القياس المصلحي: دراسة أصولية

       سمير الخال

      في 24 شعبان 1439ه الموافق للعاشر من شهر ماي 2018م، شهدت كلية الآداب والعلوم الانسانية ببني ملال التابعة لجامعة السلطان مولاي سليمان المغربية، مناقشة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، تقدم بها الباحث سمير الخال، عنوانها: “القياس المصلحي: دراسة أصولية” تحت إشراف الأستــاذ الدكتــور عبد الرحمــان العــــضـــراوي.
1ـ إشكالــية البحـــث:
     يأتي اختيار موضوع هذه الأطروحة في سياق معرفي وتاريخي خاص، سمته الغالبة النقاش العلمي الحاد حول تجديد الدين الإسلامي بشكل عام، وتجديد العلوم الإسلامية بشكل خاص، وتجديد علم أصول الفقه بوجه أخص، وتجديد القياس الأصولي بشكل أدق خصوصية.
     ففي سنة 1980م، تمخض رحم الفكر الإسلامي بولادة قيصرية شقت إجماعه، بخروج مولود جديد إلى هذا الكون المعرفي الإسلامي، لكنه لا كباقي الولادات، في صورة صرخة مدوية للآفاق، أطلقها حسن الترابي في كتابه “تجديد أصول الفقه الإسلامي”، من خلال ادعائه قصور القياس المبني على العلة (بشرطيها: ظهورها وانضباطها)، وترشيحه القياس المبني على المصلحة، لفتح آفاق استنباطية واسعة للفقه الإسلامي، خاصة في مجال الحياة العامة: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا.
     ومنذ ذلك الوقت وإلى الآن، سالت أقلام الفكر الإسلامي المعاصر في تحليل دعوى الترابي هذه، بين مؤيد ومعارض لها. إلا أن هذه البحوث التحليلية تظل -في اعتقاد الباحث- غير مستوفية جميع مقتضياتها المعرفية، مما يستدعي دراسة هذه القضية دراسة علمية أكاديمية، من وجهة نظر أصولية، تروم الإجابة عن كافة أسئلتها الأصولية، في صورة أطروحة للدكتوراه.
     وهكذا، يمكن تلخيص الإشكالية العامة لهذه الأطروحة في السؤال التالي: إلى أي حد يمكن اعتبار القياس المصلحي دليلا فقهيا، قد اعتبره الشرع؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية التساؤلاتُ الفرعية التالية:
ـ ما هو التحديد العلمي المضبوط لمفهوم “القياس المصلحي”؟
ـ وما علاقته بالحقول العلمية المجاورة له، كالاجتهاد المصلحي، ومقاصد الشريعة، والاستحسان المصلحي، مما يشكل البعد المصلحي قاسما مشتركا بين جميعها؟
ـ وهل عرفت التجربة العلمية الإسلامية، في بعدها التنظيري الأصولي، هذا القياس المؤسس على المصلحة؟
ـ نفترض أن هذه التجربة العلمية قد شهدت هذا الجنس من الإلحاقات الفقهية، فهل شكل القياس المصلحي -إذن- محل وفاق أم اختلاف بين الأصوليين؟
ـ تبعا لذلك، ما هي المرتكزات العلمية لمواقف الأصوليين من هذا االقياس، وما الراجح من ذلك أصوليا وعلميا وواقعيا؟
ـ وعلى مستوى الفكر الإسلامي المعاصر، كيف تناولت المراجع الأصولية الحديثة هذا القياس المصلحي إعمالا وإهمالا؟
ـ نفترض، مرة ثانية، أن القياس المصلحي أصيل في البنية العلمية الإسلامية، فما علاقة دراسته – إذن – بالنقاش الدائر حاليا حول تجديد علم أصول الفقه؟
ـ وما هي أهم الدراسات التنظيرية الفقهية المعاصرة لهذا القياس المصلحي؟
2ـ دوافــــــع اختيار البحـــث:
ـ فمن الدوافع الذاتية، رغبة الباحث الملحة خدمة قضايا العلم الشرعي، خاصة ما يتعلق بعلم أصول الفقه، وتعميق البحث في القضايا المعاصرة لهذا العلم، عن طريق الرقي بالمشروع العلمي للباحث، واستكمال ما بدأه في رسالة الماستر: “إشكال تجديد علم أصول الفقه: طه جابر العلواني نموذجا”، والتي سجلت أهمية الدعوة إلى تجديد مباحث القياس الأصولي، من خلال اعتبار القياس المصلحي المرشَّح الوحيد لسد الثغرات التشريعية والفقهية المعاصرة؛
ـ ومن الدوافع الموضوعية، اهتمام عامة المصادر والمراجع الأصولية بالقياس المبني على العلة، وذلك باشتراطها فيها شرطي ظهورها وانضباطها، ودعوة المعاصرين إلى اهتمام حقيقي بالقياس المصلحي، وصلاحية ذلك كله لدراسة علمية متأنية ورصينة، تروم بحث وتمحيص إشكالية القياس المصلحي حجيةً ومشروعية، وكذا تنزيلا واقعيا من جهة أخرى.
3ـ القيمة المضافة لهذا العمل والأهــــداف المرجوة منه:
      ومنها: الإسهام في إغناء النقاش الدائر حول قضية تجديد علم أصول الفقه، من خلال مناقشة إشكالية انحصار القياس الأصولي في نوع خاص منه وهو المبني على الوصف الظاهر المنضبط، عن طريق محاولة التنقيب في التراث العلمي الإسلامي على القياس المصلحي تنظيرا أصوليا من جهة، وتطبيقا فقهيا من جهة ثانية.
4ـ الصعوبات وكيفية تجاوزها:
     من الصعوبات التي واجهت الباحث خلال تجربته البحثية هذه: جدة موضوع الأطروحة، وقلة المصادر والمراجع العلمية التي تناولت هذا الموضوع وصعوبة الوصول إليها، ناهيك عن تشتت المادة العلمية المرتبطة بالموضوع، في الثقافة الإسلامية التراثية منها والمعاصرة.
     ولتجاوز ما تقدم من الصعوبات قريبا وغيرها، فقد سلك الباحث مسالك متنوعة؛ بالثقة بالله تعالى أولا، ثم بالذات الباحثة وبمشروعها البحثي، مع مداومة استشارة الأستاذ المشرف فضيلة الدكتور عبد الرحمان العضراوي، والاستفادة من توجيهاته المباركة، الذي كان دائما نعم موجِّه وخير مرشد، بالإضافة إلى البحث الجاد عن المصادر والمراجع التي تخدم الموضوع، بحثا مواصلا ومثمرا.
5ـ مــنـــهجية الـبحــــث:
لقد فرضت إشكالية هذا البحث وطبيعته الخاصة، السير وفق الخطوات المنهجية التالية:
ـ فعلى مستوى المنهج: وذلك بتنوع في المناهج؛ ما بين المنهج التاريخي، والمنهج الوصفي، بالإضافة إلى المنهج التحليلي التفسيري، والمنهج المقارن؛
ـ وعلى مستوى التوثيق: وذلك عن طريق توثيق النصوص الشرعية، والإحالات والاقتباسات العلمية، ونسبتها إلى مظانها؛
ـ وعلى مستوى النقد: وذلك بدراسة وتحليل المادة العلمية بالشكل الذي يتيح إبراز إيجابيات المقولات العلمية وسلبياتها، وفق منهجية موضوعية متجردة عن الأحكام المسبقة، وكذا التعصب المقيت، من خلال نقدين متكاملين: النقد الداخلي، والنقد الخارجي.
6ـ خــــــطة الـبحـــث:
لقد تتبع الباحث خطة العمــل الآتية معالمها:
مقدمــــــة: وذلك من خلال تناول عناصر متنوعة، أبرزها ما يلي:
ـ تحديد الإشكالية قيد الدراسة، وتأطيرها على المستوى المعرفي، والتاريخي، والتداولي المعاصر؛
ـ إبراز دوافع اختيار البحث في هذا الموضوع؛
ـ سرد وتحليل لأهم الكتب، والدراسات، والبحوث الجامعية، التي ناقشت هذا الموضوع؛
ـ الحديث عن القيمة المضافة لهذا العمل، والأهــــداف المرجوة منه؛
ـ تحديد الصعوبات التي واجهت الباحث، مع كيفية تجاوزها؛
ـ عرض منهجية الـبحـث، مع خطته المقترحة.
     وبتأمل عنوان هذا البحث: “القياس المصلحي: دراسة أصولية“، وبالنظر إلى طبيعة المادة العلمية المتعلقة به، وكذا السياق التاريخي والواقعي للإشكالية قيد الدراسة، فإن الباحث قد جعل عناصر هذه الأطروحة منقسمة إلى بابين اثنين متكاملين، يجمع بينها ترابط منطقي واضح:
الباب الأول: القياس المصلحي؛ مقاربة في المفهوم والامتدادات المعرفية
     لما كان البناء المعنوي لهذه الأطروحة مشيدا على أساس مفهوم “القياس المصلحي”، فإن ضرورة البحث العلمي حتمت على الباحث إفراد الباب الأول من بحثه هذا، بدراسة نظرية للمفهوم المركزي فيه، من خلال فصلين اثنين متكاملين:
الفصل الأول: دراسة في مفهوم القياس المصلحي
     قبل البدء بدراسة الإشكالية المدروسة، ونظرا لعلاقتها بالقياس المصلحي موضوعِ الأطروحة، فإن الباحث قد رام – أولا- الدراسة المفهومية للمصطلحين المفتاحين ههنا، وهما “القياس”، و”علم أصول الفقه”، بغية التحديد العلمي المضبوط لمفهوم “القياس الأصولي”، وتمييزه عن أجناس أخرى من القياس (وهي: القياس الشرعي، والقياس الإنساني الكوني، والقياس المنطقي، والقياس النحوي).
     إن هذا التحديد المفهومي الأخير، سيسعف الباحث في خدمته لب الشق النظري من هذه الأطروحة وجوهرها؛ عن طريق ضبط إضافي لمفهوم المصلحة، بغية تحديد دقيق لمفهوم القياس المصلحي بمعناه التركيبي.
الفصل الثاني: علاقة القياس المصلحي بالحقول المعرفية المجاورة له
     وسيرا على نفس المرمى التفسيري لحسن تصورنا لمفهوم القياس المصلحي، باعتباره ركن زاوية هذه الأطروحة، فإن ضرورة البحث العلمي اقتضت تمييز هذا المفهوم المدروس عن غيره من المفاهيم المتقاربة معه معرفيا، والتي تكوّن معه مجالا دلاليا مصلحيا مشتركا، وهي مصطلحات: الاجتهاد المصلحي، ومقاصد الشريعة، والاستحسان المصلحي.
الباب الثاني: القياس المصلحي وتجلياته في الدرس الأصولي
     وإذا وصلنا إلى الشق الثاني من هذه الأطروحة، فمن المنتظر أن يخصص لمقاربة أصولية للقياس المصلحي، من خلال فصلين يكمِّل أحدهما الآخر:
الفصل الأول: القياس المصلحي في التجربة الأصولية التراثية
     تفاديا لآفة الابتداع في الدين، والخروج عن النهج الأصولي للعلماء من الصحابة ومَن بعدهم، باعتبارهما (أي: الابتداع والخروج) حاجزين مانعين من حسن الاستفادة من الدعوة إلى توظيف القياس المصلحي في واقعنا الحديث، وطلبا لتحقيق مقصد الاستمرارية بين فكر الأمة الإسلامي المعاصر، مع تراثها الزاخر وماضيها الخالد، فإن الباحث خصص هذا الفصل، لإبراز وجود هذا القياس في النسق التنظيري الأصولي التراثي.
     ولبلوغه هذا الهدف، فقد قام الباحث كذلك بعرض مذاهب الأصوليين في قضية القياس المصلحي، مع تقديم المرتكزات المعرفية التي استند عليها كل فريق على حدة، بالإضافة إلى تحليل نقدي لهذا الاختلاف الأصولي.       
 الفصل الثاني: القياس المصلحي والدرس الأصولي المعاصر
     واستصحابا لنفس المقصد المشار إليه قريبا، في علاقته بالمحافظة على مقصد الاستمرارية بين ماضي الأمة العلمي والثقافي وحاضرها، وبين فقه سلف الأمة وخلفها، وتجاوزا لآفة الابتداع عن نهج الأئمة الأعلام من المجتهدين، فقد جعل الباحث هذا الفصل مكملا لما سبق، من خلال دراسته إشكالية القياس المصلحي بين الإهمال والإعمال، بغية تحديد أسباب إهمال هذه الأداة المنهجية (أي: القياس المصلحي)، وكذا إبراز دواعي إعمالها، وذلك قصد محاولته ترجيح الراجح من مذاهب الأصوليين علميا، وأصوليا، وواقعيا.
     وحتى لا نظل محتربين في زمان غير زماننا، ولا نبقى كذلك مرتهنين في قضايا علمية وإشكاليات فقهية ربما انتهت صلاحيتها بانتهاء أصحابها، فقد تمت دراسة نماذج من انشغالات المعاصرين على القياس المصلحي، بغية إبراز منهج تعاملها مع هذا النوع من الإلحاق للنظائر الفقهية، بناء على المصلحة.
     وفي السياق ذاته، وتكملة لما سبق قريبا، فسيختم هذا الفصل بإبراز جهود المعاصرين في تقديم دراسات تنظيرية للقياس المصلحي، تستهدف تحديد أهم المحددات النظرية، لسلامة النظر الإلحاقي للنظائر الفقهية المتشابهة، بناء على نفس المصلحة.
خاتمـــة: وقد ذُيِّلت بسرد لأهم الخلاصات والاستنتاجات التي أفرزتها هذه الدراسة، بالإضافة إلى الحديث عن استشراف آفاق البحث المستقبلي في هذا الموضوع.
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة: بغية خدمة الموضوع المدروس بشكل أمثل، فقد رام الباحث إغناء بحثه البيبليوغرافي انطلاقا من تنوع ثنائياته المتقابلة؛ ما بين مصادر إسلامية أصيلة في تكاملها (كتب التفسير، والحديث، والفقه، وأصوله، والمعاجم اللغوية…)، ومراجع معاصرة من جهة، وما بين منتجات فكرية إسلامية وأخرى علمانية من جهة ثانية، وما بين اختلاف صور التأليف الحديث (ما بين كتب، ومقالات منشورة في مجلات وجرائد متخصصة، وأخرى مبثوثة في مواقع إلكترونية) من جهة ثالثة، وبين ما كتب باللغة العربية -وهو الأصل- وما كتب باللغة الفرنسية من جهة رابعة.
7ـ خلاصة البحث:
     وههنا خلاصة ذات بالٍ متميز؛ فالقياس المصلحي هو – إذن – أحد جناحي طائر، يطير به المجتهد (فردا كان أو جماعة)، مرفرفا بجناحيه في سماء النصوص القرآنية والحديثية، باحثا عن أحكام شرعية تلبي الحاجيات الاجتهادية للأفراد والجماعات المسلمة، على أساس أن جناحه الآخر هو القياس المبني على العلة (بشرطيها: ظهور الوصف وانضباطه).
     فإذا أُلغي أحد جناحي هذا الطائر، أو أصيب، أو ضعف عن استيعاب طول طريق السفر العلمي، خاصة مع تغير مناخات البيئات البشرية والواقعية، أصاب المجتهدَ نكوصٌ فكري، وضيق أفق فقهي، ومحدودية الرؤية للوحي (القرآن والسنة) وللكون، بقدر عجر أو إعاقة هذا الجناح أو ذاك أو كليهما.
هذا، والله أعلم،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه،
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى