الوحي والعلم الحديث – تكامل أم تنافر؟

إعداد: عبد السلام محمد الأحمر

مقدمة:
      فكل المعارف التي يتعلمها الإنسان تتكامل في تلبية حاجاته المختلفة، وعلى رأسها التعرف على حقيقة مسؤولياته الاستخلافية، وعلى كيفيات ممارستها على الأرض بإتقان واقتدار، ووفق ما يضمن تكاملها وتوازنها، دون إفراط أو تفريط في جانب على حساب جانب آخر.
      وإذا كانت المعرفة الدينية وحيا منزلا من الله إلى الأرض، توفر للبشر معلومات عن الغيب، الذي لاطاقة لهم في اختراق حجبه واكتشاف حقائقه، فإن المعرفة العلمية التجريبية مجال واسع، لاشتغال العقل في استنطاق الطبيعة، وتسخير أنظمتها وقوانينها المادية، في ما يحقق البناء والنماء في ميادينه المختلفة.
أولا: المعرفة الدينية وخصائصها
      إن المعرفة الدينية المتضمنة في نصوص الوحي المحفوظ، تمتاز في نظر المؤمنين وبعض الدارسين المنصفين بخصائص بارزة، ينكشف بها موقعها في الحياة البشرية، وهيمنتها على كل المعارف التي يتوصل إليها الإنسان، عن طريق الحواس والقياس والتجريب، من حيث كونها تتيح معلومات محدودة عن أشياء مادية وجزئية.
1ـ أساسية المعرفة الدينية للإنسان
      فالمعارف الدينية تتجه إلى ما هو أساسي في وجود كل إنسان، ككائن له خصوصياته الفطرية التي تحدد كنهه وحقيقته، إنها تمثل بالنظر إلى غيرها من المعارف أساسها المكين، الذي لا يغني مع عدمه وجود لأي لون آخر من المعارف. إنها تفصل في القضايا الكبرى المحددة للهوية البشرية؛ فتبين للإنسان من هو ومن خلقه ولماذا وإلى أين المصير، إنها بعد ذلك تحدد التعاليم والقيم، التي تضبط السلوك وأصول المعاملات، وما يحفظ النظام والأمن ويحقق التعاون بين الناس، ويوفر أسس البيانات التي تصون النفس البشرية من التيه والخسران، وتخرجها من ضيق الدنيا إلى سعتها وسعة الآخرة.
      ونظرا لجلال هذه الحقائق وعلو قدرها بالنسبة للوجود الإنساني، فإن الخالق سبحانه هو الذي تولى بنفسه تنزيلها على البشر، ووكَّل ملائكة كراما ورسلا مصطفين أخيارا، عصموا من الهوى والزلل، ليقوموا بتعليمها للناس على مدى الزمان والمكان، {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
إن المعرفة الدينية هي المعرفة الوحيدة المكتملة، التي لازمت الوجود البشري على الأرض من لدن آدم عليه السلام، وقد كان نبيا أولا، إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي بلغ للعالمين وحي الله المحفوظ.
      ولقد توالت دعوات الرسل جميعا بحقائق الإيمان الخالدة، عبر الزمان والمكان حتى قيام الساعة، وأساسها الإقرار بوحدانية الله وصفاته العلى، والتصديق بملائكته وكتبه، وجميع رسله وباليوم الآخر والقدر خيره وشره، وإفراده تعالى بالعبودية وتخصيصه بالعبادة، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36].
      أما المعرفة المادية الطبيعية، فلم ولن تكون يوما ما مكتملة في أي من أطوارها وامتدادها الزمني، وإنما ظهرت بدائية ثم تطورت تدريجيا، مع تراكم الخبرات البشرية وتوالي الأجيال، فيتعامل معها وهي غير مكتملة، وينتفع بما بلغته في تحسين وسائل الحياة المادية، دون توقف الحاجات البشرية الثابتة والمتغيرة، على بلوغها حال التمام الذي لا مزيد عليه.
      وهكذا بعث الله إلى كل أمة، من يعرض عليها حقائق الدين، التي تتحدد بها حقيقة الإنسان، تبعا لما يختاره بمحض إرادته من الإيمان بها أو الإعراض عنها. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].
      فلا يكون الإنسان إنسانا كاملا كريما، ومكتملا بشقيه الجسدي والروحي، إلا بمعانقته للحقيقة الدينية، التي تحيي منه الجانب الأهم في كيانه وهو الروح، وقد عبر القرآن بالموت والحياة في معرض حديثه عن استقبال الإنسان للحقيقة الدينية، فقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
2ـ طرق تحصيل المعرفة الدينية
      لما كانت المعرفة الدينية حاسمة في تشكيل وجهة كل إنسان في الابتلاء بالحياة، فإن دوافع تحصيلها ومعايير إدراكها مفطورة في ذات كل واحد، تستحثه للبحث عنها والتطلع إليها واحتضانها حال اكتشافها، والتجاوب معها عندما تعرض على النفس، فتتقبلها الفطرة على نحو معين، ويتأملها العقل ويتفاعل معها الوجدان بكيفية أو بأخرى تصديقا أو تكذيبا إيمانا أو كفرانا.
      ويرى السيد وحيد الدين خان، أن المسلم لا يحتاج إلى دليل عقلي حتى يؤمن بالعقائد الإسلامية، فإن منبع يقينه هو مشاهدته الداخلية، أو هو ذلك “الوجدان” الذي يعتبر – في رأيه – أعلى وأرفع من “التصديق العقلي”. لأن اكتشاف الله ليس مماثلا لاكتشاف الرياضي لبعض المعادلات الرياضية، التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق العقل، والتي لا تتعدى – في الوقت نفسه – حدود العقل بطبيعتها.[1]
لكن العالم الفيسيولوجي “أندرو كونواي إيفي” Andrew Conway Ivy، يرى خلاف ذلك بأن الإيمان الذي لا يسبقه العقل يعتبر إيمانا ضعيفا هزيلا، ويكون عرضة للهجمات الفتاكة والهزيمة الساحقة، والإيمان الديني الذي لا يقوم على العقل، يؤدي إلى الأخلاق السيئة والسلوك الشائن، ولذلك لا ينبغي أن يتخلى الإنسان عن عقله أبدا.[2]
      والذي يبدو لي أن الإيمان بحقائق الدين، ينتج عن تظافر عناصر النفس فطرة ووجدانا وعقلا ويكون نشوؤه ونماؤه ورسوخه بها كلها.
      وإذ كان خيار الإيمان في متناول كل إنسان أي كان أميا أو متعلما، فإن الارتقاء في درجاته العلى، يحتاج مكابدة متواصلة وجهادا للنفس متزايدا، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
      ويقول الدكتور المهدي بن عبود في هذا الصدد: ” البحث عن الحقيقة دائما مؤلم لأن الحقيقة شئ حي، وكل حي لا يخلق إلا عن طريق الألم، فالصبي عندما يزداد يبكي، وأمه تتوجع”.[3]
ولقد ساق القرآن الكريم من الأدلة العقلية على صدق المعرفة الدينية، قدرا يبلغ من الكثرة والتنوع ما يوحي بأنه يعود أساسا إلى العقل في اكتساب الإيمان، إلا أن تلك الأدلة على قوة برهانها، لا تنفذ إلى العقل ولا تحدث أثرها في القلب، إلا تبعا للخيار النفسي الحر والمسؤول، مع العزم الصادق، وهو ما يفتح منافذ النفس أمام حقائق الدين أو يوصدها في وجهها، “أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” (الحج:46).
إن حقائق الدين ـ خلافا لغيرها من الحقائق ـ رغم توافر أدلتها داخل الأنفس وعبر الآفاق {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، فإنه لا سلطان لها على النفس البشرية إلا تبعا لممارستها حريتها وإرادتها وسعيها في طلبها، ولذلك جاء في تعريف الإيمان بأنه ” ما وقر في القلب وصدقه العمل”.
      فليس الإيمان معلومات تحفظها الذاكرة ويرددها اللسان، كمعلومات باقي المعارف والعلوم الأرضية، وإنما الإيمان تغير عميق يحدث في النفس الإنسانية، ليطال منها الإحساس والفكر ويتجلى في السلوك.
3ـ مميزات المعرفة الدينية
      تمتاز المعرفة الدينية بخصوصيات ترتبط بمصدرها الرباني من جهة، وبأهميتها الكبرى في حياة البشر من جهة أخرى، ويمكن حصر مميزاتها كالتالي:
– ميزة الكمال:
ويأتي خلو الحقيقة الدينية في ذاتها من القصور واتصافها بالكمال المطلق، من جهة نسبتها إلى الله الذي أحاط بكل شيء علما، بما في ذلك الانسان المخلوق له سبحانه، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وإنما تحتمل النقص في أفهام الناس القابلة في الآن ذاته لإدراك الصواب أومجانبته.
فالمعرفة الدينية وردت إلى الإنسان وهي كاملة، لا يعتريها أدنى خلل أو قصور، إلا في فهمه النسبي لها؛ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، ولقد طلب منه فقط أن يكيف واقعه مع نهجها وتعاليمها في كل أبعاده المختلفة، وأن يمحور نظام حياته كلها حول المضامين الكلية التي تقوم عليها، بحيث يستلهمها ويحكمها في مواجهة كل المشاكل والمعضلات، التي يفرزها احتكاكه بالحياة وانشغاله بمعضلاتها وتحدياتها. فإذا نجح أو أخفق كان مرد ذلك إلى حسن أو سوء إرادته ومعرفته ومدى تطبيقه لها.
– ميزة الثبات
      إن ثبات حقائق الدين يستند إلى ثبات الخلق البشري، روحا وجسدا باطنا وظاهرا، هذا التركيب الذي توجهت أساسا إليه الأديان السماوية بالتهذيب والإصلاح والتغيير: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]
فصفة الثبات في المعرفة الدينية تكون أكثر بروزا، بقدر ما تتوجه إلى النفس البشرية من خلال مجالات العقيدة والعبادات والأخلاق، ولا تنفتح للاجتهاد والتكييف الشرعي، إلا عندما تتناول المعاملات اللصيقة بشؤون التجارة والمال، والنظم الإدارية والإجتماعية، التي تعرف تغيرات بارزة مع توالي الزمن.
وفي هذه المجالات يتسع استعمال القياس لإخضاع المتغيرات لنظر الشرع وأحكامه العامة، الحاكمة على مختلف أحوال النفس وأوضاعها و متغيرات الحياة وتنوع مشاغلها.
      فالمعرفة الدينية تحدث أعمق التغيير في كينونة الإنسان، وتنقله من حال إلى حال: من الغفلة إلى معرفة الله، ومن الضياع إلى الرشاد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهداية، ومن الظلم إلى العدل ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الدونية إلى الكرامة… في حين أن علوم المادة إنما تحدث التغيير الحاسم والجلي في مجال ضيق في الممتلكات المادية طعاما ولباسا ومركبا ومسكنا ووسائل إنتاج، أكثر مما تحدثه في دائرة النفس والقلب.
      ومن هنا يصدق كثيرا وصف الحضارة المعاصرة التي تم توجيهها لمناوءة الدين ومعاداته، بأنها حضارة الأشياء التي عرفت في ظلها تقدما منقطع النظير، في حين تأخر الإنسان أشواطا إلى الوراء، باتجاه منح الأشياء القِيمة الأعلى على القيم الروحية والدينية، وحصر قيمة المعارف كلها في دائرة الحياة الدنيا، وما قد يحصل فيها من إشباعات جشعة لغرائز البطن والفرج ليس إلا.
– ميزة الفردية أو الشخصية
      تتجه المعرفة الدينية بخطابها العام إلى الفرد من خلال الجماعة، لأنها تعنيه بصفته الشخصية قبل صفته الجماعية، ولا يمكن أن ينوب شخص عن شخص في تمثلها والالتزام بها عن وعي وبصيرة. لذا كان نشر المعرفة بالدين واجب الرسل عليهم السلام ومن جاء بعدهم، أما الاهتداء بها فموكول للأفراد المتلقين تبعا لإيمانهم بها وصدقهم في العمل على نهجها.
      أما ما عداها من المعارف الطبيعية، فإذا امتلكها البعض واستوعب قدرا منها، أمكن إيصال نفعها إلى الباقين من الناس، ويتجلى ذلك بمثال علوم المادة عندما تستحيل بعض معلوماتها إلى آلات وأجهزة تطرحها المصانع بين أيدي الناس، فيتولوا الاستفادة منها في الأغراض التي أعدت لها، بمجرد أن يكون لهم إلمام بسيط بكيفية تشغيلها، ودون أن يعرفوا شيئا عن الرياضيات والفيزياء والتقنيات الإلكترونية، وكل العلوم التي ساعدت على تحضيرها وابتكارها.
      ومعلوم أن خاصية الفردية في المعرفة الدينية، إنما ترجع إلى ارتكاز ها على حرية ومسؤولية النفس البشرية، التي تظل الموجه لكل النشاطات والمهام الاستخلافية التي يزاولها الإنسان على الأرض، فلقد تواصل الوجود البشري على ظهرها بفائض المعارف الإنسانية مع محدودية وانحسار بارزين في المعارف الطبيعية والتقنية. مما يؤكد اشتداد حاجة الإنسان الثابتة إلى المعارف التوجيهية؛ من دين وفلسفة وآداب أكثر من حاجته إلى المعارف التسخيرية؛ من رياضيات وفيزياء وتكنولوجيا وعلوم الحياة والأرض.
ثانيا- المعرفة العلمية
      إذا كانت الحقيقة المعرفية، تعني فيما تعنيه مطابقة ما في العقل لما في الواقع، فإن العلم هو حصيلة تعامل قدرات عقلية وحسية يمتلكها الإنسان مع الطبيعة والأشياء.
      لقد قطع العلم التجريبي أشواطا أضيفت خلالها إلى حقائقه صفات غير دقيقة، أملاها مجرد الانبهار ببعض نتائجه المدهشة البادية النفع، لكن بعد مرحلة الإعجاب الجامح والعاطفة المتفلتة، عادت حقائق العلم في واقع الإنسان لتأخذ حجمها الطبيعي والأكثر اعتدالا واتزانا.
      ويتحدد مجال العلوم الدقيقة أو الحقة في دراسة المادة حية كانت أو جامدة، واستخراج القوانين التي تتحكم فيها، ثم العمل انطلاقا من هذه القوانين التي إنما تتبع سنن الخالق في الخلق، وتسترشد بها في نهجها لفهم الأشياء المدروسة، ثم البحث في إمكانية التوصل إلى استغلال قابلية التفسير والتوظيف، المودعة في هذه السنن إلى أقصى الحدود التي تسمح بها، لإنجاز أعمال أو إنتاج مصنوعات، توفر على الانسان الجهد والوقت في تلبية معظم حاجياته المادية أساسا.
      فعمل الإنسان من خلال المنهج العلمي، ينحصر في اكتشاف ما هو موجود في الطبيعة من إمكانيات وطاقات، وما يمكن أن يجريه عليها من تحويل وتغيير واستثمار، يتيح له نوعا من التحكم فيها، وتوجيهها لخدمة مآرب مادية معينة ومحدودة بالرغم من وفرتها الظاهرة.
      أما الطرق التي تتبع في هذا الاتجاه، فلا تخرج عن إطار الملاحظة، ثم ما يتولد عنها من افتراضات، وما تمليه هذه الافتراضات من تجارب، ثم ما يتمخض عن هذه التجارب من قوانين وإمكانيات التسخير، في مجال من المجالات الحيوية.
      وتعتمد أيضا الطرق الاستنباطية والاستقرائية، والتحليلية والتركيبية، فعلوم الرياضيات مثلا والتي مجالها عقلي محض، تساعد على تكميم الظواهر وضبطها نظريا، كما أنها توجه البحث وترشد إلى الممكن تحققه عمليا حالا أو استقبالا.
      وللمعرفة العلمية خصائصها التي تحدد بالمجال، والقدرة على الثبات، وتقديم حلول لمشاكل الإنسان، وغير ذلك من أوجه الإفادة من معطيات العلم، وتوضيح ذلك كما يلي:
1ـ الاشتغال في المجال المادي
     إن المعرفة العلمية تظل حبيسة المجال المادي، ولا تملك تجاوزه للخوض في مجال النفس والغيبيات، ولهذا فشل العلم التجريبي في التعرف على المكونات الغيبية للنفس البشرية، التي يهم الإنسان العلم بها قبل أي شئ آخر خارج عنها، يقول سوليفان  C.W.N.SULIVAN في كتابه (حدود العلم): “إن العلم الذي يتناول العقل وهو علم النفس، ما زال في الوقت الحاضر في مرحلة بدائية جدا، بل إن البعض ينكر وجود أي علم من هذا القبيل، وليس هناك بالتأكيد نظام من المعارف النفسية الثابتة التي جرى إقرارها بصورة عامة”[4].
     فعلوم الكائنات الحية على العموم، والكائن البشري على الخصوص لا تجيب عن كل التساؤلات، ولازالت لم تتعد الحالة الوصفية. يرى ألكسيس كاريل الحاصل على جائزة نوبل في الطب بأن “الإنسان لايدرك أن جسمه وعقله يخضعان لقوانين أكثر تعقيدا وغموضا ولا تحابي أحدا، فهي تماما كقوانين عالم الفلك التي لا يمكن انتهاكها دون أخطار محدقة”[5].
     فما قدمه العلم التجريبي من معارف مهمة، تنتمي كلها لعالم المادة الجامدة، دون أن يتمكن من السيطرة على هذا المجال، “فإذا ما أدركنا أن العلم فشل حتى في وضع منهج للتعامل مع الطبيعة نفسها، وأنه لم يستطع السيطرة على معطياتها وإلزامها بإسعاد الناس.. إذا ما أدركنا هذا عرفنا -ولا ريب- مدى عجز العلم عن تحقيق النبوءة المزيفة التي طالما تغنى بها العلمانيون”[6]. فما يستطيع العلم التقني تقديمه للإنسان لايعدو كونه سعادة جزئية ومؤقتة تتخللها تعاسة متربصة بالنفس تنغص عيشها حينا بعد حين، مما يدفعها إلى طلب اكتمال راحتها وتوازنها في رحاب الإيمان بالوحي المنزل.
2ـ الاتصاف بالسطحية
      إن العلم وهو يتعامل مع المادة الجامدة، يعمد إلى وصف ما يجري عليها من تبدلات ظاهرية، دون أن يتمكن من تعليل ما يحدث تعليلا تاما، يقطع حبل التساؤل ويرضي الفضول إلى المعرفة الكاملة. “إن حقيقة أن (العلم محدود بالمعلومات عن هيكل الأشياء) حقيقة ذات أهمية قصوى، إنها تؤكد أن الحقيقة الكاملة لا تزال غير معروفة”.[7]
      ويعتقد البروفيسور إيدينجتون   EDDINGTONأن معرفة الهيكل الرياضي للشيء هي المعرفة الوحيدة التي يمكن لعلم الطبيعة أن يمنحنا إياها”[8].                                                                 
      فبعض الحقائق العلمية يمكن معاينتها والوقوف على مدى صحتها والتأكد من صدقها، إلا أن كل هذا يحصل فقط في قضايا بسيطة، وغير ذات أهمية كبيرة في واقع الإنسان الباحث دوما عن الحقيقة الكاملة التي لا يشوبها نقص ولا يغشاها وهم، وإن كان من مستلزمات العلم الطبيعية الزيادة في الإنتاج، وترقية الجوانب المادية للحياة البشرية، والتي غالبا ما تصحبها أو تنتج عنها مضايقات وقلاقل قد تقل أو تكثر، ولا يملك الإنسان بالعلم التجريبي نفسه جعلها منفعة خالصة أو مصلحة محضة.
      كما أنه: “لا شك أن العلم يتميز باليقينية. ولكن أية يقينية؟ إنها يقينية القرب الملموس والمحسوب، الرؤية المباشرة، والإيمان المجاني بالقريب الملاصق، ولكن الإنسان لا يغدو إنسانا إلا بتجاوزه هذه المرحلة، بتوصله بعد جهد ورياضة وتعاليم داخلية وخارجية إلى اليقين بما هو أبعد من الملموس الملاصق”.[9]
      إن هذه المعرفة العلمية المحدودة، قد شغلت كثيرا من الناس عن حقائق الدين المطلقة، وقدمتها الحضارة المادية المعاصرة بديلا عنها، وعن أية معرفة لا تتأتى بالمنهج العلمي الضيق.
      وقد عبر عن ذلك المؤرخ البريطاني ذائع الصيت أرنولد توينبي فقال: “لقد أغرت فنون الصناعة ضحاياها وجعلتهم يسلمونها قياد أنفسهم، ببيعها المصابيح الجديدة لهم مقابل المصابيح القديمة، لقد أغوتهم فباعوها أرواحهم وأخذوا بدلا منها (السينما) و(الراديو) وكان نتيجة هذا، الدمار الحضاري الذي سببته تلك الصفقة الجديدة اقفرارا روحيا وصفه أفلاطون بأنه (مجتمع الخنازير)”.[10]
      ولعل ما يقربنا أكثر إلى الطبيعة التجزيئية وغير المكتملة والملازمة لحقائق العلم، هو بيان أن الانتفاع بظاهرة طبيعية أو تسخير طاقة معينة، لا يعني بالضرورة هتك كل أسرار ماهيتها، وفك جميع ألغازها فما يحصل غالبا هو التوصل إلى استغلال إمكانيات المادة أو الظاهرة المادية دون ضبط “الميكانزمات” واستكناه حقيقة العمليات الخفية الكامنة وراء كل ذلك، فمثلا “لقد استعصت طبيعة الكهرباء على الفهم رغم المحاولات المضنية، التي قادت جميعها إلى فهم أن ما نعرفه عن الكهرباء هي الطريقة التي تؤثر بها في أدواتنا القياسية”[11]، مع أن الجميع يدرك الفوائد العظيمة للكهرباء في حياتنا المعاصرة.
      إن قيمة المعرفة تتعرض في أذهان عامة الناس، من غير ذوي الاختصاص العلمي الدقيق، إلى كثير من التهويل والمبالغة التي توحي بها النتائج الباهرة للعلم في صورة المبتكرات الصناعية.
      ويتبين من خلال هذه المعطيات، مدى قصور الطريقة العلمية التجريبية عن استيعاب جميع المعارف، التي يحتاج إليها الإنسان ويطمح إلى العلم بها في مجال اشتغاله الذي هو عالم المادة، أما عالم الروح والغيب عموما، فلا شأن لها ولا قدرة على ولوجه وإخضاعه للدراسة والتجريب.
3ـ التغير وعدم الاستقرار
      إن المعرفة العلمية عرفت تطورات تدريجية متباطئة، منذ وجود الإنسان في فجر التاريخ، ذلك أن كل جيل ساهم بوضع لبنة في البناء العلمي المتزايد، ونحن بدورنا نشارك في امتداده على قدر ما أتيح لنا من أسباب متراكمة، وتوفر لدينا من وسائل وظروف مواتية.
      فالعلم سيظل ناقصا ما قبل التطور، ومتغيرا لكي يتقدم خطوات على طريق الكمال. فما تسمح به طبيعة العلم المادي، لا يعدو استغلال معطياته في تحسين وسائل العيش وتوفير الجهد والوقت، لصرفهما من لدن من يشاء في خدمة الروح، التي بها يكون الإنسان إنسانا، وعن طريق العناية بها يمكن أن تتحقق السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.
      فمن يربط مصيره بمعرفة علمية ناقصة وسطحية، وعرضة للتغير المستمر الذي قد لا يبقي على شيء منها، ويعول عليها في فهم نفسه وحل إشكاليات الحياة، لا يمكن أن يجني من وراء ذلك ما تطمح إليه النفس من يقين واطمئنان.
      وقد تبينا بأن العلوم المادية “لم تسلم معطياتها من الهزات… فها هي ذا نظريتا النسبية والكم. تغيران وتبدلان في الكثير من المفاهيم العلمية والمسلمات السائدة ، أو هكذا كانت توصف، والتي صمدت خلال القرون الثلاثة الماضية”.[12]
      فإذا كانت معطيات العلم المادي في تغير دائم، فلا شك أن الفلسفات والتصورات والمذاهب التي تقام على أساسها ستكون قاصرة بل فاشلة، في توجيه الانسان الذي يدين بها إلى ما يحقق رغد عيشه وسعادته النفسية.
ثالثا: التكامل بين الوحي والعلم
      كان للظروف الاجتماعية التي مرت بها أوروبا في القرون الوسطى، من تسلط رجال الدين على عقول الناس ورقابهم، أثر بالغ في نبذ الدين المسيحي وكل دين، والاندفاع نحو العلم المادي والعلمانية، بعد أن ذاق الناس ثمار استعمال العقل في أمور الحياة.
      فاستبدل الأوروبيون بعبادة المسيح عبادة العلم المادي، وأسلموا قيادهم إليه في العام والخاص من أحوالهم.
      ولذا فإن “تندل Tyndall ورسل Russel ودارون Darwin وماركس Marx ودوركايم Durkheim، وغيرهم كثيرين هم أبناء عصر عبودية العلم، عصر الدهشة والإعجاب الذي يتجاوز الوقفة الموضوعية إزاء الظواهر والأشياء إلى نوع من التقبل والاندماج”[13].
      فكانت تطبيقات العلم في مناحي الحياة ذات فوائد بارزة، ساهمت إلى حد ما في تحقيق أحلام الإنسان في الرفاه المادي، مما حجب عن الأبصار والبصائر رؤية ما خلف هذا الافتتان بالعلم من سلبيات مهلكة، “وما مرحلة الحضارة الحالية إلا غمرة المدنية المضللة ببهرجها، الذي يستر فقرها الروحي. فهي سائرة بخطى واسعة إلى الفناء المحتوم الذي أصاب الحضارات السابقة، تلك سنة الوجود ولا راد لأمر الله”[14].
ولكي يتعرف الإنسان جيدا على نفسه، فإنه لا يمكنه أبدا التعويل فحسب على المعادلات الفيزيائية والكميائية التي تحكم العالم وجسمه، بل يحتاج أن يفهم ويؤمن ويأمل، إن العلم والدين يلزم أن يتكاملا لتحقيق نفس الهدف بجعل الإنسان كائنا اجتماعيا ومتوازنا إلى أقصى مدى[15].
      ولقد تلقفت الفلسفة نتائج العلم، وانطلقت تقيم عليها بناء نظريا من التصورات والأفكار، التي مالت بالعلم عن مجاله، وخلعت عليه من الأوصاف وألصقت به من الخصائص ما هو بريء منه، فوظفته في تبرير الإلحاد وتشويه الدين وإقصائه عن الحياة، والحكم عليه بالزيف و اللامعقول و اللاعلمية.
لذا غدا من الضروري التفريق بين فلسفة العلم، وبين العلم في ذاته بما أنه وسيلة تقنية عملية للتحضر، وبين فلسفة العلم بما أنها حجر لطاقات الإنسان، وقصر لليقين على الملموس الملاصق، ومن ثم فعلى الإنسان – كي يصل إلى إنسانيته الكاملة – أن يرفض فلسفة العلم دون أن يتخلى أبدا عن مكتسبات العلم التقني في شتى المجالات[16].
      فمع أن للعلم مجاله الذي يستفهم فيه، أبت الفلسفة إلا أن تجعله ينطق بلسانها ويقف مع أطروحتها الواهمة، فقد “جعلت الفلسفة المبنية على العلم من المادة والحركة الحقيقة الوحيدة، وبهذا العمل فقد جرى استبعاد جميع العناصر الأخرى الواقعة في مجال خبراتنا، هذه العناصر التي تحمل كما يتراءى لنا، المغزى الأكبر، والتي تجعل الحياة في النهاية جديرة بأن تعاش، قد جرى استبعادها على أنها محض أوهام. لقد بدا العلم لبعض المفكرين وربما لغالبيتهم أنه قد جعل الحياة قاتمة على الرغم من كل المنافع العلمية التي قدمها”.[17]
      وقد تطور هذا الموقف إلى “نوع غريب من الجنون والصلف فقال الفيلسوف الألماني “كانت” KANT: “إيتوني بالمادة وسوف أعلمكم كيف يخلق الكون منها” وأعلن “هيكل” Hegel: “إنني أستطيع خلق الإنسان لو توفر لي الماء والمواد الكيماوية والوقت”. وصرح “نيتشه” Nietzsche: “لقد مات الإله، الآن”.[18]
      ومن ثم انقلبت أولويات المعرفة في العصر الحديث، نتيجة طغيان العقلانية في الفكر الغربي، حيث صارت معطيات العلوم التجريبية مهيمنة على الواقع، إلى حد محاصرتها وخنقها للمعرفة الدينية عند المسيحيين، بل ولدى بعض المسلمين أنفسهم الذين يملكون أصولها المنزلة، سالمة من المسخ أو التحريف.
      لكن المعرفة العلمية الطبيعية، لم تلبث بعدما شهدته من تطورات هامة، أن أضحت متجاوبة مع المعرفة الإيمانية عامة والإسلامية خاصة، وصارت داعمة ومساندة لها، وتعتبر من الأدلة القوية على صدقها وربانيتها وكمالها.
      ويتأتى التكامل بين الوحي والعلم المادي على درجات متفاوتة، بحسب موضوعه الذي قد تتوافر فيه عناصر التقارب والانسجام أو التباعد والاصطدام، كما أن للذات دورا حاسما في إبصار التكامل أو التنافر، بحسب ما تقصده وتطمح إليه من التجرد في ابتغاء الحق والحقيقة، أو جريا مع الأهواء والتحيزات اللاعلمية.
      فقد اختار بعض الدائرين في فلك الثقافة المادية، ألا يروا العلاقة بين الإسلام والعلم مختلفة عنها في النطاق الكنسي، وأن يصرفوا أنظارهم عن بعض الكتابات الغربية نفسها، التي أكدت التكامل وانتصرت له. ومن ذلك ما أوضحه موريس بوكاي، Maurice Boukay في كتابه: الإنجيل القرآن العلم.  La Bible, le Coran et la science، فقال: “إن القرآن الذي يدعو إلى تطوير العلم، يحوي العديد من النظرات عن أحداث طبيعية مع تفصيلات موضحة لها تبدو شديدة الاتفاق مع معطيات العلم الحديث، وليس في الوحي اليهودي المسيحي مثيل لهذا النوع”[19]
      كما أن تصحيح الرؤية إلى حقيقة العلم، لم تلبث أن جاءت بداياتها على يد علماء الفيزياء، الذين يمارسون البحث في المادة الجامدة، متحررين من الخلفيات الفلسفية السائدة، عندما عاينوا تحطيم نظريات علمية عتيقة، وما بني عليها من اعتقادات واهية، ذلك أن “أحدث النظريات التي طرحها عدد من كبار العلماء في مطلع السبعينات، ونشرت خطوطها العريضة مجلة (العلم والحياة) الفرنسية، تقول بالمقابل أو المعادل اللامادي للتراكيب المادية في البنية السديمية والذرية على السواء… وأنه ما من إلكترون أو بروتون أو نيوترون أو جسم كوني كذلك، إلا وتوجد قبالته معادلته اللامادية… وتشير بلسان العلم المختبري والمعادلات الرياضية المركبة، إلى التواجد الروحي في قلب الكون وفي صميم الذرة”.[20]
لقد ساد الاعتقاد لفترة من الزمن بأن الغوص في دراسة المادة، سيحقق مكاسب حقيقية لصالح الاتجاه المادي، ويسعف أنصار المادية بأفكار جديدة يسخرونها في الترويج لمذاهبهم، لكن الذي حصل هو العكس تماما لما كانوا يتوقعون، بحيث جاءت الدراسات المنصبة على مكونات الذرة، بحقائق زعزعت القناعات القديمة، وقدمت معطيات مخلخلة لأساس المادية، بل مقوضة له ومدعمة لمبادئ الإيمان.
فقد “أخذ يتضح في أذهان الاختصاصيين، في علم الفيزياء وعلم النفس وعلم الحياة أي البيولوجيا وبعض الفلاسفة، أن الفارق الكثيف الواسع الذي كان يفصل سابقا بين المادة والروح والمعنى والمبنى، أخذ يتضاءل ويضمحل تدريجيا. ولذلك ضاقت الفجوة المفتعلة التي كانت تفرق بين الجسم والروح وتبادل التأثير بينهما، خصوصا في ميدان الطب وقاية وعلاجا على أساس اضمحلال المادة من الجزيئات إلى الذرات، ثم إلى الإلكترونات ومنها إلى مفهوم الطاقة، الذي لا يبقى بعده إلا المعاني في التصورات المجردة أو المعادلات الرياضية”[21].
      وهكذا نرى أنه “بعد رحلة طويلة في التاريخ يعود العلم، بعد أن نما وشب عن الطوق وبلغ رشده لكي يلتقي بالدين، واستُبعدت الفكرة التي ترفض قبول كل ما لا يخضع للفحص والتحليل. ولم تسلم لنا المادة نفسها لكي نعريها ثوبا ثوبا… كل ما قدمته لنا كما رأينا هو ملامحها الخارجية، أما الباطن على مستوى الحقائق النهائية للتركيب والماهية… فلا جواب”.[22]
وإذن فقد أخذت المادة بنواصي العلماء وقادتهم إلى رحاب الإيمان بعدما ظنوا بأنفسهم الابتعاد عما يصلهم به. ” فلقد انتهى علماء الفيزياء وفلاسفة العلوم التطبيقية إلى القول ب: لا مادية المادة DEMATERIALIZATION OF MATTER و لا شيئية الأشياء THINGLESSENSS OF THINGS ولا جوهرية الجوهر DESABSTANTIATION OF SUBSTANCE.[23]
وكان من نتائج تقدم الدراسات في مجال الفيزياء النووية، اضطرار العلماء إلى مراجعة اعتقاداتهم بخصوص السببية والحتمية العلميتين، ذلك “أن جانبا من أخطر الجوانب الفيزيائية وأهمها وهو (الظاهرة الذرية) تمردت على السببية التي اتكأ عليها العلماء في حقول الفيزياء، والتي شكلت افتراضا أساسيا في العلوم، وأن نوعا من الإرادة الحرة في العلاقات الذرية أخذ يحل محل القاعدة الحتمية التي تعرضت للتصدع… ونتساءل: إذا كان التركيب المادي – الذري نفسه يتجاوز الحتميات صوب الحرية. فكيف يتسنى لنا أن نخضع الحياة البشرية في صيغتها الفردية والجماعية لنوع من الحتمية الصماء…”[24] وهذا ما حاولت فرضه المادية الجدلية، والتي سقطت من الاعتبار على المستوى العلمي وعلى المستوى التطبيقي، بعد انتقال دول المعسكر الشيوعي إلى اقتصاد السوق والتعددية الحزبية.
      إن العلم المادي في قالبه الجديد ليدفع بالعالم وكل من يتأمل النتائج الراهنة للفيزياء النووية على الخصوص، إلى الإقرار بأهمية المنهج الإيماني وضرورته في تحقيق التكامل بين طرفي المعرفة الإنسانية المادية والروحية الربانية.
ويرى سوليفان  C.W.N.SULIVAN “أن حقيقة كون العلم مقصورا على معرفة البُنى، هي حقيقة ذات أهمية إنسانية عظيمة، لأنها تعني أن مشكلة طبيعة الحقيقة لم يبث فيها بعد… وأن تطلعاتنا الدينية وحسنا الجمالي ليسا بالضرورة ظواهر وهمية كما جرى الافتراض في السابق، وإن من حق الرؤى الباطنية  Mysticsأيضا أن يكون لها مكان في هذا العالم العلمي الجديد”.[25]
وكما أجاب الأعرابي في الصحراء عندما سئل كيف عرف الله بأن “الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على الصانع العليم الخبير؟”، فكذلك يؤكد العلم بأن أثر الإلكترون يدل على وجوده، ويسلكون نفس المنهج في إثبات الكثير من الظواهر، التي تخرج عن دائرة المشاهدة العيانية.
خاتمة
      إن معطيات المعرفة الإنسانية، تؤكد عند النظر الدقيق إمكانية درء التنافر الظاهر بين أجزائها وأنماطها، وأنها مهما اختلفت مجالاتها وتنوعت مناهج البحث فيها، تظل قابلة إذا صدقت العزيمة لجعلها تتكامل وتتظافر في اتجاه الاستجابة لحاجات الإنسان المادية والروحية على السواء.
      وذلك لأن الله الذي شرع الدين، هو نفسه الذي أقام الحياة والموجودات على سنن وقوانين ثابتة. ومن ثم كان بديهيا في عقل المسلم، أن يحصل التناغم والتساند بين معارف العلم ومعارف الدين، إذا ما خلصت من شوائب التغيير والتحريف، كما نجد ذلك مفصلا عند العلامة ابن تيمية في كتابيه: “موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول”، ودرء تعارض العقل والنقل”.
      فقد قسم علماء الاسلام الآيات الدالة على الله إلى آيات مسطورة، وهي المتضمنة في القرآن الكريم، وآيات منشورة وهي الكائنات كلها بما تشتمل عليه من بديع الصنع وجمال الإتقان. وعبروا عن التلاحم بين الكون والوحي بقولهم: ” الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق”.
      والعلم التجريبي اليوم يتيح أكثر من ذي قبل، اكتشاف أسرار الخلق في المخلوقات، مما يزيد في قوة دلالة آيات الأنفس والآفاق على الله الخالق المبدع الحكيم، وتأكيد خدمة العلوم الطبيعية للإيمان بالله وحقائق وحيه الخاتم.
      كما أن التطورات الحاصلة في العلم حاليا، دلت على أننا لا يمكننا التحدث عن التكامل المعرفي بين المعارف الإنسانية وحدها، دون اعتبار التكامل بينها وبين المعرفة الدينية الحقة، وأن الإيمان بالله تعالى هو الإطار الطبيعي لتصور التكامل المعرفي، والتحقق به وتحقيقه في واقع الحياة، وأنه أنجع وسيلة لتحصيل الحقائق الكبرى والانتفاع بها.
ــــــــــــــــــــــ
[1] وحيد الدين خان: “الدين في مواجهة العلم” ترجمة ظفر الإسلام خان مراجعة عبد الحليم عويس، دار الإعتصام، الطبعة الأولى 1972 ص:5.  من خلال قراءة الكتاب يتأكد أن المقصود بالمواجهة بين الدين والعلم ما افتعلته الفلسفة المادية من التضاد والصراع بين الدين الحق والمنهج العلمي الصحيح.
[2] أندرو كونواي إيفي، بحث “وجود حقيقة مطلقة ” كتاب “الله يتجلى في عصر العلم”: إشراف جون كلوفرمونسما، ترجمة: د. الدمرداش عبد المجيد سرحان راجعه وعلق عليه د. محمد جمال الدين الفندي، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر الطبعة 3 السنة 1968.ص 146.
[3] د.المهدي بن عبود: “عقيدة الإسلام إيديولوجية المستقبل” بدون مطبعة، ص:12
[4] عماد الدين خليل: “العلم في مواجهة المادية” قراءة في كتاب حدود العلم لسوليفان مؤسسة الرسالة ط2، 1406/1986. ص 108.
[5]L’homme cet inconnu librairie Plon 1935. P36. . Alexis Carrel
[6] عماد الدين خليل: “تهافت العلمانية” مؤسسة الرسالة، 1403/ 1983.ص 28.
[7] وحيد الدين خان: “الدين في مواجهة العلم” ترجمة ظفر الإسلام خان مراجعة عبد الحليم عويس، دار الإعتصام الطبعة الأولى، 1392/ 1972. ص72.
[8] نفسه ص 71.
[9] – تهافت العلمانية، ص24.
[10] نفسه ص 132.
[11] -العلم في مواجهة المادية، ص35.
[12]نفسه ص24.
[13] نفسه ص 38
[14] – تهافت العلمانية ص 72
[15] –  la Pensée Islamique au secours de l’homme moderne. Abdellah Mansouri.Imprimerie Mohamed5.Fes.1972. p36.
[16]نفسه ص 24.
[17] – العلم في مواجهة المادية، ص 83.
[18] الدين في مواجهة العلم. ص 64
[19] –  موريس بوكاي، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، ترجمة الشيخ حسن خالد. المكتب الإسلامي. ط 3. 1411/1990. ص 173.
[20] العلم في مواجهة المادية، ص 66
[21] الدكتور المهدي بن عبود: “الإنسان وطاقته الروحية” منشورات داتا بريس ط1، 1999. ص 12.
[22] العلم في مواجهة المادية ص 62.
[23] الانسان وطاقته الروحية، ص 9
[24] العلم في مواجهة المادية، ص 80
[25] نفسه ص 63-64

مراجع البحث:
1- “عقيدة الإسلام إيديولوجية المستقبل” د. المهدي بن عبود، المختار الإسلامي بدون ذكر المطبعة.
2- “الإنسان وطاقته الروحية”: د.المهدي بن عبود، منشورات داتابريس ط1، 1999/1420.
3- “العلم في مواجهة المادية” (قراءة في كتاب حدود العلم لسوليفان): الدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة ط2، 1406/1986.
4- “تهافت العلمانية”: الدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، 1403/ 1983.
5- “الدين في مواجهة العلم”: وحيد الدين خان، ترجمة ظفر الإسلام خان مراجعة عبد الحليم عويس، دار الاعتصام الطبعة الأولى، 1392/ 1972.
6- “الله يتجلى في عصر العلم”: إشراف جون كلوفرمونسما، ترجمة: د. الدمرداش عبد المجيد سرحان راجعه وعلق عليه د. محمد جمال الدين الفندي، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر الطبعة 3 السنة 1388/1968.
L’homme cet inconnu   Alexis Carrel .librairie Plon 1935.   -7.
8–  la Pensée Islamique au secours de l’homme moderne. Abdellah Mansouri.Imprimerie Mohamed5.Fes.1972.
9موريس بوكاي، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، ترجمة الشيخ حسن خالد. المكتب الإسلامي. ط 3. 1411/1990.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى