الأستاذ الدكتور عبدالله بوغوتة
تقديم الأطروحة أمام لجنة المناقشة:
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين، أما قبل:
فأحيي تحية إجلال وتقدير أساتذتي الأفاضل أعضاء هذه اللجنة العلمية الموقرة المكونة من: الدكتور محمد منفعة، والدكتور مصطفى بنعلة، والدكتور لمليح السعيد الذي تجشم عناء السفر للحضور، والدكتور مصطفى نشاط الذي واكب هذا العمل منذ بدايته،
شاكرا لهم الجهود التي بذلوها في تقويم عوج هذا البحث وتصويب خلله، سائلا المولى عز وجل أن يبارك فيما أفادوني به، وما سيفيدونني به خلال هذه الجلسة التي أعتبرها جلسة تعلم، قبل أن تكون جلسة مناقشة.
وإنه لمن لطف الأقدار، أن تناقش هذه الأطروحة، في هذا اليوم المبارك، يوم الجمعة، وفي هذه الأيام المباركة، أيام الحج، فيها يحط الحجاج رحالهم بجوار البيت العتيق.
أما بعد، فتعد الرحلة من أهم الوسائل التي اعتمدها الإنسان منذ القديم، للحصول على المعرفة وتبليغها وتبادلها، واستطلاع عوالم أخرى واكتشافها، والاحتكاك الثقافي والتواصل الحضاري، ونحوها…
ويمكن القول إن تاريخ الرحلة بدأ مع تاريخ الإنسان نفسه، بقصد البحث عن القوت الذي كان سببا رئيسا في حركة البشر وهجراتهم في العصور القديمة من تاريخ الإنسانية، وبقصد البحث عن الدفء والأمن وما احتاجه آنئذ. حتى إن هذين ـ الدافعين الاقتصادي والعسكري ـ قد امتزجا بحوافز الكشف والمعرفة على نحو يصعب تحديده.
ولهذه الأسباب وغيرها حظيت الرحلة باهتمام القدماء والمحدثين على حد سواء، رغم ما كان لها، وما يزال، من جوانب مشينة، مثل التجسس، والتمهيد للعدوان على الآخر، والاحتلال والاستيطان.
وبفعل هذا الاهتمام صارت الرحلة بمنزلة الأم لعلوم إنسانية واجتماعية عدة، نشأت في رحمها، وترعرعت في حجرها، بيد أن أهم إسهامات الرحلة، جاءت من خلال طرح معرفة الإنسان بالإنسان، وإشاعة إدراك وحدة الإنسانية، ماضيًا وحاضرًا ومصيرًا؛ إذ إنها تكشف عن حال يتعرف فيها الإنسان إلى الإنسان، سواء كان ذلك داخل الدائرة الحضارية الواحدة أم داخل الدائرة الإنسانية الكبرى. ومن ثم يصير أكثر استعدادًا للاعتراف بوجود هذا الآخر والتعاون معه. فقد كانت عين الرحّالة دائمًا بمنزلة آلة تصوير دقيقة، تسجل ما حسبه الناس في البلاد التي يزورها غير جدير بالتسجيل والملاحظة، بسبب ألفتهم واعتيادهم عليه، ويعني هذا، أن الرحلة قدمت لنا الكثير من المعلومات التي تعد مصدرًا أوليا، أو مادة خاما، للدراسات التي قامت عليها علوم الجغرافيا والتاريخ، والأثنوجرافيا، وعلم السكان، والأنثروبولوجيا، والفولكلور، فضلاً عن فروع الدراسات الإنسانية والاجتماعية الأخرى.
وباختصار كانت الرحلة هي العمل الرائد لحركة البشر والأفكار والبضائع من ناحية، كما أنها كانت مفيدة للإنسان على المستوى الفردي من ناحية أخرى.
وكانت أيضًا وسيلة لأداء الشعائر الدينية عند شعوب الأرض. فالحج إلى الأماكن المقدسة والمزارات المبجلة، وقبور الصالحين والأولياء والقدّيسين، كان ـ وما يزال ـ من أهم دوافع الرحلة الفردية وحتى الجماعية مع التنبيه على ما في ذلك من شركيات.
تشهد على ذلك رحلة الحج إلى الكعبة قبل الإسلام وبعده، كما تشهد عليه تلك الرحلات العديدة التي قام بها الأوربيون إلى الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين.
ولعل من أهم الأماكن المقدسة التي حظيت باهتمام الرحالة المسلمين، بلاد الحرمين الشريفين، مهبط الوحي ومنشأ الرسالة، لأداء فريضة الحج، وزيارة الأماكن المقدسة هناك، ولقد لقوا في سبيل ذلك الكثير من مشاق السفر وصعوباته التي تحملوها راضين محتسبين.
ومن الثابت أن كثيراً من هؤلاء الرحالة دونوا أخبار أسفارهم وتنقلاتهم؛ فذكروا المناطق والبلدان والمدن التي زاروها، أو مروا بها، والمسافات والمراحل التي اجتازوها، والصعوبات التي واجهوها، ووصفوا البلاد وزرعها والبهائم وضرعها، وجمال الطبيعة أو قساوتها، وقيدوا مشاهداتهم عن صناعتها وتجارتها، ووصفوا حياة السكان؛ فذكروا الطيب من عاداتهم وتقاليدهم بالمديح والثناء، وعابوا ما هم عليهم من العادات السيئة والجفاء.
وإن للمغاربة (أهل المغرب والأندلس) ميلاً إلى الرحلة أكثر من المشارقة؛ لما عرف عنهم من رغبة شديدة في الأخذ عن شيوخ المشرق، وزيارة الأماكن المقدسة، والتَّرْحال لغاية الاستطلاع. فهم من أوائل الرحالة المسلمين الذي دأبوا على تدوين رحلاتهم ومشاهداتهم، فصارت رحلاتهم بحق سجلا تاريخيا حافلا بالمعطيات والإشارات المتنوعة، التي تعطينا صورة دقيقة عن المجتمع الإسلامي عبر التاريخ.
وتتبع جميع ما دونه الرحالة المغاربة عبر التاريخ أمر ينوء بالعصبة أولي القوة، لذلك ارتأيت بتشاور مع أستاذي المشرف حفظه الله ـ أن أقتصر ـ في هذا البحث المتواضع- على مرحلة زمنية محددة، وهي العصر المريني؛ بحيث اعتمدته وعاء زمنيا أكثر منه جغرافيا لرحلات حجية مغربية، تناولت بعضها بالدراسة والتحليل، بغية كشف أوجه التواصل الحضاري الداخلي واكتشاف الذات، وأهم الصور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتربوية والثقافية التي حوتها كتب الرحلات…
ولقد عنونته بالرحلات الحجية المغربية في العصر المريني، فاقتصرت على الرحلات الحجية خاصة دون الحجازية عامة، وأدخلت بعض رحلات الأندلسيين، باعتبار أن المغرب في العصر الوسيط خصوصا، كان في فترة واسعة من الفترات يمثل إقليما واحدا؛ بحيث نجد أن القاضي يمكن أن يكون أصلا من المغرب الأدنى (تونس حاليا) ويتعلم بقرطبة (الأندلس)، ويستقضى بالمغرب الأوسط (تلمسان) ليتحول إلى قضاء إشبيلية، ثم يعين قاضيا بالمغرب الأقصى (فاس) على أن يصل إشعاعه إلى مالي في قلب إفريقيا الغربية، كما ذكر الدكتور عبدالهادي التازي في كتابه “مكة في مائة رحلة ورحلة”. وخير مثال على ذلك ابن خلدون، الذي انطلق في رحلته من إفريقية، وتولى المناصب بالمشرق، وكتب رحلته بفاس، وتولى المناصب بالمغرب والأندلس ليعود إلى مصر التي توفي بها، في العام 808 هـ.
وبناء على ما سبق، اعتمدت ما ذهب إليه الدكتور عبد الهادي التازي؛ أي أن المغرب يتكون من الدول الحالية: ليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا والمغرب إضافة إلى الأندلس. وما ذهب إليه الدكتور أحمد عبد اللطيف حنفي في كتابه “المغاربة والأندلسيون في مصر الإسلامية” في قوله: “ويتسع لفظ المغرب عند كتاب المسلمين ليشمل كذلك الأندلس (إسبانيا والبرتغال حاليا)، قبل انفصاله عن حكم الإسلام، وقد يتسع أيضا ليشمل صقلية (في جنوب إيطاليا)، وكل بقعة حل بها المسلمون في أوربا الغربية، فهناك المغرب الإفريقي وهناك المغرب الأندلسي، ولهذا، فإن كلمة المغرب أو مغاربة تعني أيضا الأندلس وأهله.
ومن الدواعي والأسباب التي جعلتني أختار العصر المريني:
1ــ وفرة المادة المصدرية، وذلك راجع إلى أن هذا العصر هو عصر التدوين بامتياز.
2ــ ازدهار الرحلة الحجية في هذا العصر. والدليل على ذلك أننا إذا أحصينا الرحلات الحجية المغربية المدونة، أو المشار إليها في العصر الوسيط، نجد أن غالبية ما دون منها كان في العصر المريني، ومرد ذلك بالأساس إلى أن المغرب دخل مرحلة الاستقرار بشكل عام، وأعني بالاستقرار اكتمال تشكل الشخصية المغربية. كما أننا نلحظ استقرار مجموعة مما يمكن أن نسميه بـ “الثوابت”؛ كالمذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني على مذهب الجنيد، وكذا النظام السياسي والاجتماعي…
3ــ تميز هذه الفترة الزمنية من تاريخ الأمة الإسلامية بالإنتاج الفكري والعلمي، رغم الضعف والتشرذم السياسيين.
4ــ دور الرحلات الحجازية في تمتين العلاقات الأخوية والدبلوماسية بين أطراف العالم الإسلامي، ولاسيما في القرون السابع والثامن والتاسع للهجرة، التي تميز بضعف الدولة الإسلامية في المشرق.
5ــ مستوى التواصل الداخلي، والتبادل الثقافي والعلمي، وإسهام الرحلات في ذلك…
وتحقيقا لبعض مقاصد التأليف، ورغبة في إبراز القيمة المضافة لهذه الدراسة، حاولت أن أقوم بدراسة نقدية مقارنة لأهم ما كتب في الموضوع، مما تمكنت من الحصول عليه.
ــ فلقد أبدع الأستاذ محمد المنوني رحمه الله، رائد التحقيق والبحث المصدري بالمغرب، في كتابه “من حديث الركب المغربي”، الذي لا يستغني عنه باحث في التاريخ المغربي الوسيط عموما، والرحلات الحجية المغربية خاصة، لكن كما يظهر من العنوان، فالكتاب عني بالحديث عن ركب الحاج المغربي، أي الرحلة الحجية الجماعية المنظمة، ولم يهتم بالرحلات الفردية، ولا بالمحطات والمنازل، والحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والعلمية…
ــ وأما الدكتور عبدالهادي التازي في موسوعته القيمة “مكة في مائة رحلة ورحلة”، فقد اتبع أسلوباً علمياً سلساً عند حديثه عن كل رحّالة من الرحالة المائة الذين أقام دراسته عنهم، واتسم هذا الأسلوب بسهولة العبارة والبساطة في عرض المعلومات دون الدخول في تعقيدات الألفاظ، حيث يذكر نسب الرحالة، وتاريخ ولادته، ونشأته، وتعليمه، وثقافته، ورحلته إلى مكة المكرمة، وطريقته في عرض مشاهداته وأوصافه عنها، وبمن التقى في مكة المكرمة من علمائها ووجهائها ورجالاتها ومدى استفادته منهم، مع تعليقات للمؤلف على رحلة هذا الرحالة أو ذاك، وما أضافه إلى أدب الرحلات، سواء في الأوصاف، أو الأسلوب الذي صيغت وفقه الرحلة، أو المنهج العلمي الذي اتبعه.
كما ذيّل المؤلف كتابه هذا بمسرد للرحلات الإضافية ضم عشرين رحّالة مغربياً تحدث عن كل رحالة من هؤلاء بشكل مقتضب جداً، ثم ألحق بكتابه كشّافاً عاماً للأعلام والمواضع والبلدان، وضمّنه مجموعة من الصور القديمة والخرائط عن مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
ونظرا لخصوصية الكتاب والغرض من تأليفه، فإن التفصيل في بعض الأمور لم يكن مقصودا من طرف شيخنا في هذا المجال، ولذلك فهو دراسة عن هذه الرحلات، وليست دراسة لها وبيان ما تناولته من أحداث ووقائع اقتصادية واجتماعية وسياسية… بل التزمت الدراسة بالعنوان التزاما يقتضيه المنهج العلمي.
ــ أما الدكتور الحسن الشاهدي، في كتابه المتميز “أدب الرحلة بالمغرب في العصر المريني”، الذي يعد من فرائد الدرر في هذا المجال، خصوصا أنه عني بالعصر المريني، وهي دراسة لا يستفيد منه الأدب فحسب؛ بل يستفيد منها تاريخ العلوم، والتاريخ السياسي والحضاري، والكتاب حافل بالتراجم…
ولقد تناول المؤلف الرحلة المغربية بصفة عامة، ونشأتها ودوافعها ومناهجها وأساليبها ومضامينها، وتحدث عن رحلات داخلية، منها رحلات ابن قنفد القسنطيني وأحمد زروق والنميري والكفيف الزرهوني، ورحلات علمية وسياحية، التي اقتصر فيها على رحلات ابن الخطيب والمقري والتجيبي وابن خلدون وعبد الباسط.
وهكذا يتبين لنا أن الدراسة ليست خاصة بالرحلات الحجية، وأنها لم تشمل جميع رحلات العصر المريني، كما أنها لم تعتن بالمراحل والطرق، ومظاهر التواصل…
ــ والدكتور السعيد المليح في كتابه القيم، الموسوم بـ “التواصل الفكري والروحي بين المغرب الأقصى والمشرق الإسلاميين (مصر والحجاز): أسسه ومظاهره”، خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، لما لهما من حساسية في التاريخ الإسلامي، ولقد التفت المؤلف بأسلوب علمي رصين إلى الوقائع والظواهر الفكرية لبيان هذا الأمر، مرتكزا على مصادر قيمة؛ مثل “مقدمة ابن خلدون”، و”صبح الأعشى”، و”العقد الثمين في أخبار البلد الأمين”، و”حسن المحاضرة”، فضلا عن الرحلات الحجازية التي وصفت الحياة الفكرية بواقعية وموضوعية.
ولقد التزمت الدراسة بمكونات العنوان، وجاءت منسجمة معها؛ فركزت على التواصل الفكري والروحي من خلال الرحلات الحجية والسياسية، ولم يعتن بدرجة خاصة بالرحلات الحجية.
ــ وأما الدكتور نواف عبدالعزيز الجحمة (الكويت)، في كتابه المهم، الذي هو في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه في الآداب من جامعة محمد الخامس بالرباط، والذي توجد نسخة منها بخزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحت عنوان: “صورة المشرق العربي في كتابات رحالة الغرب الإسلامي في القرنين السادس والثامن الهجري 12 و14م”، وقد نال بها المؤلف جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي سنة 2006، وطبعتها دار السويدي للنشر والتوزيع بالإمارات، والدار الأهلية للنشر والتوزيع بالأردن، سنة 2008، تحت عنوان: “رحالة الغرب الإسلامي وصورة المشرق العربي من القرن السادس إلى القرن الثامن الهجري (12-14م)”، فهو بمثابة دراسة بانورامية قيمة لصورة المشرق العربي من خلال مدونات الرحلات المغربية والأندلسية التي تتجاوز محتواها كمجرد مذكرات، إلى كونها مصدراً من مصادر التأريخ للمشرق العربى في ثقافاته وحضاراته الإنسانية المختلفة؛ بحيث إن الرحلات المذكورة تعد – من هذه الناحية – تأريخاً لما أهمله التاريخ. ولما كانت هذه الرحلات من إنتاج مغاربة، بينما أحداثها جرت في مسرح بيئات أخرى مشرقية كالحجاز ومصر والشام والعراق وفي المسافات التي تفصل بينها، فإن اهتمام مؤلفيها انصب على معالم جديدة عليهم ومظاهر وأمثلة ومعطيات ونظم وأشخاص من صميم البلدان التي حلوا بها، وهو ما أثرى تجاربهم الشخصية.
ولما كانت قلَّة من المتخصصين والباحثين في التاريخ الوسيط قد تناولوا بالدرس مجالات الحياة في المشرق العربي من خلال الرحلات المغربية والأندلسية، فلا بد من الإشادة هنا بهذا الجهد العلمي المركز الذي تناول رحلات المغاربة والأندلسيين إلى المشرق بالدراسة والتعريف والتحليل واستخلاص النتائج. ومن جريدة الكتاب يمكن للقارئ أن يلاحظ ما اعتمد عليه الدارس من مصادر ذات أصول ومشارب متنوعة، ساعدته على استكشاف وتركيز تلك الصورة التي رسمها الرحالون المغاربة والأندلسيون للمشرق العربي في العصور الوسطى.
ولقد تناول المؤلف ثماني رحلات حجازية، وأفرد جانبا مهما من كتابه للدراسة والتحليل، خاصة ما يتعلق بالحياة السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية والعلمية.
ويعد هذا الكتاب، حسب رأيي، من أهم ما كتب في هذا المجال، لكنه اهتم بصورة المشرق كما يدل على ذلك العنوان، وهو لم يلتزم بالتحقيب وفق الدول الحاكمة المتعاقبة، رغم أن الفترة هي العصر المريني، وكذلك على مستوى الرحلات كان انتقائيا، بحيث اقتصر على بعضها، وأغفل أخرى دون الإشارة إلى السبب.
وأما الدكتورة عواطف محمد يوسف نواب، في كتابها “الرحلات المغربية والأندلسية، مصدر من مصادر تاريخ الحجاز في القرنين السابع والثامن الهجريين ـ دراسة تحليلية مقارنة ـ”، الذي هو في أصله أطروحة حصلت المؤلفة بموجبها على درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي الحديث من كلية الشريعة بجامعة أم القرى عام 1420هـ، ونظرا لأصالة موضوع الكتاب وأهميته، فقد حصل على جائزة كتاب العام 1430هـ التي يقدّمها بنك الرياض. وقد بذلت المؤلفة جهداً كبيراً وواضحاً في استقصاء كتب الرحلات المغربية إلى الحجاز خلال قرنين هجريين مهمين في تاريخ الجزيرة العربية (11-12هـ)، وكانت تلك الرحلات فعلاً مصدراً مهماً من مصادر تاريخ الحجاز يكشف عن كثير من الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية للمنطقة؛ حينما تدرس في وحدة موضوعية واحدة، وقد كشف الكتاب عن تلك الحركة العلمية الزاخرة في الحجاز خلال ذينك القرنين، رغم ما اعتورهما من اضطرابات سياسية لم تكن جديدة على الحجاز طوال أزمانه، ويعدّ هذا الكتاب إضافة مهمة في كتب التاريخ المكي خصوصاً، والحجازي عموماً.
ولقد عرّفت المؤلفة بأشهر الرحلات المغربية (محمد بن أحمد القيسي، وعبد الله بن محمد العياشي، ومحمد بن علي الرافعي، وأحمد بن عبد القادر القادري، ومحمد بن أبي علي اليوسي، وأحمد بن أبي عبد الله الدرعي، وعبد الرحمن بن أبي القاسم الغنامي، ومحمد بن أحمد الحضيكي، وعبد الله بن الصغير الدرعي، عبد المجيد بن علي المنالي)، واستعرضت منهج الكتابة التاريخية عند الرحالة المغاربة، وذكرت الأحوال السياسية والنشاط البشري والأحوال الاجتماعية والحركة العلمية في الحجاز من خلال كتب الرحلات المغربية، وأشهر العلماء وأهم مؤلفاتهم، والمشاهد العمرانية والآثار في الحجاز من خلال كتب الرحلات المغربية.
لكن ما يلاحظ على هذه الدراسة أنها لم تستحضر جميع الرحلات المكتوبة والمتوفرة، بل اقتصرت المؤلفة على سبعٍ فقط، وأغفلت رحلات أخرى؛ كرحلة ابن خلدون مثلا، وذكرت رحلة ابن جبير التي تعد، في الحقيقة، من رحلات القرن السادس، وإن كان ابن جبير قد توفي عام 614هـ.
وبناء عليه، فالدراسة التي نحن بصددها تعد مكملة ومتممة ومجمعة؛ فهي تكمل بعض الدراسات التي لم تتناول عددا من الرحلات الحجازية، وهي مجمعة لأنها جمعت بعض ما تناثر في غيرها من الكتابات؛ من قبيل مظاهر التواصل الفكري والروحي والسياسي والعمراني… إضافة إلى أنني حَرَصت على أن تكون المصادر الأساسية لبيان مظاهر التواصل بين المغرب والمشرق هي متون الرحلات الحجية في العصر المريني، مع استحضار ما كتب عن الوقائع والأحداث والملاحظات الواردة بشأنها في كتب التاريخ العام، أو بعض المصادر غير الإرادية ككتب النوازل والأدب… وأرجو صادقا أن تشكل هذه الدراسة إضافة نوعية في هذا المجال.
أما فيما يخص المنهج المعتمد، فلقد اتبعت في هذه الدراسة المنهج التحليلي، مع الاعتماد على المنهج الوصفي، واللجوء إلى مقارنة نصوص الرحلات المعنية بالدراسة، أو غيرها إن اقتضت الحاجة إلى ذلك، للوقوف على وجهات نظر الرحالين وخلفياتهم الفكرية والثقافية، التي توجه نظرتهم إلى مسار الرحلة مكانا وإنسانا.
ويقوم منهجي عموما في هذه الدراسة على ثلاث مراحل كبرى، وهي:
ــ المرحلة الأولى: جمع المادة العملية؛ بحيث استقريْتُ جملة من الكتابات السابقة في هذا المجال، لتحديد المتون التي سأعتمدها أساسا للدراسة، والتعرف إلى الأبحاث والدراسات السابقة.
وقد تبين لي بعد البحث والتنقيب أن أشتغل على إحدى عشرة رحلة وهي كالآتي:
رحلة ابن سعيد المغربي الأندلسي، ورحلة ابن رشيد السبتي، ورحلة العبدري، ورحلة التجيبي، ورحلة أبي يعقوب البادسي، ورحلة ابن جابر الوادي آشي، ورحلة ابن بطوطة، ورحلة البلوي، ورحلة ابن خلدون، ورحلة القلصادي، ورحلة ابن الصباح.
ولقد جمعت من هذه الرحلات، كل المعطيات والإشارات التي تمكنني من القيام بدراسة كل رحلة على حدة، دراسة موضوعاتية أستثمر فيها ما ورد في متون هذه الرحلات وغيرها…
ــ المرحلة الثانية: التصنيف والترتيب: وبعد جمع متون الرحلات الآنف ذكرها قمت بترتيبها ودراستها باعتبار التراتبية الزمنية، كما قمت في الآن ذاته بتصنيف ما استخرجته من الإشارات والمعطيات تصنيفا موضوعيا أتناول فيه ما يتعلق بمظاهر التواصل الديني والفكري والثقافي والعمراني والاجتماعي والسياسي…
ــ المرحلة الثالثة: الدراسة والتحليل، وهذه المرحلة أخذت مني وقتا وجهدا مضاعفين، قمت فيها باستنطاق النصوص ومقارنتها من أجل رسم صورة عن المجتمع الإسلامي في تلك المرحلة، من الناحية الدينية والاجتماعية والسياسية والعلمية، والفكرية والثقافية والعمرانية والسكانية… بحيث أجمع ما كتب في الموضوع الواحد في الرحلات كلها إن أمكن، وأقارنها بما ورد في غير هذه المتون، سواء في مصادر التاريخ العام، أو مصادر أخرى ككتب التراجم والنوازل وغيرها… وقد استعنت في ذلك بكتابات من سبقني إلى هذا الموضوع.
أما فيما يتعلق بالتصميم، فقد ارتأيت أن أقسم البحث إلى مقدمة، ومدخل عام، وبابين اثنين، وخاتمة.
فأما المقدمة، فقد استهللتها بتأطير عام، أشرت فيه إلى أهمية الموضوع، والأسباب والدواعي التي جعلتني أختار البحث في الرحلة الحجية المغربية في العصر المريني، ثم حاولت أن أبين المنهج الذي اعتمدته، ومراحله الكبرى. وبعد ذلك ذكرت المادة المصدرية والمرجعية التي اعتمدت عليها بشكل أساس، وحاولت أن أبين القيمة المضافة التي جاء بها البحث في هذا الموضوع، إبرازا للجدوى، وختمت بالحديث عن الصعوبات التي واجهتني.
وأما المدخل العام، فخصصته للمصطلحات الأساسية التي وردت في العنوان، ومعانيها ومفاهيمها؛ من قبيل مصطلحات: الرحلة والحج والرحلة الحجية وركب الحج والمغرب والعصر المريني.
والباب الأول عنونته بـ”الرحلات والرحالون في العصر المريني”، وقسمته إلى تمهيد وثلاثة فصول؛ خصصت التمهيد للرحلات الحجية المغربية في العصر ما قبل المريني، واقتصرت في ذلك على ذكر بعض خصائص هذه الرحلات، والإشارة، على سبيل المثال وليس الحصر، إلى أربع رحلات؛ وهي رحلة ابن العربي، ورحلة الإدريسي، ورحلة ابن جبير، ثم ختمت برحلة أبي الوليد الباجي.
وأما الفصل الأول فتحدثت فيه عن الوضعية العامة في العصر المريني، وهو دراسة لأهم الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمغرب الإسلامي في هذا العصر، وكذا أرض الحجاز وطريق الحج، مع تخصيص مبحث للأوضاع بالعالم غير الإسلامي الذي له ارتباط بطريق الحج، لاسيما الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.
وخصصت الفصل الثاني لكشاف الرحلات والرحالين في العصر المريني، في مبحثين.
أما الفصل الثالث فأفردْتُه للتعريف بنماذج الرحلات والرحالين في العصر المريني: تناولت في المبحث الأول منه الحديث عن ركب الحج المغربي في العصر المريني، أما المبحث الثاني فبسطت فيه الكلام عن أهم الرحلات المدونة في العصر المريني، معتمدا في تقديم كل رحلة منهجية موحدة تقريبا؛ بحيث أعرف في البداية بصاحب الرحلة من حيث نسبه وحياته، ومكانته العلمية، فشيوخه وتلاميذه، ومؤلفاته، وأهم من التقى بهم في رحلته، ثم أعرض في المبحث الثاني للتعريف بالرحلة، ومضمونها، وأهميتها ومنهج صاحبها، وطريقها مع ذكر أهم ما يمكن استخلاصه.
أما الباب الثاني فخصصته لدراسة الرحلات الحجية المغربية في العصر المريني وتحليلها، وقسمته إلى خمسة فصول.
تناولت في الفصل الأول نشأة الرحلات المغربية وازدهارها ثم فتورها في العصر المريني، أما الفصل الثاني فذكرت فيه بواعث الرحلة الحجية المغربية وأنواعها، والفصل الثالث خصصته للحديث عن طرق الحج وأهم مشاهدات الرحالة فيها؛ حيث تناولت مسارات طرق الحج عامة، وخصوصا الطريقين المغربي الشامي، والمغربي المصري بمساريه البري والبحري، ثم ذكرت في مبحث آخر الصعوبات والمخاطر التي واجهت الحجاج آنئذ، وفي المبحث السادس تحدثت عن عناية الدولة المرينية بطريق الحج. أما الفصل الرابع فنقلت فيه بعضا من صور مجتمع طريق الرحلات الحجية المغربية؛ فتحدثت عن الحالة الدينية والحياة العلمية والفكرية والحياة السياسية والإدارية والاقتصادية، وخصصت مبحثا للكلام عن الأزمات والكوارث والأوبئة في ذلك العصر من خلال كتب الرحلة. والفصل الخامس – وهو الأخير – خصصته للحديث عن مظاهر التواصل الحضاري من خلال الرحلات الحجية المغربية في العصر المريني؛ كمظاهر التواصل العلمي والثقافي، ومظاهر التواصل الاجتماعي، ومظاهر التواصل الاقتصادي، ومظاهر التواصل السياسي، ومظاهر التواصل العمراني.
وختمت بحثي بخلاصات واستنتاجات توصلت إليها، ثم أفصحت عقبها عن الآمال التي علقتها على هذه الدراسة، والتحقق منها، وما زال في طي المطلوب عمله.
وفيما يتعلق بالمادة المصدرية والمرجعية، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام أساسية. فأما القسم الأول فهو خاص بالمصادر والمراجع التي اعتمدتها فيما يخص متون الرحلات والتعريف بالرحالة، وأما القسم الثاني فهو خاص بكتب التاريخ والأدب والتراجم والأنساب والطبقات والنوازل…، والقسم الثالث يتضمن الدراسات السابقة التي عنيت بهذا الموضوع.
أما أهم الصعوبات التي واجهتني فتتمثل في:
1ــ الإكراه الزمني وسعة المتن.
2ــ غياب بعض المظان الأساسية أو بعض أجزائها، كرحلة ابن رشيد نموذجا.
3ــ غنى المتون المدروسة بمعلومات ومعطيات متنوعة، مما يحتم الإلمام بعلوم أخرى لفهمها واستيعابها، كالفقه والحديث، والجغرافيا والأنتروبولوجيا… وغير ذلك.
4ــ اختلاف نمط وأسلوب الكتابة من رحالة لآخر.
5ــ قلة الدراسات، ونَدْرة المعلومات بالنسبة لبعض الرحلات.
وإن من أهم ما يمكن تسجيله من خلاصات واستنتاجات بعد الانتهاء من هذا البحث ما يلي:
1ــ تميز العصر المريني عن غيره من العصور التي قبله بتشكل الخصوصية المغربية، على مستويات متعددة؛ عقديا وعباداتيا وسياسيا واجتماعيا… ومن جهة أخرى بالعطاء الفكري والعلمي وتنوعه.
2ــ تشجيع الأمراء المرينيين للرحلة الحجازية يدخل في السياق العام الذي طبع عصرهم.
3ــ التأكيد على أن الرحلات الحجازية تشكل قناة حقيقية للتواصل بين غرب العالم الإسلامي وشرقه… بحيث تم من خلالها نقل متبادل للتراث العلمي والثقافي والعمراني…
4ــ قيمة كتب الرحلات تتمثل في أنها تمدنا بصورة حقيقة لشهود العيان عن الأحوال السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية للبلدان التي يزورونها مما لا نجده في الكتب المتخصصة المفردة لهذه الموضوعات- إنْ وُجِدَتْ –، (وقديما قالوا: ليس من رأى كمن سمع) بالإضافة إلى أنها تمثل زاداً وفيراً لتراجم الكثير من العلماء الذين غفلت عنهم كتب التراجم، أو لم توفهم حقهم من العناية.
5ــ للرحلات أهميتها أيضا فيما احتضنته من تراجم لأعلام التقى بهم الرحالون وخبروا أحوالهم واطلعوا على ظروف حياتهم، مما أضفى على هذه التراجم طابعا معينا، وخصوصية مميزة، تختلف بها عما تضمه كتب التراجم والطبقات؛ إذ الرحالة يستقي معلوماته من الاتصال المباشر به، والاحتكاك بالمترجم له في مجالس الدرس، أو في البيت، أو في المسجد، أو النزهة، أو الشارع… وبذلك لم تكن إفادته في هذه الترجمة مقتصرة على الجانب العملي، وإنما يتعمق في الشخصية فيفيدنا بما له علاقة بنَواحٍ عقلية ونفسية ومزاجية…
6ــ معظم الرحالة المغاربة لم يرحلوا إلى الشرق إلا بعد اكتمال ثقافتهم، وإلمامهم بفنون مختلفة من العلوم؛ مما يؤكد أن ذهابهم إلى الشرق لم يكن بهدف التلقي والأخذ عن الشيوخ. فهذا الإمام محمد بن عمران بن موسى الحسيني، الشهير بالكركي، المتوفى بمصر سنة 688هـ/ 1289م أو السنة التي بعدها، “قدم من المغرب فقيها بمذهب مالك [1]، وكان قد تفقه فيه على أبي محمد صالح فقيه المغرب في وقته، ولذلك “انتهت إليه الرياسة بالديار المصرية وعليه مدار الفتيا في زماننا”، كما قال ابن رشيد [2]. وهذا مروان بن عبد الملك بن سنجون اللواتي الطنجي قال: “لم أدخل إلى الشرق حتى حفظت أربعة وثلاثين ألف بيت من أشعار الجاهلية”[3]. فإذا كان هذا الإلمام الواسع بالتراث الأدبي، والحفظ الدقيق للشعر الجاهلي، فما عسى أن يكون قد حفظ معها من العلوم الأخرى؟ كما أشارت الرحلات إلى كثير من المواقف التي أبدى فيها الرحالة المغربي آراءه التي كثيرا ما تخلق أصداء الإِعجاب والتقدير. والأمثلة كثيرة في رحلات ابن رشيد، والعبدري، والتجيبي، وابن خلدون على الخصوص.
ومن هنا، لم تكن الرحلة إلى المشرق تتوخى – دائما – التلمذة والدرس والطلب، وإنما كانت من أجل أهداف وغايات أخرى؛ كزيارة المراكز الثقافية، وجلب الكتب، ولقاء العلماء ومجالستهم، والحصول على الإجازات، وبناء الشخصية العلمية، أو القيام بسفارة لدى ملوك مصر خاصة، أو حمل المصاحف إلى الأماكن المقدسة هناك.
7ــ كان الاحترام الذي يقابل به الرحالة عموما ناتجا في الغالب عن إثباتِ المغاربة تفوقَهم في النقاش، وقدرتِهم في المناظرة، وتمكنِهم من الحفظ والتمثل والاستدلال بالشواهد والأمثلة. فأبو القاسم عبد العزيز العبدوسي (ت837هـ-1433م) أعجب التونسيون بعلمه وتسابقوا إلى حلقات دروسه، وتَبَيَّنُوا إتقانه لكل من علوم الشريعة والقواعد العربية فازداد عجبهم، واشتدَّ إقبالهم على دروسه. والشيء نفسُه وقع لابن رشيد السبتي في مصر [4]، وهذا ابن بطوطة الذي عين قاضيا على الركب الحجازي بعد خروجه من تونس، ولم يكن قد مضى على الشروع في رحلته إلا بضعة أشهر [5]. وكذلك تقديم الشيخ أبي عبد الله المرشدي (وهو من كبار الأولياء المكاشفين – كما يقول-) له ليؤم بهم في الصلاة، ولم يكن قد تجاوز في رحلته مصر [6]. وكذا ملاحظته اللحن على خطيب البصرة، واعتباره ذلك مظهرا لتغير الأحوال، وتقلب الأزمان. فالمدينة التي انتهت إلى أهلها رياسة النحو يلحن خطيبها “لحنا كثيرا جليا.[7]
ومن هنا، فلا غرابة إذا وجدنا أن المشارقة كانوا يتسابقون إلى الحصول على الإجازة من المغاربة، فهذا ضياء الدين عيسى بن يحيى الأنصاري السبتي كان مقصودا بالقاهرة، وهو الذي أَنشد في الإِجازة العامة فقال:
أَجَزْتُ لمن سَمَّى بها ما يجوز لي روايتـه بالشرط في كل مسنــد
8ــ تعد الرحلات مصدرا فريدا لكثير من النصوص الأدبية شعراً ونثراً. فلقد انفردت برواية كثير من النصوص، وهكذا فأغلب الرحالين حرَصوا على أن تَضُمَّ رحلاتهم النوادر، كما أنهم أدرجوا في رحلاتهم كثيرا من قصائدهم الشعرية ورسائلهم النثرية مما له علاقة بظروف الرحلة، مما جعل الرحلات ذات أهمية خاصة، فأكثر الرحالين لم تعرف لهم أشعار أو كتابات إلا من خلال ما ورد في رحلاتهم. ومن أجل ذلك اعْتُبِرَتْ الرحلات بمثابة دواوين لأصحابها، ومجاميع ضمت ألوانا من إنتاج علماء العصر وأدبائه.
9ــ كتب الرحلات مصدر مهم أيضا لدراسة الحركة النقدية، فمن خلال ما صدر عن الرحالين من آراء نقدية وتصويبات وتعليقات تَكَوَّنَ لدينا رأي واضح عن الاتجاهات والمقاييس النقدية التي ترجع إلى مقاييس ذوقية، ولغوية، وبلاغية، وعروضية، وتكاملية…
وبجانب الهدف الرئيس للرحلة في طلب العلم، كانت تتحقق أهداف أخرى في التعرف إلى أحوال البلاد السياسية ومراكز الحياة العلمية، ومشاهدة الطرق والمسالك وحياة الناس من عادات وأخلاق ونحوها.
10ــ ففي كتب الرحلات أمثلة كثيرة لسيادة النفحة الروحية وتمكنها من نفوس الناس، شعبيين ورسميين؛ وهكذا كثرت الرحلات الزيارية والرحلات السياحية، من أجل ملازمة الشيخ وما إلى ذلك، بل إن هناك مؤتمرات يقصدها المتصوفة؛ من نحوِ ذلك الذي حضره ابن قنفد بدكالة مع من لا يحصى من الفضلاء. ومن مظاهر هيمنة الناحية الروحية، لم تَخْلُ رحْلَة من الحديث عن كرامات الصلحاء والأولياء والشيوخ، وروايات سند خرقة التصوف، وإثبات الورد أو حزب الشيخ… مع التنبيه على ما في ذلك من شركيات.
11ــ وفي الرحلات بيان رواج التجارة في فترات مختلفة من عصور دول الإسلام؛ بحيث كانت تجارة تربط الأقاليم الإسلامية بعضها ببعض داخل حدود الدولة، وتجارة أخرى تجاوزت تلك الحدود وصل بها التجار أواسط إفريقيا، وشمالي شرقي أوروبا، وجنوب شرقي آسيا، وهو ما نصطلح عليه اليوم بالتجارة الدولية.
والحق أن العرب قد عرفوا التجارة الخارجية مع الأقوام المجاورة قبل الإسلام، ولعبت بلادهم دور الوسيط في التبادل التجاري بين الهند وإفريقيا الشرقية من ناحية، وبلاد دجلة والفرات، وإمبراطورية الروم من ناحية أخرى. ولما جاء الإسلام انضافت دوافع ومحفزات جديدة شجعت التجار، ونَمَتْ التجارة على إثر ذلك.
وقد اقتضت الأوضاع التجارية أن يضع الجغرافيون كتب الدليل لهذه الرحلات؛ فذكرت الأماكن وموارد المياه والجبال، وبينت المسافات وأخلاق الأمم وعادات الناس وما عندهم من السلع والمصنوعات والمحاصيل الزراعية، وما اعتادوه من المكاييل والموازين والمقاييس. وجاب التجار البلدان، ونقلوا ما سمعوه من أخبار، وما شاهدوه من أحوال الناس، إلا أنهم ـ فيما وصل إلينا من رواياتهم ـ لم يتحَرَّوْا الحقيقة دائماً، فجاءت بعض أخبارهم مزيجاً من الحقيقة والخيال.
12ــ في الجانب الاجتماعي حفلت كتب الرحلات بالأخبار الاجتماعية؛ كعادات السكان وأخلاقهم وتقاليدهم في حياتهم اليومية، ونشاطهم الاقتصادي ومستواهم الثقافي وأزيائهم، وأوضاعهم السياسية؛ كذكر الحروب والفتن، ونوع الحكم السائد في البلاد، ومراسيم البلاطات الأجنبية، وأثر ذلك على السكان. وتجد أمثلة لذلك في رحلة ابن بطوطة عما أصاب الناس من خنوع تحت حكم السلاطين المغول في العراق، وكيف أنَّ ذلك صرفهم إلى شؤون الدين، فصاروا أكثر اهتماماً بالخلافات المذهبية على زمنه. ومما ساعد الرَّحَّالَة في تناولهم للظواهر الاجتماعية في البلدان الذي زاروها، تَعَدُّدُ نواحي ثقافتهم وقوة ملاحظاتهم التي تدعو إلى الإعجاب.
وقد شجع انتشار تلك المعلومات على الهجرة، والاختلاف بين المجتمعات، ومعرفة كل مجتمع للمجتمعات الأخرى، هذا إلى جانب أن الرحلات كانت سبباً في تقدم المجتمعات المتأخرة بما نقل إليها من علوم ومعارف المجتمعات المتقدمة.
ولم يقتصر الأمر على عملية الامتزاج الاجتماعي والثقافي، بل عرف خيرات كل بلد للآخر؛ إذ حفلت كتابات الرحالة بالمعلومات الاقتصادية: كثروات البلدان المعدنية وإِنتاجها الزراعي، والحرف الصناعية، والأطعمة والأغذية، وأنواع السلع والأسواق التجارية. وبيَّنَتْ المسافات وأوصاف الطرق والخانات بين الأقاليم والصعوبات التي واجهها الرحالة. وذلك في قالب أدبي يفيض بالحيوية والنشاط. فأفادت الرحلات المجتمعات الإسلامية، ووسَّعَتْ مدارك الناس.
13ــ لم يقتصر اهتمام الرحالة على ذكر جوانب حياة الإنسان الاجتماعية والدينية والاقتصادية، بل نجد أن بعضهم؛ كالقزويني (المتوفَّى عام 682هـ) قد عُنِيَ بسرد عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات، ونبه إلى الاهتمام بدراسة الحيوانات وخصائصها…
وبعد، فإن الرحالة من أسلافنا قد أفادوا مجتمعاتهم، وأَدَّوْا دورهم، وجمعوا معلومات قيمة عن البلدان التي زاروها. فحدث الاتِّصَال والتآلف بين الأفراد والجماعات في العالم الإسلامي، وما أَحْرَانا اليوم أن نحذوَ حذوهم ونقتدي بفعلهم، لاسيما وأن صعوبات رحلات اليوم لا تقارن بمثيلاتها بالأمس؛ فنستفيد معرفةً وتجاربَ جديدةً، وتوطد صلات المحبة والإِخاء في بلادنا الإسلامية، التي لا يعرف بعضنا سوى أسمائها.
ولقد تنوعت الرحلات الحجازية في طريقها، وطريقتها، ومنهج تدوينها، ومحتوياتها، لكنها توحدت في الدوافع التي جعلت أصحابها يقومون بها، وأهمها أداء الفريضة، وزيارة المسجد النبوي والبقاع المقدسة.
إن هذا التنوع جعلها تتكامل فيما بينها، حيث لا يمكن لنا أن نستغني عن أي واحدة منها. فمثلا لا يمكن قراءة رحلات العبدري أو ابن خلدون أو ابن رشيد دون الرجوع إلى رحلة ابن جبير.
كل هذه نماذجُ من الرحلة عند المسلمين، تختلف وجهاتها، ومقاصدها ودوافعها وطرقها وكيفيتها… لكن تبقى شاهدة على رقي هذه الأمة وتحضرها، وتدل دلالة واضحة على أن فلسفة الوجود والحياة والحرية مختلفة في الثقافة الإسلامية عن غيرها من الحضارات…
حاولت في هذه الدراسة المتواضعة، التأكيد على أن الرحلة الحجية المغربية تشكل “وثيقة حضارية ثقافية، ربطت بين المشرق والمغرب الإسلاميين، من خلال تنقلات الرحالة في كتابه بين عوالم عاش فيها واندمج مع سكانها وتأثر بهم وبعاداتهم، وبذلك سجل كل المعلومات وكل الدقائق التي عرفها في كتاباته ونقلها إلى مجتمعه ليربط بين شعوب وحضارات وثقافات في لحظات مختلفة، وفي ظروف متمايزة، كما أنه بطبيعة الحال، سينقل ثقافة مجتمعه وحضارته إلى كل البلاد التي أقام بها ورحل إليها أو اتخذا محطة استراحة في طريقه إلى مبتغاه، مبينا أوجه التقارب والاختلاف، معتزا بانتمائه إلى بلده وبقدرته على ربط جسر للتفاعل والتلاقح والتواصل بين الحضارات في المشرق والمغرب…
ولا أخفي أن طموحي في بداية الأمر كان كبيرا؛ بحيث كنت عازما على تغطية الفترة الوسيطية، لكن لما بدأت خوض غمار البحث تبين لي أن المجال الزمني المتاح لي قد لا يسعفني، فاقتصرت على العصر المريني الذي يزخر بشكل لافت للنظر، بالمادة المصدرة، سواء فيما يتعلق بنصوص الرحلات، أو كتب التاريخ العام، أو كتب أخرى التي تعتبر مكملة للمعلومة بشكل دقيق وإن كانت هذه المصادر غير إرادية.
ولعل أهم ما خلصت إليه، هو أنني ملزم بإتمام هذا العمل –إن شاء الله تعالى-، وفاء لما قطعته على نفسي، حتى أحقق مجموعة من الأهداف التي رسمتها في البداية، للإجابة عن السؤال الإشكالي، وهو:
ما مدى أهمية الرحلات الحجية المغربية في العصر المريني ودورها في تحقيق التواصل بكل مظاهره بين المغرب والمشرق الإسلاميين، وهل المعلومات والمعارف الواردة في هذه الرحلات، صادقة وشاملة بالمقارنة مع ما كتب عموما عن هذه المرحلة؟
وإن كنت قد حققت جزءا مهما مما كنت آمله، إلا أن الآمال أكبر، وطالب العلم ملزم بالنظر إلى معالي الغايات، فأسأل الله الكريم، أن يوفقني فيما بقي من العمر، أن أثري هذا البحث بما هو قمين بالإسهام النوعي في مجاله.
ومما آمل أن أحققه أو يحققه غيري في هذا المجال، استكمال جمع المتون الرحلية وتصنيفها ودراستها ومقارنة ما ورد فيها بما كتب في كتب التاريخ العام، وكتب النوازل والتراجم والطبقات والأدب والفقه، في أفق مشروع الجامع التاريخي للرحلة الحجية المغربية.
قد أكون قصرت في هذه الدراسة، وهذا أمر وارد لا محالة، لكنها تبقى محاولة على درب البحث العلمي، والتنقيب في تاريخنا المجيد، للإسهام في بناء مستقبل تلـيد.
وختاما، أتوجّه بالشكر والحمد إلى الله سبحانه وتعالى الذي يسّر لي سبل العلم، وأمدّني بالعافية والصحة والصبر حتى أتممت هذا العمل، فما كان فيه من صواب فبفضله ورحمته، وما كان فيه من خطأ فهو من قصور البشر وعجزهم.
ثـم أشكر أستاذي المشرف الدكتور مصطفى نشاط أوّلاً لإشرافه على هذا العمل، وثانياً لما بذله من وقت في رعايته وتعهّده، وثالثاً لحسن معاملته وصبره على تقصيري، والتماسه لي العذر فيه، وأسأل الله تعالى أن يجزيه عنِّي خير الجزاء في الدنيا والآخرة.
وأشكر جزيل الشكر أساتذتي الأفاضل الذين شرفوني بقبول مناقشة هذه الأطروحة، سائلا الله لهم الثواب والثناء الحسن.
وأشكر أساتذة وحدة التكوين والبحث في “التواصل الحضاري، وكذلك وحدة “الديموغرافيا التاريخية، بما قدّموه لي ولزملائي في هذه الوحدة من معرفة، وتوجيه، وفرص بحث.
وأشكر كل من ساعدني في التفكير في هذا البحث، وناقش معي بعض فصوله، وأفكاره، وكل من يسّر لي الوقت لكتابته، وأعانني على إخراجه في هذه الحلة المقبولة إن شاء الله، وأخصّ بالذكر:
أفراد عائلتي الكبيرة والصغيرة الذين أخذت من وقتهم، وفرّطت في حقهم: زوجتي الغالية وأبنائي وأحفادي البررة، وكل أفرادي أسرتي، دون أنسى روح والدي الكريمين.
وزملائي وأصدقائي الذين أعانوني في هذا البحث كل حسب وقته وطاقته.
والله الكريم أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الديباج ص 332، رحلة ابن رشيد 5/68أ.
2 – رحلة ابن رشيد 5/69ب.
3 – معجم البلدان 4/ 43، الأدب المغربي، ص119.
4- رحلة ابن رشيد 3/12، وأدب الرحلة بالمغرب، 1/86-87.
5 – الرحلة، ص 14.
6 – نفسه، ص 25.
7 – نفسه، ص 182.
زر الذهاب إلى الأعلى