الباحث الدكتور موسى شواش
أطروحة دكتوراه
تاريخ المناقشة: 08 ذو القعدة 1442ھ/19 يونيو 2021م.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وآله وصحبه، ومن سار على هديه واستمسك بنوره من التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
اشتهر اهتمامُ الفقهاءِ المالكيةِ بالتأليف في النوازل والأجوبة مما جعلهم يتميزون بذلك عن سائرِ فقهاءِ المذاهب، وكانت هذه النوازلَ في غالبها وليدةَ الحاجةِ والظروفِ فدلت على الصِّلة الوثيقة لهؤلاء الفقهاء بواقعهم، وارتباطٍ وثيقٍ بقضايا عصرهم، وإدراكٍ عميق لمقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ، ومبدأ الوسطية والاعتدال الذي جاءت به الشريعة الإسلامية السمحة عملا بقول الله تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾([1])؛ ولهذا استطاعوا مواجهة جميع المشاكل التي اعترضتهم، وإيجاد الحلول الملائمة لما استشكله الناس من أمور دينهم ودنياهم؛ لإحاطتهم بفقه الواقع، وتمكنهم من ملكة الاجتهاد.
وهذا كلُّه جعل المذهب المالكي من أكثر المذاهب الفقهية جمعا بين المرونةِ والواقعيةِ، وارتباطاً بالواقع ومسايرةً لقضايا المجتمع ومشكلاته عبر العصور، وليس أدلَّ على ذلك مما خلفه علماءُ المذهبِ من نتاجٍ فقهي زاخرٍ في مجال فقهِ النوازلِ تَحفُلُ به المكتبة الإسلامية، ويرجع إليه العلماء في كل عصر يغترفون من مَعينِه الذي لا ينضب كل حسب وجهته وتخصصه.
ومن أشهر هذه المدونات الفقهيةِ في فقه النوازل التي قلَّ نظيرُها في الفقه الإسلاميِّ عموماً والفقهِ المالكي خصوصا والمعتَمدةِ في الغربِ الإسلاميِّ لقرونٍ متواليةٍ: كتابُ “المعيارِ المعربِ والجامع المغربِ عن فتاوى علماءِ إفريقيةِ والأندلسِ والمغربِ” للإمام أبي العباس الونشريسي (ت914هـ/1508م)، وقد حَاز المعيارُ هذه المنزلةَ الرفيعةَ بين كتبِ النوازل وظلّ عمدةَ رجال الإفتاء لقرونٍ متعددةٍ؛ بما حواه من فتاوى ونوازل متعددة طرأت فيما بين القرن الثالث والتاسع الهجريين (9 و15م)، ولحرص صاحبه على بيانِ طرق استنباط الأحكامِ.
ومن محاسن هذا الكتاب أنه جمع الكثير من نصوص الكُتب الضائعة والفتاوى المفقودة للأندلسيين والمغاربة، وقد احتفظ مؤلِّفَهُ ببعض ما ضاع من التراث الإسلامي، ورتبه على الأبواب الفقهية، كما اشتمل على كمٍ هائلٍ من آراءِ فقهاء المالكية وإجاباتهم على فتاوى ووقائع كانت تحصل في عصرهم، مما يُعطي للكتاب قيمةً علميةً كبيرةً، ويجعله موسوعةً ضخمةً يمكن أن يَنهل منها الدارسون ويستفيد منها الباحثون من عدةِ جوانبَ، إلا أنه لم يحض بالعناية اللازمة التي يستحقها مؤلَّف مثلُهُ جمع كل هذا التراثِ الزاخرِ لأبرزِ علماء المالكية؛ ومن هذا المنطلق جاءت فكرةُ إعادة إخراج وتحقيق هذا السفر العظيم، والذي نحتاج إليه وإلى أمثاله في واقعنا المعاصر، من أجل نفض الغبار عن تراث هذه الأمة، وربطِ مستجداتها بأقوالِ وآراء الفقهاء المتقدمين.
أما فيما يخص أهمية الموضوع والأسباب التي دفعتني إلى اختيار هذا المخطوط لدراسته وتحقيقه فأُجملها فيما يلي:
أولا: أهمية الموضوع
تكمن أهمية الموضوع في أهمية كتاب “المعيار” المحقق والمدروس، ونحصر أهميته فيما يلي:
ـ أهمية موضوعه؛ فهو يجمع بين الفقه بكل أنواعه والأصول والخلاف العالي والقواعد الأصولية والفقهية، إضافة إلى إشارات تاريخية واجتماعية وسياسية مهمة عن المغرب الإسلامي والأندلس.
ـ القيمةُ العلمية الكبيرة التي يتمتع بها الإمامُ الونشريسيُّ رحمه الله تعالى، والذي أسهم بحظٍ وافرٍ في مجالِ التأليفِ في بلاد المغرب خصوصا في فقهِ النوازلِ.
ـ جمعه لنوازل متفرقة وفوائد علمية وفكرية وتاريخية مهمَّة وتعدد مصادره؛ مما جعل كلَّ من يأتي بعده يأخذ عنه.
ـ احتواؤه على عدد كبير من فتاوى علماء الغرب الإسلامي.
ـ أنه يُعدُّ مصدراً مهمّاً، وسِجّلاً حيّاً، يصوّر الحياة الاجتماعية والاقتصادية بصورةٍ مباشرةٍ ببلاد الأندلس، كما يُمدّنا بصورةٍ عن تاريخِ القضاءِ بها، وكيفيةِ تسجيلِ النّوازل، والإجابة عنها.
ثانيا: الأسبابُ الداعيةُ إلى إعادة تحقيق المعيار المعرب.
ليس من شكٍّ في أنَّ إعادة تحقيق كتاب “المعيار المعرب”، وإخراجِه على الشَّكلِ الذي كتبه مؤلِّفهُ أو قريباً إليه، لا يقل فضلًا عن نشر مخطوط جديد؛ لأنَّ بقاءَ النَّص على هيأتِه بما فيه من تصحيفٍ أو تحريفٍ في كلماته، قد يُوقع الباحثينَ في وهْمٍ حين يستندون إليه في دراساتهم أو يناقشون ما ورد فيه من آراء يَظنُّون أنَّها لأصحابها في حين أنَّها جاءت نتيجةَ عجلةِ النَّشر أو ضيق الوقت.
ويمكن إجمال أهم الأسباب إلى إعادة تحقيق هذا الكتاب فيما يلي:
ـ أنَّ المعيار المعرب نُشر بمقدمة دراسية لم يحقِّق فيها النَّاشر عنوان الكتاب، ولم يوثِّق صحَّةَ نسبَته إلى مؤلِّفِه، ويبيِّن منهج الكتاب، ويصف بدقة مخطوطاته المعتمدة في التَّحقيق، إلى غير ما هنالك مما يتعلَّق به.
ـ أنَّه كتابٌ لم يُحَقق التحقيق العلميَ المتعارفَ عليه، بل لم يَنلْ من التحقيق سوى إخراج النَّص -بما فيه من أخطاء- فتجد التحقيقين اللَّذين وقفت عليهما يخلوَان من مقابلة النسخ لما لها من أهمية، وترجمة الأعلام، وشرح الكلمات الغريبة، وعَزو النُّصوص إلى مصادرها الأصلية مطبوعة كانت أو مخطوطة، وهنا أتحدث بالضبط عن تحقيق الدكتور الفاضل محمَّد حجي رحمه الله الذي أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية. أمَّا التحقيق الثاني للكتاب الذي أصدرته دار الكتب العلمية في لبنان لصاحبه الأستاذ محمَّد عثمان فقد احتفظ بنفس النَّص الذي نشرته وزارة الأوقاف المغربية، والإضافة التي أتى بها على التَّحقيق الأوَّل تتمثل في تخريج الآيات وبعض الأحاديث، وتعديل بعض عناوين المسائل، والتَّعليق على بعض المسائل من خلال إدراج نصوص أئمَّة المذهب عليها، في حين يحتاج الكتاب إلى أكثر من هذا العمل، وبالتالي يحتاج إلى إعادة تحقيق ودراسة مستفيضة، وهو الأمر الذي سعينا إليه تحت إشراف الدكتور المفضال محمد بوطربوش حفظه الله تعالى.
ـ أن نصَّ المعيار طبع على النُّسخة الحجرية التي اعتمد الفقهاء فيها على خمس نسخ مخطوطة، وأُهْمِلت نسخ نفيسة للكتاب موثَّقة فيها إضافات، وزيادات، وتصحيحات، وفروق تفيد في تقويم نصِّ الكتاب وتحريره.
ـ تصريح الدكتور محمد حجي في مقدمة الكتاب بأنه يحتاج إلى تحقيق علمي وذلك بقوله: (وتركنا التعليق إلا متى دعت الضرورة إليه، لأننا لم نقصد إلى تحقيق علمي لكتاب المعيار، فهذا يتطلب مجهودا عظيما ووقتا طويلا، وإنما قصدنا إلى تخريجه من خطوط الطباعة الحجرية العتيقة التي عز قراؤها اليوم في المغرب فأحرى في المشرق، وإخراجه في طباعة حديثة أنيقة تجعله في متناول الجميع بعد أن افتقد في أسواق الكتب منذ مدة غير قصيرة)([2]).
ثالثا: قيمة الكتاب العلمية
يعد الكتاب من أشهر كتب المالكية في الفتوى، ومن أهم المصادر الفقهية في المذهب المالكي المعتمدة في الغرب الإسلامي لقرون متوالية، فهو يندرج ضمن مؤلفات الفتاوى والنوازل، بل ويعد من أجودها وأحسنها، وقد تبوأ هذه المكانة لكون صاحبه خبيرًا بهذا الفن، ومكانته لا تخفى على أحد، كما كان عمدة رجال الإفتاء لوفرة مادته الفقهية، ولحرص صاحبه على بيان طرق استنباط الأحكام، حيث استمدَّ مادته الفقهية فيما يتعلَّق بفتاوى علماء فاس والأندلس من مكتبة تلميذه محمَّد الغرديس التَّغلبي.
وفيما يتعلَّق بفتاوى أهل إفريقية -تونس والجزائر وتلمسان- كانت مصادره الأساس نوازل البرزلي، ونوازل مازونة، وأضاف إليهما ما تيسَّر من فتاوى أهل فاس والأندلس.
ولم يذكر الونشريسي في “المعيار” تاريخ بدء الكتابة فيه، وإنَّما ذكر تاريخ النِّهاية بقوله: )وكان الفراغ من تقييده مع مزاحمة الأشغال، وتغيُّر الأحوال، يوم الأحد الثامن والعشرين لشوال عام واحد وتسعمائة(([3])، رغم أنَّ أبا العبَّاس لم يَطْوِ صفحة “المعيار” طيًّا نهائيًا في هذا التاريخ، بل ظلَّ يتعَهَّدَهُ بالزيادة والتَّنقيح إلى آخر حياته.
ويشتملُ كتابُ المعيارِ المعرب على مجموعة ضخمة من النَّوازل والفتاوى الفقهية التي تتميَّز بابتعادها عن الجانب النَّظري، والتي تعبر بصدق ووضوح عن واقع الحياة اليومية في المجتمع المغربي في العصر الإسلامي، فالملاحظ أنَّ الحوادث التي عاشها أهل المغرب الإسلامي قد اصطبغت بصبغة محلِّية، ممَّا دفع الفقهاء والقضاة وأهل الفتوى إلى الاجتهاد لاستنباط الأحكام والفتاوى الشَّرعية الملائمة وفق الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس، وفي ضوء المذهب المالكي، وهو المذهب السَّائد في بلاد المغرب والأندلس([4]).
رابعا: مكانة الكتاب عند كل اللاحقين، وأثره في من بعده
وتتجلَّى مكانة المعيار في اهتمام فقهاء الأمصار به منذ عصر المؤلِّف إلى أيَّامنا هذه، وتكفيه التَّسميةُ التي أطلقوها عليه: “المَعلَمةُ الفقهيةِ”، أو “الموسوعةُ الفقهيةِ” شرفًا وفخرًا، والبحوث التي قامت -ولازالت تقوم عليه- دليلٌ كافٍ على أهميته، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: اختصار أحمد بن سعيد المُجَيْلِدي (ت 1094هـ) في مجلد واحد سمَّاه: “الإعلام بما في المعيار من فتاوي الأعلام”، ثمَّ الدراسة التي قام بها المستشرق Amar Emile (إميل عمّار) على كتاب المعيار بالفرنسية في جزأين، نشرت في باريس عام 1908م، واشتملت على دراسة مختصرة للكتاب، وهناك بحوث لها أهمِّيتها نشرت في مجلات عربية وأجنبية([5])، ويأتي أيضًا في طليعة الدراسات والبحوث التي نشرت:
استخراج “كتاب أحكام السوق” ليحيى بن عمر (ت 982هـ)، وهي رسالة نشرها الباحث محمود علي مكي سنة 1956م، كما استخرج هنري بييوت فصل “المستحسن من البدع” من كتاب “المعيار”، ونشره سنة 1946م، ونشر هادي روجي رسالة تحت مسمَّى: “الزواج في الغرب الإسلامي” من خلال فتاوى “المعيار”، ونشر محمَّد حسن دراسة سمَّاها: “الريف المغربي في كتب النوازل”([6])، ونشر الباحث محمَّد فتحة كتاب: النوازل الفقهية والمجتمع “أبحاث في تاريخ الغرب الإسلامي”([7]).
كما نبَّه على أهمِّية “المعيار” وقيمته المعرفية المؤرِّخ أبو القاسم سعد الله في كتابه “تاريخ الجزائر الثقافي”، فبعد تقديمه للكتاب وما اشتمل عليه من مواضيع، يؤكد على )أنَّ قيمة المعيار لا تظهر فقط في كونه موسوعة للفقه المالكي في المغرب والأندلس، ولكن في القضايا الاجتماعية والسياسية والعلمية التي يحتوي عليها(([8]).
وقد أشار الأستاذ محمَّد المنوني في دراسته عن المصادر العربية لتاريخ المغرب على )أنَّ المعيار يتمم النَّقص الكبير الواقع في المصادر الموضوية لتاريخ المغرب، وبالخصوص في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ممَّا يجعله مصدرًا لا غنى للباحث المغربي عن دراسته واستخراج دفائنه(([9]).
خامسا: قراءة في الدراسات السابقة
بالنسبة للدراسات السابقة فقد صدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية سنة (1401هـ/1981م) تحقيق للدكتور الفاضل محمَّد حجي (رحمة الله عليه) لموسوعة “المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب” لمؤلِّفه أبو العبَّاس أحمد بن يحيى الونشريسي رحمه الله.
وصدر كذلك عن دار الكتب العلمية في لبنان سنة (1433هـ/2012م) تحقيق ثانٍ لكتاب المعيار المعرب في ثمانية أجزاء للأستاذ محمَّد عثمان، إلَّا أنَّ هذا التحقيق لم يختلف عن الأوَّل كثيرا لاسيما أنَّ صاحبه احتفظ بنفس النَّص الذي أصدرته وزارة الأوقاف المغربية، والإضافة التي أتى بها عن التحقيق الأوَّل تتمثل في تخريجات الآيات والأحاديث، والتعليق على بعض المسائل الفقهية من خلال إدراجه نصوصاً لعلماءَ متقدمين.
كما طُبعت نوازل الجامع من المعيار في كتاب مستقل بعنوان: “النوازل الجامعة أو نوازل الجامع”، باعتناء الدكتور شريف المرسي، عن دار الآفاق العربية، الطبعة الأولى، سنة 1432هـ-2011م. واقتصر عمله فيه على تخريج الآيات والأحاديث فقط مع الاحتفاظ بالنص المخرج في طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لمحمد حجي دون مقابلة النص بنسخ أخرى أو خدمته وفق معايير التحقيق العلمي.
كما وقفت على بعض الكتب التي كانت تدرس جانبا من جوانب الحياة العلمية والاجتماعية والدينية من خلال نوازل المعيار، وهو ما فعله الدكتور كمال السيد أبو مصطفى في كتابه “جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والعلمية في المغرب الإسلامي من خلال نوازل وفتاوى المعيار المعرب للونشريسي”.
وكذلك كتاب “العمران والعمارة من خلال نوازل الونشريسي” للدكتور محمد بن حمو، صدر عن كنوز للإنتاج والنشر والتوزيع، 2011م.
وكتاب “جوانب من حضارة المغرب الإسلامي من خلال نوازل الونشريسي” للدكتور كمال أبو مصطفى، عن مؤسسة شباب الجامعة، 1997م.
ووقفت على رسالة دكتوراه نوقشت سنة (1432هـ/2011م) في جامعة أبي بكر بلقايد في الجزائر للدكتور عثمان بلخير اصطلح على تسميتها “ضوابط تنزيل الأحكام الشرعية في كتاب المعيار المعرب للونشريسي”.
كما نوقشت رسالة دكتوراه في سنة (1438هـ/2017م) في جامعة سيدي محمَّد بن عبد الله بفاس للدكتور زكرياء التهامي تحت مسمَّى “الفتوى بالآراء المرجوحة عند مالكية الغرب الإسلامي وعلاقتهما بالمصلحة: أبو العبَّاس أحمد بن يحيى الونشريسي نموذجًا”.
هذا ما وقفت عليه حسب اطلاعي، فضلا عن بعض البحوث والمقالات والتحقيقات لرسائل مضمَّنة في الكتاب.
خامسا: الخلاصات والنتائج المتوصل إليها
إن أهم النتائج المستخلصة، والمسجلة على هذا البحث، يمكن أن أجملها فيما يلي:
ـ أبو العبَّاس أحمد بن يحيى بن محمَّد بن عبد الواحد، الونشريسي، التلمساني الأصل والمنشأ، الفاسي الدار والمدفن، حافظ المذهب المالكي بالمغرب وحجة المغاربة على الأقاليم، نشأ في أسرة علم وتفقه على كبار فقهاء وقته في تلمسان، وأَلَمَّ بكل العلوم في عصره إلى أن ارتحل إلى فاس.
ـ عاصر الونشريسي الدولة الزيانية بالمغرب الأوسط، والدولة المرينية في المغرب الأقصى، حيث عرفت كلتا الدولتين في تلك الفترة اضطرابات وفتن في أوضاعهما السياسية.
ـ شهد الونشريسي كارثة سقوط الأندلس وما نجم عنها من هجرات متتالية للأندلسيين إلى المغرب الإسلامي، إضافة إلى ازدياد النفوذ الإسباني والبرتغالي في المنطقة.
ـ العنصر الأندلسي أثّر بشكل كبير على الجانب الاجتماعي بالمنطقة، كما أثّر في الحياة الثقافية، إذ كان ثريًّا بالعلماء والأدباء والفقهاء، كما ساهم في نشر الوعي السياسي لدى سكان المغرب الإسلامي حيث حذرهم من الخطر الصليبي المحدق بالمسلمين.
ـ سجل الونشريسي في معياره عدة إشارات قيمة عن أهل الذمة وأوضاعهم في المجتمع المغربي، تبرز لنا كثرة أعداد اليهود في المغرب، وأنهم كانوا ينعمون بتسامح تام ومودة من جانب جيرانهم المسلمين.
ـ عرفت تلمسان وفاس ازدهارا علميا وثقافيا كبيرا، متمثّلا في ازدهار التأليف والتواصل العلمي، وحلقات الدروس وكثرة العلماء وحاملي العلم، خصوصا بعد سقوط الأندلس ووفود عدد كبير من العلماء نحو الشمال الإفريقي.
ـ اشتهر عن سلاطين الدولتين عنايتهم بالعلماء، وإنفاقهم المستمر على إقامة المدارس والمكتبات وتحبيس الأوقاف عليها لسدّ نفقاتها، واستقطاب أشهر العلماء للتدريس في حواضر الدولتين خاصة من الأندلس.
ـ كانت حاضرة فاس الملجأ الأحسن والمنهل الأمثل لأفضل علماء تلمسان وفقهائها ومتصوفيها؛ كل ذلك كان له أثر مهم في بعث الحركة الفكرية، وميول كثير من الطلبة إلى طلب العلوم المختلفة وإتقانها.
ـ تلقَّى الونشريسي العلم عن فقهاء تلمسان وغيرهم، وتخرَّج على يديه عدد كبير من العلماء والصلحاء منهم ابنه عبد الواحد ومحمَّد بن الغرديس وابن فليح وغيرهم، كما أغنى المكتبات الإسلامية بمؤلفات علمية وتراثية لها وزنها.
ـ تقلَّد مهمَّة التدريس في تلمسان وفاس، ودرَّس في المدينتين المدوَّنة والمختصر الفرعي، كما تولَّى القضاء بفاس مدَّة ثمان عشر سنة، ثم الفتيا، وهذه المهام لم تمنعه من التأليف والتصنيف إلى أن وافته المنية رحمه الله.
ـ يعتبر “المعيار المعرب” من أهم الموسوعات الفقهية النَّوازلية التي حفظت لنا كثير من أجوبة وفتاوى علماء الغرب الإسلامي، كما حفظ لنا الونشريسي كثيرًا من آراء الفقهاء المتقدِّمين، منهم من ضاعت كتبهم أو ظلت حبيسة الخزائن التراثية أو المتاحف.
ـ أن الأمانة العلمية للونشريسي لم تسمح له بالتصرف في لغة نصوص النوازل والمسائل الفقهية الواردة على الفقهاء للبث فيها، فأوردها كما هي من غير زيادة ولا نقصان.
ـ أنَّ “المعيار المعرب” للونشريسي يعكس شخصيته العلمية والفكرية، ومنهجه الأصولي في الاجتهاد والاستنباط والترجيح والنقد، كما أنَّ جمع نصوص المفتين وعرضها مرتَّبة ومصنَّفة، والتعليق عليها ليس بالأمر الهيِّن، بل هو صناعة فقهية خاصَّة تحتاج إلى خبرة بالفقه والتوثيق والتاريخ، كما يكشف لنا هذا السفر العظيم عن منهج فقهاء المالكية في تقرير الأحكام الشرعية في القضايا التي عرضت عليهم، ويشهد بمدى ارتباطهم بواقع الناس، ومعايشتهم لهمومهم ومشاكلهم اليومية.
ـ حظي “المعيار المعرب” باهتمام الفقهاء والعلماء منذ عصر المؤلّف إلى الآن، حيث لا يكاد يخلو كتابٌ فقهيٌّ أُلِّف بعده من نقول عنه أو إحالات عليه.
ـ يمتلك المذهب المالكي أكثر من غيره من المذاهب مقومات هائلةً وأصولاً متعددةً، تجعله يساير الواقع بكل مستجداته.
ـ أن كتب النوازل تعتبر مادة خصبة يستمد منها الباحث في مختلف التخصصات معالم مهمة من حياة المجتمع وواقع العصر.
ـ أتاح لنا إعادة تحقيق الكتاب تصحيح كثير من الأخطاء في المتن التي وجدت في التحقيقين السابقين، بالإضافة إلى استدراك كثير من الأصول العلمية المتعارف عليها في التحقيق.
ومما ينبغي التأكيد عليه في خاتمة الكتاب:
ـ ضرورة الاهتمام بإحياء التراث الإسلامي الفقهي بصفة عامة، والمالكي بصفة خاصة، لما لذلك من أهمية بالغة في تصحيح الاعوجاج الفكري والانحراف السلوكي في واقع الأمة.
ـ ضرورة الاهتمام بفقه النوازل، لاسيما مع التطورات والتقلبات التي يشهدها عالمنا اليوم، الأمر الذي يتطلب معه فقه متجدِّد مرن، يراعي مقاصد المكلفين، وفقه المآل، والواقع المعاش، وكل ذلك نجده مما اختصَّ به المذهب المالكي.
ـ التشجيع المادي والمعنوي للباحثين ومراكز البحث العلمي المختصَّة بتحقيق كتب التراث حتَّى يخرجوا لنا تلك الثروة العلمية الهائلة المخطوطة، الموجودة في الخزانات والمكتبات العامة والخاصة ببلدنا الحبيب، وينفضوا غبار الزَّمن عن ذلك التراث العريق.
ـ أن كثيراً من تراث العلماء المطبوع لازال يحتاج إلى إعادة تحقيق نصوصه، وإخراجه كما أراد أصحابه، بأمانة علمية وفق ضوابط التحقيق، لما فيه من كثرة التحريفات والتصحيفات، وأن الكثير منه لايعدو أن يكون فقط استنساخا للمخطوط لا أقل ولا أكثر.
ـ من الواجب الآكد الاهتمام بكتاب “المعيار” خاصة، وبكتب النوازل عامة لما تفتحه من مجال رحب للباحثين والدارسين في جوانب علمية متعددة من الوقوف على القواعد الفقهية والأصولية، وضوابط تنزيل الأحكام الشرعية، وأسباب الخلاف وثمرته، والإشارات التاريخية والعمرانية، ودراسة الجوانب الاجتماعية وغيرها من المسائل الكثيرة بحيث يمكن للباحث أن يشتغل على جزئية من الجزئيات.
وقد حصل الباحث على درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا وذلك بعد مداولة اللجنة العلمية المكونة من:
۞ فضيلة الأستاذ الدكتور: محمد بوطربوش من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة مشرفا
۞ فضيلة الأستاذ الدكتور: أحمد الزيادي من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة رئيسا ومقررا.
۞ فضيلة الأستاذ الدكتور: العربي الدائز من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة مقررا
۞ فضيلة الأستاذ الدكتور: عبد المجيد محيب من دار الحديث الحسنية مقررا
وصلّى الله وسلَّم على إمام الأنبياء والمرسلين، وقدوة المتَّقين محمَّد عليه أزكى الصَّلاة والسلام، وبارك عليه، وعلى آله وصَحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) – سورة، البقرة: 142.
([2]) – المعيار، المقدمة (1/ ي. ك)
([3]) – المعيار المعرب، )12/395(.
([4]) – مقدمة كتاب المعيار، للأستاذ الدكتور محمَّد حجي، )1/ص: هـ-و(.
([5]) – ينظر بحث الدكتورة وداد القاضي: نبذة عن المدرسة في المغرب حتَّى أواخر القرن التاسع الهجري في ضوء كتاب المعيار للونشريسي، مجلة الفكر التربوي الإسلامي، الكتاب الثاني، بيروت1981م )ص:61-86(.
([6]) – نشر هذا البحث في مجلة العلوم الإنسانية، تونس، عدد: 33، سنة: 1986م.
([7]) – بحث نشرته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء سنة: 1999م.
([8]) – تاريخ الجزائر الثقافي، )1/143(.
([9]) – المصادر العربية لتاريخ المغرب، لمحمَّد المنوني، )1/150(، رقم:277.
زر الذهاب إلى الأعلى
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاكم الله خيرا على تبيين العلم ونشره وبثه
وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا ؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ.
سلمكم الله جميعا
أ . د . صلاح بن عواد جمعة الكبيسي
كلية الامام الاعظم رحمه الله الجامعة ديوان الوقف السني العراق سلمكم الله جميعا