وقبل أن أبدأ الحديث عن المقاصد الوظيفية لعلم أصول الفقه، أحب أن أشير إلى تعريفه لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول المنطقيون، وأبين موضوعه لأن شرف العلم بشرف موضوعه. أما أصول الفقه فتعريفه لقبا كما في منهاج البيضاوي هو: معرفة أدلة الفقه الإجمالية، وكيفيةِ الاستدلال بها، وحالِ المستدل بها[3]. وأما موضوعه: فهو الدليل الشرعي من حيثُ ثبوتُ حجيته، وبيانُ أقسامه، وكيفيةُ الاحتجاج به لاستنباط الأحكام[4]. ومن هنا يعرف شرفه، فشرفه مستمد من موضوعه الشرعي المتعلق بالوحي. ويظهر أثر ذلك الشرف في مقاصد مدارسته وثمار ممارسته، وهو ما سنتدارس فيه إن شاء الله تعالى بما يسر الله. هذا وإن إنعام النظر في كلام الأصوليين وإمعان الفِكَر في طبيعة البنية الأصولية تكشف لنا أن مقاصد دراسة علم أصول الفقه الكلية ثلاثة أقسام كبرى لا رابع لها: مقصد علمي، ومقصد عملي، ومقصد جزائي. أما المقصد العلمي فعلى ثلاثة أنواع: ـ مقصد الاجتهاد التخصصي ـ مقصد استيعاب الفقه الاستدلالي ـ مقصد بناء العقلية الإسلامية الشمولية وأما المقصد العملي فهو: بسط سلطان الشريعة على الحياة الفردية والاجتماعية. ثم المقصد الجزائي: وهو إحراز السعادة الدنيوية والأخروية. والآن نفصل فيها الكلام بما يسمح به مجال البحث، ونقسمها على مطلبين: المقصد العملي ونذكره منفردا في مطلب لأنه يتضمن كلاما مبسوطا تتفرع عنه ثلاثة مقاصد جزئية، ثم المقصد العملي والجزائي بحيث نجمعهما في مطلب واحد نظرا لقلة الكلام فيهما، فنقول وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق. المطلب الأول: المقصد العلمي وهو ثلاثة أنواع: 1 ـ مقصد الاجتهاد التخصصي لما كان موضوع علم أصول الفقه هو البحث في أحوال الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية، وأقسامها، ومراتبها، وكيفية استثمار الأحكام منها على وجه كلي[5]، لزم أن يكون في طليعة مقاصده تخريجُ علماء متمكنين من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية للجواب عن أسئلة الواقع والمتوقع ونوازلهما، والذي يدلنا على هذا المقصد أمور ثلاثة: نص الأصوليين عليه، ثم بداية بعضهم كالباجي أصول الفقه بباب الاجتهاد والإفتاء، ثم اشتراطهم التضلع من علم أصول الفقه ضمنَ علوم أخرى لمن يريد إحكام الصناعة الاجتهادية والإفتائية؛ هذا إجمالا، وأما تفصيلا فنقول: إن علمَ أصول الفقه قمينٌ وجدير بتكوين الملكة الفقهية الحقيقية سواء في درجة الاجتهاد الإنشائي (اجتهاد التخريج)، أو الاجتهاد الانتقائي (اجتهاد الترجيح)، هاته الملكة الفقهية التي إن انضاف إليها (العمل الصالح مع التعليم والإصلاح) سميت ب(الربانية) في أعلى درجاتها، ومن ثم فسر الإمام مجاهد تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما كلمة الربانيين الواردة في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران/ 79]، وفي قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة/ 63] فسرها بالفقهاء فقال: “الربانيون الفقهاءُ، وهم فوق الأحبار”[6]. وقد أشار الإمام الشافعي (204 ه) رحمه الله تلميحا إلى هذا المقصد في مقدمة كتابه الأصولي المسمى بالرسالة فقال: “فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علِممنه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَبُ، ونَوَّرتْ في قلبه الحكمةُ، واستوجب في الدين موضعَ الإمامة“[7]. ولا شك أن علم أحكام الكتاب نصا واستدلالا وهو يسلتزم القدرة الاجتهادية لن يتأتى إلا بعلوم أهمها أصول الفقه. وقد صرّح كثير من الأصوليين بعد تلويح الإمام الشافعي ذاك عن هذا المقصد العالي بعبارات مختلفة المبنى لكنها مؤتلفة المعنى، كقولهم: إن علم أصول الفقه طريق لتخريج الأحكام، أو طريق لاستنباط معاني القرآن، أو طريق لحصول العلم بأحكام فعل المكلَّف، أو لكيفية اقتباس الأحكام من الأدلة وما ماثلها من العبارات المترادفة، ومن ذلك: قول الشاشي الحنفي (344 ه) بعد ذكره للأصول الأربعة: ” فلا بد من البحث في كل واحد من هذه الأقسام ليعلم بذلك طريق تخريج الأحكام“[8]. قول الجصاص الحنفي (ت 370 ه): “فهذه فصول وأبواب في أصول الفقه تشتمل على معرفة طرق استنباط معاني القرآن،واستخراج دلائله، وأحكام ألفاظه، وما تتصرف عليه أنحاء كلام العرب، والأسماء اللغوية، والعبارات الشرعية”[9]. وقول حجة الإسلام أبي حامد الغزالي (ت 505 ه): “اعلم أنك إذا فهمت أن نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية لم يخف عليك أن المقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة“[10]. وقول صفي الدين القطيعي: “والغرض منه معرفة كيفية اقتباس الأحكام”[11]. وقول ابن قدامة: “والمقصود: اقتباس الأحكام من الأدلة”[12]. وقال ابن الساعاتي: “وغايته: معرفة الأحكام الشرعية”[13]. ومن هنا نجد أبا الوليد الباجي المالكي (ت 474 ه) يبدأ كتابه الإشارة في أصول الفقه بأبواب وجوب النظر والاجتهاد وإبطال التقليد في حق العالم وما يتبعه من مسائل الإفتاء[14] على غير عادة المصنفين في الأصول الذين يؤخرون الحديث عنها كما أخرها هو أيضا في كتابه الآخر إحكام الفصول، وإنما قدمها أبو الوليد هنا فيما يبدو لينبه على المقصد الأسمى والهدف الأعلى لعلم أصول الفقه المتمثل في تكوين الملكة الاجتهادية. وقد ذكر القرافي بإسهابٍ في الفرق الثامن والسبعين الفرقَ بين قاعدة من يجوز له أن يفتي ومن لا يجوز له، وحاصله: أن طالب الفقه له ثلاثة أحوال: الأولى أن يكون ضابطا لمختصر في مذهبه يشتمل على مطلقات وعمومات قد قيدت في غيره من المطولات دون أن يكون له علم بتلك المطولات فضلا عن أصول إمامه تفصيلا، فهذا لا يجوز له أن يفتي بالمنقول فضلا عن التخريج عن المنقول. والحالة الثانية: أن يكون ضابطا لمذهب إمامه بتقييد مطلقاته وتخصيص عموماته، ولا دراية له بمدارك إمامه تفصيلا وإنما يدركها إجمالا فهذا له أن يفتي بالمنقول المشهور والراجح وليس له أن يفتي بالتخريج وهو المسمى مجتهد الفتوى والترجيح؛ والحالة الثالثة: أن يكون ضابطا لمذهب إمامه بتقييد مطلقاته وتخصيص عموماته، وهو متقن لأصول الفقه مدرك لأصولِ إمامه تفصيلا، فهذا له أن يفتي بالمنقول وبالتخريج على المنقول في النوازل وهو المسمى مجتهد التخريج وهو أعلى درجة ممن قبله[15]. نلاحظ أن الذي سوغ لمجتهد التخريج أن يُخَرِّجَ أحكام النوازل على المنقول دون مجتهد الترجيح هو إتقان الأول لعلم أصول الفقه واضطلاعه به وتضلعه منه بخلاف الثاني؛ وقد نص القرافي أثناء تضاعيف كلامه على ذلك بحيث ربط التلازم بين الاجتهاد والفتوى بشقيها بعلم أصول الفقه وجودا وعدما فقال في هذا المجتهد المقيد مشبها إياه بالمجتهد المطلق: “وحينئذ بهذا التقرير يتعين على من لا يشتغل بأصول الفقه ألا يخرج فرعا أو نازلة على أصول مذهبه ومنقولاته، وإن كثرت منقولاته جدا فلا تفيد كثرة المنقولات مع الجهل بما تقدم، كما أن إمامه لو كثرت محفوظاته لنصوص الشريعة ولم يكن عالما بأصول الفقه حرم عليه القياس والتخريجات على المنصوصات من قبل صاحب الشرع، بل حرم عليه الاستنباط من نصوص الشارع لأن الاستنباط فرع معرفة الأصول“[16]، وقال فيمن بلغ درجة الاجتهاد المقيد: “وهذا لا يعرفه إلا من يعرف أصول الفقه معرفة حسنة”[17]وقال أيضا: “وذلك يعتمد تحصيل أصول الفقه“[18]. فمن هنا ندرك فضيلة هذا العلم في كونه مرقاة تُمَكِّن من مقصد بناء الملكة الاجتهادية المقيدة كما كان في عصر الأئمة يُمَكِّن من بناء الملكة الاجتهادية المطلقة. ولذلك جعل الأصوليون أهم شروط الاجتهاد التضلع من علم أصول الفقه، قال الإسنَوي: “أصول الفقه علم عظم نفعه وقدره وعلا شرفه وفخره إذ هو مثار الأحكام الشرعية ومنار الفتاوى الفرعية التي بها صلاح المكلفين معاشا ومعادا ثم إنه العمدة في الاجتهاد وأهم ما يتوقف عليه من المواد”[19]. وقال لسان الملة الإمام الباقلاني: (403 ه) “فأما أصول الفقه فهي: العلوم التي هي أصول العلم بأحكام أفعال المكلفين، وقد عُلِمَ أن العلم بهذه الأحكام لا يحصل إلا عن نظر في أدلة قاطعة وأمارات، يؤدي النظر فيها إلى حصول العلم بأحكام فعل المكلف“[20]. إذن فالنظر من حيث هو قوة استنباطية لأحكام أفعال المكلفين إنما وسيلته أصول الفقه. وفي هذا السياق جعل الغزالي أهم شروط الاجتهاد ضبط ثلاثة علوم: الحديث واللغة والأصول، فقال: “ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون: علم الحديث وعلم اللغة وعلم أصول الفقه“[21]، والحق أن الحديث مندرج في الأصول كما نص عليه ابن الهمام وابن أمير حاج وغيرهما[22]، وفي الأصول مزيد تحقيق في اللغة كما قال تقي الدين االسبكي[23]، فلم يبق بعد ذلك بارزا إلا أصولُ الفقه. وحصر أبو إسحاق الشاطبي شروط الاجتهاد في أمرين: المقاصد والعلوم التي تمكن من الاستنباط كاللغة والأصول[24]، فاللغة معلوم أن الأصوليين لهم مزيد تحقيق استقرائي فيها على اللغويين، وأما المقاصد فهي بعض الأصول إذ من رحم مسلك المناسبة والأصول المصلحية خرجت، فآل الأمر إلى أن علم الأصول هو أهم مواد تكوين الملكة الفقهية الاجتهادية. ولأجل كون علم أصول الفقه يحقق ذلك المقصد الأسمى كان تعلمه فرض كفاية على الأمة وفرض عين على من نهض بوظيفة الاجتهاد والإفتاء، قال الفخر الرازي: “تحصيل هذا العلم فرض والدليل عليه أن معرفة حكم الله تعالى في الوقائع النازلة بالمكلفين واجبة ولا طريق إلى تحصيلها إلا بهذا العلم وما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب”[25]. وفصل الأسمندي الحنفي أكثر فقال: “باب – بيان وجوب العلم بأصول الفقه. وكيفية وجوبه. أما وجوبه: فلتعلق دفع أعلى المضار به، وهو العقاب في الآخرة، بيانه: أن دفع العقاب في الآخرة إنما يحصل بالجري على قضايا الأحكام الشرعية، ولا حصول للعلم بالأحكام الشرعية إلا بالعلم بأصول الفقه، فصار العلم بأصول الفقه شيئًا لا مدفع للعقاب بدونه، وما هذا حاله، فهو واجب عقلًا وشرعًا؛ وأما كيفية وجوبه: فهو واجب على التعيين في حق من تعين لذلك وتصدى به لفتوى العوام وتقليدهم إياه(…)، لأن المقصود لا يحصل بدونه، وفي حق العوام واجب على البدلِ لأن المقصود يحصل بدونه، وهو تقليد العالم واتباع فتواه”[26]. وأيضا لأجل تلك الغاية الاجتهادية التي يحققها علم الأصول نال هذا العلم المكان الأعلى والمقام الأسمى بين العلوم الشرعية بلا منازع، ومن حاول النزاع في ذلك نال من العلماء أشد التثريب والتقريع والإنكار، كما في قول شهاب الدين القرافي ردا على من تنقص الأصول: “وقد أجمع قوم من الفقهاء الجهال على ذمّهِ واهتضامهِ وتحقيره في نفوس الطلبةِ بسبب جهلهم به، ويقولون: إنما يُتَعلَّمُ للرياءِ والسُّمعةِ والتغالبِ والجدالِ لا لقصدٍ صحيحٍ، بل للمضاربة والمغالبة، وما علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير، فإن كل حكم شرعى لا بُدَّ له من سبب موضوع، ودليل يدل عليه وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة، فلا يبقى لنا حكم ولا سبب، فإن إثبات الشرع بغير أدلته، وقواعدها بمجرد الهوى خلاف الإجماع (…)، أوَ ما علموا أنه أول مراتب المجتهدين، فلو عدمه مجتهد لم يكن مجتهدا قطعا، غاية ما في الباب أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه الاصطلاحات، أما المعاني فكانت عندهم قطعا (…). وأما قولهم: إنه جدال، فليت شعرى كيف يليق بهم ذم الجدال والجدل، وهو شأن الله تعالى، وشأن خاصته، فقد أقام الله – تعالى – الحجج، وعامل عباده بالمناظرة، قال الله تعالى: {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}، (…) وقال للملائكة: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض}، لما قالوا له: {أتجعل فيها من يفسد فيها}.”[27]. فإذن المقصد الأول لعلم أصول الفقه هو تكوين الملكة الاجتهادية في الشريعة. 2 ـ مقصد استيعاب الفقه الاستدلالي من لم يستطع أن يرقى بعلم أصول الفقه إلى مقام الملكة الاجتهادية فيمكننه تحقيق مقصد شريف أدنى منه وهو القدرة على فهم مدارك الأئمة وأدلتهم التي بنوا عليها مذاهبهم، فتكون أيضا هي مع (العمل الصالح والإصلاح) مرتبةً من الربانية أدنى بالنسبة للتي فوقها. وقد نص بعض الأصوليين على هذا المقصد كما في قول أبي عبد الله البرماوي الشافعي (ت 831 ه) في شرحه لألفيته الأصولية: “فغاية أصول الفقه التوصل إلى استنباط الأحكام الشرعية، أو معرفة كيف استنبطت حيث تعذر إمكان الاستنباط والاجتهاد؛ ليستند العلم إلى أصله، وذلك موصل إلى العمل، والعمل موصل إلى كل خير في الدنيا والآخرة”[28]. فالشاهد من كلامه هو قوله (أو معرفةُ كيف استُنبطت، إذا تعذر إمكان الاستنباط والاجتهاد). وهي ليست بالمرتبة الهينة، فإن معرفة الحكم المستنبط سَلفا بدليله معرفةً تفصيلية منهجية تجعل الناظر متعبدا لله تعالى على هدى أكثرَ من غيره، وتدفعه لحفظ مكانة الأئمة الفقهاء ومحبتهم وتعظيمهم، ومن ناحية أخرى فهي المرتبة التي تعتبر مرقاةً إلى المرتبة العليا التي هي الاجتهاد التخريجي أو الترجيحي على الأقل، فمن لم يمر من الأولى فلن يرقى إلى الثانية، ومن القواعد الأصولية (للوسائل حكم المقاصد). وللذهبي رحمه الله في كتابه زغل العلم والطلب الذي حققه شيخنا العلامة سيدي محمد العمراوي كلام يوهم حصر فائدة الأصول في القدرة على الاجتهاد وإلا فلا فائدة منه، ولذا وجب إيراده هنا ومناقشته، قال رحمه الله: “أصول الفقه لا حاجة لك به يا مقلد، ويا من يزعم أن الاجتهاد قد انقطع وما بقي مجتهد!؛ ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهدا به، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يصنع شيئا، بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرأ لتحصيل الوظائف وليقال، فهذا من الوبال، وهو ضرب من الخبال”[29]. أقول: حصر الإمام الذهبي رحمه الله لفائدة الأصول في الاجتهاد ونبذ التقليد ينبغي حمله على أعلى فوائده وأعظمها وإلا ففيه فوائد أخرى منها ما نحن فيه الآن وهو الاطلاع على مدارك الفقهاء السابقين، ومنها ما سيأتي، وعلى هذا الحصر بنى عدم الفائدة للمقلد بأصول الفقه لأنه في نظره لم يحصل فائدته، وهو تفريع غير صحيح إلا على المبالغة، لأن مبناه غير صحيح أيضا إلا على الحصر الإضافي لا الحقيقي، وذلك لأن لأصول الفقه مقاصدَ أخرى غيرَ الاجتهاد التخصصي كما قلنا، نعم إنكاره على من يزعم انقطاع الاجتهاد والمجتهدين حق إذ لا يخلو زمان ولا مكان من قائم لله بالحجة على الراجح من من مذاهب الأصوليين لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)[30]، وكذلك تحذيره من دراسة الأصول لمجرد نيل الوظيفة دون العمل التعبدي على مقتضاه تحذيرٌ في محله وهو شامل لكل علم شرعي يُدرس للقصد الدنيوي التبعي فقط، وتغيب فيه المقاصد الأصلية للعلم وهي واجب التعبد والدعوة وأجر الآخرة. 3 ـ مقصد بناء النسق الفكري الكلي للعقلية الإسلامية إن علم أصول الفقه كما يُخَرِّجُ مجتهدين وآخرين مستوعبين لمدارك فقه الأئمة المجتهدين، فإنه بالإضافة إلى ذلك يبني العقلية الإسلامية الشمولية لأنه علم معياري تقعيدي ذو قدرات منهجية نسقية منقطعة النظير، وبناؤه للنسق الفكري الكلي للعقلية الإسلامية يتم عبر مستويين: أولهما: قدرته الفائقة على تسويق نظريات علمية نسقية كلية قابلة لضبط الفكر العام في الحياة الإنسانية. وثانيهما: قدرته على التأثير الشمولي بتلك النظريات، ليقتحم بها مجالات شتى من العلوم الإنسانية بل ويتقاطع الكونية. فمن النظريات العلمية النسقية التي يمكنه تسويقها باعتبارها قوانين منهجية ذات امتدادات مؤطرة للفكر العام، ما يلي: 1ـ قانون إطلاقية الوحي، ونسبية العقل والتجربة. 2 ـ قانون التوثيق للأخبار. 3 ـ قانون الاستدلال والبرهنة على الأحكام. 4 ـ قانون التأويل المنضبط. 5 ـ قانون التعليل والتسبيب للأحكام. 6 ـ قانون التقصيد والمصلحية للأحكام. 7 ـ قانون التلازم في النفي والإثبات. 8 ـ قانون المقارنة والموازنة. 9 ـ قانون الاستقراءالشمولي ورفض التجزيء الانتقائي. 10 ـ قانون السبر والتقسيم. 11 ـ قانون النقد والتنخيل. 12 ـ قانون القطعي والظني. 13 ـ قانون الإجماع وضوابط ترشيد الخلاف. 14 ـ قانون الكلي والجزئي، أو الأصلي والفرعي. 15 ـ قانون تحقيق المناط، والتنزيل على الواقع. 16 ـ قانون مراعاة الحال والمآل، أو الواقع والمتوقع. 17 ـ قانون الاجتهاد والتقليد. وبالفعل هذه القوانين الأصولية قد أثرت في الفكر العام ويمكن أن تؤثر في جميع العلوم الإنسانية بل والعلمية البحتة أيضا بوجه ما بحيث تقاطع معها على الأقل إن لم تؤثر فيها حرفيا. على سبيل المثال تجد بعض النظريات في علوم التربية المعاصرة متأثرة بعلم أصول الفقه أو لها صلة وارتباط ما به: 1 ـ نظرية (المقاربة بالكفايات) في علوم التربية، مرتبطة بقاعدة: (العلمُ هو الملكة) وقاعدة (أنواع الملكات) اللتين تُدْرَسانِ في مقدمات علم أصول الفقه. 2 ـ مرحلة (الوضعية المشكلة في بناء الدرس) من علوم التربية لها ارتباط: بقاعدة (أسباب النزول وأسباب الورود) من أصول الفقه. 3 ـ مرحلة (تعميم حكم الوضعية المشكلة) في علوم التربية لها ارتباط بقاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) من أصول الفقه. 4 ـ بداغوجيا (التدريس بالأهداف) من علوم التربية لها ارتباط بقاعدة (مراعاة المقاصد وربطها بوسائلها) في أصول الفقه. ولو بحثت علوما أخرى مقارنا لها بقواعد أصولية لوجدت نفس الأثر أو الارتباط والتقاطع على الأقل: 5 ـ فالقاعدة الأصولية: (كلما قلت صفات العلة قَوِيَتْ، وكلما كثُرَتْ صفاتها ضَعُفتْ)، مؤثرة أو مرتبطة بقاعدة المحدثين: (علو السند أقوى من نزوله؛ لأن احتمال الخطأ في قلة الوسائط من الرواة أقل ورودا من وجود كثرة الوسائط). 6 ـ والقاعدة الأصولية (تحقيق المناط) مؤثرة أو مرتبطة بالدراسات الواقعية الموضوعية في العلوم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها. 7 ـ والقاعدة الأصولية (مراعاة الحال والمآل)، مؤثرة أو مرتبطة بعلم المستقبليات. 8ـ والقاعدة الأصولية (الاستقراء) مؤثرة أو مرتبطة بقاعدة: (الإحصاء الرياضية). 9ـ والقاعدة الأصولية (السبر والتقسيم): مؤثرة أو مرتبطة بنظرية (الاحتمالات) في علم الرياضيات. 10 ـ والقاعدة الأصولية (المشترك اللفظي يؤدي إلى الإجمال ويفتقر إلى بيان) مؤثرة في قاعدة (المتفق والمفترق من أسماء الرواة وألقابهم) عند المحدثين. 11 ـ والقاعدة الأصولية (عدم الاحتجاج بالمجمل) مؤثرة أو مرتبطة بقاعدة (الاضطراب من أسباب الضعف) عند المحدثين. 12 ـ والقاعدة الأصولية (الاستقلال في اللفظ مقدم على الإضمار)، تطابق قاعدة النحاة: (عدم التقدير أولى من التقدير). 13 ـ والقاعدة الأصولية (مسلك السبر والتقسيم، ومسلك تنقيح المناط في الأصول) يطابق: (قياس الشرط المنفصل في علم المنطق)، وجه المطابقة: حصر الاحتمالات الممكنة، وإبطال ما لا يصح فما بقي بعد الإبطال تعينت صحتُه. 14 ـ والقاعدة الأصولية (دلالة الاقتضاء التصريحي) تطابق (دلالة الالتزام) في علم المنطق؛ وجه المطابقة: أن اللفظ يدل على لازم مدلوله المطابق. ومن المثير للعجب أن نجد أيضا أثر علم أصول الفقه في تشكيل البنية الدلالية لكثير من الأمثال الشعبية السائرة في بلدنا المغرب، مثل: قول العامة في المثَل: (الديب حلال الديب حرام، الترك أحسن) مأخوذ من سد الذرائع وقاعدة الاحتياط ومراعاة المآل. قولهم: (الباب لي يجيك منو البرد سدو) مأخوذ أيضا من سد الذريعة وقاعدة الاحتياط ومراعاة المآل. قولهم: (خبي الدرهم لبيض للنهار لكحل) ماخوذ من نفس الأصول السابقة. قولهم: (حتى الشر فيه ما ينختار) مأخوذ من قاعدة: ارتكاب أخف الضررين لدفع أشدهما. وقولهم: (طاح، مالو؟ خرج من الخيمة مايل) مأخوذ من قاعدة التعليل والتسبيب. قولهم: (ستة من ستين) مأخوذ من قاعدة: الجمع إن أمكن أولى من الترجيح. وغيرها من الأمثال الشعبية التي تدل على امتداد قواعد أصول الفقه إلى الذهنية الشعبية العامة، وتأثيرها أيضا أو تقاطعها مع كثير من القضايا المعرفية في علوم شتى؛ وأحسبُ أن هذا مدخل مهم جدا لتقريب هذا العلم الجليل (أصول الفقه) لسائر فئات المجتمع لأنه يشكل المنهجية الحقيقية لحفظ الشريعة الإسلامية التي تحصنهم من الانخداع بالمناهج التي تروم هدم قواعد الشريعة، كمنهج الظاهرية الحرفية التي يسوق لها الظاهرية الجدد، وكمنهج الباطنية التحريفية من طرف العلمانيين التنويريين/الظلاميين الذين يعزفون بهذه المنهجية على وتر (الهرمينوطيقا) المستوردة من الغرب الحاقد على الإسلام؛ لضرب ثوابت الشريعة الإسلامية وإفراغها من مفاهيمها المحددة. القسم الثاني:المقصد العملي والجزائي 1 ـ المقصد العمليوهو بسط سلطان الشريعة على الحياة من الثابت لدى العلماء أن من مقاصد تنزيل الشريعة الإسلامية هو مقصد الامتثال، الذي يتجلى في تنفيذ شريعة الله على مستوى الفرد، والمؤسسات، والمجتمع، وترك الهوى في ذلك، بحيث تصير أحكامها ضابطة لحركة الفعل البشرية ومؤطرة لمنظومة العلاقات الفردية، والجماعية، بمعزل عن سلطان الهوى، قال الإمام الشاطبي: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا. والدليل على ذلك أمور: أحدها: النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله، والدخول تحت أمره ونهيه، كقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} [الذاريات/ 56-57] (…)، والثاني: ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله، وذم من أعرض عن الله، وإيعادهم بالعذاب العادل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات، والعذاب الآجل في الدار الآخرة، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة، والشهوات الزائلة، فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق، وعده قسيما له، كما في قوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} … الآية [ص/ 26] . (…)، وقال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} [الجاثية/ 23]. وقال: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون/ 71]. وقال: {الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} [محمد/ 16]. وقال: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} [محمد/ 14]. وتأمل! فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى، فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس، أنه قال: “ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه” فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى”[31]. ولا شك أن تحكيم القوانين الوضعية التي فرضها الغرب الانبريالي مع استجابة ضعاف الإيمان في البلاد الإسلاميةـ باستثناء ما يندرج منها تحت أصل المصلحة المرسلة كقانون السير ـ هو مما ينطوي تحت مسمى الحكم بالهوى وبغير ما أنزل الله، وهو مما جاءت الشريعة لإلغائه وإبطاله رأسا؛ بحيث تحل محله في ضبط إيقاع تصرفات المكلفين الفردية، والجماعية، والمؤسسية، وهذه الغاية يتوقف تحققها واقعيا على وسيلتين: علمية وتنفيذية، والوسيلة العلمية هي (علم أصول الفقه)، فصار إذن تطبيق الشريعة بهذا الاعتبار من المقاصد الوظيفية العملية لعلم أصول الفقه، وهذه الوسيلة العلمية تحتاج للوسيلة التنفيذية وهي (الإرادة السياسية) التي تتوقف هي أيضا على الانخراط في سنة التدافع على موازين القوى بين الخير والشر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وقد أشار المرداوي رحمه الله إلى هذا المقصد الوظيفي العملي لعلم أصول الفقه فقال: “وأما معرفة غاية أصول الفقه فهو فائدته، وهو التوصل إلى استنباط الأحكام الشرعية، أو معرفة كيف استنبطت إذا تعذر إمكان الاستنباط والاجتهاد، وليستند العلم إلى أصله، وذلك موصل إلى العمل، والعمل موصل إلى خيري الدنيا والآخرة”[32]. والشاهد من كلامه قوله (وذلك موصل إلى العمل). ولهذا فلا معنى لدراسة علم أصول الفقه، إذا كان سيخرج لنا مجتهدين، وآخرين مستوعبين لمدراك الأئمة الفقهاء، وآخرين ـ وهم ـ العامة ـ يشكل فكرهم العام ثم نقف عند هذا، ولا نتطلع إلى غاية هذه الغايات وهي تطبيق شرع الله، وتنزيل أحكام الشريعة على الحياة الفردية، والمؤسسية، والجماعية للمسلمين. إن هذا المقصد بات مطلبا شعبيا لدى المسلمين؛ لأنه حقهم الشرعي، الذي يفرضه عليهم دينهم، ويعبر عن أخص عناصر هُويتهم الإسلامية، قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) [المائدة/51 ـ 52]. 2 ـ المقصد الجزائيوهو: السعادة الدنيوية والأخروية إذا صار علم أصول الفقه محررا ومتداولا بين سائر فئات المجتمع، ومقتحما لسائر علومهم ـ بشروط خاصة في التداول والتكييف ليس الان مجال بحثها ـ فإنه سيخرج علماء مجتهدين ربانيين، وعلماء آخرين بمدارك الفقهاء، كما سيشكل الفكر المنهجي في البنية العقلية العامة لكل الفئات بما يحفظ هذا الدين من (تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، وهذا ما سيساعد على المدافعة الحقيقية بين الحق والباطل لانتزاع الحق في تطبيق الشريعة كلها والتي هي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصلحة كلها. وهذا كله ـ أعنى تطبيق الشريعة عموديا على مستوى (العبادات) وأفقيا على مستوى (المعاملات) ـ هو الذي سيحقق المقصد الأسمى على الإطلاق، وهو نيل السعادة الدنيوية والأخروية، وهو مقصد للمقصدين السابقين من علم أصول الفقه (المقصد العلمي والعملي)، فهو غاية الغايات وثمرة النهايات. وقد أشار إليه عديد من الأصوليين منهم سيف الدين الآمدي حيث قال: “وأما غاية علم الأصول، فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية“[33]. وقول الإسنَوي: “أصول الفقه علم عظم نفعه وقدره وعلا شرفه وفخره إذ هو مثار الأحكام الشرعية ومنار الفتاوى الفرعية التي بها صلاح المكلفين معاشا ومعادا ثم إنه العمدة في الاجتهاد وأهم ما يتوقف عليه من المواد”[34]. وقول صفي الدين الهندي: “وعلته الغائية: معرفة الأحكام التي بها انتظام المصالح الدينية والدنيوية“[35]. وغير خفي أن الشريعة الإسلامية بما هي شريعة ربانية، من لدن حكيم عليم، فإنها جاءت لحفظ المصالح الكبرى للناس، فتحفظ لهم دينهم، وأرواحهم، ونسلهم، وعقولهم، وأعراضهم، وأموالهم، وبهذا تنتظم حياة المسلمين وترقى، إضافة إلى أنها تدفعهم للابتكار والإبداع؛ لاستثارة ما سخره الله لنا في هذا الكون باعتبار ذلك من العمل الصالح، الذي يقيم العمران البشري ويبني الحضارة ويرضى به الله عز وجل على صاحبه. وما تجرع المسلمون الهزائم المتنوعة في الاقتصاد والسياسة والتعليم والطب والتكنولوجيا وغيرها إلا لما فرطوا في تنزيل الشريعة الإسلامية على حياتهم، هذا التزيل الذي تحول دونه حوائل سياسية، وأخلاقية، ومعرفية، على رأسها عدم تداول (علم أصول الفقه) ليحقق مقاصده الوظيفية التي تصنع للمسلمين حياة رفيعة منتظمة في ظل الشريعة الإسلامية الغراء، لينالوا بذلك القيادة في الدنيا بالشهادة على الأمم، والسعادة في الآخرة. وهذا مما يفسر لنا السر في شن غارات الحرب التي لا تفتر من قبل العلمانيين على علم أصول الفقه، مع جهل كثير من طلبة الشريعة به ـ مع الأسف! ـ فضلا عن غيرهم، مما يهدد الشريعة نفسها من نيلها الثقة في نفوس كثير منهم، ومن ثم فلا يحسون بضرورة المدافعة في سبيل تطبيقها؛ ومن هنا وجب وجوبا شرعيا على القادرين والمتخصصين إحداث ثورة في تداولية (علم أصول الفقه) بين طلبة علوم الشريعة أولا، ثم بين أصحاب سائر التخصصات ـ بتكييف خاص ـ ثانيا، ثم بين سائر العامة ـ بتكييف أخص ـ ثالثا. خاتمة: في وسائل تحقيق المقاصد الوظيفية للبناء الأصولي: 1 – التمييز بين الخلاف الحقيقي المعنوي وما يلحق به، وهو الخلاف في حال، الذي تنبني عليه فوائد فقهية أو أصولية، وبين الخلاف اللفظي الذي لا فائدة منه ترجى في الأصول ولا الفروع. 2 – التدرج في تلقي هذا العلم من الكتب المختصرة إلى المطولة، ومن الاعتماد على الراجح إلى دراسته دراسة شاملة معللة مدللة. 3 – ضرورة الرجوع إلى الكتب المؤسسة لعلم أصول الفقه، كالرسالة للشافعي، والرجوع إلى الكتب المجددة له كالتقريب والإرشاد للباقلاني والبرهان للجويني، وكتب أبي حامد الغزالي، والفخر الرازي، وأبي الوليد الباجي، والآمدي، والمعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي، …إلى غير ذلك من الكتب المشهورة بالتحقيق والتدقيق. 4 – الاهتمام بالتمارين الكافية والتطبيقات الوافية للقواعد الأصولية من خلال أمثلة فقهية متنوعة ومستجدة ومطابقة، لأن ذلك هو أحد أعمدة تكوين المكلة الفقهية. ومما يحقق هذه الغاية على أتم وجه مدارسةُ كتب آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، سيما تلك التي يستخدم أصحابها القواعد الأصولية بشكل مكثَّف، كابن العربي، وابن الفرس المالكيين في أحكام القرآن، والجصاص الحنفي في أحكامه، وابن نور الدين الشافعي، والمنتقى للباجي، والقبس لابن العربي، ونيل الأوطار للشوكاني، على ما في هذا الأخير من نزعة ظاهرية أحيانا يجب الحذر منها. ولعل هذا ما كان يرمي إليه القاضي أبو يعلى عندما قال: “ولا يجوز أن تعلم هذه الأصول قبل النظر في الفروع؛ لأن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها، لا يمكنه الوقوف على ما يبتغي بهذه الأصول من الاستدلال والتصرف في وجوه القياس والمواضع التي يقصد بالكلام إليها، ولهذا يوجد أكثر من ينفرد بعلم الكلام دون الفروع مقصرًا في هذا الباب، وإن كان يعرف طرق هذه الأصول وأدلتها”[36]. ومثله قول الإمام الغزالي: “نعم إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته [أي الفروع الفقهية بأدلتها]، فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان، ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك”[37]. هذا كله بالنسبة للمتخصصين، وأما لاستفادة غيرهم من هذا العلم فأقترح ما يلي: 1 ـ تقنين علم أصول الفقه وبناؤه على شكل قواعد كبرى، أو أنساق معرفية كلية قطعية، يصلح تسويقها لكل الطلبة في سائر التخصصات، مع الابتعاد ما أمكن من القواعد ذات الخلاف القوي. 2 ـ إعادة النظر في مقررات التربية الإسلامية في السلكين الإعدادي والثانوي، بحيث يقوى فيها الجانب المنهجي الأصولي القطعي، خاصة بلغة ميسرة تراعي مرحلتهم العمرية، والمعرفية، بما يضمن تحصين الأجيال القادمة من حفظ الشريعة في نفوسهم، وعدم انسياقهم مستقبلا مع مناهج الحرفية الظاهرية، والتحريفية الباطينة العلمانية. 3 ـ تكوين الدعاة إلى الله تكوينا خاصا في الجانب الأصولي؛ لتكون دعوتهم منضبطة ومقنعة ومتماسكة، بحيث يجعل الداعية إلى الله على عاتقه أن يبين شرع الله ويطعمه بالقواعد الأصولية القطعية خاصة؛ ليفهمها للناس بطريقة خاصة يستوعبونها، وليدركوا قيمة الشريعة التي ينتمون إليها، ويسارعون إلى تنفيذها في أنفسهم وحمايتها. وخلاصة الأمر أن علم أصول الفقه علم دقيق شامخ له مقاصد علمية دقيقة ما بين تكوين الملكة الاستنباطية المطلقة أو المقيدة، وتنهيج البنية الفكرية للمسلم، ومقاصد عملية تتجلى في بسط سلطان الشريعة على الحياة الفردية والجماعية لكنها تتوقف على التدافع السياسي الذي يضطلع بالتنفيذ، ثم مقاصد جزائية تتعلق بثواب الله ورضاه والعزة وانتظام الحياة؛ ورحم الله الإمام القرافي عندما قال في سياق مدح علم أصول الفقه: “فأفضل ما اكتسبه الإنسان علْماً يسعد به في عاجل معاشه، وآجل معاده، ومن أفضل ذلك علم أصول الفقه؛ لاشتماله على المعقول والمنقول، فهو جامع أشتات الفضائل(…)، من جهله من الفقهاء فتحصيله أُجَاج، ومن سُلِبَ ضوابطه عُدم عند دعاويه الحِجَاج”[38]. هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] ) انظر الموافقات للشاطبي (1/31 ـ 33) ([2]) وذلك مثل دعوة الدكتور حسن الترابي الذي دعا إلى (قياس موسع!) و (استصحاب موسع!) دون أي أساس علمي، انظر كتابه: “تجديد الفكر الإسلامي” ص (34 – 43)، ط1، دار القرافي، المغرب سنة (1993م). ودعوة محمد الجناتي في مقال له إلى استبدال المنهج الأصولي التقليدي بمنهج جديد! انظر: “المنهج التقليدي في أصول الفقه”، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، ع 13، سنة (2000م) ص (193). وانظر دعوة الدكتور أحمد الخمليشي في كتابه: وجهة نظر/الفكر الفقهي ومنطلقات أصول الفقه. إلى غير ذلك من دعوات التجديد الأصولي التي لا تقوم على أسس علمية واضحة، وإن كان التجديد في حد ذاته مطلوبا ومسلَّما، لكن الإشكال في أسسه وطريقته التي يقدمها هؤلاء. [3] ) انظر: الإبهاج في شرح المنهاج للسبكيين (1/19). [4] ) انظر: البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي (1/24). [5] ) انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/7)، والفائق في أصول الفقه للصفي الهندي (1/35)، ونهاية الوصول في دراية الأصول له أيضا (1/26). [6] ) انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/184). [7] الرسالة للشافعي ص (19). [8] أصول الشاشي ص (13). [9] الفصول في الأصول للجصاص (1/40). [10] المستصفى (15). [11] قواعد الأصول ومعاقد الفصول ص (48). [12] ) روضة الناظر لابن قدامة (1/55). [13] ) نهاية الوصول إلى علم الأصول لابن الساعاتي (1/8). وانظر: أصول الفقه لابن مفلح (1/16)، وتحفة المسؤول للرهوني (1/156). [14] انظر الإشارة في أصول الفقه ص (13 ـ 20). [15] انظر: الفروق للشهاب القرافي (2/543 ـ 547). [16] المصدر نفسه (2/545) [17] المصدر نفسه (2/544). [18] المصدر نفسه (2/546). [19] ) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص (43). [20] التقريب والإرشاد (1/172). [21] ) المستصفى (2/297). [22] ) انظر: التقرير والتحبير على تحرير ابن الهمام لابن أمير حاج (1/67 – 68). وانظر مثله في: تيسير التحرير لأمير بادشاه (1/48 – 49). [23] ) انظر: الإبهاج في شرح المنهاج للتقي السبكي وولده تاج الدين السبكي (1/7 – 8). [24] ) انظر: الموافقات للشاطبي (4/87 ـ 88). [25] ) المحصول للرازي (1/170). [26] ) بذل النظر في الأصول للأسمندي ص (5). [27] ) نفائس الأصول من شرح المحصول للقرافي (1/100 ـ 101). [28] ) الفوائد السنية في شرح الألفية للبرماوي _1/ 125 ـ 126). ومثل هذا النص حرفيا للمرداوي الحنبلي (ت 885 ه) في كتابه التحبير شرح التحرير (1/185)، فلعله نقله عنه دون إحالة. [29] ) زغل العلم للذهبي ص (41). [30] ) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة (2/424) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -. كما أخرجه الحاكم عنه في كتاب الفتن باب ذكر بعض المجددين في هذه الأمة (4/522). وأخرجه البيهقي في المعرفة حكى ذلك السيوطى والمناوي والألباني. وقد رمز السيوطي له بالصحة في كتابه الجامع الصغير. ونقل المناوي في كتابه فيض القدير (2/282) عن الزين العراقي: أن سنده صحيح. وصححه كذلك الشيخ الألباني في كتابه صحيح الجامع الصغير (1/143) رقم الحديث (1870). [31] الموافقات للشاطبي (2/289 ـ 291). [32] ) التحبير شرح التحرير للمرداوي (1/185). [33] ) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/7). وانظر: بيان مختصر ابن الحاجب للأصبهاني (1/29). [34] ) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص (43). [35] ) الفائق في أصول الفقه للصفي الهندي (1/35). وانظر مثله في: نهاية الوصول في دراية الأصول للصفي الهندي أيضا أيضا (1/27). [36] العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (1/70). [37] المستصفى ص (298). [38] ) نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي (1/ 90).