الكرامة بين الدوافع الإنسانية والمسؤولية الأخلاقية
قراءة في مشروع علي عزت بيغوفيتش الإصلاحي
الدكتور إدريس تركاوي
مقدمة:
علي عزت بيغوفيتش(ولد 1925- توفي 2003م)؛ أول رئيس لدولة البوسنة والهرسك، وفيلسوف مسلم، جمع في تكوينه بين أجناس معرفية متنوعة قديمة وحديثة، فكان ملما بعلوم كثيرة مثل العقيدة والكلام والفقه والتصوف وتاريخ الأديان والقانون، وعلم الجمال “الاستطيقا”، وعلم الاجتماع. هضم الفلسفة اليونانية، واستوعب أهم تيارات الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة. كانت هذه كلها روافد لتأسيس نظرته في منظومة حقوق الإنسان، وإعادة صياغتها -في تصوره- في صورة هي نسخة عاكسة لكل تلك العلوم متداخلة ومتحايثة ويكمل بعضها بعضا.
لقد كان بيغوفيتش-ذو النزعة الإنسانية[1]– مولعا في كتبه ومناظراته ومحاضراته برصد أهم القيم الإنسانية التي تعد محورا لتعارف البشرية، وتحقيق الأخوة بينها، وتأسيس الحقوق بين الفرد والمجتمع. بيد أن هذا الأمر لم يكن ليتأتى في نظره دون الرجوع إلى الدين بمفهومه العام. فالدين والإنسان وجهان لعملة واحدة، والإنسان في غياب الدين لا يعدو أن يكون مخلوقا ماديا يعيش على شهواته المفرطة، فيه نصيب لا يستهان به من الأنانية وحب الذات وتملك الرقاب. كما أن الدين في غياب الإنسان إنما هو قوانين شكلية صورية بعيدة عن ملامسة ضمير الفرد والاعتناء بعمران المجتمع. الشيء الذي دفعه إلى انتقاد الفلسفة المادية والفلسفة المثالية كليهما معا، والحكم عليهما بالتناقض. في حين وجد في الإسلام وفي المسيحية المرتع الخصب لتأسيس معالم فلسفة أخلاقية تحكمها وحدة “القيم الإنسانية والدينية”. وهي وحدة تجمع بين تطلعات الإنسان الشخصية ومبادئ الغيب الروحية. فلا يمكن الاستغناء عنهما معا للوقوف على ماهية الإنسان وحقيقته ووظيفته الاستخلافية في الكون. وهذا ما يفسر -في نظره- استمرار هاتين الديانتين وشمول ثقافتيهما، إذ “جميع الثقافات المعروفة على مر التاريخ هي ثقافات أمم بعينها أي ثقافات قومية: صينية، يونانية، رومانية، هندية، إنكية، الخ. ولكن هناك استثناءان: الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية اللتان تقومان على دينين عظيمين: الإسلام والمسيحية”[2]
من هنا بالذات خرج حديثه عن الكرامة الإنسانية، بوصفها حقا إنسانيا ودينيا تشترك فيه جميع أنواع الجنس البشري. فلم تكن كرامة الإنسان في الحقيقة سوى جزئية تمثل بقوة هذا التساوق بين الدين والنفس البشرية.
تنزع هذه الدراسة إلى الكشف عن مفهوم الكرامة الإنسانية من منظور بيغوفيتش، وعن أسسها الفلسفية ومظاهرها الاجتماعية وقيمها الدينية، مستحضرة بعديها الذاتي والموضوعي معا. بمعنى كيف عاش بيغوفيتش حقيقة الكرامة طيلة حياته من خلال ما رصده في مذكراته اليومية، سيما في كتابه “هروبي إلى الحرية”؟ ثم كيف نظَّرَ لها باعتباره مفكرا وفيلسوفا إسلاميا، له وجهة نظر خاصة استلهمها من ثقافته المزدوجة؛ الإسلامية والغربية معا؟
وتتناسل من هذين السؤالين المركزيين أسئلة فرعية أخرى يمكن صياغتها كما يلي:
ـ ما دلالة الكرامة في التصور الإسلامي؟ أين ترتع حقيقتها: هل في ضمير الفرد كما قد يتبادر إلى الذهن بداية أم في مشاعره أم في شيء آخر ليس من طينتهما؟ وما علاقتها بالمجتمع؟
ـ إذا كنا نؤمن بأن الإنسانية الحقيقية تمثل صورة الدين في الاتجاه المقابل عند بيغوفيتش؛ فما منزلة الكرامة من خلال هذا التقابل التوافقي بين الدين والإنسانية؟
ـ تنضح كتب بيغوفيتش بنصوص كثيرة تخص بيان الفروق الجوهرية بين الحضارة والثقافة، وقيمهما المسيطرة على جل حقول الفكر والسياسة والاجتماع والتدين؛ فما محل الكرامة ضمن قيم بعض هذه الحقول؟
المبحث الأول: الكرامة في التصور الإسلامي: تصور أولي للمفهوم.
حين ننظر في القرآن؛ نجد للمفهوم مظاهر وإشارات تتجه لخدمة الظاهرة الإنسانية عموما، إما من خلال المكونات والأجهزة التي جبلت عليها لممارسة أنشطتها وأفعالها، مثل الضمير والعقل والعاطفة،…إلخ، أو من جهة نفس تلك الأفعال والأنشطة التي تعبر عن حريتها ومسؤوليتها. والكرامة بهذا المعنى: إما كرامة تكوين وإنشاء، أو كرامة حرية واختيار. فالأولى مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا}ﱠ [الإسراء:61 ]، وهي درجة رفيعة كثيرًا ما يذكرنا القرآن بها في مثل قوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُواﱠ} [الأعراف: 11]. ويستلزم هذا التكريم والتفضيل على باقي المخلوقات؛ أن تكون الطبيعة البشرية مبدئيا غير فاسدة ولا هي شريرة في ذاتها {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}ﱠ [التين: 04].
وأما الثانية: فمثل قوله تعالى تتمة للآية السابقة: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 5، 6]. وقوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] [3]. فهذه الكرامة تتعلق بالعمل ومسؤولية الإنسان، وأن عمله إما أن يهينه ويرديه وإما يكرمه ويرفع درجته. فالأمر إذن أمر اختيار حر دنيوي، لا علوي، وهو يرجع إلى استخدامنا الحسن أو السيئ لملكاتنا العليا التي كرمنا الله بها ابتداء، وهي ملكات تساعد على تزكية النفس من خلال العمل أو تسهم في إهلاكها، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَاﱠ} [الشمس: 9-10][4].
ويدخل ضمن هذا النوع أيضا الكرامة العامة، وهي التي تناط غالبا بالحقوق الإنسانية والدولية للفرد بغض النظر عن عقيدة الإنسان، مثل الأخوة والتكافل الاجتماعي وحفظ الأعراض بمعناها الكلي وتحقيق التعارف الإنساني. وهي أوسع هاته الكرامات وأعمها وأدومها. يتساءل الأستاذ محمد دراز عن معنى هذه الكرامة، فيجيب “هي ظلّ ظليل ينشره قانون الإسلام على كل فرد من البشر: ذكراً أو أنثى، أبيض أو أسود، ضعيفاً أو قوياً، فقيراً أو غنياً، من أي ملّة أو نحلة فرضت(…) يصون به دمه أن يسفك، وعرضه أن ينتهك، وماله أن يغتصب، ومسكنه أن يقتحم، ونسبه أن يبدل، ووطنه أن يخرج منه أو يزاحم عليه، وضميره أن يتحكّم فيه قسراً، أو تعطل حـريته خداعاً ومكراً. كل إنسان له في الإسلام قدسيته، إنه في حمى محمي وحـرم محرم، ولا يزال كذلك حتى يهتك هو حــــرمة نفسه، وينزع بيده هذا الستر المضروب عليه، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانبا من تلك الحصانة. وهو بعد ذلك بريء حتى تثبت جريمته. وهو بعد ثبوت جريمته لا يفقد حماية القانون كلها؛ لأن جنايته ستقدّر، ولأن عقوبته لن تجاوز حدها، فإن نزع عنه الحجاب الذي مـزّقه هو، فلن تنزع عنه الحجب الأخرى”[5]. ثم يسترسل “بهذه الكرامة يحمي الإسلام أعداءه كما يحمي أبناءه وأولياءه. إنه يحمي أعداءه في حياتهم، ويحميهم بعد موتهم، يحميهم في حياتهم، فيحول دون قتالهم إلا إذا بدؤوا بالعدوان، ويحميهم في ميدان القتال نفسه؛ إذ يؤمنهم من النهب والسلب والغدر والاغتيال. ثم يحميهم بعد مـوتهم؛ إذ يحـرّم أجسادهم على كل تشــويه أو تمثيل. ولـم لا؟ أليسوا أناسي؟ فلهم إذا كرامة الإنسان…
هذه الكرامة التي كرّم اللّـه بها الإنسانية في كل فرد من أفرادها، وهي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين بني آدم”[6].
وهكذا يتضح أن هذه الكرامة تتجه إلى خدمة الإنسان من حيث هو إنسان، في بعده التكويني، بغض النظر عن أي شيء آخر. نستطيع بناء على هذا أن نؤكد مع كانط Kant أن الملكة التي تصدر عنها هذه الكرامة هي “العقل الإنساني المشترك”[7]. وأن وجود هذه الملكة في الإنسان تفوض له أن تكون “الإنسانية غاية في ذاتها”[8]، وفي “مملكة الغايات”[9]، وتفوض له أن يكون مستقلا بذاته[10]، وأنه بإمكاننا أن نصير مشرعين ومنفذين في آن[11]، وأن هذه الازدواجية هي جوهر حقيقة الكرامة في الإنسان، وبها “تتحقق المساواة بين جميع البشر”[12].
غير أننا إذا وسعنا مفهومها لتشمل الأنواع الأخرى؛ فلسوف نجد أن ملكة العقل قاصرة في الحقيقة عن الاستقلال بإدراك الحسن والقبح في اقتراف الأفعال، وإدراك صالحها من فاسدها[13]. ومن ثم ستكون كرامة هذا العقل التي وُهِبَها ابتداء قاصرة أيضا، تبعا لقصوره هو في نفسه. وهذا ما يفتح الباب لنا لنعلم أن الدين كان ولا يزال يعد الضياء الذي ينير كل زاوية للعقل، متى فقد هذا العقل البوصلة في تقدير الأمور، ويفتح أمامه منظومة “المشاعر” بوصفها ملكة إنسانية أخرى لتكميل ما عجز عن تكميله هو -وإن كان ذلك تحت سلطته-، ومن ثم الحفاظ على كرامته متكاملة. وهذا بالذات ما نقصده بتكامل الدين والعقل الإنساني في رصد معالم الكرامة الإنسانية، باعتبارها قيمة خلقية عليا في منظومة الحقوق والأخلاق الإنسانية، وهو الملحظ الذي طبع نظرة بيغوفيتش إلى القضية. وهو ما سنحاول الكشف عنه بعد تلمس تعريف لمفهومها عنده.
المبحث الثاني: مفهوم الكرامة وأسسها عند بيغوفيتش.
1ـ مفهوم الكرامة.
في كتابه “هروبي إلى الحرية” يضعنا بيغوفيتش أمام ترسانة من النصوص الفلسفية والدينية والفكرية، التي تؤصل لمفهوم الحقوق والقيم الإنسانية. ولأن طابع الكتاب هو يوميات وسيرة نثرية ذاتية؛ فقد كان ذلك التأصيل متأثرا بتوجه الكتاب وبطبيعة نصوصه، التي يغلب عليها التداخل وعدم النسقية. وهذا ما جعل حديثه عن قيمة الكرامة الإنسانية لا يأخذ نسقا واحدا، بل أنساقا وزوايا متعددة بتعدد المجال العلمي الذي يحتضن كل قضية علمية على حدة. ولعل هذا الترتيب الشكلي والمنهجي لمباحث الكتاب هو ما سيساعدنا في اقتناص أسس ومعان لحقيقة الكرامة، تتباين بتباين توجهاتها الفكرية والإنسانية والأخلاقية والاجتماعية. وهذا المقصود عندنا هنا.
يمكن إذن رصد حقيقة الكرامة من خلال هذا التداخل بين طبائع النصوص بكونها: قيمة خلقية تصدر عن حرية المرء ومسؤوليته وإرادته، تمليها عليه مشاعره الإنسانية وقيمه الدينية ويسانده في ذلك ضميره العقلي الخاص. وما المجتمع/الجماعة أو القانون/الدولة؛ سوى معين على توفيرها له أو حرمانه منها.
فههنا عندنا في الحقيقة أساسان لابد منهما لتشكيل المفهوم، وإن كان بيغوفيتش قد عرض له في مقامات ينفصل بعضها عن بعض: الأساس الإنساني المرتبط بضمير الإنسان العقلي أو بمشاعره. ثم الأساس الديني المنوط باقتناعه العقدي ومسؤوليته. وعنهما معا أو عن أحدهما تصدر كثير من القيم الأخلاقية التي من بينها الكرامة.
غير أن بيغوفيتش لم يخصص للكرامة معنى داخل كل منظومة منها على حدة؛ بل نجده تارة يسوق وجهات نظره في مفاهيم وتصورات وظواهر، ثم يسوق مفهوم الكرامة بشكل تبعي ويبين مدى تأثر مفهومها بتلك الظواهر والمفاهيم، وهذا شأنه في يومياته “هروبي إلى الحرية”. وتارة أخرى لا يذكرها ولا يعرج على مفهومها، بيد أنه يلمح إليها في سياق نقده لمنظومتي الثقافة والحضارة وما تزخر به من مفاهيم وظواهر، ويبين مدى مطابقتها للدين والأخلاق والإنسان في المنظومتين أو منافرتها، تاركا للناظر -في ذلك السياق- الفرصة لتأطير مفهوم الكرامة ومدى حضورها أو غيابها. وهذه طريقته في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”.
ومنهجنا هنا هو تتبع حقيقة المفهوم، ضمن هذين الأساسين في خطوة نظرية أولية، وفي خطوة ثانية تطبيقية نقف عند بعض المفاهيم الثقافية والحضارية، التي أثر فيها مفهوم الكرامة أو تأثر بها إيجابا أو سلبا، حضورا أو غيابا، في الفرد أو في المجتمع.
2ـ أسس الكرامة عند بيغوفيتش.
الأساس الإنساني الأخلاقي. وهو صنفان: عقلي ووجداني.
الأساس العقلي: أي الأساس الذي يوجبه ضمير الفرد أو “العقل الإنساني المشترك” كما سبق مع كانط. ويستلزم هذا الأساس أن تكون الإرادة والحرية هما أصلَه. فسلب واحدة منهما أو سلبهما معا يعد نسفا له. ولهذا كان التماثل القهري بين الأفراد في كل شيء يعد عبودية في الحقيقة، مهما حققت هذه العبودية من مصالح وترتب عليها من منافع اجتماعية واقتصادية…إلخ. بخلاف المساواة الإنسانية النابعة من الدين، لاختلاف متعلقها عن متعلق العقل هنا،كما سيأتي في مبحث آخر. ومن هذه الزاوية بالذات سنجد بيغوفيتش ينتقد مفهوم “الضمير الجمعي” الذي انحاز إليه دوركايم. نرجئ الحديث عن هذا كله إلى مبحث آخر.
أما هنا فنجد بيغوفيتش يحكي عن تيريزا -بطلة رواية كونديرا “خفة الوجود التي لا تحتمل”- أنها “كانت تنظر إلى العري بوصفه إشارة إلى فرض التماثل القهري في معسكرات الاعتقال، إشارة إلى الإذلال”[14]. أي أن التماثل القهري في هذه الصفة، هو الذي حجز دون رؤية معنى الكرامة في هؤلاء، وأشعر بوجود الذل والمهانة. والعري مثال رمزي ليس يقصد به محتواه الأخلاقي السلبي، بل كل تماثل فرض قهرا على عقل الإنسان؛ يعد إذلالا له ولو جلب -من الناحية الاجتماعية أو السياسية أو العسكرية…- مصلحة ما.
ومن هنا فسح للعقل المجال -مذ خلق الله الإنسان في بدء الخليقة- لكي يدرك كثيرا من المفاسد بنفسه، ويستقل بتمييز الحدود الكلية بين الخير والشر. فإذا جاء الدين بعد ذلك فإنما يجيء بتقرير نفس ذلك الحكم، وليس ينشئ حكما جديدا يعارض به توجه الحكم العقلي. يؤكد ذلك بمثال ينقله عن قول أحد الأدباء الصربيين: “عندما يتحدث الناس عن أضرار الخمر ومفاسدها فإنهم يقدمون أمثلة كثيرة مقنعة…؛ غير أن هناك سببا واحدا يهمل غالبا ولعله السبب الأهم: الكرامة الإنسانية. أود أن أقول للناس: لا تسكروا من أجلكم أنتم، من أجل احترامكم لأنفسكم من أجل كرامتكم لا تهينوا أنفسكم”[15]. يعلق بيغوفيتش فيقول: ” وتعليقي: على ما يبدو فإن هذا هو تفسير لماذا يصل منع الخمر إلى درجة أن يصبح قضية تحريم ديني، وذلك لأن الدين قد لا يبالي فيما يتعلق بحسابات المكسب والخسارة، لكنه لا يمكن أن يبقى غير مبال فيما يتعلق بانتهاك الكرامة الإنسانية”[16].
وهذا يجعلنا مطمئنين إلى إمكانية استقلال ضمير الإنسان وعقله بشيء من مصالحهما. وتعد الكرامة هنا حلقة ضمن سلسلة القيم التي يضعها وينشئها العقل الإنساني المشترك. فلا جرم كانت جديرة بمفهوم “الكرامة الإنسانية”.
ولا يفوت بيغوفيتش أن يُذَكِّرَ بأن فتح قنوات الحوار بين جميع فئات الدولة، وأطياف المجتمع المشكلة لأمة إنسانية معينة، بغض النظر عن أفكارهم وعقائدهم؛ هو القمين بصناعة هذا النوع من الكرامة. ويسجل في هذا السياق على الرئيس التركي كمال أتاتورك إهماله لهذه الخاصية في عهده، فيقول: “كان من نتائج إصلاحات كمال أتاتورك، أن توقف الحوار أو التدفق الضروري الدائم بين الماضي والحاضر والمستقبل، ومن دون هذا الحوار أو التدفق، لن يوجد في أمة نظام راسخ من القيم، ولا شعور حقيقي بالكرامة”[17].
وكما أشرنا سابقا فإن بيغوفيتش لا يكتفي بهذا النوع من الكرامة، التي ينشئها العقل؛ بل نجده يغمز في سلطة هذا العقل، ويقدح في دعوى استقلاليته المطلقة بإرساء مفاهيم أخرى للكرامة، تنبع من الأساس الوجداني النابع من المشاعر. وهي ملكة أخرى غير ملكة العقل والضمير.
الأساس الوجداني: كما تترتب الأخلاق والقيم على إلزامية العقل والضمير، يمكن لبعض منها أن يغيب عن مشمولية هذا الإلزام؛ لأن العقل لا يعترف بالتناقض بين القيم. فهو أبدا في اتجاه واحد: إما مصلحة وإما مفسدة، بينما نجد المشاعر الإنسانية تحتضن هذا التناقض، وتزكيه، وتعده خاصية مميزة للإنسان. والإحساس بالكرامة وبنقيضها هما معا لا يمكن أن يوجدا إلا في الإنسان. وهكذا سائر المشاعر في باطن الإنسان، فالضد لا يعرف إلا بضده وبضدها تتميز الأشياء !
يستخلص بيغوفيتش هذه النتيجة معلقا على الحالة الثقافية في عصر النهضة الأوروبي، فيقول: “عصر النهضة ثقافة بلا حضارة. يمكن استخلاص هذه النتيجة من خلال كتابات المنتمين إلى النزعة الإنسانية في ذلك العصر، وهي الكتابات التي تنضح بمشاعر القوة والكرامة، وكذلك اليأس وعدم الأمان”[18]. أي أن النزعة الإنسانية لا تعرف إلا من خلال هاته المتناقضات في الإنسان. ويزيد المقام توضيحا أكثر من خلال تفريقه بين المصالح، التي تنتجها الآلة وتلك المشاعر المتناقضة في الإنسان فيقول: “يبدو النظام الآلي بلا معنى تماما كالساعة، ولا يحمل معنى حقيقيا إلا المفاهيم الأخلاقية مثل: الخير والشر والصبر والطاعة، والتمرد والحياء والغرور والكرامة، والندم والعقاب والثواب والخوف والإخلاص والخيانة. العالم الذي توجد فيه هذه المفاهيم هو العالم الوحيد الذي له معنى”82. ففي نظر بيغوفيتش أن السمو الأخلاقي للإنسان وعلوه عن باقي المخلوقات يوجد في هذا العالم وحده، عالم المشاعر المتناقضة، وليس عالم العقل والذكاء، ولا الضمير الفردي أو الجماعي. فـ “في الحقيقة ما هو أعلى هو شيء ينتمي إلى المستوى الذي تنتمي إليه أشياء، مثل الموت ذاته: الحب، الشرف، الحرية، الكرامة، الفكرة، الوطن..الخ. فالتضحية بالحياة عمل غير عقلاني. وشيء كهذا يمكن أن يحدث فقط بدافع من المشاعر والعاطفة لا بدافع من العقل”59. فمثل هاته الأمور ليس لها مبرر عقلي أو منطقي.
وهكذا يتجلى لنا بعد آخر من الأبعاد الإنسانية للكرامة. بُعدٌ هو منساب من طبيعة الإنسان المتناقضة أو كما سماه “المركب الثالث، المركب المتناقض”[19]. أي يجمع بين الشيء ونقيضه. وبتعبير آخر: يجمع بين القيمة الخلقية وعدمها أو بين الروح والمادة. وهي الفكرة الأم التي دارت عليها معظم مباحث كتبه. وبها جُعِلَ الإنسان إنسانا.
لنخلص في نهاية هذا المطلب إلى أن منبع الكرامة الإنسانية هو؛ إما العقل/الضمير وإما المشاعر الوجدانية. غير أن هاتين الملكتين قد تجتمعان؛ فيحصل من اجتماعهما دافع آخر يزيد عليهما بقيمة أخلاقية أخرى هي المسؤولية. ذلك هو الإطار الذي يتحرك فيه الدين بوصفه أساسا ثالثا للكرامة الإنسانية من منظور بيغوفيتش.
الأساس الديني الأخلاقي.
يحاول بيغوفيتش أن يأخذنا في البداية إلى قضية منهجية في تأسيس حقيقة الكرامة؛ وهي أن كل صدام تاريخي جرى بين الدين والإنسان لتحقيق الكرامة الإنسانية، كان صداما مفتعلا ومجرد ادعاء. وأن ما شهدته أقلام المفكرين والفلاسفة قديما وحديثا من تعبئة لتبرير ذلك الصدام؛ فإنما كان بقصد تحقيق مآرب أخرى لا تمت إلى القضية بصلة. ومن ثم فقد كان غالبا ما تؤول مخرجات ذلك الصدام إلى كوارث نفسية واجتماعية وحقوقية على نفس الإنسان وفطرته وشعوره. وفي هذا إذلال لهذا الإنسان وامتهان لشرفه وكرامته. يقول ممهدا: “سيبقى الصراع بين النزعة الإنسانية والدين شيئا زائفا ومصطنعا. وذلك لأنه كما أن الإنسان لا يمكن أن يوجد بدون وجود الله؛ فكذلك لن تكون هناك نزعة إنسانية بدون وجود الدين. وأخيرا فإن ما شهدناه في قرننا هذا من امتهان وإذلال للإنسان؛ يؤكد هذه العلاقة الوثيقة بين إنكار وجود الله وهذه الظاهرة الكارثية”[20].
لهذا السبب طفق ينبه في جل كتبه، إلى هذا التساوق الفطري في الإنسان، بين حبه للدين والدفاع عن كرامته الإنسانية، وأنه مبدأ أكدته سائر الأديان وليس الدين الإسلامي فقط. يقرر ذلك في مثال يميز فيه الجذور المسيحية للحضارة الغربية فيقول: “ثمة مبدأ واحد مهيمن في الثقافة الغربية وهو مبدأ الكرامة الإنسانية. وإذا سألني أحد ما الذي يجعلنا قادرين على تمييز الجذور المسيحية للحضارة الغربية؛ فسوف أجيب: مبدأ الكرامة الإنسانية المهيمن”[21].
هذا عموما، أما بالنسبة له هو كمسلم؛ فتجده ينبه في غير ما سياق إلى أن مسؤولية الإنسان وتكليفه -من حيث هو إنسان- هو سر حقيقة الكرامة في بعدها الديني الإسلامي. وأن مناط هذه المسؤولية هو الأوامر والنواهي الأخلاقية المتوجهة إلى عقل الإنسان. وفي هذا في الحقيقة تكريم له مزدوج: تكريم عقلي وتكريم أخلاقي. يقول: “تكمن كرامة الإنسان في أن الله خلقه مستحقا لأوامره ونواهيه، أي خلقه مسؤولا”[22].
وهنا في الحقيقة يضعنا بيغوفيتش أمام خاصيتين جوهريتين في نظرة الإسلام إلى الكرامة، الأولى منهما تتجلى في إخلاص الإنسان، والثانية في تخليق منظومة العقاب.
أ- أما الإخلاص: فذلك جوهر المسؤولية؛ لأن العمل في الخفاء على الوجه التعبدي التكليفي، مع استحضار الشروط الكاملة وانتفاء الموانع؛ لا يدل إلا على شعور الإنسان الخاص بكرامته. يحكي عن نفسه في السجن فيقول: “بالنسبة لي كان الصيام في السجن إثباتا لكرامتي الإنسانية في الأيام والمواقف التي كان فيها كل شيء حولي ينتهك كرامتي”[23]. فليس بالضرورة أن تكون الكرامة اجتماعية، فيها تحسيس بمدى شعور الإنسان بها، أمام المجتمع أو الدولة حين تسلب منه هذه الكرامة؛ بل قد تكون نفسية تشعر صاحبها بالسمو الروحي والتوازن النفسي أمام كل استفزاز أو إهانة فردية، شريطة ألا تتحول إلى كبر. وهذا ضابطها التعبدي في الإسلام. ذلك أن “الإخلاص شعور بالكرامة ما لم يتحول إلى كبر، حيث يكون الخضوع لله وحده، لا لأحد غيره {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
إن الإخلاص لله أمر ينسجم مع الكرامة الإنسانية، وبغير هذه العبودية ستتحول الإنسانية إلى كبر محرم لا تحمد عقباه”[24]، ونصه هذا مشعر بقوة بالطابع التعبدي للكرامة، وليس العقلي المحض أو الشعوري الخالص. ولهذا في نظر بيغوفيتش ارتفعت مكانة الصيام في الإسلام ليصير معناها هو “التعبير الأسمى عن الإرادة، إنه عمل صادر عن الحرية. هذه الحرية هي الدلالة الأعظم للصيام”[25]. فكان الصيام قاصرا على الإنسان فقط؛ لأن “الأكل (الطعام) يكون تلبية لحاجة ملحة لقانون الطبيعة، بينما يرسم الصيام الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان”[26]. والإنسانية بهذا المعنى هي الشعور بصدق الإرادة وإخلاصها في الامتثال للعبادة، وبيغوفيتش بهذا التصور يتقاطع مع بعض فلاسفة الأخلاق، على رأسهم “كانط”، الذي يقرر أن استقلال الإرادة[27] والنية هي المحرك للأفعال الأخلاقية، وليس الميل أو الشهوة أو الطبع وإن اتفقت هذه الأمور مع الواجب[28]؛ لأنه أمر تشترك فيه الأخلاق مع الغرائز، الشيء الذي يحط من قيمتها كسلوكات أخلاقية. غير أن الطابع التعبدي هو ما يميز الإسلام ونظرة بيغوفيتش، وهو شيء زائد على النظر الأخلاقي المشترك.
ب- أما منظومة العقاب: فتتجلى ملامح الكرامة فيها من خلال تكليف المجرم أو الجاني بإدراك جنايته، وتحمل مسؤوليته فيها، ثم من خلال تقدير العقاب أو المحاسبة التي تلائم فعله دون الزيادة عليه أو النقصان منه، لأن “جنايته ستقدّر، وعقوبته لن تجاوز حدها”[29]. وفي هذا حفاظ على كرامة الجاني، كما أن فيه صونا لكرامة المجني عليه، سواء تعلقت بحياتيهما أو بعد مماتيهما، وهذا لا فرق فيه بين معتدٍ ومعتدى عليه. يقول: “ليست القضية قضية كرامة الحياة فقط، بل أيضا كرامة الموت، فكلاهما مرتبط بالآخر. إن عدم احترام الموت هو نتيجة لعدم احترام الحياة”[30].
فمن خلال هاتين الصورتين معا، أقصد كرامة الجاني والمجني عليه؛ تنبع حقوق الإنسان. ومتى ملنا إلى أحد الطرفين؛ تركنا منظومة الحقوق عرجاء. لهذا بالذات نجد بيغوفيتش يستدرك بلمحة على من يملؤون الشوارع بصخب التسامح والحب، دون الانتباه إلى ما يمكن أن ينتج عن عائدات تلك الشعارات على أحد الطرفين. يقول: “إن تقدير الإسلام للإنسان لا يعبر عنه من خلال الحب والتسامح بالدرجة الأولى، وإنما من خلال مبدأ المسؤولية الإنسانية. إن الإنسان مسؤول عن أفعاله، والعقاب على الجريمة يجمع بين كل من حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية لكل إنسان، بما في ذلك المجرم نفسه”[31].
ويمثل بيغوفيتش بمثال في النرويج يصور به لنا افتراق منظمات المجتمع المدني إلى فرقتين: إحداهما تنادي بمحاربة الدعارة، والأخرى ترى في ذلك نفاقا[32]؛ لأنه شيء ينسف مبدأهم في الحرية والحب. يقول: “تأسست في النرويج عام 1981 (مجموعة العمل ضد الإباحية والدعارة)… يقول منظرو هذه الحركة: “إن أعظم خطر على البشرية بعد حظر القنبلة الذرية هو الإباحية” ! ويطالبون بالحظر الكامل للدعارة. وتعد النسويات من أشد مؤيدي الحركة والداعين لها، حيث يؤكدن أن الإباحية والدعارة اعتداء مباشر على حقوق الإنسان وكرامة المرأة”[33].
وتبقى أكبر إهانة للحقوق الفردية هي الدعارة. يقول: “الإباحية هي الاستهانة بالكرامة الأخلاقية لشخص آخر لاسيما المرأة”[34]. وهذا يذكرنا -عكسا- بكون الصيام من أعظم الحقوق الفردية سيما لشخص مسجون. وعموما فالدعارة والصيام مجالان متناقضان في الشخصية لإثبات الكرامة بمعناها الأخلاقي والإنساني أو نفيها.
إن ميل بيغوفيتش إلى قيمة المسؤولية في إثبات الكرامة الدينية؛ إنما يريد إثارة انتباهنا إلى أمر مهم في هذه المسؤولية، لا توجد في قيم الحب والتسامح، وهي بروز مفهوم المحرم -كمفهوم استقل به الدين- في تعاطي الإنسان للأشياء واقترافه أفعاله.كل ما يضر بالنفس أو بالقيم الروحية تجاه الآخر فهو ممنوع منعا جازما، وتقييد إجباري لتسيب الغريزة. وهذا هو “المعنى الحقيقي والأسمى للأخلاق التي ولدت مع مفهوم المحرم، فكانت الأخلاق دائمًا مبدأ تقييد أو تحريم يناقض الغريزة الحيوانية في طبيعة الإنسان”[35]. يقول: “إن تاريخ الدين المسيحي حافل بهذه المحرمات التي تبدو كأنها بلا معنى. ولكن من وجهة نظر الأخلاق، لا توجد محرمات بغير معنى. ولا ننسى أن ثمانيَ من الوصايا العشر في التوراة محرمات”[36].
والحق أن هذا المعنى هو الإنسانية نفسها. غير أن معناها هنا منوط بالمحرم، والمحرم منوط بالحساب الأخروي. وهذا ما يزيد في تأكيد البعد الديني للحقوق والأخلاق وربط مبدأ المسؤولية بالمحاسبة، كما يعبرون في العصر الحاضر. يقول: “إن فكرة مسؤولية الإنسان وحسابه هي أعظم وأهم فكرة على الإطلاق من بين جميع الأفكار المقترنة باسم الإنسان. يرجع أصل هذه الفكرة إلى المقدمة التي بدأت في السماء، ومن ثم إلى ما قبل التاريخ. ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن حقوق الإنسان”[37]. بما فيها حق الكرامة، فلابد من استحضار مبدأ المسؤولية والحساب في الحقوق ليدخل فيها معنى “العقوبة” الدينية، سواء بمعناها الأخروي أو بمعناها القانوني الدنيوي المسمى في الإسلام بالتعازير والقصاص، وصدق الله العظيم قائلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
خلاصة واستنتاج:
نخلص إذن إلى أن مفهوم الكرامة مفهوم مركب، تتداخل في تكوينه ملكات الإنسان مع الدين، وأنه كلما حضر الطرفان؛ قوى أحدهما الآخر مع إمكانية استقلال بعضهما عن بعض.
ففي حالة الاستقلال هاته؛ بإمكان الإنسان أن يكتشف كرامته ويدافع عنها بمحض ضميره أو بمشاعره المشتركة، وهما شيئان يدخلان ضمن المكون الإنساني. غير أنه إن كان للعقل المجرد والوجدان المشترك، القدرة على إدراك أصناف من الكرامة؛ فإن المسؤولية الإنسانية وصدق الإرادة في الخضوع للواجب -وليس إرادة العمل الموافق للرغبة فقط- هو ما يجعل الدين متفوقا عليهما. وذلك برصد نوع آخر منوط بمنظومة الأوامر والنواهي، بغض النظر عما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، عقلية أو اجتماعية.
فمع استحضار هذه الأسس جميعها؛ يمكننا أن نطمئن على حقوق الإنسان، ونأمن عدم إتلافها أو إتلاف جزء منها، سيما إذا تعلق الأمر بالنظام الجنائي فيها.
والآن، وقد ظهرت حقيقة الكرامة من جهة تأثرها بالملكات الفردية والقيم الشخصية؛ وجب علينا أن نتساءل بعدها: ما دور المجتمع في هذه الكرامة؟ هل يمكن عدها مفهوما اجتماعيا مثلما هي مفهوم فردي أم هي مقصورة على الفرد فقط؟
المبحث الثالث: الكرامة بين مفهوم المجتمع والجماعة.
حينما نحكم على مجتمع برمته بحكم إيجابي أو سلبي راجع إلى الحقوق والقيم؛ نكون ـ من منظور بيغوفيتش ـ أقرب إلى الغلو والمبالغة إن لم تكن العنصرية أو القومية من وراء حكمنا. لهذا السبب نجده ينتقد هيجل في حكمه على المجتمع الصيني بأحكام غير معقولة، ناقلا عنه في كتابه فلسفة التاريخ، يقول: “لا تعرف الصين معنى الكرامة، وفي غياب معنى الكرامة يشيع التذلل الذي ما يلبث بسهولة أن يتحول إلى خبث. ويرتبط الانحطاط الأخلاقي للصينيين بهذا الخبث(…( أما أبرز صفات الهندي فهي الخداع والمكر، وهو مذعن وذليل أمام المنتصر والسيد، ومتوحش وقاس تماما مع المقهورين والمذعنين”. يعقب بيغوفيتش: “وتعليقي: تنطوي هذه الأحكام على عنصرية واضحة. فإذا كان الحس الأخلاقي امتيازا تحظى به بعض الأعراق والشعوب؛ فإن ذلك يفرغ الأخلاق من معناها. إن الفرد هو الذي يوصف بأنه صاحب خلق أو “معدوم الخلق” وليس الشعب. ومن ثم فإن أي تعميم -في هذا الشأن- غير مقبول”[38].
يبين هذا النص أن للكرامة علاقة وطيدة بالشخصية الفردية التي لا تقبل النسخ، ولا علاقة لها بالعرق أو القبيلة أو القومية أو المجتمع. وإذا كان الأمر هكذا مثلما عقب بيغوفيتش في النص أعلاه؛ فإن ذلك يدل من الناحية العكسية على أن الخضوع لكل واجبات المجتمع هو بالتأكيد نسف لهذه الكرامة. وهذا يدفعنا إلى اعتبار أن المجتمع ليس أساسا من أسس الكرامة الإنسانية إلا بشرط أن نوسع مفهومه ونضفي عليه المعنى الديني والأخلاقي للكلمة، وليس المعنى المصلحي الذي يرومه علم الاجتماع المعاصر في نظره.
من هنا نجد بيغوفيتش يفرق بين المجتمع والجماعة، فيجعل المصلحة هي ركيزة مفهوم المجتمع، بينما نجده يتكئ على منظومة “المشاعر” الدينية والإنسانية النابعة من حرية الفرد وقيمه لتأسيس مفهوم الجماعة. ومن ثم يكون قد أرسى الصبغة الاجتماعية لمفهوم الكرامة، ما دامت الحرية الفردية والإرادة الشخصية هي الدافع الرئيس وراء تشكيل الجماعة.
هذا؛ وحين نرجع إلى القرآن نفسه نجده يحرك فينا الأخوة الإنسانية، باعتبارها من المشاعر السامية، دعمًا لسائر واجباتنا الاجتماعية، بالمعنى الأوسع لكلمة (مجتمع)، كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، وقوله: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﱠ} [النساء: 01 ]
ولقد تجلى هذا الشعور، حين قدم لنا القرآن في صورة عاطفية مؤثرة مشهد الفزع الذي ينبغي أن يزَعَنا عن اغتياب الآخرين، فشبه المغتاب بمن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ﱠ [الحجرات: 13]. ثم يضيف: فكرهتموهﱠ. أي: كلكم أجمعون[39].
وهذا يعني أن مفهوم الجماعة في الإسلام يتجه إلى استحضار القيم الروحية والأخوية في بناء نسيجها، على اعتبار أن الأخوة هي “روح الجماعة”[40]. وأظنه هو سر قاعدة الاجتماع البشري الإسلامي[41]والخاصة التي تفصله عن منظور علم الاجتماع المعاصر. إذ في الإسلام يتحرك الفرد بإرادته الشعورية للتأثير في بناء الجماعة، ثم يتأثر هو بها في الدفاع عنها، بخلاف علم الاجتماع الذي يقرر الصيغة الثانية فقط إذ “كل فرد يتأثر بالمجموع”[42]، ولا مكان للقيم الشعورية المتولدة عن الحرية الفردية بل هناك “فقط قوة واحدة تحرك هذه القلوب جميعها في اتجاه واحد”[43]، كما جاء عن دوركايم، Durkheim.
ولأن الإنسان خلق دائم التردد، فلابد أن يكون سلوكه تبعا لتردده مرتبطا بحريته واختياراته المتنوعة، فهو لا يمكن أن يكون جزءًا من آلية وظيفية اجتماعية مقررة مسبقا.[44]
وطبيعي أن تكون النتيجة -في نظر بيغوفيتش- مختلفة تبعا لاختلاف حافزها، لأن “الحافز وراء السلوك الاجتماعي هو المصلحة”[45]، بعكس الإسلام -والدين عموما- الذي يعد الحافز فيه لتنظيم الجماعة هو “السلوك الأخلاقي الذي لا يقوم على المصلحة[46]“[47]. بل يقوم على الواجب الأخلاقي الذي يدفع الفرد إلى الانخراط في الوظيفة. أما الأول فتحركه الأنانية وإن سمي بغير اسمها. ولا شك أن “السلوك باسم الأنانية شيء، والسلوك باسم الواجب شيء آخر: الأول يستند إلى المصلحة والحاجة والنظام والعقل، أما الثاني فهو ممكن فقط باسم الله”[48].
ومن ثم افترق المدلولان حتى من الناحية المصطلحية وإن كانا من مادة لغوية واحدة، إذ المجتمع ليس قطعا هو الجماعة. يقول بيغوفيتش راصدا هذه الفروق الجوهرية: “يجب أن نفرّق بين المجتمع الذي هو مجموعة خارجية من الأفراد تجمعوا على أساس من المصلحة، وبين الجماعة التي هي مجموعة داخلية من الناس اجتمعوا على أساس من الشعور بالانتماء”[49].
فالجماعة بناء داخلي له مظاهر خارجية والمجتمع بالعكس تماما؛ فهو تجمع خارجي لا تحكمه أنساق من القيم الشعورية الباطنية التي نسجت جماعة الأفراد. والسبب في ذلك أن “المجتمع قائم على المطالب المادية، والجماعة قائمة على المطالب الروحية، على الأشواق. الناس في المجتمع أعضاء مجهولون تجمعهم المصلحة وتفرقهم”[50]. بينما في “الجماعة يكون الناس إخوة تجمعهم أفكار واحدة كما تجمعهم الثقة، وباختصار: شعورهم بأنهم شيء واحد. يوجد المجتمع لأنه يسهّل لنا الحصول على المنافع ويضمن بقاءنا، فالطفل لا يمكنه البقاء بدون مساعدة الآخرين، والكبير لا يستطيع العيش عيشة ميسّرة بدون معيّة الآخرين. وهذا هو مصدر المجتمع بمعناه الخارجي (مصدر الفكرة الاجتماعية). ولذا يمكننا أن نستخلص من هذا، أن طموحات الإنسان للحياة بمجتمع لا تنبع من وجوده الحقيقي، وإنما من الضرورة. فالسعي إلى المشاركة في مجتمع لا يتم من ناحية الاعتبارات الجوهرية في الإنسان، وإنما من أجل المنافع التي يوفرها المجتمع. المجتمع تحكمه قوانين الأصلح، قوانين التبعية والاستغلال، أو على أحسن الفروض: القوانين التي تسمح بالمشاركة في المصالح. لكن الجماعة وحدها هي التي تعرف العدالة وتبادل المعونة والتضامن والأخوّة. ولقد نشأ كثير من سوء الفهم نتيجة للخلط غير الواعي بين هذين المصطلحين”[51].
ينضح هذا النص بأهم العناصر التي يمكن أن تسهم في وضع مادة علم الاجتماع في الإسلام. هنالك أمران جوهريان: استحضار القيم الروحية بوصفها المحرك الجوهري لإنشاء المصالح العامة الاجتماعية، ثم عدم إهمال الحرية الشخصية للفرد في إنشاء تطلعاته التي تنبع من كرامته الإنسانية. ومن ثم فأي إجهاز على أحد هذين الركنين أو على واحد منهما؛ يعد إجهازا على مفهوم الجماعة، ومن ثم على إنسانية الإنسان. ولهذا نجد بيغوفيتش يلمح إلى أن العلاقات في المجتمع لا تساعد على استمرار حرية الفرد التي تعد النبع الأساس لكرامته، إذ يصير الإنسان “لا معنى له ولا كيان إلا بمجموع العلاقات المكونة له، ولا سبيل إلى تعريفه إلا في ظل تلك العلاقات”[52]. وهو ما يميز في الحقيقة الفلسفة الوضعية التي تروم إخضاع الرقاب لقانون واحد طبعي شمولي في الباطن والظاهر، الشيء الذي دفع المفكرين الاشتراكيين إلى “الشعور دائمًا بأن نفسية الأفراد أو ما يسمى بعلم النفس الفردي -والذي يعبر في الحقيقة عن الرغبة الموروثة في الحرية والفردية- هي العقبة الرئيسة في طريق الجنّة الاشتراكية الجماعية المأمولة. وهذا هو السبب في أنهم دائمو الحديث عن المجتمع والإنتاج والتوزيع والجماهير والطبقات… إلخ، في حين يتجنبون الكلام عن مشكلات الناس من حيث هم أفراد. إنهم يكرّسون حقوق الشعب في مواجهة حقوق الإنسان، وحقوق المجتمع في مواجهة الحقوق الإنسانية”[53].
من هنا بات بيغوفيتش يؤمن بأن معظم المصالح المنتظرة من المجتمع ؛ لا تعدو كونها جرائم ضد الإنسانية، أولا؛ لأنها نسبية في تصور أصحابها. وثانيا؛ -وهو الأخطر- كونها تخدم جهة معينة، فمتى عارضها عارض نابع من الخير لكنه معاكس لتلك المصلحة؛ أجهزت عليه. يقول: “وتوجد نقطة أخرى تساعد على التمييز في هذا المجال؛ فالسلوك الأخلاقي يقوم دائمًا على الكمال الروحي، وهو متسق مع الخير المثالي والصدق والعدالة. ومن ناحية أخرى، فإن السلوك الجمعي قائم على التنظيم وقد يكون إجراميًا، ولكنه في أكثر الأحوال لا أخلاقي أو ضد الأخلاق. والمصلحة المشتركة لا يمكن أن تكون مصلحة البشر جميعًا، إنها دائمًا مصلحة مجموعة محددة مغلقة قد تكون مجموعة سياسية أو وطنية، أو طبقة(…) المصلحة المشتركة لمجموعة من الناس أو لوطن ما قد تستدعي استغلال أو استعباد، بل حتى إبادة أعضاء مجموعة أخرى، أو شعب آخر”[54].
وتصريحه هنا بما يمكن أن ينتج عن المصالح “المجتمعية” من جرائم ضد الإنسانية ومن استعباد واستغلال؛ هو لاشك تلميح منه إلى انتهاك الكرامة الفردية لكل فرد هو جزء من الكتلة الاجتماعية، حتى لو اتخذ هذا الانتهاك صورة المنفعة؛ لأن إجبار العقل أو الضمير والمشاعر على قانون غير نابع من ذلك الضمير ومن تلك المشاعر ولا يراعي حريتهما؛ لا يبعد قطعا عن اتهام الملْزِم (بكسر الزاي) بخدمة منفعته هو وانتهاك كرامة غيره. وإلا فهل نحن ملزمون بإخضاع عقولنا كأفراد إلى عقل يساويها، وبكبح مشاعرنا لصالح مشاعر غيرنا؟ أليست هذه المشاعر وتلك العقول تفسدها العادات، ويغلفها الهوى، وتختلف باختلاف الزمان والمكان والحال والأمزجة والطبائع؟ فلماذا إذن يتحتم علينا أن نخضع بعقولنا وعواطفنا إلى عقول غيرنا وعواطفه؟
إن ما يهدد الضمير الجمعي في الحقيقة، هو هذا التقنين الصوري، الذي تتبناه الدولة أو فئة معينة تجاه جميع الأفراد. ولا يبعد أن تكون له مصالح لكنها تبقى مصالح محدودة بحدود واضعها. وعائدات هذا الوضع سرعان ما تنجلي وتتبدى نتائجها على حقوق الإنسان وكرامة الفرد. وهذا بالذات ما يغمز فيه بيغوفيتش. الشيء الذي استدركه الإسلام في التوفيق بين الجماعة والفرد، وهو الذي استلهم منه بيغوفيتش نظرته.
ومن هنا نرى الإسلام يستند على القيم الأخلاقية، لرصد مفهوم متكامل للجماعة يجمع بين المشاعر والانتماء[55]، ومن أسمى ما يوجد في هذه القيم وهو المثل الأعلى، الذي يمنحها خيريتها وسموها. وليس من ضمير الفرد وحده، ولا من إملاء فئة اجتماعية أو دولية، محكومة بمحدودية ضميرها ومشاعرها وأهوائها. وحيثما حصل للفرد نكوص عن فعل وظيفته النابعة من قيم المثل الأعلى؛ فهذا يدل على ضعف شعلة الضمير المتماشية مع تلك القيم جنبا إلى جنب. وآية ذلك أننا نجد ضرورة تدفع الفرد إلى لوم نفسه، على عدم فعل الخير والانخراط في تأديته، أو على اقترافه الشر في غياب تام لسلطة المجتمع أو القانون. ذلك راجع إلى علاقة الجماعة بالفرد، التي تطبعها روح الأخوة الإنسانية والإيمانية، وهي بدورها منوطة بقانون المسؤولية الأخلاقي، باعتباره روح مفهوم الكرامة بمعناها الديني كما سبق.
إن تناغم الجماعة مع القيم الإنسانية والدينية، هي التي تفرض واجبها الأخلاقي على الفرد، وليس مصالح اجتماعية مادية، يفرضها الضمير الجمعي قسرا على الفرد وفطرته. ذلك أن “كل نظام لا يأخذ في اعتباره فرديّة الإنسان، ويريد أن يراه عضوًا في مجتمع بالرغم من كل الحقائق المضادة؛ فإنه يبدأ من افتراض خاطئ”[56]. وسيؤدي هذا الحيف إلى الإجهاز على قسط كبير من السعادة الإنسانية، التي يفترض أن تستحضر ملكة الحرية الفردية ضمن العادات والتقاليد الاجتماعية، أكد على ذلك جون ستيوارت ميل John Stuart Mill حين قال: “عندما تكون تقاليد الآخرين والعادات هي القاعدة السلوكية وليس شخص الفرد نفسه؛ يكون هنالك افتقار لواحد من المكونات الرئيسة للسعادة الإنسانية”[57].
ففي الجماعة لايوجد أحد بمفرده، وهذه حقيقة ذات معنيين؛ فالإنسان ليس وحده يفعل ما يحلو له، ولا هو وحده محروما من المؤازرة المادية والمعنوية”[58]؛ بل الأمر يقتضي استحضار الشرطين معا في إطار القيم الدينية.
نخلص من هذا؛ أن المجتمع لا يمكن عده مصدرا لكرامة الإنسان إلا إذا اتخذ بعدا دينيا، على اعتبار أن الدين هو الحاكم على الضمير الفردي والضمير الجمعي، والأدرى بمصالحهما الحقيقية النابعة من المشاعر الإنسانية ومن الأخوة. وذلك أمر متوفر في الجماعة بمعناها الديني كما أكد عليه القرآن والإسلام عموما. وهو القمين بتشكيل منظومة الحقوق في الإسلام بل حتى في الديانات السماوية السابقة، كما تشير إليه الآية: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]. فالحق كما ترى هو محرك الجماعة، وبه استحقت أن تكون أسوة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الممتحنة: 6].
وفي الجهة المقابلة، لا يمكننا أن نحكم على مجتمع أو أمة بتوفرها على الكرامة أو عدمها، كما صغا لذلك هيجل Hegel حين حكم على الشعب الصيني كاملا بالذل؛ بسبب كون هذه الكرامة ترتبط بالفرد كما قال بيغوفيتش. غير أن لمسة الإسلام تبدو واضحة في فك لغز هذا الإشكال، من خلال مفهوم الجماعة، لأن الفرد ملزم بقيمه الدينية ومشاعره الإيمانية، بخدمة الجماعة والدخول في نسقها. وهو أمر لم ينسف حريته وضميره، بل بالعكس أعطاه فرصة لتحقيق حريته، من خلال ممارسة شعائره التعبدية المرتبطة في شق كبير بالجماعة. وهذا السر الذي جعل بيغوفيتش يربط الصيام بحرية الإرادة، لأنه من جهة يعبر عن حريته الفردية في سجنه، لكنها حرية نابعة من قيم الجماعة الإسلامية التي اقتنع بيغوفيتش بالانتماء إليها. ومثل هاته الوحدة في ممارسة الشعائر يعجز المجتمع عن توفيرها؛ لأحادية توجهه، الأمر الذي لا يساعده على الحفاظ على الكرامة الإنسانية للعضو داخله، إن لم يكن سببا في حرمانه منها أصلا.
المبحث الرابع: الكرامة بين الثقافة والحضارة.
“كيف يمكن للأرض أن تصطلح مع السماء؟”[59]؛ قد لا نجانب الصواب إذا نحن ترجمنا لحقيقتي الثقافة والحضارة بهذا العنوان الرمزي الكبير الذي سطره بيغوفيتش. تعد الثقافة مع الحضارة على طرفي نقيض من حيث الدلالة. ففي حين تتجه إحداهما إلى السماء تقف الأخرى مشدودة بتراب الأرض.
إن هنالك ولا شك خلطا غريبا حاصلا بين فكرة الثقافة وفكرة الحضارة مع أنهما في الأصل مفترقان. يقول علي عزت في شريط يرصد أهم الفروق الجوهرية: “فالثقافة تبدأ بالتمهيد السماوي؛ بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة، وستظل الثقافة تُعنى بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها، فكل شيء في إطار الثقافة إما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان. تتميز الثقافة بهذا اللغز، وتستمر هكذا خلال الزمن في نضال مستمر لحل هذا اللغز.
أما الحضارة، فهي استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة. هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. هنا لا نرى إنسانًا مرتبكًا في مشاكله الدينية، أو مشكلة (هاملت) أو مشكلة (الإخوة كرامازوڤ)، إنما هو عضو المجتمع الغُفل، وظيفته أن يتعامل مع سلع الطبيعة ويغير العالم بعمله وفقًا لاحتياجاته”[60].
وتزداد العلاقة توترا وانفصاما أكثر بين الثقافة والحضارة حينما يقارنا بالدين والذات الإنسانية الخلاقة “فبينما ترجع الثقافة إلى تأثير الدين على الإنسان أو تأثير الإنسان على نفسه؛ تقف الحضارة عند تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي. الثقافة معناها: الفن الذي يكون به الإنسان إنسانًا، أما الحضارة فتعني وترتبط بفن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة”[61].
إن الحضارة هي “استمرار للتقدم التقني لا الروحي، والتطور الدارويني استمرار للتقدم البيولوجي لا التقدم الإنساني. إنها استمرار للعناصر الآلية، أي العناصر غير الواعية التي لا معنى لها في وجودنا. ولذا، فإن الحضارة ليست في ذاتها خيرًا ولا شرًا. وعلى الإنسان أن يبني الحضارة تمامًا كما أن عليه أن يتنفس ويأكل. إنها تعبير عن الضرورة وعن النقص في حريتنا”[62]. أما الثقافة، فعلى العكس من ذلك تماما إذ “هي الشعور الأبدي بالاختيار والتعبير عن حرية الإنسان”[63]. وقد “كانت النتيجة الأساسية للحضارة هي تحويل العالم إلى سوق. كانت هذه هي رسالة الحضارة، ومن الواضح أن هذه الرسالة لا علاقة لها بالثقافة”[64].
والخلاصة المستفادة من هذه الفروع المتضادة في المعجمين، تؤول إلى أن الثقافة هي الإنسان والحضارة هي الأشياء. فهما معا يمثلان في لحظة واحدة “تضاد الإنسان والشيء، أو الإنسانية والشيئية”[65]. ففي حين “يتحدث مايكل أنجلو عن روح الإنسان؛ يتحدث داروين عن حامل تلك الروح. ومن الممكن أن نقول: إنها رواية عن جانبين مختلفين من الإنسان، والإنسان هو المركب الثالث، المركب المتناقض. هذا الخلق المتناقض فوق إدراكنا ولا يمكن لغير الله أن يخلق شيئا كهذا. والتاريخ اللاحق كله هو مجرد تجل لهذين الجانبين من الوجود الإنساني. صورتان هائلتان تتجليان عبر الزمان كهيئة الثقافة والحضارة. ومن ثم فالثقافة بأسرها ذات طابع يشبه مايكل أنجلو، بينما الحضارة بأسرها ذات طابع دارويني”[66].
إننا هنا أمام جسر قوي متماسك بين مفهومين لا يلتقيان، أحدهما نابع من الروح وهو المؤسس لإنسانية الإنسان، والمفهوم الآخر يمثل جسم هذا الإنسان ومادته وقالبه. وهذا يعني أن الثقافة هي التي تحتضن مفهوم الكرامة وتزكيه. أما الحضارة فهي مفهوم سنجد عناصره وأمشاجه حاضرة في كل تطور آلي بيولوجي، وتقدم حيواني دارويني عرفه الإنسان في التاريخ، سيما من حيث العلاقات الاجتماعية وبناء العمران المادي للعنصر البشري. وهذا ما يجعل المسألة ذات بعد اجتماعي ولها صلة بكرامة الفرد جلبا أو دفعا. لكن ما المفردات الثقافية والحضارية التي اختارها بيغوفيتش لتمثيل الكرامة حضورا أو غيابا؟
تبدو جل المفردات المعجمية والمصطلحية لا تخرج عن المدلول المعنوي لإحدى هاتين. والدراسة لا تستطيع استيعاب كل هذه المفاهيم، لذا ستختار ما يناسب حجمها. والذي وقع عليه الاختيار بعد مفهوم المجتمع والجماعة: مفهوم المساواة، مفهوم التربية والتعليم، ثم مفهوم الفن.
1ـ المساواة.
تعد المساواة ـ من بين القيم الروحية الثقافية ـ مظهرا من مظاهر الكرامة الإنسانية في نظر بيغوفيتش. هذا المفهوم الزئبقي الذي تلبس عبر أزمنة التاريخ بجل الدلالات المتناقضة والمتضادة؛ لا يمكن لحقيقته أن تقوم على ساق في تصور بيغوفيتش، إلا إذا ارتبطت جذريا بمفهوم الخلق. يقول: “إن المساواة والإخاء بين الناس ممكن فقط إذا كان الإنسان مخلوقًا لله. فالمساواة الإنسانية خصوصية أخلاقية وليست حقيقة طبيعية أو مادية أو عقلية. إن وجودها قائم باعتبارها صفة أخلاقية للإنسان، كسمو إنساني أو كقيمة مساوية للشخصية الإنسانية”[67].
وفي مقابل ذلك، “وإذا نظرنا إلى الناس من الناحية المادية أو الفكرية، أو ككائنات اجتماعية أو أعضاء في مجموعة أو طبقة أو تجمع سياسي أو أُمَمِي، فالناس في كل هذا دائمًا غير متساوين. ذلك، لأننا إذا تجاهلنا القيمة الروحية -وهي حقيقة ذات صبغة دينية- يتلاشى الأساس الحقيقي الوحيد للمساواة الإنسانية. وتبدو المساواة حينئذ مجرد عبارة بدون أساس ولا مضمون، وسرعان ما تتراجع وهي تواجه الوقائع الدالة على اللامساواة بين الناس، أو الرغبة الطبيعية للإنسان أن يسيطر وأن يطيع، ومن ثم لا يكون مساويًا للآخر. فطالما حذفنا المدخل الديني من حسابنا، سرعان ما يمتلئ المكان بأشكال من اللامساواة: عرقيًا وقوميًا واجتماعيًا وسياسيًا.”[68]
يمكن عد هذا النص نقدا آخر من علي عزت لعلم الاجتماع؛ الذي تخدمه المصالح العامة المشتركة والنظام الاجتماعي القائم على مراعاة المصلحة. بل هناك أكثر من إشارة -ومن خلال ما سبق أيضا- تلوح بكون علم النفس وعلم الاجتماع علمين وضعيين ماديين بامتياز. ولا يمكن تأطيرهما تحت لواء العلوم الإنسانية التي تراعي القيم الفردية الشعورية في تناغم مع قيم الجماعة. يؤكد هذا المنزع بقوله في علم النفس أيضا: “فإذا استخدمنا المصطلحات الإسلامية، نقول: إن علم النفس علم (نفس) وليس علم (روح)، بمعنى أنه علم على المستوى الحيوي (البيولوجي) وليس على المستوى الشخصي الجواني. فهناك ثلاث دوائر مختلفة: الآلي والبيولوجي والشخصي. وهي تتطابق مع الدرجات الثلاث للواقع: الطبيعة، والحياة، والشخصية الجوانية.”[69] بمعنى أن المساواة لا تتأتى حقيقة من البيولوجي ولا من الآلي ولكنها من الشخصي الذي منبعه الروح. فعنصر الروح هو الذي أضفى طابع المساواة على النوع الإنساني. وأي محاولة لجعل هذه الخاصية من وظيفة الجسم والطبيعة؛ فإن النتيجة ستكون هي الإجهاز على نفس مفهوم المساواة ومن ثم على الكرامة الإنسانية. غير أن هذه المساواة هنا بمعناها التكويني الذي يرجع إلى كون الإنسان كائنا مخلوقا لله كسائر المخلوقات، حيث لا فرق بين فرد وفرد بهذا الاعتبار إلا بمعيار واحد هو الذي يقتضي التمييز. يقول عنه بيغوفيتش: “فإذا كان الناس مختلفين حقا فإنه يجب التمييز بينهم من حيث قيمتهم الروحية والأخلاقية {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] “[70]. وهذا لا يتعارض مع المساواة من جهة، كما أنه يؤكد البعد الديني للكرامة المتعلق بقانون التقوى ومسؤولية الإنسان كما سبق لنا.
ولهذا نجد القرآن ينبه إلى هذا النوع من المساواة في سياق مظاهر التكريم الإلهي للإنسان في بداية الخلق قبل ظهور المصالح الاجتماعية المادية وقبل أن تختلف الطبائع و الميولات. يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. أي: كلهم وبدون تمييز بينهم. لذلك نجد بيغوفيتش ينوه بحديث النبي عليه السلام في خطبة حجة الوداع: “أيها الناس كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟، اللهم فاشهد”. وهو حديث يطوي مفهوما عظيما للمساواة الإنسانية، ويذكر بالكرامة لكل إنسان بغض النظر عن اختلاف أفكاره وتباين عقائده وتوجهاته. يقول: “هل هناك أفضل مكان وأحسن لحظة من تلك التي اختارها الرسول عليه السلام ليوجه هذه الكلمات العظيمة إلى أمته. هذه الكلمات التي هي أبسط وأخلص وأروع ميثاق في حقوق ومساواة الإنسان. الكلمات التي ما زالت غاية منشودة في النصف الثاني من القرن العشرين”؟![71].
2ـ التعليم التقني والتعليم الكلاسيكي.
وهنا نجد أنفسنا أيضا أمام مفهومين، يعكسان التناقض الصارخ بين حقيقة المساواة بمعناها المادي الطبيعي، والمساواة بمعناها الروحي الإنساني. أي بين المعنى الثقافي والمعنى الحضاري. هذان المفهومان هما التعليم التقني والتعليم الكلاسيكي. يقول بيغوفيتش: “ليس التعليم، على أي حال، ظاهرة أحادية الجانب، فإننا إذا نظرنا إليه عن قرب، فسوف نلاحظ اتجاهين مختلفين، متساويين ولكنهما مستقلان. فالتعليم المدرسي في العالم المتحضر، يعتمد على الفكر أكثر مما ينبغي، والجانب الإنساني فيه أضأل مما ينبغي. وباستخدام المصطلحات المعتادة نقول: إنه تعليم تقني أكثر مما يجب ويكاد يكون مُضمحلاً في جانبه الكلاسيكي التقليدي.”[72]
وينزل هذه المفارقة على الواقع المعاصر فيقول: “في هذه الأيام من الممكن جدًا أن نتخيل شابًا قد مر بجميع مراحل التعليم من المدرسة الابتدائية حتى الكلية دون أن يكون قد ذُكر له ضرورة أن يكون إنسانًا خيِّرا وأمينًا. فهو يتعلم أولاً أن يكتب ويحسب، ثم يدرس الطبيعة والكيمياء، وعلم الأعراق البشرية، والجغرافيا، والنظريات السياسية، وعلم الاجتماع، وعلومًا أخرى كثيرة. إنه يجمع عددًا هائلاً من الحقائق، وعلى أحسن الفروض يتعلم كيف يفكر، ولكنه لم يستنر (ثقافيًا أو روحيًا). إننا لم نعد نسمع إلا قليلاً عن برامج التاريخ والفنون والآداب والأخلاق والقانون.
التعليم التقني سبب للحضارة ونتيجة لها، فهذا النوع من التعليم يُهيئ العضو للدخول في المجتمع، وهو تعليم مصمم لتحقيق هذا الغرض. فهو موجه لغاية محددة بإحكام، واهتمامه مُنصب على السيطرة على الطبيعة أو العالم الخارجي. أما التعليم الكلاسيكي، فعلى العكس من ذلك، يبدأ وينتهي عند الإنسان”[73].
ثم سرعان ما يؤطر المفهومين في إطار معجم الثقافة والحضارة المتناقضين فيقول: “ففي هذين النوعين من التعليم ينعكس التضاد بين الثقافة والحضارة بكل ما يترتب عليه من نتائج. سنجد أن المجتمع غير الصناعي يغلب عليه الاتجاه نحو التعليم الكلاسيكي، بينما المجتمع الصناعي، وبخاصة المجتمع الاشتراكي، ينحو تجاه التعليم التقني. بطبيعة الحال، هذا مجرد مبدأ عام قد يعاني من الانحراف في الممارسة هنا أو هناك، ولكن يظل التوجه العام قائمًا متحققًا من خلال التصحيحات التي لا مفر منها.”[74]
إن التعليم التقني يتجه نحو قيم ترشيد المادة والطبيعة، لخدمة المصالح الاجتماعية المادية والتدرب عليها. لذا فالسمة الفارقة فيه هي الذكاء. وهو مفهوم مادي حضاري ومؤشر مهم على تطور العلم والصناعة. إن الذكاء والعلم والصناعة مفاهيم حضارية وليست أخلاقية ثقافية. يقول: “السياق المنطقي للتعليم التقني هو التخصص. فقبل كل شيء نستطيع أن نرى الذكاء والعلم والصناعة تشكل خطًّا واحدًا، وأنها مرتبطة بعضها ببعض كسبب ونتيجة. فالعلم نتيجة الذكاء، والصناعة هي مجرد تطبيق العلم. وهي جميعًا شروط وأشكال لتأثير الإنسان على الطبيعة، على العالم الخارجي. يوفر التخصص للفرد وضعًا أفضل وأقوى في النظام الاجتماعي، أي في الآلة الاجتماعية. ولكن التخصص يقلص الشخصية الفردية، ويعلي من شأن المجتمع ويجعله أكثر كفاءة، فالمجتمع يأخذ قدرات الكل، بينما الإنسان -كجزء من الآلة الاجتماعية- آخذ في التناقص. إن تفتيت العمل وتجريد الإنسان من شخصيته -باعتباره أحد الرعايا العاملين-يميلان في زحفهما إلى الأمام، إلى الحالة المثلى للطوبيا.[75]
واضح جدا التقابل الذي يرسمه بيغوفيتش، بين معجم التعليم التقني والاجتماعي، وبين الإنسان والحرية الفردية، وأن توهج أحدهما يستلزم ضعف الآخر أو انعدامه. وإذا كانت الحرية الفردية هي مؤشر الإحساس بالكرامة الإنسانية كما سبق لنا؛ فهذا معنى أن بينهما لزوما وتساوقا يوجب أن تنتفي إحداهما متى انتفت الأخرى. وتلك كانت هي مشكلة التعليم في هذا المقام في منظور بيغوفيتش. أعني: تلاشي حرية التعليم التربوي وأصلها التوحيدي التعبدي التكريمي في ظل متطلبات اقتصاد السوق في العصر الحاضر.
إن تطور وسائل الإنتاج والرفع من قيمة الاقتصاد، والتسابق المهول نحو التسلح والسيطرة على المجالات الحيوية، لغزو الأرض والجغرافيا بالشركات والمعامل؛ هذه كلها غدت هي العنوان الرئيس للسياسة الدولية المعاصرة. ومن ثم كان إعداد النشء وتربيته منذ الطفولة وبداية الوعي، إلى أن يتخرج الشاب (مواطنا صالحا) منضبطا عقله إلى قواعد الإنتاج والاستهلاك، متقوقعا تحت عبودية الخدمة للسوق، تماما كالسلعة المعروضة للتعاقد والتمويل! وأيُّ قيم حفت وصاحبت؛ فهي جانبية يُتدرب عليها بقدر التدرب على الإنتاج، “فهي تحفز في الفرد قوى دافعة من الخبرات، وتحدث قرارا لصالح الخير عن طريق النصيحة والمشاهدة.. ولا يمكن تغيير الإنسان بغير هذا الأسلوب!”[76]. كما يقول بيغوفيتش.
ففي الفضاء المؤسساتي التربوي مثلا يستطيع المعلم -وقد صارت له وظيفة المروض!- أن يدرب المتعلم -مستغلا ضعفه[77]– على اكتساب ذكاء خارق بتنمية مهاراته في التعامل مع المعادلات المعقدة والقواعد الصناعية الدقيقة لفك ألغاز الظواهر التجريبية المادية، وقد يحصل على امتيازات وأوسمة مشرفة في المستقبل، جزاء اختراعاته في مجالات الصناعة والاقتصاد والخبرات…
وقد يصاحبه الترويض حتى وهو مواطن ناضج! إذ لا يغيب عنا ما صار متداولا بين موظفي الشركات والأسواق اليابانية الكبرى في العشريات الثلاثة الأخيرة، إذ بات الموظفون يتدربون على اكتساب مهارات أخلاقية لاستقبال الزبناء، بيد أن “تدريب البشر على أن يكونوا مجرد منتجين، وتنظيمهم بهذا المعنى فقط في صفوف المواطنين الصالحين؛ هو أمر أيضًا لا إنساني”[78].
وقد ترتب على مثل هذه الأخلاق التجارية، تطور هائل وازدهار ملحوظ في مؤشر الصادرات والواردات، والاهتمام بالسلع اليابانية على المستوى الدولي؛ في حين تخبرنا المذكرات التاريخية اليابانية أن ثلاثة عشر روائيا وكاتبا يابانيا أقدموا على الانتحار سنة 1973م. وهي ظاهرة اكتسحت مفكرين وشعراء يابانيين على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين. إن هذه المأساة التراجيدية للثقافة اليابانية قد تزامنت -كما يقول بيغوفيتش- مع اختراق الحضارة والأفكار المادية للثقافة اليابانية التقليدية[79].
والسبب في هذا كله هو اعتبار العلم -بمعناه التقني المادي- هو موجب التحضر والأكثر قدرة على المسايرة والأكثر كفاءة… وأما التعليم -بمعناه الإنساني القيمي- فليس من ورائه طائل، إذ هو ليس سوى ارتماء في محضن التلهي بخواطر الأدب والشعر والدين والفلسفة! وإن أي محاولة لتعلم القيم والسلوكات الحسنة؛ فذلك كله له بعد غائي تطبعه المادية والربح والتجارة. بينما النظرة الثقافية الأخلاقية، تقتضي الاهتمام بالنشء وتربيته وفق القيم الروحية، المنوطة بمسألة الخلق كما سبق بيانه، حيث كرم الله الإنسان من حيث هو إنسان، وليس باعتباره مشاريع بشرية تجارية![80].
3ـ الكرامة والفن.
الفن ـ في نظر بيغوفيتش ـ مفهوم ثقافي تابع لشخصية الإنسان الفردية. ويقابله في الجهة المعاكسة مفهوم العلم أو علم الاجتماع. يقول بيغوفيتش: “تملك الثقافة الفن، وتملك الحضارةُ العلم أو بتعبير أدق علم الاجتماع. فعلم الاجتماع هو الانعكاس الأمين لروح الحضارة أو انعدام روحها، والاختلاف بين المدخل الفني ومدخل علم الاجتماع يعكس الانقسام الأساسي للعالم، كما يعكس حقيقة أن البحث فيهما يتجه في اتجاهين متضادين: الأول نحو الإنسان كشخصية فردية، والثاني نحو الإنسان كعضو في مجتمع”[81].
يتبين من هذا أن مفهوم الفن يقف معاكسا تماما لمفهوم العلم في تاريخ الأفكار. وتقف كل أفراده الروحية والثقافية الضاربة في عمق الميتافيزيقا في الإنسان على طرفي نقيض مع علم الاجتماع. ففي القصيدة واللحن واللوحة الفنية مثلا “نواجه سرًّا أو كيْفًا بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، فكيف يمكن تفسير الاختلاف بين اللوحة الأصلية وبين نسخة منها بواسطة الكم؟ اللوحة الأصلية تملك كيْفَ الجمال، وكل نُسْخة قبيحة، فهل نشأ هذا الاختلاف من أن شيئًا قد أُضيف أو حُذف من النسخة بالمعنى الكمي للكلمة؟ لا! إنما يكمن الاختلاف في اللمسة الشخصية بين الفنان وبين عمله الفني. فالكيف يمكن أن يُوجد فقط في تلك اللمسة الشخصية”[82].
إننا في الفن أمام مشكلة ذات طابع روحي معنوي، يحسه الفنان ويستطيع أن يجسده في عمل. وليس لنا معشر المخاطبين سوى أن نتملى هذه الإبداعات العملية كما خرجت من صاحبها، لكن لا سبيل لنا إلى قياس مؤشراتها كمّاً؛ لأن الذوق لا كمَّ له. إن هذه الإبداعات تأبى إلا أن تكون من شخصية فردية تتمتع بأقصى “العفوية والحرية، إنها معجزة”[83]. ولا غرابة في ذلك؛ لأن النفس الفردية هي منبع الفن، والفن مثله مثل الدين في نظر علي عزت؛ فإذا كان كل واحد منهما يدل بالمطابقة على الآخر من حيث المنبع الروحي و “فرع سلالة واحدة انبثقت بفعل الخلق الإلهي”[84]؛ فهذا معناه أن كليهما معجزة. ومن هنا “لا اختلاف بينهما، إنما الاختلاف في طريقة التعبير عن الفكرة نفسها. يتجه الدين إلى النفس ويحاول الفن الوصول إليها، أن يستحضرها أمام أعيننا”[85]. والنتيجة التي بإمكاننا الحصول عليها، هو تباين الموضوع بين الفن والدين، وبين العمل الاجتماعي والسياسي الواقعي. ذلك أن “موضوع أي عمل فني -بصرف النظر عما خُصّص له أو أريد استخدامه فيه- هو دائمًا موضوع نفسيّ وشخصي وليس أبدًا موضوعًا اجتماعيًا أو سياسيًا. قد تكون الحبكة أو الحدث اجتماعيًا، ولكن الفن يتناول دائمًا الجوانب الأخلاقية للمشكلة”[86].
ومعنى هذا أن أحد المتضادين قابع في الشكل الكمي الحضاري بينما يُرى قسيمه صورة راقية من صور الدلالة الأخلاقية لمفهوم الثقافة. لكن لماذا يصر بيغوفيتش جاهدا على تأطير الفن ضمن الحرية الشخصية للفرد؟
لا يوجد أمامنا دليل أقوى من كون الفن هو الوجه الآخر للدين. فإذا كان الدين إحساسا أخلاقيا يشترط فيه الذوق الفردي والحرية الشخصية للإنسان؛ فكذلك الفن. إنه تعبير خاص عن شخصية متفردة خاصة، لا تطابق شخصية أخرى مثلما تحاول الحضارة عبثا. إنه نقد ضمني غير مباشر لمفهوم الإنسان ذي البعد الواحد، أو هو بالأحرى قالب واحد مصنوع على هيئة مخلوق جسدي لا معنى روحي له. فالحضارة تحاول محو الفرق الجوهري بين روح وروح وجعلهما خاضعتين قسرا لقالب قياسي واحد يخضع للشهوات ويراكم النماء والكثرة، مثلما يحصل اليوم في عالم التكنولوجيا. بينما في الفن نحصل على محاولة جلب إحساس الآخر، ليعايش عالم المبدع الفنان ويتقاسم معه مشاعره، فهي محاولة لوحدة روحية تهدف “إدماج المشاهد كشريك مباشر في الإبداع”[87]، مثلما يفعل الواعظ في سكب مشاعر الإيمان في قلب صاحبه. مما يدل أن في “جذور الدين والفن هناك وحدة مبدئية”[88]. وأن “مبدأ وحدة العمل الفني هو الوحدة بين الفنان والمشاهد، وهو مبدأ ينبع من الطبيعة الميتافيزيقية للفن، ويعكس إنسانًا أصيلاً يمثل الشعور والفردية والحرية، وهذا يناقض الطبيعة”[89].
يأخذنا بيغوفيتش من خلال هذه المقارنة إلى مقصد آخر أكثر أهمية وألصق بالقيم، هو مقصد التوحيد. فبالإضافة إلى كونه روح الإسلام وسائر الديانات السماوية؛ يمثل التوحيد في العمل الفني مركز الوحدة الإنسانية، وهي وحدة معنوية شعورية نابعة من حرية الإنسان وعقله واختياره وذوقه مع مراعاة التنوع في “أنا وأنت”[90]. فلا معنى لهذه الوحدة الإنسانية في غياب التوحيد كما قال في سياق آخر: “تنبع وحدة الإنسانية من توحيد الله”[91]. وهذا سر الفرق بينها وبين الوحدة المادية التي ترومها الحضارة بمحو كل التطلعات الشخصية والاختلافات الثقافية والنوعية. فهي “تسعى إلى طمس الاختلاف. وهذا من منظور الثقافة بمثابة أكبر الكبائر، ويتعارض تماما مع الصورة الأصلية للهبوط من الجنة”[92].
إن إرجاع الفن في رؤية بيغوفيتش إلى الدين وجعلهما ضمن وحدة مشتركة؛ يعني فتح المجال مرة أخرى للتعبير الشخصي عن مشاعر الإنسان، بتجسيدها في نشاطاته الفنية ولوحاته الجمالية ومعماره الخارجي. خلافا -في نظره- للحضارة التي لا تتوفر على هذه الإمكانية؛ لأنها لا تؤمن إلا بالعلم الذي يُخْضِعُ كل شيء للقياس، ولا مجال للتفرد فيه أو الشعور بالتسامي عن التماثل والنسقية. وهذه أمور كلها تقضي على كرامة الإنسان، وتُجهز على أهم خصائصها الماثلة في الحرية الشخصية والتمتع بالاختيار.
الخاتمة:
يعد البحث في كرامة الإنسان بحثا في صميم القيم والحقوق الدينية والإنسانية. فإذا كانت حقوق الإنسان هي صورة عاكسة لتطابق الدين مع النفس البشرية، بما تحويه من ملكات الضمير والمشاعر؛ فإن الكرامة ليست سوى حلقة ضمن سلسلة تلك الحقوق التي كرم الله بها الإنسان مذ خلقه.
ذلك كان هو الوجه الأول لمفهوم الكرامة عند بيغوفيتش. أما وجهها الآخر فيقبع في منظومة الأوامر والنواهي الدينية التي تُلزِم الإنسان بالحلال والحرام وتوجب عليه استحضار مسؤوليته في نشاطاته وأفعاله. ويعد الطابع التعبدي التكليفي الخاص هو خاصية هذه الكرامة التي تفصلها عن النوع التكويني الأول.
فبينت الدراسة ـ بناء على هذا كله ـ أن للكرامة أساسين ينتمي كل واحد منهما إلى نوعه؛ هما: الأساس الإنساني الأخلاقي المشترك والأساس الديني التعبدي. وفي هذا الصدد اتضح أن الجماعة هي المفهوم القمين بصناعة الدلالة الاجتماعية للكرامة مع دمج الملكات الفردية وليس الإجهاز عليها مثلما هو الأمر في مفهوم (المجتمع) في علم الاجتماع المعاصر.
ولما كان للكرامة بمعنييها علاقة وطيدة بالثقافة والحضارة؛ عرجت الدراسة على بعض مظاهر هذين المفهومين الكليين مبينة أن الثقافة بمفاهيمها ومفرداتها هي المحضن الرئيس لحقيقة الكرامة الإنسانية، بينما تعد الحضارة الشكل الكمي المضاد الذي يحتضن المفاهيم المعاكسة لها في منظور بيغوفيش. وقد تجلى ذلك في تحليل نماذج منتقاة هي: مفهوم المساواة، مفهوم التعليم، ومفهوم الفن والجمال.
لقد حاولت هذه الدراسة الوقوف عند مفهوم الكرامة الإنسانية، لكن من خلال منهج وصفي تحليلي، يتتبع نصوص بيغوفيتش كما وردت في بعض كتبه، وبوصفها صورة عاكسة لمبدأ تكامل العلوم وتداخلها في فكره وفلسفته. فكانت محاولة في النبش عن الإشكال، مؤملة أن تكون قد أنارت للباحثين زوايا متعددة، في البحث عن ألغاز هذا الإشكال وزيادة تحريره وتوسيع مجاريه، من خلال قضايا يمكن أن نقترح منها ما يلي:
ـ مفهوم الكرامة الإنسانية ودلالاتها وفق القيم الكونية والإنسانية والتعبدية الواردة في القرآن.
ـ مفهوم الكرامة بين الإسلام والديانات السماوية السابقة وتحرير المشترك الإنساني.
ـ الكرامة بين التصور الإسلامي والمواثيق الدولية، وإعادة تحرير منظومة حقوق الإنسان.
ت مظاهر الكرامة في النظام الجنائي ونظام السلم والحرب، ضمن منظومة حقوق الإنسان كما جاءت بها الديانات السماوية بما فيها الدين الإسلامي.
لائحة المصادر والمراجع:
ـ القرآن الكريم.
ـ البَصْري (أبو الحسين محمد بن علي)، المعتمد في أصول الفقه، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1403.
ـ الزمخشري (أبو القاسم محمود بن عمرو)، الكشاف، دار الكتاب العربي، بيروت، ط.3، 1407ه.
ـ إمانويل (كانط)، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل، د.ط ولا ت.
ـ نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط.1، 2008.
ـ إميل (دوركايم)، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم، محمد بدوي، د.ط، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية: 1988م،
ـ برتراند (راسل)، أسس لإعادة البناء الاجتماعي، ترجمة ابراهيم يوسف النجار، نشر المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، ط.1، 1987.
ـ بزا (عبد النور)، نظرية التعليل في الفكرين الكلامي والأصولي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط.1، 2011.
ـ بيغوفيتش (علي عزت)، الإعلان الإسلامي، ترجمة محمد يوسف عدس، مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009م.
ـ الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، مؤسسة العلم الحديث، بيروت، الطبعة الأولى، 1974م.
ـ هروبي إلى الحرية، ترجمة اسماعيل أبو البندورة، الطبعة الأولى، دار الفكر، دمشق: 2002م.
ـ عوائق النهضة، الطبعة الأولى، جمعية قطر الخيرية، الدوحة، 1999م.
ـ دراز (محمد عبد الله)، نظرات في الإسلام، مكتبة المهتدين لمقارنة الأديان، ط.1، د.م، 1972.
ـ دستور الأخلاق في القرآن، تحقيق وتعريب: عبد الصبور شاهين، ط.10، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1418هـ/ 1998م.
ـ الشنقيطي (محمد بن المختار)، خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط.1، 2016.
ـ قطب (محمد)، حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، د.ط، القاهرة: دار الشروق، 1998م،
ـ المسيري (عبد الوهاب)، رحابة الإنسانية والإيمان، الطبعة الأولى، القاهرة: دار الشروق، 2012م،
ـ ميل (جون ستيوارت)، عن الحرية، ترجمة هيثم كامل الزبيدي، الأهلية للنشر والتوزيع: عمان، 2007.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أميل إلى ما قاله الدكتور الشنقيطي حين وصف بيغوفيتش بقوله: “إسلامي بأفق إنساني” انظر: الشنقيطي) محمد بن المختار(، خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط.1، 2016، ص51.
[2] بيغوفيتش )علي عزت(، هروبي إلى الحرية، ترجمة إسماعيل أبو البندورة، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 2002م: ص382.
[3] دراز )محمد عبد الله(، نظرات في الإسلام، مكتبة المهتدين لمقارنة الأديان، ط.1، د.م، 1972: ص111.
[4] دراز (محمد عبد الله)، دستور الأخلاق في القرآن، تحقيق وتعريب: عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط.10، 1998م. ص29.ٍ
[5] نظرات في الإسلام، مرجع سابق: ص112.
[6] نفسه: ص112- 113.
[7] إمانويل (كانط)، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل، بيروت، د.ط ولا ت: ص63.
[8] نفسه: ص113.
[9] نفسه: ص121.
[10] نفسه: ص124.
[11] يقول: “كرامة الإنسانية تكمن على وجه التحديد في قدرتها على أن تكون مصدر تشريع كلي عام، على شريطة أن تكون هي نفسها في الوقت عينه خاضعة لهذا التشريع” نفسه: ص132.
[12] إمانويل (كانط)، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط.1، 2008، ص37.
[13] يقول أبو الحسين البصري: “الْبَقَاء على حكم الْعقل إِذا لم يُنْقل عَنهُ شرع” انظر:– البَصْري أبو الحسين (محمد بن علي الطيب)، المعتمد في أصول الفقه، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403. 1/06. وهذا يدل على نسبية العقل وهو ما “اتفقت عليه جميع المدارس الكلامية” انظر: -بزا (عبد النور)، نظرية التعليل في الفكرين الكلامي والأصولي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط.1، 2011، ص98.
[14] هروبي، مرجع سابق: ص33.
[15] نفسه: ص36.
[16] نفس المرجع والصفحة.
[17] نفسه: ص373.
[18]نفسه: ص249.
[19] نفسه: ص290.
[20] نفسه: ص381.
[21] نفسه: ص272.
[22] نفسه: ص83.
[23] نفسه: ص65.
[24] نفسه: ص88. قارن هذا بقول كانط: “فالقوة والغنى والشرف…؛ مما درجنا على تسميته بالسعادة؛ قد يتولد عنها الاعتزاز بالنفس الذي قد ينحرف في أغلب الأحيان فيصير غرورا واختيالا” انظر:
– تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مرجع سابق: ص38.
[25] هروبي، مرجع سابق: ص258.
[26] نفس المرجع المصفحة.
[27] ميتافيزيقا الأخلاق، مرجع سابق: ص162.
[28] نفسه: ص47.
[29] دراز، دستور الأخلاق، مرجع سابق: ص112.
[30] هروبي، ص37.
[31] نفسه، ص243.
[32] هروبي، 129.
[33] نفسه، ص129.
[34] نفسه، ص173.
[35] بيغوفيتش (علي عزت)، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، مؤسسة العلم الحديث، بيروت، الطبعة الأولى، 1974م، ص160.
[36] نفس المرجع والصفحة.
[37] هروبي، ص259.
[38] هروبي، ص29-30.
[39] دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص31.
[40] نفسه، ص267.
[41] يقرر محمد قطب وجوب استحضار العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع بوصفها خامس أركان علم الاجتماع الإسلامي وهي: “السنن الربانية التي تحكم الحياة البشرية وخاصة سنن التمكين في الأرض وسنن التدمير، الثابت والمتغير في الحياة البشرية، الدين والفطرة، مكانة الأسرة في البنيان الاجتماعي، العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع”. انظر:– قطب (محمد)، حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، دار الشروق، القاهرة: 1998م، ص91. وهذا يدل على ضرورية احترام الملكات الفردية للإنسان وحريته وطموحاته الإنسانية وليس إقصاؤه واستلاب قيمه الخاصة وجعله آلة ميكانيكية لتحريك عجلة مصالح المجتمع كما ترومه الفلسفة المادية في علم الاجتماع.
[42] إميل (دوركايم)، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم، محمد بدوي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988م، ص63.
[43] نفسه، ص63.
[44] المسيري، مقدمة الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص22.
[45]بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص169.
[46] على اعتبار أن المصلحة التي يقصدها بيغوفيتش هنا ليس بمعناها عند نظار التشريع الإسلامي ومقاصده. بل هي مفردة من معجم مادي حضاري في مقابل معجم آخر مقابل تحكمه مفاهيم ثقافية.
[47] نفس المرجع والصفحة.
[48] نفس المرجع والصفحة.
[49]المرجع نفسه، ص201.
[50] نفس المرجع والصفحة.
[51]المرجع نفسه، ص201-202.
[52] المسيري (عبد الوهاب)، رحابة الإنسانية والإيمان، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2012م، ص177.
[53]بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص201.
[54] المرجع نفسه، ص169.
[55] يقول: “المجتمع يتضمن على عنصر ديني ووجداني للانتماء. ويبدو هذا العنصر أكثر ما يكون وضوحا في “الجماعة” الروحية باعتبارها النواة الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي” انظر:– بيغوفيتش (علي عزت)، الإعلان الإسلامي، ترجمة محمد يوسف عدس، مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009م: ص97.
[56] الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص200.
[57] ميل (جون ستيوارت)، عن الحرية، ترجمة هيثم كامل الزبيدي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2007، ص68.
[58] بيغوفيتش علي عزت، الإعلان الإسلامي، مرجع سابق، ص97.
[59]الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص246.
[60] نفسه، ص87.
[61] المرجع نفسه، ص107.
[62] نفس المرجع والصفحة.
[63] المرجع نفسه، ص107-108.
[64] هروبي إلى الحرية، مرجع سابق، ص221.
[65] بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص107.
[66] بيغوفيتش، هروبي إلى الحرية، مرجع سابق، ص290.
[67]المرجع نفسه، ص100.
[68]المرجع نفسه، ص100.
[69]نفس المرجع والصفحة.
[70] الإعلان الإسلامي: ص98.
[71] بيغوفيتش (علي عزت)، عوائق النهضة، جمعية قطر الخيرية، الدوحة، الطبعة الأولى، 1999م: ص26.
[72]المرجع نفسه، ص93.
[73]نفس المرجع والصفحة.
[74]نفس المرجع والصفحة.
[75]المرجع نفسه، ص113-114.
[76]نفس المرجع والصفحة.
[77] يقول راسل: “الولد ضعيف وسخيف بشكل غريب، أما المعلم فقوي. ومن جهة التصرف اليومي أكثر حكمة بكثير من الولد. من دون الاحترام يمكن أن يحتقر المعلم أو الموظف الولد بسهولة بسبب الضعف الظاهر (…) منتجا عللا وعدم اكتفاءات روحية ينمو منها الظلم والحسد والاعتقاد بضرورة فرض هاته التشويهات على الآخرين أيضا” انظر:-برتراند (راسل)، أسس لإعادة البناء الاجتماعي، ترجمة ابراهيم يوسف النجار، نشر المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، ط.1، 1987: ص120. وهذا يدل على أن كرامة المتعلم رهينة باحترامه كإنسان أيضا. وأي محاولة لاستغلال براءته وضعفه ولصالح جهة معينة ولو بدت أنها إيجابية من الناحية المادية؛ فهو انتهاك لكرامته وإنسانيته، شأن التعليم التقني عندنا هنا. وهذا المقصود.
[78]المرجع نفسه، ص83.
[79] المرجع نفسه، ص83.
[80] يمكن النظر إلى بيع اللاعبين الرياضيين وشرائهم بنفس النظرة. فقد بات الرياضي اليوم مختزلا من كل معنى إنساني جوهري، وصار يصنع داخل الشركات كما يصنع زيه وحذاؤه، ويتم الاهتمام به على قدر مخرجات ترويج مهمته وبحسب أدائه الذي يقاس بالربح والخسارة داخل السوق!.
[81]بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص134.
[82]المرجع نفسه، ص144.
[83]نفس المرجع والصفحة.
[84] المرجع نفسه، ص137.
[85] المرجع نفسه، ص164.
[86] نفس المرجع والصفحة.
[87]المرجع نفسه، ص165.
[88] المرجع نفسه، ص146.
[89]المرجع نفسه، ص115.
[90]المرجع نفسه، ص165.
[91]بيغوفيتش، هروبي إلى الحرية، مرجع سابق، ص216.
[92]المرجع نفسه، ص276.