع التجديد من حيث كونه انفعالا بالواقع المعرفي والسياسي والاجتماعي قد غبر الرؤية التجديدية في فك الارتباط الاتفاقي والجعلي بين جملة من القضايا، والملابسات بين جواهر المسائل وأعراضها، ولوازمها البعيدة والقريبة… مما شرذم الباحثين في وضع تصور جلي يقف عند الأدواء تشخيصا، ويصف الدواء علاجا، إذ نجد طائفة تسعى إلى بناء نظام معرفي كلامي عقلاني غير آبه بالنقل، محملة تيار الأشاعرة والحنابلة انحطاط الأمة وارتكاسها في حمأة التبعية والتخلف، كما نجد أخرى تهرول نحو وأد هذا العلم الذي مزق الأمة كل ممزق، وذهب بها في الأهواء كل مذهب… فهذا وغيره يجعل من تجديد علم الكلام بما يقتضيه مفهوم الأمة الناظم لأطرافها أمرا في غاية الصعوبة، بل ويجعل منه في غياب منهج واضح أداة للتمزيق، ومسلكا للتفريق، ومرتعا للخواطر والاعتبارات بدل الحقائق الصادعة بالبرهان، إذ ما الغاية من التجديد إذا كان انبعاثا للطائفية الكلامية، والوجهة المذهبية، وإعادة صياغة “المثالب” بروح عصري.
وعلى هذا الأساس كان لابد من استحضار الأصول المرجعية، والمسالك الاستدلالية بارتباطاتها الظرفية في علم الكلام القديم، لإعادة النظر في تلك البواعث التجديدية من جهة كونها مرآة لملاحظة الهيكلة المعرفية للتجديد الكلامي، وما يستتبع ذلك من المعارف والمناهج المستدعاة بحكم المطلبية الواقعية… ولما كان للنظام المعرفي الكلامي تصور خاص من حيث مجموعه في نظرية المعرفة، أو هو الممثل للتصور الإسلامي في النظام المعرفي، كان لابد من استصحابه في تقويم تلك المناهج والمعارف من حيث طباقها لذلكم النظام.
فالغاية من هذا البحث هي محاولة بيان بعض معالم المنهج الكلامي وموضوعه بما يجعله حكما ترد إليه قضايا التجديد، لا من جهة تساميه عن النقد، ولكن من جهة دلالة برهان الصناعة عليه.
وأمام هذا المطلب التجديدي الساعي إلى استثمار بعض المناهج واعتمادها في البحث الكلامي الجديد من حيث عودتها على الأصول العقدية بالإبطال، أو قصورها عن المطلب الكلامي الساعي إلى إثبات وجوب وجود الباري لا مطلق وجوده… والسعي في توسيع حمى اشتغاله، وتنويع مسائله، بتغيير الوجهة العقدية إلى فضاءات معرفية أخرى يثار إشكال محوري مفاده: هل يمكن السعي في تجديد علم الكلام وفق هذه التصورات دون ضرب لأصوله الكلية، أوخدش لمبادئه المعرفية؟
ولنا أن نتساءل بين يدي هذا السعي -بقطع النظر عن مطلبيته-عن بعض المناهج المتخذة سبيلا للبحث والاستدلال في النظام الكلامي الجديد، -إن كانت هناك مناهج-ومدى ثباتها، ومساوقتها للمطالب الكلامية، أو بمعنى آخر: هل يصح لنا الحديث عن مناهج في الكلام الجديد بما يجعلها علما ودالا عليه ولو على سبيل الاشتراك، وافية بالقصد الكلامي، وغير عائدة على المطالب العقدية بالإبطال؟ ثم إن كانت هناك مناهج، فلنا أن نتساءل عن قيمتها المعرفية؟ وما مكانة البرهان فيها؟ وقبل هذا ما مفهومه؟ في ظل تمجيد المنهج التجريبي واعتباره الطريق العلمي الوحيد للمعرفة الحقة، وهذا يدفعنا أيضا إلى الحديث عن إمكانية إقحام هذا المنهج في البحث الكلامي دون أن يعود على الأصول العقدية بالإبطال، أو استثماره في بعض مقدمات الدليل؟ ولنا أن نتساءل أيضا: هل من سبيل إلى بناء المعارف العقدية على الوجدان بقطع النظر عن الصدق في نفس الأمر، بترجيح احتمالية صدق الدين ونفعيته؟
هذه بعض الأسئلة فيما يخص التجديد المنهجي، أما من حيث توسيع البحث الكلامي ليشمل قضايا معرفية أخرى، فهو يطرح إشكاليات عدة فيما يخص موضوع العلم من حيث كونه مسورا لمسائله، ويدفعنا إلى التساؤل عن المسوغ المعرفي والمنهجي لإدراج مثل هذه القضايا في علم الكلام؟ وعن المحدد الموضوعي للاختيار والاصطفاء؟ وما الغاية المرجوة منه؟ وبأي سبيل يتم إدراجها في مسائل الاعتقاد، بما يجعلها من مرتكزات الدين؟ وما المانع من بحثها في الفقه أو الأخلاق أو غيرها من فروع المعرفة؟
هذا، وإن تحديد المنهج تابع لتحديد الموضوع المراد دراسته للعلاقة اللزومية بينهما، إذ الموضوع من حيث التحديد الإشكالي فيه يستلزم منهجا يستوعبه من تلك الحيثية لطبيعة التقدم فيه، لأنه وإن كان بالإمكان تصور الموضوع بقطع النظر عن منهجه، إلا أنه من حيث المصداق يستلزمه استلزام الجوهر للعرض.
ومن هنا استلزم موضوع هذه الدراسة من حيث مجموعها المنهج الوصفي لعرض المادة العلمية الخادمة للموضوع وإشكالياته.
ولا يسعنا ونحن نقصد بيان مكمن الضعف والقوة في دعاوى التجديد نقدا أو نقضا، وانتقاء أو إنشاء، إلا أن نستدعي المنهج التحليلي في ظرف المنهج النقدي، دفعا لما خالفه الدليل، وأعوزه البرهان.
ومما لا ريب فيه أن تتبع المدارس الكلامية في أطوارها المعرفية، وربطها بسياقاتها الاجتماعية والسياسية أمر عسير، إلا أن الباحث يستطيع أن ينظر إليها من خلال كبرى المذاهب المشكلة للفكر الجمعي للأمة، باعتبار الأصول ومسالك الاستدلال المحصلة للامتياز، ذلك أن الهوية المذهبية الحقيقية لا تنهض بمحاولة الانفراد بمسائل من هنا وهناك… وعليه، فإننا لو اقتصرنا على المذهب الاعتزالي والأشعري والحنبلي في رسم تصور عام للمدارس الكلامية لكلنا بالمكيال الأوفى في موضوع دراستنا هذه، للاشتراك في المعالم الأساسية مع أغلب التيارات في علم الكلام… غير أن اعتبار الامتدادات العقدية في الأمة فرض على الدراسة الإلمام بالمذهب الجعفري والماتريدي ولو بالمرور على الديار، ذلك أن ليس هدف البحث التأريخ لتلك المدارس ولا تتبع أقاصيها، إلا بالقدر المحصل للتصور المستلزم للحكم.
ومن ثم فإن تسوير موضوع هذه الدراسة ظاهر في عنوانه، مخصوص بمعنونه، إذ الغاية تقديم مداخل نقدية من ملحظ الاستشكال على بعض التصورات التجديدية في علم الكلام منهجا ومضمونا، وإعادة رسم بعض المعالم في وضع صوى التجديد باعتبار الغايات والمبادئ الكلامية، وليس القصد استقصاء القول فيها، ولا تتبع بنياتها وأقاصيها.
وعليه، فقد اقتفيت أثر تلك التصورات بملحظ ما تثيره من إشكالات، وعنيت بتتبع المذاهب لا تعيين الذاهب، ومناقشة القول لا التمسح بالقائل…كل ذلك في محاولة وضع تصور تجديدي في علم الكلام مطابقة تارة، واستلزاما تارة أخرى.
هذا، وقد تناولت هذا البحث من خلال مقدمة ومدخل و بابين: قدمت في المدخل نبذة عن نشأة علم الكلام ومبادئه وموقف العلماء منه، ودلفت من خلاله إلى الباب الأول الذي أوردت في فصله الأول أصول الاستدلال وطرق البحث القديمة عند علماء الكلام ناقدا تارة، ومؤيدا وموجها تارة أخرى، وفي الفصل الثاني: خضت مع الخائضين فيما نقموا على الكلام وأهله من طائفية واحتكار الحق وتكفير المخالف وميل عن منهج القرآن الكريم في الاستدلال والتبليغ …مما هو مثلبة وقصور يجدر بالمجددين القذف به في اليم، غير أنني بينت فيه العوارض من الجواهر، والخوافي من القوادم، مما لا يصح اتهام المتكلمين به، إلا بالتحكم وفساد الحمل.
أما في الباب الثاني في فصله الأول فشرعت في تناول مفهوم التجديد ومتعلقاته، ومحاولة الوقوف على ملحظ الفصل بين الكلامين القديم والجديد، وبعض الإشكاليات المعرفية في الدعوة التجديدية، والخلط الحاصل بين الكلام الجديد وفلسفة الدين والإلهيات المسيحية، وألمعت فيه إلى كون غياب التحديد الموضوعي للكلام يجعله مرتعا لكل خاطر وجديد، مما يخرج به عن العلم ومنهج بنائه.
وفي الفصل الثاني: أوردت بعض الإشكاليات على طرق الاستدلال والمناهج الحديثة في البحث مما يرفضه المنهج الكلامي ويلفظه باعتبار مطلبية قضايا الاعتقاد كالمنهج البراغماتي والتجريبي …وذكرت طرق الاستفادة من بعض المناهج في دعوة إلى إحياء المنهج التكاملي الذي أصبح ضرورة يقتضيها الشرع والواقع.
ثم ختمت بخاتمة ضمنتها أهم ما ورد في البحث من نتائج، ملفتا إلى ضرورة التجديد من واقع علم الكلام ومطالبه، واستحضار النشأة الكلامية باعتبارها انبعاثا من واقع الأمة، وانبجاسا من معين النص الشرعي، في رسم المعالم الكبرى لعلم الكلام من حيث ارتباطه بالأصول المعرفية في وضع المبادئ الكلية، وتحديد الاختيارات المنهجية.
وفذلكة القول: إن تجديد علم الكلام غاية تستلزم تصورا منتزعا من الواقع المعرفي الكلامي، ومكامن الضعف والقصور فيه، قبل الإقدام على حمل لواء التجديد، ولا شك أن الخلل الواقع تأصيلا وتنزيلا في جملة من الدعوات التجديدية يومئ بارتجالية وعفوية، وإن قوي الباعث، إذ يجعل من التجديد سعيا في نقض الكلام القديم من غير وضع تصور واضح يصلح أساسا في إقامة بنيان علم يضطلع بمهام عظام في خضم المتغيرات، والتوالد السريع للإشكاليات الفلسفية، والأطروحات العلمية، في انسجام مع منهجه الصارم، النابذ للتناقض، والمؤمن بالحقيقة، والساعي إلى ظلالها.
ذلك أن حاكمية علم الكلام من حيث وضعه معالم النظام المعرفي الإسلامي تجعله بموضع الناقد للأفكار والفلسفات لا محكوميته بها، بمعنى أن تلحظ الدعوة التجديدية فيه استعادة الفعل في المنظومة الفكرية والفلسفية لا مجرد انفعاله بها … وإن الناظر في طائفة من دعوات التجديد يرى أنها تسعى -إن لم يكن بحكم الدافع فبحكم المآل-إلى إفراغ علم الكلام من أسسه المعرفية والمنهجية ليتشكل بكل صورة، ويقبل كل خلب، في سعي لتشكيله بكيفية استعدادية لقبول كل بريق، -والقابل من حيث هو قابل لا يكون فاعلا-مما يجعله “علما” تجميعيا كميا لا أثر له بحكم الغاية الموضوعة له، ذلك أن إتخام علم الكلام بضغث من المناهج والمعارف ليس من التجديد في شيء، ما لم يصاحبه حركة نقدية كيفية (تخريج المناط، تحقيقه -تنقيحه).
– إن النشأة الكلامية من حيث هي انبجاس من عين النص الشرعي شكلت المعالم الكبرى لعلم الكلام من حيث ربطه بأصوله المعرفية في رسم مبادئه الكلية، وتحديد اختياراته المنهجية، فهي حاكمة ابتداء ودواما في سيره التاريخي، وأطواره العلمية.
– إن المرجعية الفكرية لعلم الكلام (القرآن الكريم والسنة النبوية) حاضرة في البحث الكلامي من جهة الاستمداد منها في الاستدلال بها على المباحث الكلامية، أو الاستدلال لها في مواجهة الخصوم.
– إن الاعتداد بالعقل سمة البحث الكلامي من حيث الجملة، كما أن تقديمه في المطالب الكبرى من جهة كونه واسطة في الإثبات لا الثبوت، وإشكالية التعارض والترجيح بينه وبين النقل منظور فيها إلى قوة الدلالة لا إلى مادتها، فيقدم القطعي على الظني بقطع النظر عن مادته (عقل-نقل).
– إن جملة من أساليب البحث والاستدلال الكلامية اقتضاها الواقع المعرفي، وأملتها الأطوار الكلامية، إذ المواجهة الفلسفية والكلامية دفعت إلى الاستناد إلى بعض تلك الأساليب في الهدم والإلزام والتغبير في وجوه الأدلة، ولم تكن أساسا في الاستدلال بها على المطالب العقدية بالأصالة.
– إن آثار المذهبية والطائفية في مذاهب المتكلمين عوارض عن النفس البشرية، وليست من لوازم علم الكلام، حتى لا يجمع التاريخ الكلامي في فلتات، أو يحصر في شذوذات، أو يترجم في أفراد، سيما مع قيام المعارض بمحققي المذاهب، وجهابذة الفرق ممن جعلوا الدليل قبلتهم، والحق مذهبهم.
– إن التجريد والصورية وغياب القيم العملية في علم الكلام من بعض جوانبها هي بنات واقعها، إذ المسائل المطروحة على علم الكلام باعتبار مثيرها اقتضت منهجية للبحث فيها، ولا شك أن المواجهة الفلسفية ذات التوجه التجريدي النظري استلزمت بحثا كلاميا من المنطلق نفسه، فالتجريد والصورية في بعض أطوار البحث الكلامي هي عين واقعيته، لارتباطها فيه بالمنهج المعرفي للخصم.
– إن التجديد في علم الكلام ضرورة اقتضاها الشرع والواقع، إذ هو العلم الكلي بالنسبة للعلوم الشرعية، والممد لها بأصولها المعرفية، وهو المدافع عن العقائد الدينية، والأصول المرجعية، والتجديد فيه لا يعني مصادمة أصوله الكلية، ولا القطيعة المعرفية معه.
– إن الاغتراب المرجعي في بعض الدعوات التجديدية أملى مطالب في الكلام الجديد هي ضرب لأصالته وأصوله، وتقويض لأسسه ومبادئه، في خلط بينه وبين فلسفة الدين والإلهيات المسيحية، وحشر طائفة من المعارف من مختلف الفنون في دائرة البحث الكلامي مما يطرح إشكالية الموضوع في “علم الكلام الجديد”.
– إن إشكالية استثمار بعض المناهج واعتمادها في البحث الكلامي هي عودتها على المعاني العقدية بالإبطال ضرورة، مما يجعل التمسح بها نسفا للأصول العقدية، وتفريغا للتجديد من معناه تفريغ العقائد من مضامينها، وذلك كالبناء على أسس نسبية المعرفية، وبتوجيه النظرة البراجماتية، فإن في ذلك ضربا لأصول الكلام المؤمن بالحقيقة وإمكانية إدراكها…
– لابد من استثمار المنهج التكاملي في البحث الكلامي المعاصر، سيرا في مطلبية الواقع المعرفي الجديد، وغاية البحث الكلامي، إذ تنويع الأدلة أعظم أثرا من الأخذ بسبيل وعر، غير أن هذا الاستثمار لابد أن يكون منضبطا حتى لا يصير إلى فوضى منهجية، أو ضربا لأصول معرفية.
ومحصل القول: إن التجديد كما تبلور في تصور علم الكلام الجديد يثير إشكاليات معرفية ومنهجية، ويستلزم نسف المبادئ الكلية والأصول المرجعية لعلم الكلام.
هذا، وإني لأرجو أن تكون هذه الدراسة مسهمة في سبر أسس التجديد في علم الكلام، وتحديد بعض قصوراته المعرفية والمنهجية، وفاتحة لباب البحث من مسلك آخر في تجديد علم الكلام أو “الكلام الجديد”، إذ لا شك أن التصور الساري في أمة من الباحثين عن علم الكلام انعكس على النظر التجديدي فيه، إذ المنطلقات (بواعث التجديد السلبية) من حيث قصور التصور فيها استلزمت أحكاما قاصرة أو مخطئة، وأرهقت بعضهم في علاج واقع موهوم. وما من ريب أن الباحث إذا ضل في التشخيص استلزم ذلك الخطأ في وضع الهناء مواضع النقب، وذلك مما يجعل الدعوة التجديدية في بعض مناحيها مجرد تسويد للأوراق، وسعيا إلى سراب بقيعة.
والمقصود من هذا كله سبر الأسس النظرية، والدعائم المنهجية، لبناء علم يستجيب لمتطلبات العصر، وليس الهدف هو اتخاذ الدعوات التجديدية دريئة لتسديد الفكر النقدي، ولا القعود للتجديد بكل مرصد، إذ حق القول بأن الجدة والقدم وصفان إضافيان لا ينبغي لعاقل فضلا عن باحث أن يلتفت إليهما، أو يتخذهما معيارا في التقديم أو التقويم.
زر الذهاب إلى الأعلى