من ذلك ما كتبه دانييل جولمان Daniel Goleman في كتابه الرائد والدائع الصيت ”الذكاء العاطفي” the emotional intelegence، هذا الكتاب الذي يرجع له الفضل إلى جانب كتابات أخرى، في الإسهام بلفت الانتباه إلى مسألة المهارات الاجتماعية، وتعالقها مع نظرية الذكاءات المتعدددة.[1] وأثر ذلك في تحقيق النجاح وبناء الشخصية وتحقيق الفعالية والإنجاز. ولقد تمت الإفادة من مثل هذه الكتابات في تطوير المناهج التربوية، والانتقال من البراديجم السلوكي في التربية والتعليم، الذي يتعامل مع المتعلم كصفحة بيضاء، مركزا على الكفايات المعرفية وحدها، وعلى ثقافة الشحن والتلقين- إلى البراديجم السوسيوبنائي، الذي يروم إعادة الاعتبار لذات المتعلم في المشاركة الفعالة في بناء التعلمات، وأخذ تمثلاته واهتماماته بعين الاعتبار، والتركيز على البعد الوظيفي للمعارف، وبناء المهارات وتحقيق الكفايات المنهجية والتواصلية والثقافية. ولا ريب أن الأسرة باعتبارها مؤسسة، في حاجة ماسة وملحة للمهارات الاجتماعية، وهو ما سوف أبينه من خلال كتاب الذكاء العاطفي. لمحة عن دانييل جولمان: دانييل جولمان: حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد. كان كاتبا في صحيفة نيويورك تايمز في علوم المخ وسلوكياته. له العديد من المقالات في الجرائد العالمية. كان كبير محرري مجلة (علم النفس اليوم). صدر له أيضا: (الأكاذيب القاتلة) و(الحقائق البسيطة) و(العقل التأملي) كما اشترك في تأليف كتاب (الروح المبدعة) تصدر كتابه (الذكاء العاطفي) قائمة أكثر الكتب مبيعا على مدى عشرة شهور في بريطانيا. لمحة عن الكتاب: الكتاب صادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت رقم 262 ترجمة ليلى الجبالي. ضم الكتاب مجموعة من القضايا هي كالآتي: في القسم الأول تناول المخ الانفعالي: العواطف لماذا؟ وتشريح النوبات الانفعالية وفي القسم الثاني: طبيعة الذكاء العاطفي: – عندما يخون الذكاء- واعرف نفسك- عبيد العاطفة- القدرة المسيطرة- جذور التعاطف- الفنون الاجتماعية. في القسم الثالث: – الذكاء العاطفي في التطبيق – الأعداء الحميميون – التحكم بالعاطفة- العقل والطب – الفرص المتاحة- بوثقة الأسرة – الصدمة وإعادة التعلم العاطفي- الطبع ليس قدرا محتوما القسم الخامس: محو الأمية العاطفية: – ثمن الأمية العاطفية – تعليم العواطف. يستهل دانييل جولمان مؤلفه بقصة طريفة، وهي قصة تعكس الحس البيداغوجي للمؤلف، في استمالة القارئ وحفزه للانخراط الإيجابي وعدم استثقال المادة العلمية، بحيث يمزج بين العمق الأكاديمي والطرح الانسيابي للأفكار وتقريبها إلى القارئ. ومفاد القصة كما يرويها المؤلف قائلا: ما زلت أذكر ذلك المساء شديد الرطوبة من أحد أيام أغسطس في مدينة نيويورك، حيث التجهم والتوتر هو السمة الغالبة على وجوه الناس…فشد انتباهي سائق الحافلة … الذي ترتسم على وجهه ابتسامة دافئة، الذي حياني بود: مرحبا، كيف حالك؟ وبعد أن أخذت مكاني، سمعته يرحب بكل راكب يصعد إلى الحافلة وهو يشق طريقه ببطء شديد وسط زحام المدينة. وكانت ملامح الدهشة تبدو على وجه كل راكب مثلي تماما. ولأن الجميع استغرقهم المزاج الكئيب بالرد إلا من عدد محدود منهم…وظل السائق يجري (مونولوجا) مع نفسه شد اهتمام جميع الركاب. سمعناه يعلق بصوت مرتفع على كل ما نراه من النوافذ حولنا، مثل في هذا المحل تخفيض هائل في الأسعار) أو (في هذا المتحف معرض رائع..) أو (هل سمعتم عن الفيلم الجديد الذي بدأ عرضه في هذه السينما؟ ومع الوقت انتقلت (عدوى) ابتهاجه بما تتمتع به المدينة من إمكانات ثرية إلى الركاب. ونزل كل فرد في محطته، وقد خلع عن وجهه ذلك القناع المتجهم الذي صعد به. وعندما كان السائق يودع كلا منهم بقوله: إلى اللقاء يوما سعيدا… كان يأتيه بابتسامة جميلة على الوجوه.[2] لقد انطبع موقف السائق في ذاكرة دانييل جولمان، إلى درجة أنه كلما تخيل انتشار المشاعر الطيبة بين ركاب الحافلة، مرورا بالمدينة، اعتبر ذلك السائق مصلحا يجوب المدينة، أو باعث سلام في مجموعة من البشر بمقدرته السحرية على التخفيف من حالة التجهم الشديد، البادية على وجوه الركاب فإذا بقلوبهم تنفتح ويتحول التجهم إلى ابتسامة. تلخص القصة فكرة الكتاب وترسم صورة تقريبية لمحتوياته. فالسائق هو نموذج الإنسان الذي يستوعب الأخرين ويفهم مشاعرهم، وهو الواثق من نفسه المؤثر في غيره بشكل إيجابي، الطارد للمشاعر السلبية والباعث على البهجة والسرور، وهو نموذج الأب المربي المحتضن للناشئة، الذي يكون رحمة وسلاما، وهو نموذج الزوج المتفهم صاحب الذوق الرفيع والمشاعر الجياشة والحس المرهف. لقد مثلث هذه الطريقة في تناول القضايا والمفاهيم والإشكالات أسلوبا مطردا على طول الكتاب، مما من شأنه جعل القارئ ينخرط بشكل إيجابي، ويتفاعل مع الأفكار المطروحة، ويستوعب المعطيات العلمية الشائكة، وبهذا يكون جولمان قد جسد فكرة الكتاب من خلال أسلوبه في الكتابة. يرى المؤلف أن هناك فراغا علميا فيما يتعلق بالاهتمام بالجانب العاطفي والاجتماعي للإنسان، ولكن أتاحت المعطيات العلمية الحديثة، ومكنت من التناول العلمي للموضوع، وتناول الأسئلة الملحة المتعلقة بالنفس الإنسانية في أكثر صورها العقلانية… ويمكن ذلك من تجاوز النظرة الضيقة للذكاء، والقائلة إن حاصل الذكاء IQ هو من المعطيات الوراثية الثابثة التي لا تتغير مع الخبرات الحياتية، وأن قدرنا في الحياة مرهون إلى حد كبير بهذه الملكات الفطرية، ويتجاهل هذا الرأي السؤال الأكثر تحديا والمتمثل في: ما الذي يمكن أن نغيره لكي نساعد أطفالنا على تحقيق النجاح في الحياة؟ وما العوامل المؤثرة التي تجعل من يتمتع بمعامل ذكاء مرتفع على سبيل المثال، يتعثر في الحياة، بينما يحقق آخرون من ذوي الذكاء المتواضع نجاحا مدهشا؟ إنني أذهب في هذا الصدد إلى أن هذا الاختلاف يكمن في حالات كثيرة، في تلك القدرات التي نسميها هنا الذكاء العاطفي the emotional intelegence والذي يشمل ضبط النفس، والحماس والمثابرة، والقدرة على حفز النفس، وهذه المهارات يمكن تعليمها لأطفالنا لنوفر لهم فرصا أفضل أيا كانت الممكنات الذهنية التي منحها لهم حظهم الجيني.[3] لهذا يبين جولمان أنه يقوم من خلال كتابه بدور الدليل، في رحلة عبر تلك الاستكناهات العلمية لعواطف الإنسان، رحلة هدفها الوصول إلى مزيد من الفهم لبعض أكثر اللحظات المحيرة في حياتنا الشخصية وفي العالم المحيط بنا، وسنكون قد وصلنا إلى نهاية الرحلة، إذا ما فهمنا معنى وكيفية ربط الذكاء بالعاطفة.[4] كما ينبه إلى أن أكثر أجزاء الكتاب إثارة للقلق هو ذلك المسح البحثي، الذي أجري على عدد ضخم من الآباء والمعلمين، والذي كشف عن اتجاه سائد في صفوف أطفال الجيل الحالي في العالم كله، يتمثل في كونهم أكثر اضطرابا عاطفيا من الجيل السابق، وأكثر إحساسا بالوحدة وأكثر اكتئابا، وأكثر غضبا وجموحا وأكثر عصبية وقلقا، وأكثر اندفاعا وعدوانية. ويكمن العلاج حسب رأيه في الكيفية التي نُعدّ بها صغارنا لمواجهة الحياة، ونحن نترك أمر التعليم العاطفي لأطفالنا، في الوقت الحاضر لعامل المصادفة، وهو ما يترتب عليه نتائج وخيمة بصورة متزايدة، ومن ثم لابد من نظرة جديدة للدور الواجب على المدرسة أن تضطلع به من أجل تعليم طلابها، بحيث يجمع التعليم فيما بين ثقافتي العقل والقلب.[5] كما يتنبأ بيوم يصبح فيه التعليم متضمنا بصورة روتينية، مناهج لغرس قدرات مثل التعاطف مع الآخرين، وضبط النفس والوعي بالذات، وفن الاستماع وحل الصراعات والتعاون.[6] لقد استند دانييل جولمان على مجوعة من الأبحاث والدراسات العلمية لعلماء ورواد من بينهم (هوارد جاردنر) Howard Gardner العالم الشهير صاحب نظرية الذكاءات المتعددة و (بتر سالوفاي) Petr Salovay العالم السيكولوجي بجامعة ييل، و(جاك بلوك) Jack Block العالم السيكولوجي بجامعة كاليفورنيا. من أجل تحديد كنه الذكاء العاطفي وعناصره. حيث يشمل خمس مجالات متكاملة: 1ـ أن يعرف كل إنسان عواطفه: فالوعي بالنفس، والتعرف على شعور ما وقت حدوثه، هو الحجر الأساس في الذكاء العاطفي…فالأشخاص الذين يثقون بأنفسهم، هم من نعتبرهم أفضل من يعيشون حياتهم، لأنهم يمتلكون حاسة واثقة في كل ما يتخذونه من قرارات، مثل اختيار زوجاتهم، أو الوظيفة التي يشغلونها. 2ـ إدارة العواطف: إن التعامل مع المشاعر لتكون مشاعر ملائمة، قدرة تنبني على الوعي بالذات…إن من يفتقرون إلى هذه المقدرة، يظل كل منهم في حالة عراك مستمر مع الشعور بالكآبة، أما من يتمتعون بها فهم ينهضون من كبوات الحياة وتقلباتها بسرعة أكبر. 3ـ تحفيز النفس: أي توجيه العواطف في خدمة هدف ما…أمر مهم يعمل على تحفيز النفس وانتباهها، وعلى التفوق والإبداع أيضا، ذلك لأن التحكم في الانفعالات بمعنى تأجيل الإشباع ووقف الدوافع المكبوتة التي لا تقاوم، أساس مهم لكل إنجاز. 4ـ التعرف على عواطف الآخرين: أو التقمص الوجداني، وهي مقدرة أخرى تتأسس على الوعي بالانفعالات، إنه (مهارة إنسانية) جوهرية بحق… فالأشخاص الذين يتمتعون بملكة التقمص الوجداني، أكثر قدرة على التقاط الإشارات الاجتماعية التي تدل على أن هناك من يحتاج إليهم، وهذا يجعلهم أكثر استعدادا لأن يتولوا المهمة التي تتطلب رعاية مثل مهن التعليم، والتجارة، والإدارة. 5ـ توجيه العلاقات الإنسانية: إن فن العلاقات بين البشر هو في معظمه مهارة في تطويع عواطف الآخرين…والفعالية في عقد الصلات معهم، ولا شك أن المتفوقين في هذه المهارات، يجيدون التأثير بمرونة في كل شيء يعتمد على التفاعل مع الناس. إنهم فعلا نجوم المجتمع.[7] كما يقوم الذكاء الاجتماعي على مجموعة من المبادئ: ـ تنظيم المجموعات: تستلزم المهارة اللازمة للقائد، أن يبدأ بتنسيق جهود مجموعة مشتركة من الأفراد. هذه القدرة العقلية التي يتمتع بها المخرجون، أو منتجو الأعمال المسرحية، والعسكريون، ورؤساء المنظمات. ـ الحلول التفاوضية: موهبة الوسيط الذي يستطيع أن يمنع وقوع المنازعات، أو يستطيع إيجاد الحلول للنزاعات التي تنشب بالفعل. هؤلاء الوسطاء الذين لديهم هذه القدرة، يتفوقون في عقد الصفقات، وفي قضايا التحكيم، والتوسط في المنازعات، وفي السلك الديبلوماسي، أو في التحكيم القانوني. ـ العلاقات الشخصية: إنها فن العلاقات بين البشر، هؤلاء الأشخاص نراهم أعضاء بارزين في الفرق الرياضية، أو أزواجا يعتمد عليهم، أو أصدقاء طيبين، أو مديري شركات أعمال، أو معلمين ممتازين. ـ التحليل الاجتماعي: القدرة على اكتشاف مشاعر الآخرين ببصيرة نافذة، ومعرفة اهتماماتهم ودوافعهم لمعرفة الناس، وكيف يشعرون بهم…وقد يصبح من يتمتع بهذه القدرة طبيبا كفؤا أو مستشارا. وإذا ارتبطت بالمواهب الأدبية، فقد يصبح روائيا، أو مؤلفا دراميا موهوبا. أما إذا اجتمعت هذه المهارات معا فتصبح مادة لصقل وتهذيب العلاقات بين الناس بعضهم ببعض، وهي المكونات الضرورية للجاذبية، والنجاح الاجتماعي، بل أيضا ل(الكاريزما- charisma).[8] وإذا كان الذكاء العاطفي يسهم في النجاح في الحياة، بما يعنيه من اكتساب للمهارات الاجتماعية، فإن فقدانه يعد في مقابل ذلك سببا لتفشي كثير من الظواهر السلبية مثل تصاعد معدلات الطلاق بشكل مهول وصاروخي.[9] ومنه يشكل كل من تنمية الذكاء العاطفي وبناء المهارات الاجتماعية علاجا حقيقيا للمشاكل الأسرية، ومن نماذج ذلك وأدلته ما ذكره جولمان من خلال قوله: وانطلاقا من النتائج المحتملة للاختلافات بين الأشخاص، في كيفية تعامل الرجال والنساء مع المشاعر المؤلمة في علاقتهم، طرح سؤال عما يمكن أن يفعله الزوجان لحماية مشاعر الحب والعاطفة التي تجمعهما، أي –باختصار- ما الذي يحمي الزواج…؟ يقدم الباحثون في الشؤون الزوجية نصيحة محددة للرجال والنساء، على أساس دراسة التفاعل في علاقة الأزواج التي استمرت مزدهرة لسنوات عدة، يقدمون نصيحة محددة للرجال والنساء وبعض الكلمات العامة: يحتاج الرجال والنساء- عموما- إلى شتى أنواع التوافق العاطفي الدقيق، فالنصيحة للرجال، ألا يتجنبوا الخلاف مع زوجاتهم، بل أن يدركوا أن الزوجات عندما يطرحن بعض الشكوى أو الخلاف معهم، فهن يفعلن ذلك من منطلق الحب، ويحاولن الحفاظ على حيوية العلاقة ونموها- على الرغم مما قد يكون لدى الزوجة من دوافع عدائية أخرى- فإذا ما حبست الزوجة ما تشكو منه، تتراكم بداخلها وتتكثف إلى أن تصل إلى نقطة الانفجار، أما إذا نفثت عنها وأخرجتها فسيتخفف الضغط النفسي عليها, وعلى الأزواج أن يدركوا أن غضب الزوجات وشعورهن بعدم الرضا لا يمثلان هجوما شخصيا عليهم، فغالبا ما تكون انفعالات زوجاتهم تأكيدا لمشاعرهن القوية بالنسبة للموضوع محل النقاش.[10] والمطلوب من الرجال أيضا أن يتوخوا الحذر من تقصير دورة المناقشة وتقديم حل سريع، ذلك لأن ما هو أكثر أهمية للزوجة هو استماع زوجها لشكواها وتعاطفه مع مشاعرها حول الموضوع الذي تتحدث فيه (على الرغم من عدم اتفاقه معها). فقد تشعر الزوجة أن النصيحة التي يقدمها شيء لا أهمية له، لأنها وسيلة غير متسقة مع مشاعرها، أما الأزواج القادرون على البقاء مع زوجاتهم في أثناء عرض شكواهن من أمور تافهة، فهم بذلك يساعدونهن على الإحساس بأنهم يصغون إليهن ويشعرن نحوهن بالاحترام. والواقع أن معظم الزوجات يرغبن – على وجه الخصوص- في الاعتراف بمشاعرهن الصادقة واحترامها حتى لو اختلف الأزواج معهن، وتشعر الزوجة في معظم الأحيان بالهدوء النفسي، عندما يستمع زوجها إلى وجهة نظرها، ويتفهم مشاعرها.[11] ويشير أيضا جولمان إلى أهمية الأساليب التربوية في بناء شخصية الطفل وكيفية التصرف مع الأخطاء: وقد ثبت أن أسخف الأساليب العاطفية الأبوية الشائعة: ـ تجاهل المشاعر تماما: هؤلاء الآباء ينظرون إلى قلق الطفل العاطفي على أنه تافه وممل. يجب أن ينتظروا حتى ينتهي من تلقاء نفسه. هؤلاء الآباء يفشلون في استغلال لحظات الطفل العاطفية كفرصة يتقربون فيها من الطفل أكثر، أو لكي يساعدوه على تعلم الكفاءة العاطفية. ـ أسلوب دعه وشأنه: هؤلاء يلاحظون مشاعر الطفل، ويعتبرون أي عاطفة انفعالية للطفل، مهما كانت شيئا لطيفا، حتى لو كانت مزعجة. هؤلاء الآباء من النادر أن يظهروا لأبنائهم استجابة عاطفية مختلفة. ـ أسلوب احتقار مشاعر الطفل وعدم احترامها: مثل هؤلاء الآباء يوصفون بالرافضين رفضا مطلقا في انتقاداتهم وعقابهم. قد يمنعون الطفل مثلا من إظهار غضبه على الإطلاق، ويعاقبونه إذا ظهرت منه أقل علامة من التأثر. هؤلاء الآباء من النوع الذي يصرخ في وجه الطفل بغضب إذا حاول أن يوضح موقفه، فيصرخون قائلين: اسكت تماما، لا ترد علي…). ـ وأخيرا هناك آباء ينتهزون توتر الطفل واضطرابه ليتصرفوا معه بالشكل الذي يشعره بأنهم سنده العاطفي، يفكرون في مشاعر الطفل بجدية كافية، ويحاولون فهم ما يزعجه بالتحديد. ولكي يكون الآباء سندا فاعلا لأطفالهم، ينبغي عليهم أنفسهم أن يكونوا متمكنين من مبادئ الذكاء العاطفي.. وكلما شب الأطفال وكبروا، تنتقل إليهم الدروس العاطفية المحددة، وهم على استعداد لتقبلها. .. وتبدأ دروس التعاطف مع الأطفال الرضع.[12] ومن التوجيهات الأساسية التي يلح عليها جولمان أن المهارات الاجتماعية مسار وسيرورة وليست معطى جاهزا، يقول: يبدأ الفرق في النظرة إلى الحياة يتشكل منذ السنوات الأولى من حياة الطفل. .. فعلى الوالدين أن يفهما كيف تساعد أفعالهما الطفل على بث الثقة، وحب الاستطلاع، ومتعة التعلم، وتفهم الحدود التي يجب أن يتوقف عندها…) فيما يساعد الأطفال على النجاح في الحياة. .. وتبين مجموعة من الدلائل أن النجاح في المدرسة يعتمد على مدى مذهل من الخصائص العاطفية، التي تكونت في سنوات ما قبل المدرسة… إن السنوات المبكرة من العمر، تمثل الفرصة الأولى لتشكيل مكونات الذكاء العاطفي، على الرغم من أن هذه القدرات تستمر في التكوين طوال سنوات الدراسة، كما أن قدرات الطفل العاطفية التي يكتسبها في حياته، ترتكز على ما تشكل في هذه السنوات المبكرة، فهذه القدرات العاطفية هي الأساس الضروري لكل أشكال التعلم. وقد أبرز تقرير صادر من المركز القومي الإكلينيكي لبرامج الأطفال، أن النجاح الدراسي لا ينبئ به رصيد الطفل من المعارف، أو مقدرته المبكرة الناضجة على القراءة، بقدر ما تنبئ به المقاييس العاطفية والاجتماعية، تلك المقاييس المتمثلة في ثقته بالنفس، وأن يكون مهتما، ويعرف طبيعة التصرفات المتوقعة، وكيف يكبح ميله إلى التصرف الخطأ، وأن يكون قادرا على الترقب والانتظار والالتزام بالتوجيهات، واللجوء إلى مدرسيه لمساعدته، والتعبير عن احتياجاته عندما يكون منسجما مع الأطفال الآخرين. ويضيف، بأن معظم متواضعي المستوى من الطلبة، يفتقرون إلى عنصر أو أكثر من عناصر الذكاء العاطفي المذكورة (بصرف النظر عما إذا كانت لديهم صعوبات معرفية مثل عدم مقدرتهم على التعلم). والواقع أن خطورة هذه المشكلة ليست بالقدر البسيط. فقد وجد في بعض الدول أن هناك طفلا من كل خمسة أطفال لابد أن يعيد الصف الأول عاما آخر، ومع تقدم سنوات الدراسة يتخلفون عن زملائهم، ويتزايد شعورهم بالإحباط، والغيظ، والتمزق.[13] ومن الاستراتيجيات التي ينبغي مراعاتها واستثمارها ما ذكره جولمان أيضا حين يقول: ويعتمد استعداد الطفل لتقبل المدرسة على أهم أساس للمعرفة وهو (كيف تتعلم). وهي سبعة أسس لتكوين هذه المقدرة الحاسمة، ترتبط جميعها بالذكاء العاطفي: 1ـ الثقة: الإحساس بالسيطرة على الجسد والتعامل معه والتمكن من التصرف والتعامل مع العالم المحيط، وأن يشعر الطفل بأنه – على الأرجع- سوف ينجح فيما يعهد إليه به. 2ـ حب الاستطلاع: الإحساس بأن اكتشاف الأشياء أمر إيجابي يملأ النفس بالسرور. 3ـ الإصرار: الرغبة والقدرة على أن يكون مؤثرا، وعلى أن يفعل ذلك بإصرار ودأب، وهذه القدرة ترتبط بالشعور بالكفاءة والفعالية. 4ـ السيطرة على النفس: القدرة على تغيير الأفعال والتحكم فيها بطرق تتناسب مع المرحلة السنية، والإحساس بأن هذا الانضباط نابع من داخله. 5ـ القدرة على تكوين علاقات والارتباط بالآخرين ارتكازا على الإحساس بأنه يفهم الآخرين وأنهم يفهمونه. 6ـ القدرة على التواصل: الرغبة والقدرة على التبادل الشفوي للأفكار، والمشاعر، والمفاهيم مع الغير، وهذا مرتبط بالثقة في الآخرين، والاستمتاع بالارتباط بهم، بمن في ذلك البالغون. 7ـ التعاون: القدرة على إحداث توازن في نشاط الجماعة، بين الاحتياجات الشخصية، واحتياجات الغير. وسواء كان الطفل يحمل بداخله هذه القدرات أم لا، فإن بداية حياته التعليمية منذ اليوم الأول في مرحلة الحضانة، إنما تعتمد على ما تغذى به من الأبوين في مرحلة ما قبل الحضانة، ذلك القدر من الرعاية الذي يرقى إلى مرحلة بداية (العاطفة) التي هي المعادل على مستوى الانفعالات لبرامج التفوق.[14] كما يوظف جولمان قصة ربان الطائرة المستبد الذي كان استبداده سببا مباشرا في هلاكه وهلاك الطاقم المرافق له، وأصبحت هذه القصة تدرس للطيارين في تدريبات الأمان بوصفها حكاية تحذيرية. فالمعروف أن 80 % من حوادث الطائرات تقع نتيجة لما يرتكبه الطيارون من أخطاء، يمكن تجنبها إذا عمل فريق الطائرة معا بمزيد من الانسجام. فالعمل الجماعي يفتح خطوط تبادل الأفكار والمعلومات، والتعاون والإنصات إلى الآخرين، والتفكير بصوت مسموع، واليوم يتم التأكيد على مبادئ الذكاء الاجتماعي في تدريبات الطيارين، جنبا إلى جنب مع تدريبات البراعة الفنية. وتعتبر مقصورة القيادة في الطائرة نموذجا مصغرا لأي تنظيم للعمل، ولكن النقص في الاختبار الدقيق لواقع تحطم الطائرة الدرامي، والآثار المدمرة للمعنويات البائسة للعاملين المرعوبين، أو عجرفة الرؤساء، أو غيرها من عشرات التغييرات المهمة في مواقع العمل نتيجة للعجز العاطفي. ولا جدال في أن انخفاض مستويات الذكاء الاجتماعي يؤدي حتما إلى أدنى مستوى في مجال العمل، وعندما يستمر خط الذكاء الاجتماعي في الانخفاض فإنه يهدد بالإفلاس والانهيار في الشركات.[15] نخلص مما سبق بيانه أن المهارات الاجتماعية: هي مجموع الصفات والقدرات التي تؤهل الشخص للتفاعل البناء والإيجابي مع المحيط والواقع. ويمكن أن نصطلح عليها الكفاءات الاجتماعية أو الكياسة الاجتماعية (التوافق مع الجماعة، فهم الاخرين، تقدير مشاعرهم، الوعي بالذات، المبادرة الإيجابية، التوازن الانفعالي، استيعاب الأخرين، تدبير المواقف الصعبة، حسن التصرف، المرونة، الاستقلالية…). ولذلك ورد عند دانييل جولمان أن المهارات الاجتماعية تشتمل على : الوعي بالذات، والتمييز والتعبير والتحكم في المشاعر، والسيطرة على الاندفاع، وتأجيل الإشباع الذاتي، والتعامل مع الضغط العصبي، والقدرة الأساسية للسيطرة على الاندفاع، ومعرفة الفرق بين المشاعر والأفعال وتعلم اتخاذ القرارات العاطفية الأفضل، بالتحكم أولا في الاندفاع، ثم تحديد الأفعال البديلة ونتائجها اللاحقة قبل أي تصرف، وأكثر الكفاءات تكمن في الكفاءة في إقامة العلاقات الشخصية ومنها: فهم الإيماءات الاجتماعية والعاطفية والقدرة على الاستماع إلى الآخرين ومقاومة المؤثرات السلبية، والنظر بمنظور الآخرين، وتفهم التصرف المقبول في موقف ما.[16] ومن خلال ما تم عرضه من الكتاب، فإن هذه المهارات قابلة للاكتساب والنمو، وإن بناء الشخصية المتوازنة رهين بها، وإن نجاح الشخص في أداء مهامه من أبسطها إلى أعقدها يتناسب طردا وعكسا مع منسوب المهارات الاجتماعية المحصلة. ويعزى الإخفاق في تحقيق الاستقرار الأسري حسب دانييل جولمان إلى غياب المهارات الاجتماعية، ومن ثم يصبح من المتعين إيلاؤها العناية اللازمة. وباستحضار ما تم عرضه من كتاب جولمان فإن المهارات الاجتماعية بيئة حاضنة لبناء التفكير السليم المفضي لتحقيق الأمن الفكري، لأن السلوك كان إيجابيا أو سلبيا هو ثمرة لطبيعة تفكير الإنسان. ولا ريب أن الأسرة تشكل فضاء مناسبا للاكتساب هذه المهارات وتجسيدها على أرض الواقع. لذا يمكن أن نتقدم بأفكار الكتاب ونسعى إلى تجسيدها على أرض الواقع، من خلال التربية بالحب والثقة وإعطاء القدوة من النفس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] صاحب نظرية الذكاءات المتعددة هو هوارد جاردنر، ولكن دانييل جولمان استثمرها وربطها بالمهارات الاجتماعية. [2] نفسه، ص 7_8 [3] نفسه ص 11. [4] نفسه ص 12. [5] نفسه ص 14. [6] نفسه ص 14. [7] – نفسه ص 68_69. [8] نفسه ص، 174- 175. [9] نفسه، ص 188. [10] نفسه ص 204. [11] نفسه، ص 205. [12] نفسه، ص 268. [13] – نفسه، ص 270_ 271. [14] 270- 272 [15] ص 213-214. [16] – الذكاء العاطفي ص 354.