المصطلح القرآني عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
(بحث لنيل شهادة الدكتوراه)
من إنجاز الباحث: محمد الفيلة، ومناقشة السادة الأساتذة:
– د. عبد الله البخاري: أستاذ التعليم العالي كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير / رئيسا
– د. عبد الرزاق هرماس: أستاذ التعليم العالي كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير / مشرفا
– د. أحمد امحرزي علوي: أستاذ التعليم العالي كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش /عضوا
– د. حسن حميتو: أستاذ مؤهل كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير / عضوا.
وذلك بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر – أكادير – وبتاريخ: الثلاثاء 11 ربيع الثاني 1440 هـ موافق 18 دجنبر 2018. وقد أجيزت الأطروحة بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع.
ملخص الأطروحة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وبه أستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله إمام المصلحين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم افتح لنا أبواب الرحمة، وأنطقنا بالحكمة، واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة.
وبعد،
فقد علم الله آدم الأسماء كلها، يوم خلقه، وكان ذلك إيذانا برفعته، وشهادة على استحقاقه الاستخلاف، غير أنه نسي فنسيت ذريته من بعده؛ فجاءت الرسل تترى لتصحيح ما غير، وإحياء ما اندرس، وتجديد ما تنوسي، وتسمية ما استجد، إلى أن تمت المنة ببعثة خاتم النبوة، فاستدار الزمان كيوم خلق الله الكون، ووجب أن تستدير الكلمات كما شاء الله لها أن تكون، فكانت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم، أن يصحح الأسماء ويقيم الاصطلاحات. ولقد أدى رسول الله الرسالة كما يلزم واختُبر بحضرة من الصحابة فنجح… ألم يأته جبريل في صورة المتعلم وهو في الحقيقة مبعوث للتعليم؟ وما كان فحوى الحوار بينه وبين النبي سوى بيان مصطلحات الدين الأساس، الإسلام، والإيمان والإحسان؟
ولأن حكمة الله اقتضت أن يكون الرسول ‘ من جنس من أرسل إليهم، ومتحدثا بلسانهم، فقد اقتضى ذلك أن يكون القرآن بلسان عربي، ولزم أن ترتقي كلمات تلك اللغة البشرية لتستوعب معاني الوحي… وهكذا صارت كلمات العربية قنوات لنقل العلم إلى الإنسان… تماما كما علم الإنسان أول مرة.
“ولأن العلم علم الله أولا والكلمات – بغض النظر عن أصلها- كلمات الإنسان من حيث هي عرف واستعمال قبل نزول القرآن، فقد ضاقت عن مضمون قصد الشارع من حيث هي كذلك، فما كان عليها إلا أن ترجع إلى ربها طوعا أو كرها، فترقى دلالتها من مقام كلمات الإنسان النافدة، إلى مقام (كلمات الله) التي لا تنفد أبدا{{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}} { قُل لَّوْ كَانَ اَلْبَحْرُ مِدَادا لِّكَلِمَٰتِ ربى لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبى وَلَوْ جِئنَا بِمِثْلِهِۦ مَدَدا} [سورة الكهف:109] وأن تخرج من حيز الكلمات التي اعتراها التبديل والتغيير إلى مقام كلمات الله التي لا تبديل لها {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [سورة يونس:64]”.
ولقد اقتضى ذلك النقل للكلمات، تصحيح كثير من المقولات، والتحذير من خطورة تحريف المصطلحات… فإنما أدخل النقص على أمم قبلنا تغيير الكلم عن مواضعه، وتحريف الوضع عن أصله، ولذلك ما فتئ القرآن يأمر الناس أن يقولوا وينهاهم أن يقولوا، وذلك في مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم} [سورة البقرة:104].وقوله سبحانه، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُون} [سورة البقرة:154] وقوله ¸ {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ } [سورة النحل:116]. وغير ذلك كثير..
“إن الوحي كله، والقرآن منه خاصة، تعريف وتثبيت لمفاهيم المصطلحات الأساسية التي يقوم عليها التصور الصحيح للكون والحياة والإنسان”. وإن من رحمة الله بهذه الأمة أن تكفل سبحانه ببعثة من يجدد لها أمر دينها وهم عدولها من كل خلف فهم حملة ميراث النبوة ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.
والأمة اليوم، وهي تعيش واقع التخلف المرير بسبب الابتعاد عن هدي القرآن، قد دخل عليها ما دخل على الأمم قبلها من تغيير كلمات الله والاستبدال بها ما يروجه أباطرة الانحراف عن الفطرة، لهي أحوج ما تكون إلى جهود العلماء المصلحين، وراث النبوة، ليجددوا لها فهم القرآن الكريم، وليسعوا لإحلال كلماته ومسمياته في الحياة، وذلك وحده كفيل بإعادة صياغة التصورات وإصلاح التشوهات في الفكر والوجدان أولا وفي السلوك ثانيا. “فإنما الدين في جانبه المعنوي التصوري نسق من المفاهيم، أصلها في كتاب الله، وبيانها في بيانه السنة من تمكن من تلك المفاهيم، ومن نسقها العام، تمكن من الصورة الصحيحة لهذا الدين، ومن تشوّه لديه شيء منها أو منه، تشوهت لديه الصورة العامة لهذا الدين…”
لذلك فقد لزم أن تتجه همة الصالحين من علماء الأمة في هذا الزمان إلى بيان مفاهيم القرآن، وأن تتجه همة الدارسين من أبنائها إلى استجلاء اصطلاحات القرآن، والحرص على بثها في كل قطاع، عودة بالناس إلى أصل الدين، وخروجا بهم من مضايق الفهم وتشوهات التصور وانحرافات التنزيل.
ولأجل ذلك اخترت أن يكون موضوع الأطروحة في:
المصطلح القرآني عند الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.
اعتقادا مني أن أول ما ينبغي أن تصرف إليه الهمم ويبذل فيه الجهد، فهم كتاب الله تعالى، لأن دلك في نظري هو أكبر ضامن لحسن الفهم عن الله تعالى، وهو السبيل الأمثل لحسن تنزيل مقتضيات الدين على الواقع.
ولاعتقادي أن المدخل المصطلحي في فهم الخطاب القرءاني أساس في تبين مراد الله من كلامه، خاصة في زمن تعددت فيه القراءات للوحي الشريف واختلطت فيه الحقائق بالأوهام، وتسربت كثير من رواسب القرون العجاف إلى مدلولات الوحي بشقيه.
وأما أسباب اختيار الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور موضوعا للدراسة فلأنه أحد أعلام الأمة من المعاصرين الذين عاشوا فترة التراجع، وعايشوا مرحلة الاستخراب باسم الاستعمار، فحاولوا أن يبحثوا في أسباب ذلك الانحدار، وأن يقدموا تصورا في الإصلاح، فلم يجد مدخلا لذلك إلا بإعادة القرآن إلى الحياة، عبر تجديد فهمه بتحرير معانيه، وضبط اصطلاحاته، ولأجل ذلك سمى تفسيره بالتحرير والتنوير، فجمع فيه، كما قال هو، وكما شهد به غيره، أفضل ما في التفاسير، وأفضل مما في التفاسير فجاء آية في البيان لعلها من تجليات لغة القرآن… فلا يضيره بعد ذلك أن تعدد سقطاته، إذ كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه.
ولعل أبرز ما امتاز به الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وتفسيره ما يلي:
1ـ أن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فارس من فرسان البيان، وأحد رواد التفسير في زماننا المعاصر.
2ـ لأنه قد جمع أمورا تفرقت في غيره، لعل من أهمها:
ـ موسوعية وإلمام بعلوم شتى، ومعارف قل أن تجتمع في غيره، (لغة وفقها وأصولا وحديثا وتفسيرا…)، مما يجعل إمكان رصد أثر المصطلح القرآني في نتاجه العلمي أمرا ميسورا.
ـ كثرة تآليفه وتنوعها، مع ما تميزت به من استقلال في الرأي وجرأة في الرد، وملكة في التأصيل.
ـ تنصيصه على اصطلاحية الألفاظ القرءانية.
ـ طابع المعاصرة الذي ميز فكره عموما، وفي التفسير خصوصا.
ـ انصباغ نتاجه العلمي جملة بمنزع اجتهادي يرفض التقليد، وفكر تجديدي مؤسس على الثوابت.
3ـ لما تميز به الشيخ من الحس المصطلحي سواء على مستوى البيان (أي ضبط دلالة المصطلح) أو على مستوى البنيان (أي توليد المصطلح).
4ـ اهتمام الشيخ الكبير بتعريف المصطلح القرءاني حيثما ورد في القرءان.
5ـ اهتمامه بالتأصيل اللغوي للمصطلح القرءاني من خلال بيان أصل الاستعمال في اللغة وأوجهه الممكنة حقيقة ومجازا.
6ـ حرصه على محاولة تجميع شتات الدلالات المصطلحية في أصل دلالي واحد يمكن أن تتفرع عنه دلالات أخرى جزئية، ويسمي الدلالة الأصلية مصطلحا قرءانيا.
7ـ لأن زاوية المصطلح عموما والمصطلح القرءاني خصوصا، لم تُطْرَقْ بعد عند الشيخ، وهي في تقديري حرية بأن تفرد بأبحاث عديدة… وغير ذلك كثير.
وقد رامت هذه الأطروحة تقريب المصطلح القرءاني جملة عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، من خلال زاويتين اثنتين تؤسسان قسميها.
إذ مدار القسم الأول على استخراج جميع المفردات القرءانية المعرفة عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وعرضها مرتبة ترتيبا معجميا، ومحلها في الدراسة أن تكون الأولى، لكنها في العرض هي الأخيرة.
ومدار القسم الثاني على محاولة تجميع أصول الرؤية التي طبعت تعامل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مع المصطلح القرآني، تأصيلا وتعريفا وتفعيلا وتوجيها، وهو مؤسس على القسم الأول… وقد كان محله في الإنجاز تاليا، ولكنه في العرض مقدم.
وقد اقتضى ذلك أن نسير في الدراسة من ما هو عام إلى ما هو خاص، فلزم أن تقسم إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة:
اما المقدمة فقد خصصت لما جرى العرف أن تخصص له المقدمات.
وأما التمهيد فغايته إبراز مدى اهتمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بالمصطلح وقضاياه، ومحاولة استطلاع معالم منهجه في الدراسة المصطلحية… وإنما كان تمهيدا لأن صلب الدراسة ما تعلق بخصوص المصطلح القرآني عند الشيخ… غير أن اهتمام ابن عاشور بالمصطلح القرآني تأصيلا وتعريفا، نابع من شعور عميق عند الشيخ بأهمية المسألة المصطلحية جملة، وإدراكا منه لخطورتها وأولويتها. وعليه، فإن استيعاب ذلك الاهتمام الكبير الذي أولاه الشيخ ابن عاشور للمصطلح القرآني، لن يكون ممكنا إلا إذا وضع في إطار تهمم الشيخ بمسألة الاصطلاح والمصطلح جملة. ولعل أكبر ما أغرى بإبراز أهمية المصطلح في فكر ابن عاشور، ما اتسم به إنتاجه من الكثرة والتنوع من جهة وبالضبط والتحقيق من جهة ثانية خاصة في ما يتعلق بضبط المفاهيم وتعريف المصطلحات.
ذلك أن للشيخ مشاركات في مختلف فنون الثقافة الإسلامية؛ لغة، وفقها، وحديثا، وأصولا، كما تميزت كتاباته بالدقة في التحرير والقدرة الفائقة على البيان، ونفس عز نظيره – على الأقل في زمانه- في تتبع المسائل ومناقشتها، مستفيدا في ذلك كله من ثقافته الشرعية الواسعة، ومن تبحره في اللغة وعلومها… فحري بذلك كله، أن ينعكس على جهازه المصطلحي الذي يفكر من خلاله، والذي يصوغ أفكاره بواسطته… وحري بكتبه أن تتضمن ثروة مصطلحية مهمة تعريفا وتأصيلا ونقدا وتوجيها….وتأسيسا على ذلك تعين أن يكون التمهيد، بيانا لحس ابن عاشور المصطلحي، وإبرازا لمكانة المصطلح القرآني في فكره.
وأما الباب الأول فقد خصص لبيان منهج الشيخ في دراسة المصطلح القرآني خاصة من حيث تأصيله وبناء مفهومه، وتحديد أنواعه ووجه الصلة بين مختلف الإطلاقات والأسامي المحيلة عليه أو القريبة منه… فكان مبناه على أربعة فصول هي:
الفصل الأول: اصطلاحية المفردة القرآنية بين التسليم والمنازعة
وهدفه تحرير محل النزاع في مسألة اصطلاحية المفردات القرآنية، وذلك بإرجاع الخلاف إلى أصله، وتحديد منطلقاته وأسسه وحصر أبعاده، وكل ذلك تمهيدا لمحاولة البحث عند ابن عاشور عن ما يرفع النزاع ويؤسس لاصطلاحية مفردات القرآن الكريم.
الفصل الثاني: اللغة العربية بين استعمال العرب واستعمال القرآن عند ابن عاشور.
ومهمته محاولة بيان كيف أسس ابن عاشور لاصطلاحية المفردة القرآنية…ولعل ما أغرى بذلك كون الشيخ رحمه الله من أوائل من صرح باصطلاحية المفردات القرآنية، وكونه منطلقا فيها من رؤية واضحة مؤسسة على مبدأ تصرف القرآن في لغة العرب تصرفا تتيحه العربية من حيث كونها استعمالا، ولذلك لزم التمييز بين مصطلحي (استعمال العرب) و (استعمال القرآن) مع بيان مسالك تصرف القرآن في اللغة العربية.
الفصل الثالث: في تحديد مفهوم المصطلح القرآني وأنواعه ومقارباته.
وغاية هذا الفصل بناء مفهوم المصطلح القرآني عند ابن عاشور، من خلال الأسس التي بنى عليها الشيخ إطلاق وصف الاصطلاحية على المفردة القرآنية، ثم بيان أنواع المصطلح القرآني، بناء على ذلك، مع تحديد مفاهيم المصطلحات المقاربة له، سواء تلك التي ترادفه، أو تلك التي تشترك معه من أوجه وتفارقه في أخرى.
الفصل الرابع: في بيان بعض أثر المصطلح القرآني في تفسير ابن عاشور
وغايته محاولة بيان بعض أثر المصطلح القرآني في تفسير ابن عاشور على مستويي التنظير والتنزيل، خاصة ما تعلق ببعض مباحث الألفاظ، كالإحكام والتشابه، والخصوص والعموم، والحقيقة والمجاز…
وأما الباب الثاني فخصص للحديث عن منهج الشيخ في تعريف المصطلح القرآني من حيث بيان أنواع التعريف، وخصائصه، ومقاصده، ثم للحديث عن أهم المصادر التي اعتمدها في التعريف؛ فكان مبنى هذا الباب على فصلين هما:
الفصل الأول: في أنواع التعريف وخصائصه ومقاصده.
وذلك أن الشيخ لم يلتزم نوعا واحدا في التعريف، بل عرف بكل ما يمكن، سواء كان رسما، أو تعريفا بالمرادف، أو بالضد، أو بالمثال، وقد يعدد أنماط التعريف للمفردة الواحدة. على أن تعريفاته في عمومها انصبغت بخصائص مشتركة، مطردة أو غالبة، فلزم التعريج على بعضها. كما أن الشيخ ما كان يُعرف اعتباطا من غير أن يكون له مقصد، بل كانت تعريفاته محكومة في الغالب بغايات اجتُهد في بيانها بحسب الطاقة والاستطاعة.
الفصل الثاني: في تحديد مصادره وبيان منهجه في التعامل معها.
وذلك أن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور قد استند في تعريفاته إلى عدد كبير من المصادر والمراجع؛ لغوية كانت أو شرعية، فلزم ابتداء تحديد أهم تلك المصادر والمراجع، ولزم ثانيا محاولة تبين منهجه في الرجوع إليها.
وأما الباب الثالث فغرضه بيان مسالك الشيخ محمد الطاهر في توجيه تعريفاته للمصطلحات القرآنية وتأسس هو الآخر على فصلين:
الفصل الأول: في توجيه الشيخ لتعريفاته اعتمادا على الشواهد والقرائن.
وغرضه تقديم نبذة مختصرة عن منهج الشيخ في توجيه التعريف استنادا إلى الشواهد المختلفة لغوية[1] كانت أو شرعية[2] مع تقديم الأمثلة على ذلك، ومحاولة رصد منهج الشيخ في التعامل مع الشواهد… كما يهدف أيضا لبيان مسالك ابن عاشور في توجيه التعريفات استنادا إلى القرائن على اختلاف أنواعها مع تعزيز ذلك بالأمثلة.
الفصل الثاني: في توجيه الشيخ لتعريفاته اعتمادا على القواعد وأعني بها قواعد النحو والصرف وقواعد التفسير.
وغايته تقديم نبذة مختصرة- أيضا- عن طريقة توجيه الشيخ لتعريفاته استنادا إلى قواعد اللغة العربية، وأخصها قواعد النحو والصرف، واستنادا أيضا إلى قواعد التفسير، من غير قصد للاستيعاب.
وأما الخاتمة فهي، بحكم العادة، مخصصة لبيان أبرز النتائج التي خلص إليها البحث، مع ذكر بعض الآفاق التي يفتحها.
ومن ذلك:
1ـ حرص الشيخ على تعريف المصطلحات العلمية، وتدقيق مفاهيمها مما أثمر ثروة مصطلحية كبيرة مبثوثة في كتبه، يمكن أن تشكل معجما اصطلاحيا غنيا، من شأنه أن يقدم خدمة علمية مهمة للباحثين والدارسين للتراث الإسلامي… ولعل ما يعطي لذلك جدوى، ما تميز به الشيخ من التبحر في العلوم الشرعية، ومن التمكن من اللغة وعلومها.
2ـ حرصه على تقعيد التعامل مع المفاهيم العلمية، وهو ما يمكن أن يشكل بوادر منهج علمي في دراسة المصطلح عموما والمصطلح القرآني خصوصا، سواء على مستوى التأصيل أو على مستوى التنزيل.
3ـ كون الشيخ من أوائل من صرح باصطلاحية المفردات القرآنية.
4ـ امتلاكه رؤية تأصيلية للمصطلح القرآني، وصدوره في دراسته عن منهج واضح، مما أثمر معجما غنيا من المصطلحات القرآنية المعرفة كما يثبته المعجم المرفق…
5ـ حرص الشيخ على إعمال المصطلح القرآني وعدم إهماله، وهو ما انعكس على منهجه في التفسير خصوصا، وامتد في فكره عموما، فمنحه قدرا من الثبات والاتساق، وطبعه بمسحة تجديدية متميزة.
6ـ امتلاك الشيخ لرؤية تجديدية لعلم التفسير تحتل فيها المصطلحات القرآنية، بما هي ألفاظ قرآنية دالة على معان قرآنية صرفة، مكانة عالية جدا على مستويي التنظير والتنزيل.
ـ أما على مستوى التنظير، فإن ابن عاشور قد قدم خطة لإصلاح علم التفسير من أهم أركانها وجوب مراعاة اصطلاحات القرآن والحذر من تحريفها أو تفسيرها بالاصطلاحات الحادثة أو غير ذلك.
ـ وأما على مستوى التنزيل فإن الشيخ قد حرص على تتبع المصطلحات القرآنية وتدقيق مفاهيمها، والانضباط إليها في بيان المعاني، ونقد كثير من الفهوم التي لا تستقيم معها ردا أو توجيها…
7ـ دقة ابن عاشور في إطلاق صفة المصطلح على المفردات القرآنية من خلال اعتماده أسسا واضحة في ذلك، وهو ما أثمر تدقيقات في مستويات الاصطلاحية، لم يسبق لأحد أن بينها، ودفع كذلك لتصحيح بعض ما كان سائدا عند البعض من عد مفردات من القرآن منقولة، وهي باقية على أصل الوضع.
8ـ تعدد أشكال التعريف التي اعتمدها حرصا على بيان مفاهيم المصطلحات القرآنية، مع انصباغ مسلكه العام في التعريف بلغة سهلة ميسورة، تقرب المعاني بأوجز العبارات، وتتيح الفهم بأقل جهد.
9ـ سعة اطلاع ابن عاشور على كتب التراث، سواء أتعلق الأمر بكتب الشريعة أم كتب اللغة، وهو ما ظهر بجلاء في المصادر التي اعتمد عليها في تدقيق التعريفات، وضبط مفاهيم المصطلحات القرآنية.
10ـ اعتمد ابن عاشور في تعريفه للمفردات القرآنية على طائفة من الشواهد المختلفة، قرآنية وحديثية ولغوية، وهو ما أكسب تلك التعريفات دقة وتميزا، وأضفى على اختياراته وترجيحاته قوة.
11ـ دقة ابن عاشور في إيراد الشاهد مع الحرص على توجيهه قبل التوجيه به، ببيان وجه شهادته، وتحقيق نسبته. وقد أثمر ذلك ردا لبعض الشواهد التي دأب البعض على استعمالها، إما لأنها مصنوعة، أو لأنها لا تصلح للاحتجاج، أو لأنها قيلت بعد زمن التنزل، فهي بذلك متابعة لاستعمال القرآن وليست شاهدة عليه.
12ـ بيانه أثر القرائن في توجيه تعريفات ابن عاشور للمصطلحات القرآنية. خصوص صلة القرائن على اختلاف أنواعها بتوجيه معنى المفردة… وأهمية ذلك تتجلى في أن التحديد الدقيق لمعنى المفردة ينعكس على معنى التركيب جملة، إذ فهم الكل متوقف على فهم أجزائه.
13ـ بيانه أهمية قواعد اللغة وقواعد التفسير في ضبط المعاني القرآنية عموما، وفي توجيه تعريفات المصطلحات القرآنية خصوصا.
وينتج مما سبق جميعا:
ـ أن المصطلح القرآني مجال خصب للدراسة، وهو باب مهم من أبواب فهم كلام الله سبحانه، وتجديد القول في التفسير؛ لذلك وجب أن يولى عناية خاصة، وأن يكون على رأس اهتمامات الدراسين.
ـ وأن موضوع المصطلح القرآني عند الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، لا يزال في حاجة ماسة للبحث والتنقيب، وتقليب النظر، خاصة فيما يتعلق بأثره في توجيه الفهم، وأثره في الاستنباط والترجيح وعلاقته بالقراءات توجيها وترجيحا، وصلته بأصول التفسير وقواعده…
ـ كما أن امتداد المصطلح القرآني في فكر ابن عاشور قمين بدراسة مستقلة، لأن ذلك وجه من أوجه إعمال المصطلح القرآني خارج التفسير، وهو دال على أن المصطلح القرآني أصل المصطلح العلمي حقا، وهو بذلك ممهد للعودة إلى مصطلحات الذات ونبذ سيطرة المصطلح الوافد.
ولعل أبرز ما استفدته شخصيا، وأنا أخوض غمار هذا البحث، أن العلم الشرعي بحار زاخرة، يمد بعضها بعضا، وأن القول في بعضها لا يكون أبدا بمعزل عن بعضها الآخر، وأن مفتاح ذلك كله التمكن من اللغة العربية وعلومها؛ فإنها وسيلة فهم الوحي ووسيلة القول فيه، وأن رأس العلوم العلم بكتاب الله، إذ منه انطلقت كل العلوم وإليه تعود كلها…
ونتيجة ذلك فإني شعرت في خاصة نفسي وأنا أدون وأختتم الأطروحة، قديما وحديثا، هزالة بضاعتي، وقلة رصيدي، فالله أسأل أن ييسر سبيل التعلم ويعين عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتبه الفقير إلى ربه راجي مغفرته وفضله:
محمد الفيلة بن عبد القادر الصبيحي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الشواهد اللغوية هي ما كان من كلام العرب المحتج به شعرا كان أو نثرا.
[2] المقصود بالشواهد الشرعية خصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية.