صدر حديثا كتاب بعنوان “الله والعلم والبراهين” “Dieu Sciences les Preuves ” من تأليف ميشال إيف بولوري Michel Yves Bolloré وهو مهندس ورجل أعمال كبير من عائلة بولوري الفرنسية الثرية و أوليفيي بوناسي Olivier Bonnassies مهندس ورجل أعمال خريج معهد البوليتيكنيك Polytechnique الشهير، عن دار النشر غاي تريدانيال éditions Guy Trédaniel، أكتوبر 2021. وقد لقي الكتاب نجاحا كبيرا طبعت منه 50000 نسخة نفدت في وقت وجيز تبعتها 80000 نسخة. وقد أجريت لقاءات إعلامية مع الكاتبين من طرف عدة قنوات تلفزية وإذاعية ومن طرف صحف ومجلات كبيرة. كما أنه أثار نقاشا كبيرا في المجتمع الفرنسي وذلك لتصديه لموضوع حساس ظل لعدة قرون من الطابوهات وهو الجمع بين الدين والعلم. ويهدف المؤلفان من خلال هذا الكتاب لعرض المستجدات العلمية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين والتي سارت عكس ما تدعيه الفلسفات المادية والتي كان العلم التجريبي أحد الأسس التي بنيت عليها. فقد تتابعت الاكتشافات العلمية خلال هذين القرنين والتي تثبت أن للمادة وللزمان وللفضاء بداية مع الانفجار الكبير عكس ما يدعيه الماديون، وكما أن لكل حادث علة فكذلك للزمكان Espace temps وللمادة خالقا. ومن الأدلة التي ساقها المؤلفان أيضا أن العلم أثبت أن الكون خاضع لقوانين الضبط الدقيق وترتفع هذه الدقة بشكل كبير في القوانين التي تخضع لها المادة الحية مما يلغي نهائيا إمكانية خضوعها للعشوائية.
وسنقوم بعرض مقتضب لمضمون الكتاب من خلال ثلاث حلقات، تحتوي الحلقة الأولى على مقدمة وعلى الأسباب التي أدت إلى صعود الإلحاد وقبوله من طرف الأوربيين بداية من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين. أما الحلقة الثانية فهي مخصصة للأدلة المناقضة للفلسفات المادية والمبنية على الديناميكا الحرارية وعلى ظاهرة التوسع الكوني. كما تستعرض الحلقة الثالثة ما بات يسمى بالضبط الدقيق للكون وظهور المادة الحية بما فيها من تعقيدات يستعصي تفسيرها على النظرة المادية والتطور العشوائي تبعا لنظرية داروين.
الحلقة الأولى: العلم التجريبي والتدافع بين الإيمان والإلحاد
حين نشر العالم الفرنسي لابلاص Laplace آخر الأجزاء من كتابه ميكانيكا السماء، الذي يبسط فيه تفسيره للكون سأله نابليون مغضبا: كيف تقدم القوانين لكل الخليقة في كتابك ولا تتحدث ولو لمرة واحدة عن وجود الله، أجابه لابلاص: سيدي، لم أكن بحاجة لهذه الفرضية.
لقد انتشر الفكر الإلحادي في أوروبا تدريجيا، من القرن السادس عشر حتى نهاية القرن العشرين، نتيجة لعدة أسباب لعل أهمها ما أدخل في الكتاب المقدس عند النصارى من خرافات، والتي تعطي تفسيرا ساذجا للظواهر الطبيعية، سواء على مستوى الكون أو الحياة أو التاريخ، والذي سرعان ما انهار أمام الحقائق العلمية، المبنية على الرصد والحسابات والتجربة، والتي اثبتت أن تاريخ الكون أكبر بكثير من التقديرات الواردة في الكتاب المقدس، وأن الأرض ليست مركزا للكون، بل هي كوكب صغير يدور حول الشمس، كما بقية كواكب المجموعة الشمسية.
ثم بينت اكتشافات نيوتن Newton أن حركات الكواكب والأجرام السماوية، خاضعة لحسابات رياضية دقيقة، تمكن من خلالها من توقع مدارات الكواكب، وتحديد دقيق لتواريخ الخسوفات والكسوفات، مما أعطى مصداقية يقينية لنظريته. ومع ما صاحب ذلك من تقدم تقني وصناعي، وتحسن كبير لظروف عيش الإنسان الأوروبي، فإن كل ذلك جعل العلم التجريبي يتمتع بصيت عال وبمصداقية لا منازع لها. ولقد استغل الفلاسفة الماديون هذا الوضع أيما استغلال، مبينين تهافت الحقائق العلمية المزيفة في الكتاب المقدس من جهة، وحتمية الظواهر الطبيعية المستغنية ظاهريا عن دور الإله في تفسيرها من جهة أخرى. فتتابعت الفلسفات المادية التي تزيت بزي العلم، ممكنة للإلحاد أن يتسرب لعقول وقلوب الأوروبيين، حتى غدا الإيمان بالله وبالغيب وبالرسل من الأمور المستهجنة والغير واقعية.
وهكذا جاءت الداروينية لتقدم تفسيرا ماديا لظهور الكائنات الحية بما فيها الإنسان، دونما حاجة لأي تدخل غيبي، بل فقط مستندة على الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي. ثم قدم ماركس فلسفته المادية الجدلية لتفسير التاريخ والصراع الطبقي، مستغنيا عن الله وعن الدين في تفسير صعود وتراجع الحضارات والأمم. ومن أكثر هذه الفلسفات المادية تأثيرا التحليل النفسي؛ الذي أنشأه سيغموند فرويد والذي أطلق العنان للثورة الجنسية، التي لا زال الغرب غارقا فيها إلى الآن، رغم انهيار مصداقية فرويد والتحليل النفسي، لدى معظم الفلاسفة والأطباء النفسيين.
ورغم أن معظم العلماء والفلاسفة، الذين كانوا وراء هذا التطور كنيوتن Newton وغاليليو وGallelio كوبرنيك Copernic وديكارت Descartes وسبينوزا Spinoza، كانوا يؤمنون بخالق لهذا الكون إيمانا يشوبه إلحاد في الله وآياته، إلا أن تحالفا قويا نشأ بين العلم التجريبي والإلحاد، على مدى عدة قرون تربع فيها الإلحاد على عرش الفلسفة والثقافة والعلم. وكانت أهم دلائله التي ادعى أنها مبنية على أسس علمية أزلية الوجود وثباته، ومن ثم فهو مستغن عن الخالق.
غير أن الاكتشافات العلمية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ما فتئت تقدم دلائل مطردة تهز عرش الإلحاد وتوهن تحالفه مع العلم التجريبي، حتى عاد الإلحاد مضطرا للجوء للخرافات والتفسيرات اللاعقلانية، ليواجه تصاعد الأدلة العلمية القوية والرصينة، والتي تبين لمن كان له قلب وعقل، أن هذا الكون حادث وليس أزليا ولن يكون أبديا، مما يدل على أنه مخلوق ومسير بقوانين صارمة ودقيقة، تدل على العلم والقدرة والحكمة المطلقة للخالق البديع.
وكانت أولى الضربات التي تلقاها الإلحاد في القرن التاسع عشر، على يد كوكبة من العلماء الأفذاذ، الذين كانوا وراء إنشاء علم جديد، هو الديناميكا الحرارية Thermodynamique بدءا بكارنو Carnot وكلاوزيوس Clausius مكتشف القانون الثاني للديناميكا الحرارية. هذا القانون الذي يستنتج منه أن الكون يسير حتما إلى الموت الحراري، مما يدل على أن له بداية ونهاية وهو حادث، وبما أن كل حادث مخلوق فالكون مخلوق وله خالق. هذه الاستنتاجات التي جاء بها ثالث العلماء وهو بولتزمان Boltzmann، الذي وضع معادلته الشهيرة التي تحمل اسمه. معادلة بولتزمان التي وصفها إنشتاين Einstein على أنها أعظم قانون فيزيائي على الإطلاق. ولقد حورب بولتزمان من طرف الملاحدة بلا هوادة، مما أدى به إلى الانتحار، ليكون أول ضحية للإلحاد في العصر الحديث.
ثم جاءت نظرية النسبية العامة لإنشتاينEinstein ، والتي فتحت المجال لعلماء آخرين استنتجوا منها أن الكون يتمدد وأن له بداية، مما يدل على أنه مخلوق. وقد أثبتت المراقبة على طول القرن العشرين هذه الاستنتاجات، وأصبحت من المسلمات لدى كل علماء الفلك وعلماء الفيزياء بما فيهم الملاحدة. إلا أن هؤلاء لم يستسلموا وذهبوا يصوغون نظريات خيالية لإنكار الخالق، كنظرية الأكوان المتعددة؛ والتي ليس لها أي أساس علمي، ولن تتمكن المراقبة والحسابات الرياضية من إثباتها.
بالإضافة إلى ذلك تمكن علماء الفيزياء، من خلال استعمال حواسيب فائقة السرعة، والتي بإمكانها إنجاز ترليونات الحسابات في الثانية، من إثبات أن قيمة حوالي أربعين ثابتا constante يخضع لها الكون محددة بدقة متناهية، مما يجعل تغيرا طفيفا ولو بحوالي جزء من المليار لهذه الثوابت، يؤدي إلى استحالة وجود الكون والحياة، بالشكل الذي هو عليه في الواقع. وهذا ما يسمى بالضبط الدقيق للكون والذي يسقط نهائيا الاعتقاد السائد لدى الملاحدة، بأن الوجود نتج عن ظواهر عشوائية بدون أية إرادة وعلم وحكمة مسبقة.
ثم جاء دور المادة الحية المكونة من الحمض النووي: دِ نْ أَ، DNA على شكل شفرة وراثية بالغة التعقيد، تهز نظرية داروين من جذورها، بحيث لا يمكن تصور وجود هذه الشفرة بالصدفة، كما أنه من المستحيل تواجد هذه الشفرة والبروتينات اللازمة لقراءتها وترجمتها ل “رْ نْ أَ” RNA ثم إلى البروتينات المسؤولة عن كل وظائف الخلية، ووظائف الأعضاء، والتطور المعقد للأجنة بطريقة عشوائية. هذا بالنسبة للأحياء عامة، أما إذا انتقلنا للإنسان، وقدرته على الفكر والإحساس والتذكر والمهارات اليدوية، فهذا مجال آخر لا يمكن للإلحاد أن يقدم أي تفسير مقنع لإيجاده، سوى قدرة الله وعلمه وحكمته ولطفه.
وآخر الظواهر التي لا يمكن تفسيرها إلا بالإيمان بالله، هي الشرائع السماوية التي جاء بها الأنبياء، خاصة موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وكيف أظهر الله أهل الإيمان على أعدائهم، ومكن لدينه رغم انعدام الإمكانات المادية، واختلال موازين القوى بين الطرفين. ويظهر هذا جليا في تاريخ الإسلام، بحث بدأ برجل واحد هو الرسول صلى الله عليه وسلم، في بيئة فقيرة من الناحية الفكرية والمدنية والمادية، ولم تمر سوى 23 سنة، حتى وحد الجزيرة العربية بكاملها، ولم يكد ينته قرن من الزمان، حتى بلغ هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها، متحديا جميع التوقعات المادية، ولا يزال مُمَكنا إلى يومنا هذا، رغم ضعف أتباعه وتقاعسهم عن نصرته.
وسنحاول من خلال هذه الورقات، ومن خلال قراءة في كتاب الله العلم البراهين؛ Dieu La Science Les Preuves، عرض هذا التدافع بين الإيمان والإلحاد! على مدى عدة قرون، سنرى من خلالها كيف تسلل الإلحاد من خلال فلسفات مادية، واعتمادا على استنتاجات خاطئة للاكتشافات العلمية، متمكنا من اعتلاء عرش الفكر والثقافة والفلسفة، والتربية والتكوين والتشريع والأخلاق. ثم مع التقدم العلمي كيف تلقى ضربات موجعة، جعلت مكانته على المستوى الفكري والفلسفي تتراجع، رغم ما يُمَد به من تأييد سياسي وإعلامي وأكاديمي. كما أن سطوته على المجال التشريعي والأخلاقي، قد تغلغلت في أعماق النفوس والعقول، مما يصعب معه إزاحته منها، والتمكين للدين للعودة للريادة في هذه المجالات، إلا بإذن الله وما ذلك على الله بعزيز.
صعود نجم الإلحاد
لقد عرف عصر النهضة في القرن الخامس عشر، بعد ترجمة العلوم العربية والإسلامية إلى اللاتينية، تبرم العلماء والفلاسفة من نصوص الكتاب المقدس عند النصارى، نظرا لما أدخل فيه من تحريفات ليست من الوحي في شيء، ومُصادِمة للعقل ولما تقدمه الدلائل العلمية، المبنية على العقل والمنهج التجريبي. بالإضافة إلى سطوة الكنيسة السياسية والاقتصادية والتشريعية. إزاء هذه الوضعية ظهر مساران في الفكر الأوروبي، سيكون لهما تأثير عميق في تشكيل الوعي والعقل والوجدان الأوروبي، الذي سيتميز بالنزعة للإلحاد أو على الأقل لجعل الدين هامشيا، وإبعاده عن كل ما هو أخلاقي وتشريعي، بل حصره في زاوية ضيقة تخص الفرد وعلاقته بمعبوده.
المسار الأول كان فلسفيا، تبلور تدريجيا على مدى عدة قرون، إلى أن جاء الفيلسوف الفرنسي الشهير رونيه ديكارت René Descartes في القرن السابع عشر، والذي أعطاه زخما قويا لازال مستمرا ليومنا هذا. ورغم أن ديكارت كان يدعي الدفاع عن الإيمان والكتاب المقدس، إلا أنه في حقيقة الأمر بتبنيه الشك المنهجي وما يسمى بالعقلانية، فتح بابا كبيرا للإلحاد، وللإعراض عن النصوص المقدسة، وعن الوحي عموما. هذا الباب ولج منه عدة فلاسفة من بعد ديكارت، يدقون مسامرهم في نعش الكنيسة والدين عامة. ولعل أشهرهم سبينوزاSpinoza وهيوم Hume وهوبز Hobbes ولوك Locke وهيغلHegel ونيتشه Nietzche وداروين Darwin وماركس Marx وفرويد Freuid. وما يميز هذه الفلسفات، إما إلحاد وإنكار للخالق، أو إيمان بوجود خالق للكون، إلا أنه غير عابئ بالإنسان وسلوكه وعبادته، وهو لا ينتظر شيئا من الإنسان، وأن على الإنسان ألا ينتظر منه شيئا، وأن قدر الإنسان ومصيره بيده هو، وهذا هو دين الأنسنة Humanisme. وحسب هذه الفلسفات، فالمعرفة الإنسانية تتطور عن طريق التقدم العلمي، والإنسان يمارس سلطته على الطبيعة، وبدا وكأنه يتمتع بخصائص الربوبية! فله أن يمارس سلطته الألوهية وهي التشريع والأخلاق والسياسة، التي لا يلزم أن تبنى على ثوابت الدين والوحي، بل على ما يراه المشرعون من تشريعات تتطور باستمرار، وتتجاوب مع تطور المجتمع، وتستجيب لحاجاته الغريزية، دون ضابط من الدين والوحي. وقد بلغ هذا التوجه مداه مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، بالتقنين للشذوذ وزواج الشواذ، وتمكينهم من التبني وتنشئة أطفال، تحت رعاية أبوين ذكرين أو أنثيين، أو ذكرين وأنثى، أو ذكر وأنثيين، أو حتى أكثر فيما يسمى الزواج للجميع Mariage pour tous. ويتم حاليا تنشئة أجيال تحت ما يسمى التربية الجنسية، والتي تهدف إعطاء الفرد حرية اختيار هويته الجنسية، بغض النظر عن هويته البيولوجية، تجاوبا مع ما يسمى بالميول الجنسي لدى الطفل.
فهذه الانتكاسة الفطرية والذوقية، التي تأباها النفوس السليمة، إنما هي نتاج لفلسفات إلحادية، توهم أن الإنسان سيد الكون، ويملك قدَره وله الحرية المطلقة في سن الشرائع والأخلاق والنظم الاجتماعية، والتي يراد فرضها بالقوة على باقي الشعوب والحضارات، عبر المؤسسات الدولية، كالأمم المتحدة والبنك وصندوق النقد الدوليين. غير أن هذه الحرية الظاهرية التي أُوهم بها الإنسان الغربي ومن يسلك مسلكه، ما هي إلا سراب، وحقيقة الأمر أن مقاليد الأمر والسلطة الحقيقية بيد أقلية تمسك الخيوط من وراء الستار، وتتحكم في المؤسسات الدولية وفي الاقتصاد وفي الإعلام، ومن خلال ذلك في السياسات العمومية، التي تشرع في ميادين التربية والتكوين، والصحة وقوانين الأسرة وغيرها. ومن خلال هذه الأذرع، تمكنت من بلوغ أعماق وجدان وقلب وعقل الأوربيين، الذين استسلموا لهذا الوهم والحلم، الذي يبدو ورديا في ظاهره تماما كجنة الدجال، التي هي في حقيقتها نار موقدة تطلع على الأفئدة.
وكان المسار الثاني حليفا للمسار الأول، يمده بالمادة الضرورية على شكل اكتشافات علمية واختراعات تقنية، تغدي غرور الإنسان، وتوهمه بأنه هو والكون مستغنيان عن الإله. فالكون خاضع لقوانين حتمية لا تحتاج تدخل الإله، والإنسان بما يتمتع به من قدرات حسية وعقلية، وبما يطوره من قدرات تقنية وصناعية، قادر على تسخير الكون وما فيه من أسرار، تجعله يملك مصيره، ولا يلزمه خضوع ولا عبادة ولا شرائع، بل أصبح صاحب الخَلق والأمر، يتصرف في الكون بولاية تكوينية، عبر العلم المادي والتقدم التكنولوجي، ويصدر الأحكام بولاية تشريعية، عبر الدولة العلمانية المدنية. وقد سارت الرياح على مدى ثلاثة قرون ظاهريا على ما اشتهته سفن الإلحاد.
ولعل باكورة الاكتشافات العلمية التي مهدت لهذا المسار، كان وراءها كل من كوبرنيك وغاليليو، اللذان توصلا اعتمادا على أبحاث الفلكيين المسلمين، خاصة ابن الهيثم، وكذلك بالاعتماد على الرصد والحسابات الرياضية، إلى فهم علمي للظواهر الفلكية، واكتشاف أن الأرض كوكب صغير يدور حول الشمس، وأنها ليست مركزا للكون، كما هو منصوص عليه في الكتاب المقدس المحرف من قبل النصارى. وعوض اعتبار الأجرام السماوية مخلوقات لله، وأنها خاضعة لمشيئته من خلال سنن إلهية، عوض ذلك استبدل الملاحدة القوانين الفيزيائية بالسنن الإلهية، واعتبروا هذه القوانين بمثابة إله من دون الله، هي التي تتحكم في الكون وتسيره. وذلك على الرغم من أن غاليليو Galilée و كوبرنيك Copernican، لم يكونا ينكران وجود إله خالق للكون. ولعل أعظم عالم تجريبي بلغ بهذا المسار مداه، هو إسحاق نيوتن Isaac Newton صاحب عدة اكتشافات ثورية، لدرجة أن الفيزياء الكلاسيكية صارت تسمى فيزياء نيوتن، لما كان له من أثر بالغ على هذا العلم. وكان من أهم اكتشافاته قانون الجاذبية، الذي يعطي تفسيرا لحركة الأجرام السماوية بشكل دقيق، مكنه من التنبؤ بالخسوف والكسوف. كما أن اكتشافاته حول حركة الأجسام، والمعادلات الرياضية التي تتحكم في هذه الحركة، ودور عوامل الوزن والزمن والسرعة والاتجاه، في تحديد والتنبؤ الدقيق بهذه الحركة، وما لذلك من تطبيقات ميكانيكية، جعلت الناس يزدادون ثقة بالعلم التجريبي.
كل هذا تلقفه الفلاسفة الماديون بلهفة، وبنوا عليه فلسفاتهم المادية المبنية على إلغاء دور الإله، واعتبار استحضار دوره في تفسير الظواهر الكونية، خرافة اخترعها رجال الدين لإخضاع العوام، في زمن كان الناس يجهلون القواعد الفيزيائة، التي تتحكم في الكون. أما وأن الإنسان بلغ من النضج والعلم، ما مكنه من تقديم تفسير علمي وعقلاني ومادي للظواهر الكونية، فإنه لم يعد بحاجة للتفسير الغيبي للعالم المادي. وصارت النظرة السائدة للكون، على أنه أشبه بآلة عظيمة تخضع لقوانين الميكانيكا، وأنه ليست إلا مسألة وقت حتى يتمكن الإنسان من الكشف عن جميع أسرار الكون. وتبعا لهذه النظرة المادية، فإن الكون مخلوق وأزلي وسيكون أبديا. رافق ذلك تقدم تقني، كان وراء تحسن كبير لظروف العيش والإنتاج والعمل والقضاء على الأمراض، كما مكن الأوروبيين من السيطرة على مناطق شاسعة من العالم، والاستفادة من الثروات الطبيعية، مما ضاعف ما يسمى الإيمان بالعلم وبالإنسان. ولم يبق لهذا التحالف بين الفلسفة المادية والعلم المادي والتقدم التقني، إلا خطوة واحدة للسيطرة على المجال السياسي والتشريعي، وبخاصة على مجال التربية والتكوين، من أجل الوصول إلى وجدان وعقول الشعوب، لصياغتها بما يتلاءم مع الدين الجديد دين الأنسنة. فتم ذلك من خلال فلسفة الأنوار، وما يسمى بحقوق الإنسان، التي كانت وراء الثورات وقيام أنظمة علمانية، همشت دور الدين والكنيسة، حيث حولت معظم كنائس فرنسا لما سمي بمعابد العقلTemples de la raison ، وأصبح الدين ممارسة فردية بين العبد وما يؤمن به من معبودات.
لكن تحديا كبيرا لازال يواجه هذه الفلسفة المادية، ويتمثل في الكائنات الحية وما تتمتع به من خصائص يصعب تفسيرها، انطلاقا من المعطيات المادية. وقد شكلت فلسفة سبينوزا التي هي عبارة عن إعادة اعتبار لوحدة الوجود لابن عربي، والتي تعتبر الإله والعالم شيئا واحدا، فالإله عند سبينوزا هو الطبيعة الطابعة، والعالم هو الطبيعة المطبوعة؛ أي أن قوانين الطبيعة هي الإله الحقيقي، الذي سيؤمن به إنشتاين فيما بعد. بعد كل هذا لم يكن من الصعب على العلماء الماديين، تصور أصل مادي وطبيعي للكائنات الحية، على شكل بسيط تطور بشكل عشوائي تحت تأثير البيئة، كما ذهب لامارك Lamarck أو الانتخاب الطبيعي كما قدر داروين Darwin. وفي كلتا الحالتين فظهور الكائنات الحية وتطورها، وبالتالي ظهور الإنسان، لم يكن بحاجة إلى إله خالق! بل تم من خلال ظروف مادية بطريقة عشوائية. ورغم تهافت هذه النظرية، والغياب التام لأدلة مادية وعقلية وتجريبية على صدقها، سوى التشابه بين الكائنات، وبعض الأحفورات Fossiles العاجزة عن تقديم تصور شامل لظهور الكائنات الحية، إلا أن الدعم المطلق لها من القوى الغالبة، ومحاربة كل من تسول له نفسه التشكيك فيها، وكذلك فرضها كفكر وحيد في المناهج الدراسية والتربوية، جعلها مقبولة لدى العوام، وكأنها حقيقة علمية لا تقبل الجدل. ومما سهل تسرب هذه النظرية للعقول، التصور الساذج والمبسط للمادة الحية، وعدم الاطلاع المبهر على التعقيد المعجز للمادة الحية، والذي لم يتم اكتشافه إلا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
واستكمالا للمنظومة الإلحادية وإتماما لعقد الإلحاد، قدم كل من ماركس وفرويد فلسفتهما، التي أتت على ما بقي لدى الإنسان الأوروبي، من بقايا الفطرة السليمة، ولينسلخ بالكلية من درجة التكريم الاستخلافي، التي خص الله بها بني آدم حين خلقهم في أحسن تقويم، لكنهم أبوا إلا أن يرتدوا أسفل سافلين.
كان ذلك صعود نجم الإلحاد، متكئا على التقدم العلمي والتقني، ومتبنيا فلسفات مادية ظنت ردحا من الزمن أن الأمر استتب لها، وأنها تخلصت إلى الأبد من عدوها المتمثل في الدين، بما يقدم من عقيدة وتشريع وأخلاق. غير أن أَشرِعة العلم التجريبي أبحرت في اتجاه آخر، وبدا أن التعمق في دراسة الظواهر الكونية، لم يعد يرسخ أقدام الإلحاد، بل على العكس من ذلك جعل الأرض تهتز من تحت هذه الأقدام، وكادت أصنام الإلحاد تهوي كما هوى هبل يوما تحت ضربات المؤمنين الصادقين،{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وسنستعرض فيما يلي من حلقات، بعضا مما جاء في كتاب “الله والعلم والبراهين” من هذه الاكتشافات العلمية، التي أبى الله سبحانه إلا أن يوهن بها صرح الإلحاد، كمقدمة لتراجعه دون زواله نهائيا، إذ جرت سنة الله في الحياة الدنيا، أن يوجد كفر وإلحاد ما وجد إيمان ليمارس الناس مسؤولية الاختيار بين الاتجاهين المتنافيين، ويستمر التدافع بينهما إلى قيام الساعة، مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2، 3].
زر الذهاب إلى الأعلى