النظر التعليلي وأثره في التفريع الفقهي عند المالكية” من خلال كتاب عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة للفقيه جلال الدين عبد الله بن شاس

                            الدكتور عبد المنعم اكريكر
بحمدك اللّهم أستفتح، وبنورك أستوضح، ومن فضلك وجودك أستمنح، وبقوتك وتأييدك أستنجح، وعلى مصطفاك الخليفة الأعظم أمسي مُصلّيا وأُصبح. وبعد: فهذا ملخص لأطروحة نيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، التي أنجزتها تحت عنوان: النظر التعليلي وأثره في التفريع الفقهي عند المالكية من خلال كتاب عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة للفقيه جلال الدين عبد الله بن شاس: (ت 616هـ).
ويشتمل هذا الملخص على ما يلي:
أولا: التعريف بموضوع البحث.
ثانيا: إشكالية البحث.
ثالثا: مقاصد البحث وأهدافه.
رابعا: خطة البحث ومنهجه.
خامسا: خلاصة البحث وآفاقه.
سادسا: فهرس الموضوعات حسب ترتيبها في أصل البحث.
أولا: التعريف بموضوع البحث.
       هذه الأطروحة والموسومة باسم”النظر التعليلي وأثره في التفريع الفقهي عند المالكية من خلال كتاب الجواهر لابن شاس” أصولية نظرية، إذ تعنى بجانب التأصيل للتعليل عند الفقهاء والأصوليين، من خلال مؤلفاتهم المتينة، وفقهية تطبيقية؛ لأنها بينت أثر التعليل في التفريع الفقهي، وذلك في مذهب من المذاهب الفقهية الكبرى، ألا وهو المذهب المالكي، وأقصد بالمذهب هنا معناه العام عند المتأخرين وهو: ما قاله الإمام مالك أو أحد من أصحابه على طريقته، ونسب إليه مذهبا،لكونه على قواعده وأصله الذي بنى عليه مذهبه، وعليه فإن القصد من هذا الموضوع استجلاء وإبراز النظر التعليلي عند المالكية، وكيف أثر هذا النظر في التفريع الفقهي، والنظر المبحوث عنه هو:منهجية التفكير والتحليل والنقد والحكم، وربط المسببات بالأسباب، والفروع بالأصول، عند أعلام المذهب، وملاحظا أيضا تصرفاتهم ومحاولا تفسير أقوالهم، وفهومهم، مكتشفا ما يمكن أن يعتبر قانونا كليا في بناء الفروع الفقهية. فالنظر التعليلي أقصد به طرق البحث والاستثمار، وهو بهذا الاعتبار يكون أعم من القياس.
وعليه فإن هذه الأطروحة تعالج عدة أمور من أهمها:
       الأمر الأول: ملاحظة المنهجية التعليلية عند علماء المذهب المالكي، وطرق تصرفهم في تنزيل الأدلة نقليها وعقليها على مناطاتها وفق قواعد المذهب، ومدى تأثير هذه المنهجية في التفريع الفقهي، والبناء المذهبي. ذلك أن العلماء مجمعون على أن النصوص الشرعية متناهية، وأفعال المكلفين وحوادثهم غير متناهية، فيبقى الخيط الرابط بين المقدمة الأولى والثانية ما هو؟ إن لم يكن النظر، وإعمال الفكر، واستنباط العلل لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص عليه، سواء ما قيل فيه إنه تعبدي أو معقول المعنى.
      الأمر الثاني: أن هؤلاء العلماء الذين تمذهبوا بمذهب مالك أو غيره لم يكونوا يقولوا فيدين الله وشرائع الأحكام بمجرد استحسان العقل والتقليد المحض لصاحب المذهب من غير دليل، – حاشاهم ذلك- فهذا لا يسمى اجتهادافقهيا ولا تقليدا، وليس إلا القول بالهوى والتشهي، وهو الرأي المذموم الذيصان الله منه أئمتنا وأتباعهم.
      الأمر الثالث: أن النظر التعليلى داخل المذهب المالكي أرجع كثيرا من الفروع إلى أصولها، وحقق الازدواجية بين النقل والعقل، وجعل الفيصل مقصد الشرع، فما قرب منه أولى بالاعتبار مما بعد، وبين لنا كيف أن أعلام المذهب كانوا يجعلون نصب أعينهم قاعدة انبناء الشريعة على جلب المصالح والمنافع، ودرء المفاسد والمضار، وكيف التمسوا أسرار التشريع وعلل الأحكام ليظهروا كمال شرع الله وعظيم حكمته، ولم يصدهم دعوى من ادعى غلق باب الاجتهاد، ولا من جمد على الظاهر.
       الأمر الرابع: انطلاقا من قراءتي المتواضعة أجد أن العلل الفقهية عند المالكية يجري عليها ما يجري على سنن المتغيرات في مجال النمو والتكاثر، إذ تولد غالبا من خلال إشارات خفية لأعلام المذهب، ثم تنمو وتستقر، وقد يضيف المتأخر قيدا أو فصلا في العلة عما عينه المتقدم، ولذا نجد كثيرا من عبارات أعلام المذهب هكذا،قال علماؤنا: العلة كذا..، والعلة عند علمائنا كذا.. وقد علل فقهاؤنا بكذا… وما أشبه ذلك.
       الأمر الخامس: إن هذه الفهوم التعليلية لم يؤت بها لمعارضة النصوص الصريحة والصحيحة، بل هي نوع من الفهم في مقتضيات الألفاظ، لها اعتبارها بشرط أن لا يكون مراعاتها معارضا لنص صريح.
       الأمر السادس: أن التعليل من حيث التنظير بحث بما فيه الكفاية، خصوصا ما تعلق بالجانب الأصولي التقعيدي؛ لكن مع الاقتصار على الأمثلة المدرسية الموجودة في كتب الأصول، والحال أن غالبية الأصوليين يشيرون إلى أن أنواع القياس والاستنباط والنظر هو عمدة الفقه وأغلبه، لكن لم نلامس ذلك تطبيقيا، ولم يتخرج فقهاء على شاكلة الأعلام الذين تمذهبوا بمذهب مالك أو غيره، ولعل السبب في نظري أن التعليل يمارس تنظيرا لا تطبيقا، ومن هنا فما يعاب على طائفة من الأصوليين الإكثار من التجريد والبعد عن التطبيق والتنزيل ينسحب كذلك على هؤلاء المتأخرين.
       الأمر السابع: إن المقلب لصفحات التراث الفقهي المالكي، لا يمكن إلا أن يسلم بالقوة المنهجية عند الاستدلال بالنصوص الشرعية، والحجاج والجدل عند المناظرة وتثبيت الأقوال وتسليمها عن المعارض بحسب القدرة البشرية، بحيث يحصل الاطمئنان بأن هؤلاء العلماء قد خدموا الشريعة من حيث العموم،والمذهب المالكي من حيث الخصوص، بما لا يمكن أن يدفع.
       الأمر الثامن: إذا كنا ننشد الاجتهاد والتجديد وخدمة الشريعة، فطريف الفهم عن الله هو ما سلكه المتقدمون، ومناهجهم مستوعبة لمناهج النظر عند من شاهدوا التنزيل وعلموا مواقعه ومقاصده.
       الأمر التاسع: أن نومئ إلى الطريق التي بها يتخرج المجتهد المستنبط للأحكام الشرعية، وفق مراد الله تعالى. وإعادة النظر في المناهج المعاصرة لتخريج العلماء، فإن الأمة إذا عدمت علماءها المتحققين بالعلم تهلك لا محالة.
       ولما كان تتبع الفهوم التعليلية لكل مجتهد منتسب للفقه المالكي مما لا يمكن أن تحيط به هذه الأطروحة؛ جعلت نصب عينيها أن ترشد إلى معالم هذا المنهج: أعني به ذلك النظر التعليلي، والتفكير الأصولي القياسي المتشبع بروح الشريعة ومقاصدها الكلية،وتدلل عليه تنظيرا، وتمثل له تطبيقا لتفتح الباب لتظافر الجهود، وفتح باب الدرس والقراءة والتنقيب عن الفكر التعليلي عند العلماء المنتسبين للمذهب، والإحاطة بمنهاجهم وأنظارهم التعليلية،حتى تصح عندنا نسبة الانتساب إلى المذهب المالكي.
       فكان لزاما لطبيعة البحث الأكاديمي أن تحصر هذه الأطروحة في مرحلة زمنية أو كتاب فقهي معين جامع، فرأيت بعد استشارة أهل العلم والاختصاص أن أحصرها في كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة للفقيه جلال الدين عبد الله بن شاس –رحمه الله تعالى- والمتوفى سنة 616 هـ وذلك لأسباب عدة أهمها:
ــ أن الكتاب شامل لجميع أبواب الفقه في المذهب المالكي، اعتمد فيه المؤلف على نفائس وذخائر كتب المذهب بدءا من مصنفات الإمام مالك إلى قريب من عصره.
ــ أن فحول الفروعين وأساطين علماء المذهب من تلاميذ مالك إلى عصر المؤلف لهم ذكر في هذا الكتاب، وإشارات لطيفة إلى فقههم واختلافهم وحججهم وعللهم، وهذا كله داخل أصول المذهب وقواعده.
ــ إن الكتاب مبتدع في التأليف الفقهي فيه جدة وإضافة؛ إذ قصد به مؤلفه الرد من خلاله على من زعم أن مسائل الفقه المالكي لا يمكن ترتيبها ولا حصر مسائلها تحت ضابط، وهذا الفهم – كما يشير المؤلف- “صرفهم عن الاستفادة مما اشتمل عليه الفقه المالكي من تحقيق المعاني النفيسة الدقيقة، واستنباط الأحكام الجارية على سنن السلف الصالح بأحسن طريقة، واستثارة الأسباب والحكم التي هي على التحقيق عين الحقيقة، فكانوا كالمعرض عن المعاني النفيسة لمشقة فهمها”.
ــ أن المؤلف اعتنى إلى حد كبير بذكر علل الأقوال، وطرق بنائها، وهذا عامل لضبط الفقه والنحو به إلى العلمية، وربط الجزئيات بالكليات، وهو ينم عن عقلية تعليلية مدركة لما انبنت عليه الأقوال من منطوق أو مفهوم أو نص أو ظاهر أو غير ذلك… الأمر الذي يخدم ما نروم البحث فيه، وهو استجلاء النظر التعليلي، ومدى تأثيره على التفريع الفقهي.
ــ أن الكتاب فيه مادة علمية مقاصدية وأصوليه، – فيما أحسب- ظهر ذلك من خلال العلل والمعاني التي كشف عنها ابن شاس بنفسه، أو استفادها مما سبقه، وهذه العلل هي لب الفقه وجوهره، وهي التي من خلالها تستنبط الأحكام للنوازل والمستجدات.
ــ أن هذا الكتاب يعنى بذكر الخلاف الحاصل بين المالكين أنفسهم، والقواعد التي انبنى عليها، وأسبابه ودواعيه، وفيه تحقيق لكثير من أصول المذهب وقواعده وفهوم العلماء لها.
ــ أن المؤلف اعتنى بذكر الفروع المخرجة على الأصول، ولا يعدم باب أو فصل من ذكر تفريعات مليحة، وهو عين ما نقصده من هذا البحث.
ثانيا: إشكالية البحث:
         هذه الأطروحة تحاول الإجابة عن علاقة العقل بالنقل في إنتاج المعرفة الإسلامية من حيث بيان مدى افتقار كل منهما إلى الآخر، ومدى تأثير النظر العقلي المستند إلى قواعد الشرع وأصوله في إنتاج المعرفة الفقهية المتجددة واللامتناهية، وتحاول أيضا بيان هل قضايا العقول الصحيحة يمكن عقلا وواقعا أن تكون على خلاف مقاصد الشرع والمكلف معا، وهل يمكن للفقيه أن يتصرف في الشريعة من مدخل النظر العقلي التعليلي تصرفا مطلقا أم لا؟، وهل يمكن للمجتهد المقيد أن يزاول النظر العقلي من خلال باب التعليل والتفسير أم لا؟، وهل هناك حدود فاصلة بين الاجتهاد المطلق والاجتهاد المذهبي من حيث استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، وهل التقليد المذهبي جمود على المنقولات أم لا؟. وكيف تسنى للعلماء المجتهدين في مذهب مالك أن يخدموا المذهب ويحافظوا عليه من الاندثار؛ بل وأن يقفوا به طودا شامخا وسط خضم من الأمواج المتلاطمة، والمناظرات الحامية في أيام عز التفكير والاستنباط والاجتهاد؛ فهذا هو الإشكال الرئيس الجوهري، ذلك أني أزعم أن هؤلاء الأعلام الذين اجتهدوا على وفق قواعد إمام معين لم يفعلوا ذلك اعتباطا، ولا قلة معرفة بأصول الشريعة، وموقع الكلام فيها – حاشاهم ذلك- فقد كانوا أكثر علما وأشد ورعا وخشية، فيبقى تفسير هذا الأمر من الأهمية بمكان، فأن يقول القاضي عبد الوهاب البغدادي بوجوب النظر والاجتهاد وهو مقلد لمذهب مالك، وكذا أن يفتي الإمام أبو عبد الله المازري بمشهور المذهب، وهو من هو العالم المجمع على بلوغه درجة الاجتهاد في فقه نصوص الشريعة، وأن يقول العالم المقاصدي الشاطبي: “مراعاة الدليل أو عدم مراعاته ليس إلينا- معشر المقلدين- فحسبنا فهم أقوال العلماء والفتوى بالمشهور منها ” فإن هذا الأمر مشكل.
   لكن – في نظري – فك خفايا ذلك لا يمكن أن يكون إلا من خلال  الكشف عن المنهج التعليلي عند الفقهاء والأصوليين، وكيف استثمر علماء المذهب المالكي هذا المنهج تفريعا وتخريجا، مع علمهم بوجوب النظر والاجتهاد، ليتبين من خلاله الحد الفاصل بين الاجتهاد المذهبي، والاجتهاد المطلق.
         هذه الأسئلة وغيرها أحاول الإجابة عنها في هذه الأطروحة، مركزا على أعلام المذهب الذين اعتقدوا صحة المذهب بما بان لهم من صحة أصوله، فأخذوا أنفسهم بحفظ أقواله، وأقوال أصحابه في مسائل الفقه، ثم تفقهوا في معانيها، فعلموا الصحيح منها، الجاري على أصوله من السقيم الخارج عنها، وبلغوا درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول؛ لما قامت بهم من أوصاف الاجتهاد.
        فهؤلاء الطائفة إياهم قصدت؛ ذلك أني أزعم لولا هذه العقلية التعليلية الفذة والفريدة لما صمد المذهب هذه القرون المتطاولة؛ بل ازداد قوة وصلابة مع مرور الأيام، وإن كان سبق النظر التعليلي قد حازه مالكية العراق، وما كان ذلك لهم إلا لما رأوا من واجب الوقت حينها في مجابهة منهجية الفقه الحنفي- خصوصا- في الاستدلال والحجاج، ومع ذلك فإن معالم التعليل والتقصيد والتنظير، والخوض في أعماق المعاني لالتقاط الدرر منها، واستجلاء عللها وحكمها، قد مهده الإمام مالك نفسه في الموطأ، ومن خلال أجوبته على المسائل التي كان يلقيها تلامذته عليه، وحفظوها عنه، ونقلوها على قواعد المحدثين، وأدوها كما هي ليقف الناظر عليها فيجيب بها إذا وجد ما يماثلها من الحوادث، أو يستنبط ويخرج ويفرع عليها فيما يستجد من نوازل وأقضية ومسائل.
      ولما كانت المعالم الكبرى لمنهج التعليل والتخريج والتفريع موجودة في المذهب المالكي إما تنصيصا أو إيماء وتنبيها، أردنا أن نلامسها في تصرفات أئمة السادة المالكية تنزيلا لها في الفروع الفقهية، وأن نقف على مدخلاتها ومخرجاتها حتى نستطيع أن نتخرج عليها في فقه الاجتهاد المنتسب، ونحاكيها عند نزول النوازل واستحداث الحوادث، وهذا هو الفهم عينه الذي صار عليه الأئمة الأعلام أمثال القاضي إسماعيل وابن القصار والقاضي عبد الوهاب والباجي والمازري والشاطبي وغيرهم.
ثالثا: مقاصد البحث وأهدافه:
رمت من خلال هذا البحث تحقيق مجموعة من المقاصد والغايات من أهمها ما يلي:
ــ استجلاء حقيقة النظر التعليلي عند الفقهاء والأصوليين، وبيان أثره في الفروع الفقهية عند السادة المالكية.
ــ بيان المدارك العلمية لأعلام المذهب حين اشتغالهم على فقه الفروع، وأنهم تكلموا بنظر مبني على قواعد وأسس مضبوطة.
ــ استكشاف طرق إخراج العلل التي استرشد بها فقهاء المذهب في فقه التفريع والتخريج.
ــ إثبات أن الشريعة في عمومها عند المالكية معللة، سواء منها الأحكام التعبدية، أو المعقولة المعنى، ودليل ذلك فقه التفريع والتخريج.
ــ محاكاة المتقدمين في منهج اشتغالهم على نصوص إمام المذهب، والنسج على منوالها لاستخراج أحكام الحوادث والنوازل التي لا نص عليها في المذهب.
ــ بيان أن علم التفريع الفقهي له أسسه وضوابطه، وأنه هو الفقه، وأن من لم يخبر به لم يشم رائحة الفقه.
ــ فتح الباب لدراسة علم التفريع المبني على ملاحظة التعليل، وبيان الأصول التي يستند إليها التعليل  عند جميع أعلام المذهب المالكي، مع التركيز على التركيب دون الإفراد والتجزيء.
رابعا: خطة البحث ومنهجه:
        المقاصد والأهداف التي ذكرت آنفا، رسمت خطة للوصول إليها تجلت في ثلاثة أبواب ومقدمة وخاتمة، فأما المقدمة فوطأت فيها بمدخل في بيان أهمية النظر التعليلي في الشريعة الإسلامية، وخصوصا باب الفقه بما هو تنزيل لأحكام الله على المكلفين، ثم شرعت بعد ذلك في التعريف بموضوع البحث، ثم بينت الإشكالية التي دفعتني للبحث، والأهداف والمقاصد التي جعلتها نصب عيني للتسديد والإرشاد إلى ما يجب الاعتناء به أولا وما يجيء ثانيا.. وهكذا فقد جاء تفصيل هذا الموضوع، بعد المقدمة في ثلاثة أبواب وخاتمة، فأما الباب الأول الموسوم بالنظر التعليلي عن الفقهاء والأصوليين فبينت فيه من خلال ثلاثة فصول مفهوم النظر الموصوف بكونه تعليليا، وذكرت فيه العلاقة بين النظر ومصطلحات تشابهه كالاجتهاد والقياس والتدبر والاستنباط، ثم ختمت الباب بفصل في بيان ما هو الأصل في الأحكام هل التعبد أو التعليل، ثم عقدت بعد ذلك بابا خصصته لبيان ماهية التفريع الفقهي وأهميته في بناء المذهب المالكي مع التركيز على التعريف بالكتاب موضوع الدراسة وهو الجواهر الثمينة وكذا التعريف بالمؤلف، وبيان مكانة كتابه في علم التفريع الفقهي، ثم ثلثت بالباب الأخير والمعنون أثر النظر التعليلي في التفريع الفقهي عند المالكية، وهذا الباب يمثل الدراسة التطبيقية، وقسمته إلى ثلاثة فصول: الأول منهما في بيان الأصول التي يستند إليها النظر التعليلي عند المالكية، والثاني في بيان مسالك التفريع الفقهي المستندة على النظر التعليلي عند المالكية، وحصرته في أصلين اثنين: أصل تقابل الأصول وأصل تحقيق المناط، وختمت الباب بفصل ذكرت فيه مجاري النظر التعليلي في المذهب المالكي. وفي ثنايا الأبواب والفصول مباحث ومطالب ومسائل اقتضاها المنهج العلمي في التحليل والبيان والاستنتاج. ثم ختمت البحث بذكر أهم النتائج التي خلصت لها هذه الأطروحة.
       أما المنهج الذي سلكته في عرض مادة هذا البحث فهو المنهج الوصفي التقريري والاستنتاجي؛ مع مراعاة التسلسل المنطقي عند تقديم أبوابه وفصوله ومباحثه قدر الإمكان، حيث بدأت بالدراسة النظرية للتعليل، ثم بينت معنى التفريع والتخريج الفقهي وأثرهما في البناء الفقهي المذهبي، مرورا على التعريف بالمؤلف والمؤلف موضوع الدراسة وهو كتاب الجواهر الثمينة، ثم ذكرت أثر الصناعة التعليلية في التفريع الفقهي، محاولا حصرها في أصول، مع التمثيل لها في أبواب العبادات والمعاملات.
        ولقد حاولت التمثيل لكل جزئية أذكرها في هذا البحث من أوله إلى آخره، مع التأصيل له بما يسند ذلك المعنى عند علمائنا الأعلام، مسندا المنقولات إلى أصحابها، ومحاولا الربط بين التأصيل الأصولي والاستعمال الفقهي، وخصوصا عند المتقدمين، لكي أضع البحث في إطاره العملي، نابذا الفكرة الشائعة عند بعض الأصوليين، وهي النظر إلى القاعدة من دون النظر إلى مثالها، وهذا مما لا أراه يسهم في صناعة دربة الاستنباط وتربية ملكة الاجتهاد.
       وقد اعتمدت فيما كتبت على أمهات المراجع مع الاعتناء بالأقدم منها ما أمكن، وهذا ليس احتقارا لجهود المتأخرين والمعاصرين، وإنما لبيان أن تأصيل الأصول وتمهيد القواعد؛ فإنما هو عند المتقدمين على التمام والكمال، فإن ظفر طالب العلم بإشارة خفية إلى قاعدة عندهم كان أسعد حالا من وجودها عند من هو دونهم.
        كما أني عرفت بالأعلام غير المشتهرين عند الدارسين والباحثين فيما أظن، ووضعت في خاتمة البحث فهرسا للآيات والأحاديث والآثار والمصادر والمراجع التي اعتمدتها، وفهرسا بموضوعات الرسالة ومحتوياتها.
        وعلى العموم فهذا جهد المقل، وبضاعة العبد المزجاة، لم آل جهدا في البحث عما يخدم الفكرة التي جعلتها نصب عيني، وتعبت فيها الليالي والأيام؛ فإن يكن حالفني توفيق الله، فخير أسعد به، وإن لم أحقق ما صبوت إليه؛ فلعجزي وقلة قدرتي وأهليتي على أن أفصح بما جاش في نفسي، وما أيقنته من قيمة النظر التعليلي في التفريع الفقهي عند علمائنا الأعلام، فعذري أنني نبهت على الإشكال أولا، وثانيا: أنني واضع نفسي لخدمة هذه الفكرة التي لاح لي شعاعها، إلى أن يفتح الله علينا من معارفه النورانية، فينكشف الجهل بنور العلم، وتزول العقدة بنور الفهم، فنبصر الحق كما أبصره أولئك القوم، فنجند أنفسنا لخدمة الشريعة إلى أن نلقى الله رب العزة، وهو راض عنا غير غضبان. فإنه حسبي وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
       ومع هذا فإني آذن لكل من عثر في هذا البحث المتواضع على خطأ أو زلل أن يصلحه، أو ينبهني إليه، وله منا خالص الشكر والتقدير، ولنا في أئمتنا الأعلام قدوة، فقد قال القاضي أبو بكر بن عاصم في مقدمة منظومته الأصولية:
        وما بها من خطأ ومن خلل ……….أذنت في إصلاحه لمن فعل
        لكن بشرط العلم والإنصاف………فذا وذا من أجمل الأوصاف
خامسا: خاتمة وفيها خلاصة البحث وآفاقه.
أولا: خلاصة البحث:
1ــ النظر التعليلي هو خلاصة ملاحظات دقيقة في أصول الشريعة وفروعها
من طرف العلماء المجتهدين، ولا يستطيعه إلا من تمكن من ناصية قواعد العلم، والتي هي مفتاح للنظر الفاحص والدقيق في أصول الشريعة الكلية وقواعدها الإجمالية، وأدلتها التفصيلة الجزئية.
2ــ النظر التعليلي بما هو مسلك من مسالك الكشف عن الأحكام الشرعية، له قواعده وأسسه ومجالات عمله واستعماله، ويعتبر القياس الشرعي من أخص خصائصه؛ إذ القياس مبناه على ملاحظة العلة والتعليل انتزاعا للمعاني من النصوص وتعديتها إلى الفروع، ولذا لا يمكن لمن أراد أن يتصدى للنظر التعليلي في أصول الشريعة وفروعها، أن يكون جاهلا بالقياس الفقهي.
3ــ أن النظر التعليلي الذي أعمله العلماء في الأصول والفروع مستنده إلى التوقف، فلا يوجد معنى أظهره العلماء تعليلا لمسألة ما وهو مقول بضرب من الخرص والرجم بالغيب، فهذا لم يعهد ولم نقف عليه، وإنما تعليلاتهم جارية وفق سنن المتحققين بالفقه من السلف الماضين، ومنتزعة من أدلة الشريعة الجزئية والمتواردة على معنى واحد إلى أن تفيد فيه القطع أو الظن الغالب.
4ــ أن الأدلة التي استند عليها علماء المالكية وجعلوها أصولا يعللون بها الأحكام الجزئية غير منحصرة في عدد معين، ومن رام حصرها فإنما حصل له ذلك باعتبارات معينة، وإلا فهي كثيرة جدا لكن مرجعها النقل والتوقيف.
5ــ التعليل الفقهي أوسع كثيرا من التعليل الأصولي، ذلك أن التعليل الفقهي يغلب عليه طابع الاستعمال بخلاف التعليل الأصولي فهو أقرب إلى التجريد والنظرية منه إلى التطبيق والاستعمال، وإن الحاجة ماسة لإحياء التعليل الفقهي كما هو مستعمل عند أئمتنا الأعلام الذين تحققوا بالأصول تحققا تاما، ونزلوها على الوقائع تنزيلا مضبوطا، ولذا وجدنا قوة علمية واستنباطات تعليلية دقيقة لمن كان مزاوجا بين علم الأصول وعلم الفقه من أمثال القاضي عبد الوهاب البغدادي وأبي عبد الله المازري، والقضاة أبي الوليد الباجي وأبي بكر بن العربي وابني رشد الجد والحفيد وأضرابهم.
6ــ التعليلات التي أظهرها الفقهاء عند اشتغالهم بالفروع الفقهية تعتبر زبدة الفقه، ومن لم يفقهها لم يشم رائحة الفقه؛ ذلك أن الفقه بما هو فهم خاص في الشرع، من خلال ألفاظ مخصوصة، وهذه الألفاظ تشتمل على معان ودلالات، والتعليل هو الكاشف الحقيقي عن تلك المعاني والدلالات، وعليه فالتعليلات الفقهية لا حصر لها، وذلك لكون المعاني المبثوثة في الأدلة غير منحصرة، فالتعليل ينسحب على أحكام جميع الفروع كانسحاب القرآن والسنة على جميع الوقائع النازلة بالمكلفين إلى يوم القيامة تحقيقا للمقالة الذهبية التي أوردها الإمام المطلبي في رسالته بقوله:” كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم، أو على سبيل الحقِّ فيه دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: إتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طُلِب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد”.([1])
7ــ أن فقهاء المالكية في جميع مراحلهم أبعد ما يكونون عن التقليد الصرف، وإنما هم علماء مجتهدون يبدون ما يظهر لهم من تفريعات عن قواعد منهجية مضبوطة، ولم يكن فيهم من يقول في دين الله بالهوى والتشهي، حاشاهم ذلك، وعليه فقد وجدنا اختلافهم في الفرع الواحد مع وحدة الأصل المنطلق منه بل الأصول المختلفة، واعتبرت أقوالهم من مقولات المذهب المالكي، وما ذلك إلا لكون هذه الأقوال بذل فيها أصحابها غاية الجهد والوسع، ثم إنها سبرت فوجدت لها مدارك قوية، ولها حظ كبير من النظر والاعتبار.
8ــ أن النظر التعليلي في الفروع الفقهية يمكن أن يحصر ويضبط في مدارك تجمعه من غير الوجهة المعروفة- أعني ذكر الأدلة الإجمالية والتمثيل للفروع المبنية عليها- ولقد حاولت جهدي الكشف عن ضوابط فقهية أصيلة فاتضح لي أن أربط التفريع المنبني على ملاحظة التعليل بأصلين يعتبران قاعدة من قواعد البناء الفقهي عند المذاهب عموما والمذهب المالكي خصوصا. أولاهما: أصل تقابل الأصول، وثانيهما: أصل تحقيق المناط.
أما الأول: وهو أصل تقابل الأصول فقد استعمله فقهاؤنا كثيرا، وبنوا عليه تفريعات مختلفة، وأرجعوا خلافات مذهبية إليه، وحاصله تقابل الأمارات الظنية عند المجتهد في الفرع الذي يريد إثبات الحكم فيه؛ إما بالنفي أو الإيجاب، وهذا مجال تتسع فيه مدارك المجتهدين وتختلف اعتباراتهم استنادا إلى الأصل الذي اعتمدوا عليه، فقد يتنازع الفرع الواحد أصلان أو أكثر؛ بل قد يكون الفرع الواحد له أصل واحد، وكل مجتهد يظهر نتيجة فيه غير ما أظهره مجتهد آخر مثله في نفس الفرع.
وأما الثاني: فهو أصل تحقيق المناط فحاصله يرجع إلى تحقيق العلة المنتزعة من الأصل في الفرع، ولما كانت الألفاظ تتضمن مناطات ومعان كان اعتناء المجتهد بتحقيق المناط له أهمية كبرى كاعتنائه بتنزيل النصوص، بل أقول إن تنزيل النصوص على الوقائع والأعيان يتوقف توقفا تاما على تحقيق المناط، فلا يمكن أن ينزل نص على مناط ليس هو له، هذا من جهة ومن جهة أخرى إن الكشف عن مناط محدد يترتب عليه القول بما يلزم منه وتوقف عليه، ولذا وجدنا علماءنا يخرجون تفريعات مختلفة بناء على تحقيق المناط، ويرمزون إلى ذلك بمصطلح تحقيق العلة.
9ــ أن النظر التعليلي كان حاضرا عند علماء المذهب المالكي في جميع العمليات الاجتهادية سواء كانت إبرازا لاختيارات فقهية، أو تحقيقا لمسائل مذهبية، أو ترجيحا لقول على آخر داخل المذهب، أو لبيان حجية الأصول التي اعتمدها المالكية في الاستنباط وخالفوا فيها غيرهم، أو غير ذلك من المسالك الاجتهادية والتي يعتبر التعليل الفيصل في الإقناع بأحقية النتائج المتوصل إليها أم لا.
ثانيا: آفاق البحث:
1ــ فتح باب الاشتغال لتأصيل التفريعات الفقهية، وذلك باعتماد مسلك الآثار والاعتبار، وإن كان هذا الأخير هو المتأصل والغالب، لأن كثيرا من التفريعات الفقهية يعز فيها الدليل النقلي بمعناه الخاص، وإن كان بمعناه العام موجودا، والكاشف لدخول التفريعات الفقهية في الدليل النقلي بمعناه العام، إنما هي الأنظار التعليلية لمن تحقق بالشريعة أصولا وفروعا.
2ــ البحث عن آليات جماعية تكاملية من أجل استخراج التعليلات الفقهية من المدونات المالكية الأصيلة بدءا من الموطأ والمدونة، ووصولا إلى أعمال المتأخرين على متون الفقه المالكي، وبينهما كتب وأفكار وأفهام تعتبر من أهم لبنات بناء معلمة الفقه المالكي.
3ــ العمل على إرجاع العلل إلى أصولها التي استفيدت منها، إذ أن التعليل الفقهي له أصول يعتمد عليها، فكل علة أظهرها الفقهاء، إنما هي مستندة إلى أصول مركبة من الدليل النقلي والعقلي في غاية الإبداع والتوازن، أو على حد قول الشاطبي ” الأصول النقلية المستندة على أطراف من القضايا العقلية”.
4ــ محاولة إحياء الفقه المالكي، وذلك باستثمار التعليلات الفقهية في القضايا والنوازل المستجدة التي تطرأ على واقع المكلفين.
5ــ العمل على إيجاد ثلة من الباحثين الجادين لهذا المشروع، وذلك بالتهيؤ النفسي والعلمي والخلقي للبحث في التعليل الفقهي في تراث علمائنا الأعلام، فإذا كان ابن شاس في زمانه يتألم من كون المشتغلين بالعلم  في زمانه من المالكية أعرضوا عن نفائس المقولات  المالكية المبثوثة في كتبهم، فحرموا من الاستفادة مما اشتملت عليه تلك الكتب “من تحقيق المعاني النفيسة الدقيقة، واستنباط الأحكام الجارية على سنن السلف الصلاح بأحسن طريقة، واستثارة الأسباب والحكم التي هي على التحقيق عين الحقيقة، فكانوا كالمعرض عن المعاني النفيسة لمشقة فهمها، والمضرب عن الجواهر الثمينة لتكلف نظمها”. فإذا كان هذا حال المتفقهين في زمان ابن ساش فكيف بزماننا نحن.
6ــ إحياء فقه الفروع حفظا ومدارسة وفهما، فهو وحده الكفيل بتكوين الملكة الفقهية دون سواه، وذلك بعد التمكن من قواعد الفهم في الشريعة، فما صار علماؤنا الإعلام لهم أفهاما خاصة في الشرع حتى حفظوا فقه فروع العلماء السابقين وفهموه، وعملوا على محاكاته، واستثماره في ما يستجد، والمدونات الفقهية المالكية في علم النوازل والمسائل خير دليل على ذلك، وبهذا الاعتبار نفهم لماذا كان الإمام المازري لا يفتي إلا بالمشهور، والشاطبي يقول:” مراعاة الدليل أو عدم مراعاته ليس إلينا – معشر المقلدين- فحسبنا فهم أقوال العلماء والفتوى بالمشهور منها، وليتنا ننجو”.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وأله وصحبه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Print Friendly, PDF & Email

‫6 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى