منشورات مركز الأمانة للأبحاث والدراسات العلمية
الكتاب: برنامج ما قبل العَالِمِيَة؛ دليل الطالب إلى الثقافة المرجعية في العلوم الشرعية.
المؤلفون: د. مصطفى فاتيحي – د. محمد قاسمي – ذ. محمد لهوير – د. أحمد الرزاقي.
الطبعة الأولى رمضان 1444هـ/ أبريل 2023م.
مطبعة سجلماسة – مكناس
جميع الحقوق محفوظة
الإيداع القانوني: 2023MO1030
ISBN : 978-9920-41-341-1
تصميم الغلاف: د. محمد الطاهري
تقديم
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم والصلاة والسلام على سيد الأنام رفيع القدر والمقام وعلى آله وصحبه الكرام.
لا يجادل أحد في اشتداد حاجة طلبة العلم والباحثين النابهين منهم، بل وعامة القراء والمهتمين، إلى من يدلهم على المصادر والمراجع الأساسية والتكميلية وما فوقها، حتى يوجهوا جهودهم المحدودة لاكتساب الخبرات الدراسية، ويستثمروا أوقاتهم المعدودة في تعلم مناهج العلوم الشرعية، قبل التصدي للبحث العميق والنظر السديد، في مجالات المعارف الشرعية والفكرية المختلفة.
وهذا الكتاب “برنامج ما قبل العَالِمِيَة – دليل الطالب إلى الثقافة المرجعية في العلوم الشرعية” إسهام مشكور في ذات الاتجاه، وهو نتاج خبرات ثلة طيبة من الباحثين الجادين، الذين توافقت عزائمهم وتظافرت جهودهم لخدمة العلم الشرعي ورواده، وتقاسم تجاربهم البحثية مع غيرهم، من طلبة العلم وعلماء المستقبل.
ولا خلاف بأن الإرشاد إلى مراجع العلم ومظانه المعتبرة، بحسب مراحل التحصيل والتدرج في التعلم الذاتي أو التعليم النظامي، يكتسي أهمية كبيرة في توفير جهود مضنية وأوقات ثمينة، مما يحفز ذوي الهمم العلمية العالية في مستقبل قريب، إلى التصدي للكتابة المنهجية والإبداع الفكري.
وتتميما للفائدة ارتأيت تقديم بين يدي طلبة العلم وعموم الباحثين التوضيحات المنهجية التالية:
أولا: علاقة العلم بالاستخلاف
من أهم مرتكزات الاستخلاف في الأرض، إلى جانب الأمانة والإرادة والقدرة، يأتي العلم باعتباره وسيلة لتحصيل المعرفة الأساسية، للاضطلاع بأعباء الاستخلاف في الأرض، إما عن طريق الإيمان بالله الخالق ووحيه المنزل، لتوجيه البشر لما فيه صلاح الدنيا والآخرة، وإما بتجاهل منهج الدين تماما، والاعتماد على العقل والخبرة المنقولة عبر الأجيال. وإما بالاحتكام إلى المعرفة الفطرية المركوزة في النفس.
ويوفر طلب العلم الشرعي المستند إلى الوحي، تصورات ومقاربات لحقيقة الإنسان والخالق والكون والحياة، ويرسم حدود العلاقة بين الإنسان والخالق، والمتجلية في التكليف الابتلائي وحقيقته ونتيجته.
ولتبين موقع العلم في الرؤية الاستخلافية، نتذكر بأن الله تعالى لما أراد استخلاف آدم علمه الأسماء كلها، ويغلب على الظن أنها أصول المعارف وكلياتها، التي باستيعابها يستطيع الإنسان تفريع جزئياتها العديدة، التي تنتظمها علاقات منهجية تربط بينها، ومن ثم القيام بعمليات التصنيف والتمييز والترتيب، انطلاقا من خصائص مشتركة، وأوصاف متقاربة، واعتماد ما يلزم من التفكيك والتركيب والتعميم والتخصيص والبرهنة والاستنتاج، وبعد ذلك إبداع ما يناسب تلك التحديدات والبيانات، من التسميات اللغوية والاصطلاحات العلمية، التي تعد دوما أساسية في كل علم نظري أو تجريبي.
ويمكن تفسير عجز الملائكة عن الإخبار بالأسماء العامة، لمجموعات المضامين المعروضة عليهم باستحضار خصائصها المشتركة وما يربط بينها من علاقات ناظمة، لأنها كفايات لا يحسنونها ولم يسبق لهم تعلمها من قبل، وإنما جدت مع الاستخلاف وحكمتها مقتضياته من الحرية والمسؤولية، اللتين تميز بهما الإنس والجن من دون باقي الخلائق. {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 31، 32].
والعلم المحتاج إليه في تحقيق الاستخلاف نوعان رئيسيان؛ علم تيسيري لفهم غاية الوجود الإنساني ومستلزماته، ويشمل على الخصوص دراسات الأديان والفلسفات والآداب، وعلم تسخيري لاستثمار سنن الله الكونية في مجالات الإنجاز الحضاري، ويشمل باقي المعارف وجميع العلوم الطبيعية والتقنيات والصناعات المختلفة.
ثانيا: علاقة العلم بالأمانة العظمى
من المعلوم أنه لا تتصور أمانة في مختلف صورها، من واجبات وفرائض وسنن ومستحبات، ومحرمات ومكروهات ومسؤوليات كبيرة أو صغيرة، إلا على أساس بيانات العلم الكافية والضافية، سواء كان مستندها النقل أو العقل، مما يدل على ألا تكليف كامل من غير علم صحيح وصريح. وتنحصر مسؤولية الإنسان على هذا المستوى في مجاهدة النفس على الالتزام بفعل المأمورات وترك المنهيات، وابتغاء مرضاة الله وثوابه.
لكن طلب العلم والجد في تحصيله، وتمييز حقه من باطله ومحكمه من متشابهه وحقيقته من وهمه يعد أمانة عظمى وأجل من الأولى، لأن رفع ما يمكن من شوائب الخفاء والالتباس، التي لاينفك أي علم عن قدر منها، يتوقف على توفيق الله تعالى المتاح بصفاء النفس وصدق إخلاصها في دراسته واستجلاء غامضه وتجاوز شبهه، إذ غالبا ما تكل فيه الأفهام وتزل الأقدام، ويشتد الخلاف بين كبار العقول قبل صغارها، وتتسع دائرة الحيرة والمجازفة في محاولات حسم الإشكالات القائمة.
فالعلم الشرعي ليس كما من المعارف والمعلومات والبيانات، التي يستوعبها العقل وتحفظها الذاكرة، وإنما هو فوق ذلك أساس مكين لحمل الأمانة الاستخلافية في أبعادها المختلفة، وأدائها على أحد وجهيها الصحيح أو الخاطئ، بما يعني أن الظفر بفضل العلم الشرعي لايتأتى إلا لمن يطلبه بحزم قصد إحراز الهداية والنجاة من الضلال والغواية، لأنه يعتبر من أوسع مجالات الابتلاء، التي يفلح فيها الأمناء الأتقياء فلاحا كبيرا ويخسر فيها الذين يطلبون به مجرد مكاسب الدنيا الزائلة خسرانا مبينا.
ثالثا: علاقة العلم بالابتلاء
لما اقتضت مشيئة الله سبحانه أن يخلق البشر، لغاية جليلة هي ابتلاؤهم بالموت والحياة ليعلم أيهم أحسن عملا؛ {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، فإن العلم الذي يتوصل إليه الإنسان من مصادره المعلومة، يعد من أوسع مجالات الابتلاء، الذي يكتنف حياة الناس سواء أكان علما سماويا أم أرضيا، فالعلم بالله ودينه هو البلسم الشافي لكل ابتلاء، وكل أهدافه تؤول إلى إكساب المتعلم له، القدرة على مواجهة المحن ومنازلة الفتن، والخروج منها موفور الأجر مزداد الإيمان.
لكن العلم ذاته أشد أنواع الابتلاء لما يحتمله من إمكانيات الاستقامة به على الصراط المستقيم أو الزيغ عنه، من حيث يظن العالم بنفسه، أنه أصاب الحق وسلك سبيل الرشاد، وقد نبه تعالى إلى كون القرآن الكريم تهتدي به نفوس وتزيغ به أخرى، بحسب ما عندها من القابليات والاستعدادات، المعبرة عن اختيارها المسؤول، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]، فالله تعالى اقتضت حكمته البالغة أن يكون العلم ترياقا لفتن الابتلاءات عند حصولها، وقاطعا لدابرها قبل حلولها، كما أنه قابل ليتحول إلى فتن مهلكة لذوي القلوب العليلة والنفوس المنحرفة. {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]، {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]، فكل الانتفاعات والأضرار التي تحصل لابن آدم الخليفة فوق الأرض، إنما تكون في الغالب الأعم باختياره وفي نطاق مسؤوليته.
رابعا: علاقة العلم بالمنهجية الشاملة
ومما يدعم التحصيل العلمي الرصين، أن يكون التوغل في ميدانه الفسيح برؤية علمية شاملة، قادرة على تذليل صعابه ومواجهة إشكالاته، إذ ليس يحصل العلم الحق بكثرة القراءة، وإدمان تصفح الكتب دون منهج قويم، يتيح الفهم الصحيح والإدراك العميق، لحقيقة ما يدرس من المعارف والأفكار.
ولعل ما يسعف الدارسين في هذا الصدد، هو القدرة على إرجاع الجزئيات المعرفية إلى كلياتها، واستخلاص المنهاج الناظم لها، والذي بإمكانه استيعاب مختلف القضايا العلمية أو جلها، والخروج منها بأكثر ما يستطاع من الفوائد والنتائج، والتوصل إلى تبين كليات العلم قبل جزئياته أو من خلالها، كما هو مقرر عند الشيخ ابن تيمية – رحمه الله – حيث يقول: “لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية، ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم”[1].
وكلما تواصل اطلاع الباحث على علوم ومعارف جديدة، كان ذلك مناسبة مواتية ليراجع تصوراته وأفكاره السابقة، ويعمد لتنقيحها وإعادة النظر فيها، والوقوف على درجة الوهم الذي كان واقعا له في بعضها.
خامسا: علاقة العلم بالمنهج النقدي
يعتبر النقد فحصا دقيقا للمحتويات المعرفية بقصد تمحيصها، وكشف ما فيها من نقص في التحري العلمي، وما شابها من خلل في المنهج، وما خالطها من وهم وغلط من أي مستوى كان. ومعلوم أن كل علم يستقل بمجاله وأغراضه، وطريقة نقده الخاصة به لتصحيح أغلاطه، واستدراك ما اعتراه من سوء استخدامه من طرف من ضعفت كفاءتهم فيه. ونجد تأصيل المنهج النقدي بارزا في كتاب الله، الذي يفترض فيه استبعاده تماما عن النقد، لكن القرآن يعلمنا المنهج العلمي السليم، قبل وبعد أن يسوق لمتلقيه أحكامه وتوجيهاته، ولذلك ما أكثر ما أورد في متنه الذي يتلى بكرة وعشية، جميع اعتراضات المكذبين والجاحدين والطاعنين في ربانيته، وفي شخص من جاء به مبشرا ونذيرا.
فالنقد ملازم ضرورة لكل علم له قدر من الاعتبار، وكلما ضاق علم بالنقد فقد حكم على نفسه بالعدم. واليوم نجد كثيرا من علماء الدين يضيقون درعا بأية إشارة انتقادية توجه للإسلام وعلومه، ويرون فيها بوادر نسف لحقائقه، وعكس ذلك هو الصحيح، فقد كان من حكمة الله أن تعرض مضامين الوحي في أجواء رافضة لها، متشككة في هديها وحقائقها، حتى لا يؤمن بها إلا من ثبت لديه بمنهج النقد الرصين أنها الحق المبين، ويجد من لا يريد التصديق بها، في الشبه المثارة والاتهامات الملفقة، ما يستند إليه في مسعاه ومبتغاه، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
كما دأب كثير من طلبة العلم وبعض العلماء أنفسهم، على تنزيه أساتذتهم وشيوخهم وكبار علماء الأمة وصلحائها، حتى عن النقد الخفيف، لأنه قد لا يبدو لهم منه إلا ما يزري بالأقدار، ويتنكر لعلو المكانة وجلال العطاء.
إن طالب العلم لا يمكنه أن يفيد كثيرا مما يدرسه، إذا لم يمتلك حسا نقديا منصفا يعزز وعيه بحقيقة ما يقرأ، فلا تخفى عليه جل هفواته، ولا تفوته نفائسه ودرره، وما أعظم حاجة أهل العلم لاصطحاب النقد الذاتي، فيشتدون في النقد على أنفسهم أكثر من نقدهم لغيرهم، فيكفون من يقرأ لهم عناء التنبيه على ما سبقوا إلى استدراكه وتصحيحه.
هذه بعض التوجيهات التي لا شك أنها نافعة لكل جاد في طلب العلم وتقويم مساره، أسأل الله أن تتاح الفرصة لتفصيلها في مجال أوسع، وبالله التوفيق وعليه الاعتماد.
عبد السلام محمد الأحمر
رئيس مركز الأمانة للأبحاث والدراسات العلمية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – مجموع الفتاوى (19/ 203).
زر الذهاب إلى الأعلى