فَوَضْعُ نموذج للكون يعني الإحاطة به رياضيا مادة وزمانا ومكانا، وهو الدليل القاطع على أن هذا الكون محدود زمانا ومكانا ومادة؛ أي أنه مكون من مادة لها حدود في الزمان والمكان، وهذا ما يقوض صرح الإلحاد من أساسه مصداقا لقوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26] وقوله : {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]. ذلك أن الفلسفات الإلحادية بدون استثناء، بُنيت على عقيدة أن الكون أزلي، وأنه غير محدود زمانا ومكانا. فالمادية الجدلية مثلا تتبنى لامحدودية الزمان والمكان لأن محدوديتهما لا يمكن إلا أن تلزم بوجود خالق للكون، وهذا ما سيثبته العلم المادي من خلال الاكتشافات على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين. ولقد استغرقت بناية هذه القناعات ما يقارب قرنين من الزمان، بدءا باكتشافات سادي كارنو Sadi Carnot في عشرينيات القرن التاسع عشر، مرورا باكتشافات إنشتاين Einstein وفريدمان Freidmann ولوميتر Le Miatre وهابل Hubble، فيما يتعلق بالتوسع الكوني والبيغ بانغ Big Bang، وليس انتهاء باكتشاف الشفرة الحيوية وتعقيدات وظائف الخلية. وسنستعرض في هذه الحلقة أثر الاكتشافات في ميدان الآلات الحرارية، وانتقال الحرارة بين الأجسام من جهة والتوسع الكوني، والبيغ بانغ من جهة أخرى، وعلاقة العلم التجريبي بالإيمان والإلحاد. الديناميكا الحرارية وأن للكون بداية ونهاية في كل ثانية تحول الشمس 620 مليون طن من الهدروجين إلى 615 مليون طن من الهيليوم، مع تَحَول 5 ملايين طن المتبقية إلى أشعة حرارية، يصل جزء ضئيل منها إلى الأرض، وهو مصدر حرارة الأرض. ويبلغ عمر الشمس حوالي 4٫5 ملايير سنة. ولو كانت الشمس أزلية لكان قد نفد مخزونها من الهيدروجين منذ الأزل، ولماتت موتا حراريا منذ الأزل. وما قيل في الشمس يمكن أن يقال في شؤون نعيشها يوميا، تبدو بسيطة لكنها غاية في الأهمية. فهب أنك وضعت كوبا حارا من الشاي في غرفة معتدلة الحرارة، ثم تركته ساعة من الزمن ثم عدت إليه، فإنك لا ريب ستلاحظ أن حرارته أصبحت متوازية مع حرارة الغرفة؛ أي أن الحرارة تسربت من الشاي الساخن إلى الهواء البارد داخل الغرفة حتى تساوت الحرارتان. ومن البديهي أن هذا التسرب للحرارة استغرق زمنا محدودا، حوالي الساعة ابتدأت من وضعك للكأس حتى برودته. وبما أن العلم التجريبي استطاع أن يضع نموذجا رياضيا للكون بأكمله، فلنا أن نفترض أنه نظام مغلق، لا يزال يحتفظ بجزء من حرارته. فلو كان هذا الكون أزليا لكان قد فقد حرارته بالكلية منذ الأزل، لتصل حرارته إلى درجة الصفر المطلق؛ أي ناقص 273 درجة مئوية، حيث تستحيل كل التفاعلات الكيماوية، ناهيك عن التفاعلات الحيوية، وسيكون كونا ميتا موتا حراريا. ومادام أن الكون لا يزال يحتفظ بالحرارة، وبأنواع من الطاقة أرقى من الحرارة، فيستحيل أن يكون أزليا، وهذا ما ينسف الأدلة الأساسية، التي تعتمدها الفلسفات المادية منذ اليونان إلى يومنا هذا، والتي تزعم بأن الوجود عبارة عن مادة أزلية لا أول لها، وأبدية لانهاية لها، وبذلك فهي لا تحتاج إلى سبب غير مادي أو ميتافيزيقي؛ أي أنها ليست بحاجة للإله. ولكن إثبات ذلك علميا احتاج لعقود من الجهود العلمية. وابتدأت هذه الجهود عن غير قصد، منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، مع بروز علم جديد يُعنَي بالتبادل الحراري بين الأجسام، وبأداء الآلات الحرارية. وقد وضع أسسه عالم فرنسي شاب يدعى سادي كارنو Sadi Carnot، مؤسس دورة كارنو، التي تعطي نسبة كفاءة المحركات الحرارية. هذه الدورة التي أعاد تعريفها عالم الفيزياء الألماني رودلف كلاوزيوس Rudolph Klausius والذي اكتشف القانون الثاني للديناميكا الحراري كما أنه أول من أطلق مفهوم الاعتلاج Entropie في علم التحريك الحراريThermodynamique الذي ينص على أن “جودة” الطاقة تَتَدَرَّك (تنزل لمستوىً أدنى) بشكل لاعكوسي Irreversible، وهذا هو مبدأُ تَدَرُّكِ الطاقة وهو ما يُفَسَّرُ بارتفاع الاعتلاج أو الفوضى في الأنظمة المغلقة مع مرور الزمن. وإذا اعتبرنا الكون نظاما مغلقا، فهذا يعني أن طاقته تَتَدَرَّك مع الزمان؛ أي تنقص قيمتها وهو ما لايمكن أن يدوم منذ الأزل وإلى الأبد، مما يدل على أن الكون له بداية وستكون له نهاية، وأنه غير ثابت بل هو متغير فهو إذا مخلوق. إضافة إلى ذلك، فالتغير الكوني مع الزمان وعدم تنامي الفوضى الذي هو متوقع من خلال القانون الثاني للتيرموديناميكا، يدل على أن هناك عاملا لا يخضع للزمان والمكان، يمد هذا الكون بالمدد الذي يمكنه من الاستمرار بهذه الصيغة، ولعل هذا هو مدلول القيومية واللطف الإلهي. وكان رد الملاحدة على هذه الحقائق العلمية عنيفا، حيث لم يستسيغوها خاصة أن الفلسفات الإلحادية كانت لا تزال في عنفوانها وقوتها، فتم اضطهاد مكتشفي هذه الحقائق، خاصة بولتزمان صاحب المعادلة التي تحمل إسمه والتي اعتبرها إنشتاين فيما بعد أعظم قانون فيزيائي على الإطلاق. فانطلاقا من أبحاثه وأبحاث كلاوزيوس، استنتج بولتزمان أن الكون كنظام مغلق له بداية وليس أزليا، وأنه عند بدايته كان في أعلى مستوى من التنظيم؛ أي أن الاعتلاج أو L’entropie أو الفوضى كانت في أدنى مستوياتها، و أن تصاعد الاعتلاج أو الفوضى ستؤدي حتما للموت الحراري للكون، وتبعا لذلك فالكون ليس أبديا. وهذه الاستنتاجات رغم أنها لقيت معارضة مستميتة من طرف العلماء والفلاسفة الماديين، إلا أن العلم التجريبي خلال أكثر من قرن من الزمان إلى يومنا هذا لا يقوم باكتشاف جديد، إلا كان هذا الاكتشاف مثبتا لهذه الاستنتاجات، حتى أصبحت هذه الاستنتاجات حقائق علمية يعترف بها الجميع. ومن بين العلماء الذين تصدوا لهذ النظرة الجديدة للكون، هنري بوان كاري Henri Poincaré الذي قال: إن حسابات بولتزمان تستلزم ضمنيا اللارجعية Irreversibilité، وهي من الأمور المستحيلة بالنسبة لبوان كاري ولمعظم العلماء في ذلك الوقت. أما العالم الكبير إيرنست ماش Ernest Mach، والذي كان قد تنازل لبولتزمان عن رئاسة كرسي الفلسفة وتاريخ العلوم بجامعة فيينا، فقد أقسم أن يُسْكِتَ ما أسماه الباحث الصغير، يعني بولتزمان صاحب الأفكار الخطيرة على الفيزياء، وكان يتصدى باستمرار لكل تدخلات بولتزمان العمومية. كما أن إيرنست هيكل Ernest Haekel عالم الأحياء الكبير، قد لاحظ أن المفهوم الجديد، يلزم بأن الكون حادث وليس أزليا، وأن ذلك مناف للاعتقادات الراسخة، لذلك صرح بأن القانون الثاني للديناميكا الحرارية، مستحيل أن يكون صحيحا، وكرس جزءا من حياته ليثبت ذلك إلا أنه خاب وخسر. ومن بين المعترضين كذلك على هذه المعطيات التجريبية، فريدريك إنغلز Friedrich Engels، المؤسس للمادية الجدلية وأستاذ ماركس، والذي لم يدخر أي جهد لمحاربة هذه المعطيات التي تلغي المادية الجدلية من أساسها. وانضم إلى جوقة المعارضين العالم الكيميائي السويدي، والحائز على جائزة نوبل سنة 1903، سفانت آرينيوس Svante Arrhenius، الذي كتب يقول: “لو كانت آراء كلاوزيوس صحيحة، لكان الموت الحراري قد حدث منذ أزمنة لامتناهية، لا يمكن أن نفترض أن هناك بداية للكون، لأنه لا يمكن خلق الطاقة، وتبعا لذلك فكل هذا يبدو غير مفهوم. كما أن ألبيرت إنشتاين في بداية الأمر، عارض فكرة لارجوعية الزمن كما التوسع الكوني، إلا أنه غير رأيه حول الموضوعين راجعا إلى الصواب. وفي بداية القرن العشرين استعمل العالم الألماني الكبير ماكس بلانك Max Planck، القانون الثاني للديناميكا الحرارية، ليفسر إشعاع الثقوب السوداء، كما أن إنشتاين سنة 1905 صرح في النهاية أن القانون الثاني للديناميكا الحرارية، هو أول قانون للعلم على الإطلاق. وفي نهاية الأمر باءت كل المعارضات بالفشل، وتأكد كل العلماء أن القانون الثاني للديناميكا الحرارية غير قابل للدحض، لدرجة أن عالم الفلك المرموق آرتر إيدنغتون Arthur Eddington، كتب قائلا: القانون الذي بموجبه يكون الاعتلاج l’Entropie دائما في تصاعد، يحتل الصدارة بين كل قوانين الطبيعة. إذا أخبرك أحدهم أن نظريتك مخالفة لمعادلة ماكسويل فلك ألا تهتم بالأمر، أما إذا حدثك أن نظريتك مخالفة للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، فليس لديك أي أمل أن تكون نظريتك صحيحة. أما الفيزيائي الملحد ستيفن وايننبرج Steven Weinberg، فقد اعترف أن أمنيته أن تكون نظرية الكون الثابت الأزلي، صحيحة لأنها أكثر جاذبية، وأبعد عمَّـا نادت به الأديان، إلا أنه اعترف أن الحقائق العلمية خيبت آماله. كما أن للقانون الثاني للديناميكا الحرارية لوزام أخرى، تُسقط فلسفات وثنية كبرى مثل الهندوسية والبوذية والديانات الصينية التقليدية. كما ذهب إلى ذلك الباحث في الإلحاد هيثم طلعت. فهذه الوثنيات على عقيدة دوران الزمان Cyclique، فما أن تنتهي دورة حتى تبدأ دورة أخرى، ويكون مقدار كل دورة ملايين السنين. إلا أنه حسب القانون الثاني للتيرموديناميكا، فالزمن يسير في اتجاه مستقيم، ويستحيل أن يعود إلى الوراء لترتفع حرارته وطاقته من جديد، لأن الطاقة لا تنتقل من جسم بارد إلى آخر أرفع درجة من الحرارة. ويضيف هيثم طلعت: “أن هذا القانون ينسف الداروينية التي تفترض أن المادة الحية تزداد تعقيدا وتنظيما مع مرور الزمن، وهذا مناف لهذا القانون الذي يثبت أن أي كيان دون تدخل خارجي، فإنه يسير نحو التَدَرُّكِ والفوضى وضياع كمية المعلومة. وهذا قانون لا ينكسر ولا ينخرم، وبالتالي ففرضية دورية الزمان كما في الوثنية الشرقية أو أزليته كما في الوثنية الإلحادية، تجعله في صدامٍ مباشر مع قوانين الطبيعة ذاتها! ويمكن استخدام هذا القانون لتحرير حجج أكبر ضد الإلحاد مثل: ـ إسقاط التطور: فالتطور يقوم على أن الزمن عامل بناء ومع الزمن يحدث تطور للأنواع، لكن القانون ينص على أن الزمن عامل هدم، وأن الطبيعة المادية لا تكفل مزيدا من التعقيد مع الوقت، بل الأصح مزيد من الهدم والتفكك والتبسيط. ـ إثبات العناية الإلهية والتدخل الإلهي في كل لحظة: فالتدخل الإلهي في كل ثانية وفي كل جزء من مليار جزء من الثانية وإلا لتوقفت الحياة، وهذه البرهة الزمنية هي الفترة الكافية لحدوث تفاعل كيميائي يمكن رصده. وأي تفاعل كيميائي يحدث داخل الخلية، يسير عكس قانون الديناميكا الحرارية الثاني، فهذا القانون يشترط أن الكون يسير نحو الهدم والتبسيط والتفكك، بينما التفاعل في الخلية يسير نحو البناء والتعقيد، فالحياة تسير عكس قوانين الطبيعة، وهذا لا يحدث إلا في حالة تدخل إلهي في كل لحظة. وهذا ينسف أيضًا المذهب الربوبي القائل بالعزلة الالهية – تعالى الله عما يقولون -، إذن القانون الثاني للترموديناميك ينسف الوثنية، وينسف الإلحاد وينسف “الربوبية”، وبذلك يكون الإيمان بالله قيوم السماوات والأرض -القيوم بذاته المقيم لغيره- حقيقة لا تنفك عن المتفكر في خلق السماوات والأرض {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191] انتهى كلام الباحث هيثم طلعت ورغم تمكن هذا القانون من الحصول على قبول كل العلماء بلا استثناء، إلا أن الاستنتاجات الفلسفية التي يلزم بها رجال العلم والفلسفة، والتي تقضي بأن الكون له بداية لم تنفذ إلى السطح، لأن الاعتقاد السائد آنذاك أن الكون أزلي لا بداية له. فكانت جولة اهتزت لها أركان الإلحاد، إلا أنه صمد وقاوم مستفيدا من صيت العلماء والفلاسفة الكبار، الذين استمروا في تبني ذات المعتقدات والآراء المادية حول الكون. وكان يلزم أكثر من ذلك لزعزعة شجرة المادية، انتظارا لاجتثاتها من فوق الأرض حتى لا يبقى لها قرار. الانفجار العظيم أو البيغ بانغ أو الفتق بعد الرتق لقد تربعت فيزياء نيوتن على عرش العلوم، ما يزيد على قرنين من الزمان دون منافس. كما أنها نجحت في جميع الاختبارات طيلة هذه المدة، وكانت أهم سند للماديين بما أنها توفر لهم الحجج القوية، على أن العالم يتبع حتمية تخضع لقوانين مستغنية عن كل ما هو غيبي. إلا أن القرن العشرين كان يخبئ لهؤلاء الماديين ما لن تقر به أعينهم، وما سيضعف حججهم ويظهر ضعفهم وتهافت فلسفتهم. وذلك بسعي للفيزياء الحديثة بين قطبين: قطب الحسابات الرياضية العميقة وقطب الرصد للظواهر الكونية والتجربة. واشتغل ثلة من الفيزيائيين المرموقين كخلية نحل مقدمين أحسن ما يمكن للعقل البشري أن يبدعه، في استكشاف كنه الكون المادي عبر الزمان والمكان، وتوصلوا بذلك إلى حقائق لا يكاد العقل البشري يتخيلها. 1ـ نظريتي النسبية لإنشتاين ثورة في الفيزياء في مكتب براءات الاختراع في بيرن السويسرية، كان يشتغل شاب مغمور باسم ألبرت إنشتاين، الذي تمكن سنة 1905 من نشر أربعة مقالات في مجلة للعلوم الفيزيائية. من بين هذه المقالات، مقال يُعْنَى بسرعة الضوء وعلاقتها بالزمان والفضاء. وذهب في هذا المقال اعتمادا على حسابات رياضية إلى أن سرعة الضوء ثابتة ومطلقة، ولا يمكن تجاوزها، وبالمقابل فإن الزمان والفضاء نسبيان ومعرضان للتمدد والانكماش حسب مرجع الدراسة Référentiel d’étude. وهذه هي نظرية النسبية الخاصة المشهورة. وكانت هذه الاستنتاجات ثورية ومذهلة، إلا أنه لم يقف عند هذا الحد بل أعاد الكرة سنة 1915بنظرية أكثر إثارة، وهي قانون النسبية العامة حول الجاذبية، والتي تعدل وتكمل وتشكل بديلا لقانون الجاذبية لنيوتن. وتنص هذه النظرية على أن كلا من الزمان والفضاء والمادة في ترابط تام، بل إن كتلة المادة والطاقة تؤدي إلى انحناء نسيج الزمكان، وهو ما يفسر الجاذبية التي تمارسها الكتل المادية بعضها على بعض. وتبعا لذلك فالكواكب لا تدور حول الشمس، بل لها مسار مستقيم ولكن في زمكان مُنْحَنٍ تحت تأثير حقل الجاذبية للشمس. لقد شكلت هذه النظرية صدمة للمجتمع العلمي، خاصة بعد أن أثبت الرصد بالتلسكوب هذه النظرية. وهكذا تمكن عالم الفلك الكبير آرتر إدنغتن Arthur Eddington خلال الخسوف سنة 1919، من رصد إزاحةٍ للمواقع الظاهرية للنجوم التي تبدو وكأنها قريبة من الشمس. كما تمكن من التأكد عن طريق حسابات رياضية دقيقة أن هذه الإزاحة تتم طبقا للزاوية التي تتنبأ بها نظرية إنشتاين بالنظر إلى كتلة الشمس. ولا يفوتنا هنا أن ننوه بقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76]. فنحن حين نرفع بصرنا إلى السماء لا نرى مواقع النجوم الحقيقية في زمن الإبصار، بل نرى مواقعها التي قد تعود إلى بلايين السنين قبل رؤيتنا لها. وحتى هذه المواقع القديمة قد لا تكون دقيقة، لأن الأشعة المنبعثة من هذه النجوم قد تكون تحورت بسبب انحناء في الزمكان الذي ينتج عن الأجرام السماوية التي تفصلنا عن هذه النجوم. ولقد كان رصد إدنغتن كافيا لإثبات نظرية النسبية العامة لإنشتاين وكانت ثورة في عالم الفيزياء لها ما بعدها، حاز على إثرها إنشتاين على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1921. ونظرا لأن معادلة إنشتاين يمكن أن يستنتج منها أن الكون غير ثابت، وهذا مخالف للنظرة المادية للكون، ما كان منه إلا أن يضيف لها ثابتا كوسمولوجيا أسماه لامبدا l Constante cosmologique، وهو ما سيعتبره بعد ذلك أكبر خطاء في حياته. وقد شكلت نظرتي النسبية بالإضافة إلى فيزياء الكم تحديا لفيزياء نيوتن التي بقيت مقبولة في مجال الفيزياء الكلاسيكية، إلا أنها أضحت غير كافية لفيزياء الجزيئيات وفي ميدان الكوسمولوجيا. 2ـ النسبية العامة والتوسع الكوني لم يكد يجف حبر إنشتاين الذي كتب به نظريته، حتى انبرى علماء جهابذة في الرياضيات، لمحاولة استغلالها لاكتشاف مستلزماتها وتطبيقاتها على الكون. وكان أول من قام بذلك ألكسندر فريدمان Alexander Freidmann، الرياضي الروسي ذي 33 سنة. فقد أثبت من خلال حسابات رياضية معقدة، أن وضع إنشتاين للثابت الكوسمولوجي في معادلة النظرية العامة، غير صائب والصواب هو الاستغناء عن هذا الثابت. واستنتج من ذلك أن الكون غير ثابت، بل هو متغير وفي توسع مستمر. فما كان منه إلا أن راسل إنشتاين بمقالة نشرها في الموضوع لينبهه على خطئه. إلا أن إنشتاين استهجن الأمر معتبرا أن حسابات فريدمان خاطئة. ولم يكن هذا الأخير ليستسلم، بل ألح على إنشتاين الذي لم يجد بدا من التأكد من حسابات فريدمان، فتبين له أن حساباته صحيحة، إلا أنه لم يسلم له بالاستنتاج حول التوسع الكوني، لأن النظرة الشائعة للكون هي ثباته وأزليته وأبديته. وقد توقف الحوار بين الرجلين خاصة أن فريدمان خضع هو وتلامذته، للمضايقة من طرف النظام الشيوعي السوفيتي الملحد، الذي رأى في أبحاث فريدمان تهديدا حقيقيا لإيديولوجيته. فكان منهم من اعتقل ومن عذب ومنهم من قتل، وغالب الظن أن فريدمان بنفسه قد قتل حيث وجد مقتولا في ظروف غامضة. رغم موت فريدمان فإن الجدال لم يتوقف، ذلك أن عالما آخر من بلجيكا، ومن خريجي معهد ماساشوسيت للتكنولوجيا MIT، وهو جورج لوميتر George Lemaître وكان رئيسا للدير ومهندسا، تلقى تكوينه في جامعة كامبريدج ثم في معهد ماساشوسيت وكان من بين القلة القليلة المتمكنة من معادلة النسبية العامة. وكما فريدمان فقد اكتشف لوميتر أن معادلة النسبية العامة، تحتوي على خطأ وهو الثابت الكوسمولوجي، فراسل إنشتاين في الأمر سنة 1924 فتلقى نفس الرد من إنشتاين، الذي لم يغير رأيه قيد أنملة حول الثبات الكوسمولوجي. بالإضافة إلى ذلك انتفض كبار علماء الفيزياء والفلك ضد نظرية التوسع الكوني، واعتبروا أنها استنتاج إنما يعود لخلفية لوميتر الدينية، بما أنه راهب بل رئيس دير مسيحي. وكمثال على ذلك الرد القاسي الذي تلقاه لوميتر من طرف إنشتاين حين راسله قائلا: حساباتك الرياضية دقيقة، غير أن فيزيائيتك بغيضة. وكان إنشتاين يتندر بفرضية لوميتر في مجالسه الخاصة، حين كان ينعتها بفيزياء الكاهن. كما أن أرتر إدنغتون صرح بأن نظرية التوسع الكوني سخيفة ولا يمكن تصديقها، وأنه يحس بالغضب لوجود أشخاص يعتقدون ذلك. 3ـ إدوين هابل والقول الفصل في التوسع الكوني إن أقوى النظريات والتي تتمتع بأعلى مصداقية، هي تلك التي تبنى على حسابات رياضية دقيقة ثم تتأكد باستمرار مع مقارنة الحسابات الرياضية، مع التجارب المختبرية وبيانات الرصد والملاحظة. ولعل نظرية الجاذبية التي وضعها نيوتن، من بين الأمثلة المعروفة التي تجلي هذا الأمر. وتشكل نظرية التوسع الكوني مثالا آخر لهذه النظريات. ذلك أنها تأسست على حسابات رياضية دقيقة باعتراف إنشتاين مرغما، لأن استنتاجاتها تسير عكس ما يعتقده. ثم جاء تأكيدها من طرف عالم فلك كبير هو إدوين هابل Eddwin Hubble، الذي كان مهتما بمراقبة المجرات والسديم Nébuleuses عن طريق تليسكوب كبير. وتبين من خلال رصده للمجرات، أن طيف هذه الأخيرة ينزاح إلى اللون الأحمر وهو ما يسمى تأثير الدوبلير Effet doppler، وهو إزاحة التردد لموجة (ميكانيكية، صوتية، كهرومغناطيسية أو ذات طبيعة أخرى). والاستنتاج الوحيد والمقبول لهده الظاهرة، هو أن المجرات يتباعد بعضها عن بعض وهو ما يثبت أن الكون يتمدد أو يتوسع. وهذا التوسع ليس ناتجا عن توسع المجرات بحد ذاتها بل هو ناتج عن توسع الفضاء بين المجرات. وكان هذا دليلا كافيا لإثبات ما ذهبت إليه حسابات فريدمان ولومتر، والتي قبل بها إنشتاين على مضد بعد أن حضر بنفسه إلى مونت ويلسون، حيث التليسكوب الذي حقق به هابل هذا الاكتشاف. وكان هذا الاكتشاف ثوريا ومبهرا لدرجة تجعل العالم الكبير جون ويلر Jhon Wheeler يتساءل : هل هناك في كل تاريخ العلوم نظرية بنيت على التنبؤ والتنبؤ بكل دقة، والتنبؤ بعكس كل التوقعات، كالتنبؤ بظاهرة فائقة الروعة كظاهرة التوسع الكوني. ولم يكن من بد لإنشتاين إلا الاعتراف بأن معارضته للوميتر وإدخاله للثابت الكوسمولوجي علي معادلته كانت أكبر خطاء في حياته. وتم الاعتراف للومتر باستنتاجاته وحاز على عدة جوائز في الفيزياء، وأجريت له حوارات في أكبر المجلات، ودعي إلى أرقى الجامعات، ليعرض اكتشافاته تحت إعجاب أكابر علماء الفيزياء. لكن هذا المجد سرعان ما سيسحب منه نظرا لاستنتاجاته اللاحقة. 4ـ النسبية العامة والانفجار العظيم أوالفتق لم يستفق المجتمع العلمي من صدمة التوسع الكوني، حتى أعاد جورج لوميتر الكَرَّةَ بصدمة أشد استفزازا من الأولى. ذلك أنه بالنظر للتوسع الكوني المثبت علميا، يمكن نظريا إعادة عقارب الزمان إلى الوراء لاستنتاج أن الكون كان متناهيا في الصغر على شكل ما سماه لوميتر ذرة بدائية Atome primitif، شكلت بداية للمادة وللزمان وللفضاء. واعتبر أن كل مادة وطاقة الكون، كانتا مركزتين في هذه الذرة والتي عرفت توسعا مطردا مع بداية الزمان والفضاء.. كانت هذه النظرية كافية ليفقد لوميتر كل المجد والرفعة والمرتبة العلمية التي بلغها، بعد إثبات نظرية التوسع الكوني. فانطلقت السهام من كل اتجاه تنهال عليه وترجع هذه النظرية لخلفيته الدينية، وأنه إنما جاء بها لينتصر لعقيدة الخلق التي وردت في الكتاب المقدس. فهذا إيدنغتن السالف الذكر، يصرح أنه يجد من الناحية الفلسفية أن نظرية بداية للوجود تعتبر بغيضة. أما إنشتاين فكان يردد كلما طرحت عليه نظرية الذرة البدائية : «لا، ليس هذا، هذا يوحي بقوة بعقيدة لخلق». وكان أشد العلماء عداء ومقاومة لهذه النظرية ابتداء من سنة 1947، هو فريد هويل Fred Hoyle، وهو عالم فلك إنجليزي مرموق. ولقد سخر وسائل الإعلام ذات الصيت الكبير، للتصدي لكل ما يشير لنظرية الخلق، معتمدا خاصة على البي بي سي ومجلة التايمز. وهو الذي أطلق اسم البيغ بانغ على هذه النظرية عن طريق الاستهزاء والتعريض، فأبى الله إلا أن يكون هذا الاسم القصير والسهل على الحفظ سببا في انتشار هذه النظرية فيما بعد في الأوساط الشعبية. ورغم أن لوميتر بنى نظريته على حسابات دقيقة، وعلى حقيقة علمية هي التوسع الكون،، إلا أن غياب دليل مباشر عليها ورفضها مبدئيا من غالبية العلماء الماديين والمسيطرين على المشهد العلمي، فإنها لم تستطع بعد أن تفرض نفسها، وكان يلزم إمدادها بمعطيات أكثر وأوثق، لكي تصبح حقيقة علمية غير قابلة للنقاش. وهو ما سيتم عبر عدة مراحل. المرحلة الأولى تعود لعالم رياضيات روسي آخر يدعى جورج غاموف George Gamow، وهو تلميذ لفريدمان الذي كان قد توقع نظرية التوسع الكوني. حيث نشر غاموف مع تلميذه رالف آلفير Ralph Alpher مقالا يثبت فيه أن كل ذرات الهيدروجين والهيليوم والدوتريوم، إنما تكونت في اللحـظات الأولى لنشأة الكون. كما أن غاموف نشر بحثا ثانيا مع طالب آخر يدعى روبرت هيرمان Robert Herman بناء على نظرية لوميتر، يبين فيه أنه بعد حوالي 380000 سنة من نشأة الذرة البدائية، كان الكون عبارة عن ثقب أسود لا تُمْكِنُ رؤيته لأن الأشعة الضوئية لا تستطيع النفاذ منه، إلا أنه بعد هذا التاريخ انخفضت حرارته وكثافته مما مكن الأشعة الضوئية من التسرب منه. وأضاف غاموف بأنه إذا كانت نظريته صحيحة فإنه من الممكن رؤية ما سماه أشعة العمق الكوني أو الأشعة الأحفورية Rayonnement fossiles للكون. كما تنبأ بأن حرارة الكون آنذاك كانت حوالي 3000 درجة مئوية. وأضاف أنه نظرا للتوسع الكوني، فإن الأشعة الأولى المنبعثة من هذه المرحلة من حياة الكون، ستعطي انطباعا عن حرارة قدرها بحوالي 5 درجات كلفين. ولقد ضَمَّنَ غاموف كل هذه الاستنتاجات كتابا له تحت عنوان تاريخ الخلق، إلا أن أبحاثه لم تلق الاستجابة اللائقة بها فطواها النسيان ولكن ليس للأبد. ذلك أنه تم سنة 1964، رصد أشعة منفلتة منذ 13 مليار سنة، تقطع الشك باليقين فيما يخص نظرية البيغ بانغ. فقد توقف الجدل حول نظرية لوميتر حوالي عقدين من الزمن، حتى كاد يطويها النسيان. إلا أن رحمة الله بالمؤمنين أبت إلا أن تدحض حجج الماديين بنفس السلاح الذي حاربوا به الإيمان. وقد أخذتهم الحجج الدامغة على حين غرة، وأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم الخذلان من حيث لا يحتسبون. ذلك أن عددا قليلا من العلماء لم يستسلموا وظلوا يبحثون عن الدلائل التي تثبت تنبؤات لوميتر و غاموف. ومن هؤلاء العلماء باحثَيْن في جامعة برينستون بالولايات المتحدة، هما روبرت ديك Robertt Dicke و جيم بيبلز Jim Peebles . فبينما كانا يعملان جاهدين سنة 1964، لإثبات الأشعة للعمق الكوني التي تنبأ بها غاموف سنة 1964، إذ اتصل بهما مهندسان يعملان في مختبر بيل للمواصلات، و يتعلق الأمر بكل من آرنو بينزياس Arno Penzias و روبرت ويلسون Robert Wilson . وكانا بصدد وضع أكبر مستقبل هوائي، لتحسين استقبال الإشارات القادمة من الأقمار الاصطناعية الأولى. وكانت دهشتهم كبيرة حين تلقوا عبر هذا المستقبل، إشارات غريبة من جميع الاتجاهات. فظنوها أولا إشارات مشَوِّشَة محاولين أن يتخلصا منها بجميع الوسائل دون جدوى. فما كان منهما إلا أن اتصلا بروبرت ديك وجيم بيبلز اللذين تأكدا أن هذه الإشارات تعود لأشعة العمق الكوني، التي تنبأ بها غاموف والتي تثبت نظرية الذرة البدائية التي يمكن اعتبارها رتقا، ونظرية البيغ بانغ التي يمكن اعتبارها فتقا. كما أكدت البيانات درجة الحرارة القريبة جدا مما تنبأ به غاموف في حساباته. وإثر هذ الاكتشاف الثوري حصل ويلسون و بينزيا على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1978. وخلال العقود التالية أثبتت كل البيانات، دون استثناء نظريتي الذرة البدائية بمسميات مختلفة، ونظرية البيغ بانغ رغم استماتة الماديين لمحاربتها، إلا أنهم في نهاية المطاف سلموا بها، وكان منهم من ترك الإلحاد دون العودة لدين الحق مثل فريد هويل ألد أعداء لوميتر، والذي انتهى به الأمر أن يموت ربوبيا، رافضا أن يعتنق أيا من الديانات السماوية. ومن الملاحدة من اعترف بهتين النظريتين دون الاعتراف بمستلزماتهما، أي أن المادة والزمان والفضاء لها بداية، مما يُلزِم بالاعتراف بالخالق. وكان من هؤلاء ستيفن هاوكين Stephen Hawking الذي توفي مؤخرا والذي صرح في آخر أحد كتبه، ليس هناك إله، وريتشارد داوكينز Richard Dawkins الذي لا يزال أكبر رافع لِعَلَمِ الإلحاد في العصر الحديث. ولقد أكدت الأبحاث التالية خلال عقود، أن الكون كان على شكل متفردة Singularité بحجم متناه الصغر أي حوالي 35-10 متر، أي ملايير المرات أصغر من ذرة الهيدروجين، ويمكن بالحسابات الرياضية العودة إلي زمن قدره 43-10 ثانية لا تستطيع الحسابات الرياضية التعامل مع أقصر من هذا الحيز الزمني الذي يسمى زمان بلانك، حيث تبدأ عنده المادة والزمان والمكان. وكتب آرنو بينزيا مكتشف أشعة العمق الكوني والحاصل على نوبل سنة 1978 يقول، “لكي نكون منسجمين مع اكتشافاتنا، يجب أن نفهم أنه ثبت ليس فقط خلق المادة، بل كذلك خلق الفضاء والزمان. بل إن أرقى البيانات التي توصلنا إليها، هي بالضبط تلك التي كان يمكن أن أتنبأ بها، فقط عند قراءة الكتب الخمسة لموسى والمزامير والإنجيل. إن البيغ بانغ كان لحظة خلق من لا شيء وظهور كوننا من لا شيء. ونحن لا يسعنا إلا أن نذكر بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت: 53]. فمن أعظم الآيات التي حسمت الجدل حول الانفجار العظيم، والتي استسلم لها كل الملاحدة، آفاق الكون المتمثلة بأشعة العمق الكوني والتي قطعت الشك بسيف اليقين. فالحمد لله الذي أبى إلا أن يذل الإلحاد بنفس السيف الذي أراد أن يقضي به عل الإيمان. فالتطور العلمي مكن العلماء كما قلت، من الإحاطة بالكون فيزيائيا ورياضيا وكان سعيهم في ذلك، رغبة في إطلاق رصاصة الرحمة على الإيمان، إلا أن هذه الإحاطة هي التي حطمت أعظم حججهم، أي أزلية ولا نهائية العالم. فلما تمت الإحاطة به زمانا ومكانا، ثبت أنه ليس أزليا ولا نهائيا، بل وراء حدوده الفيزيائية ما بعد الفيزياء،وهو الغيب. وقد مثل أحدهم صراع الماديين مع المؤمنين بجماعتين. جماعة تسلقت جبلا بمشقة بالغة، ولم تصل إلى القمة إلا بعد عناء كبير،وهم العلماء الماديون. فلما بلغوا القمة وجدوا المؤمنين هناك، يتدبرون في خلق الله بطمأنينة نفسية وراحة بدنية. لقد فتحت نظرية النسبية العامة ونظرية البيغ بانغ مجالا واسعا لاستكشاف الكون، ومن بين الاكتشافات الحديثة والتي لم يتعرض لها الكتاب موضوع هذه الحلقات، ما بات يعرف بالنسيج الكوني أو La toile cosmique، والتي تثبت أن المجرات تتجمع في كتل مترابطة فيما بينها، بخيوط طولها ملايين السنوات الضوئية مكونة من الهيدروجين. وهذا الوضع يظهر الكون على شكل نسيج مكون من خيوط غازية وعقد متمثلة في المجرات. وهذا الوضع هو الذي وصفه الخالق تعالى في قسمه في سورة الذاريات: “وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ”. والحمد لله رب العالمين.