الدرس الأصولي وظائف منهجية وآفاق علمية (الأجزاء الثلاثة)
الدكتور عبد العالي عباسي
حاوره: الدكتور مصطفى فاتيحي والدكتور محمد قاسمي.
ولمناقشة ذلك يسرنا أن نحاور الدكتور عبد العالي عباسي أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
من أعماله:
1ــ الكتب العلمية:
ــ قصد الإفهام في أصول الفقه الشاطبي نموذجا، الطبعة الأولى، 2015، مطبعة قرطبة، أكادير، المغرب.
ــ نحو عقل تكاملي مساهمة في فقه التحضر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2015، مطبعة قرطبة، أكادير، المغرب.
2ــ مقالات منشورة في مجلات:
ــ مقال بعنوان: “المنهج الأصولي في إفهام الخطاب”، نشر مجلة الإحياء تحت إشراف الرابطة المحمدية للعلماء العددان 37-38.
ــ مقال بعنوان: “الوظيفة الإفهامية للسياق في أصول الفقه”، مجلة الإحياء تحت إشراف الرابطة المحمدية للعلماء العددان 41-42.
ــ مقال بعنوان: “تطور الفكر الأصولي دراسة في التراث الإسلامي”، مجلة الإحياء تحت إشراف الرابطة المحمدية للعلماء العددان 43- 44.
ــ مقال بعنوان: “تحت سجال العقل الوضعي والعقل التراثي” العدد 17-2017. مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال.
3ــ مقالات منشورة في منابر إلكترونية منها:
ــ مقال بعنوان “الفكر المقاصدي وفقه الأولويات” مركز دراسات المعرفة والحضارة 2020م.
ــ مقال بعنوان “التداول اللغوي بين الأصوليين واللغويين”. مركز دراسات المعرفة والحضارة 2019م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الأول
س1: هناك من يرى أن أصول الفقه هو فلسفة المسلمين المأصولة، فما المقصود بذلك؟
الحمد لله واهب النعم ومجزل العطايا والمنن، أحمده حمدا كثيرا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أتقدم بوافر الشكر وعظيم الثناء إلى الدكتورين: مصطفى فاتيحي ومحمد قاسمي على استضافتي في هذا الحوار حول أصول الفقه وقضاياه المنهجية والمعرفية، وأقول وبالله التوفيق.
تجدر الإشارة بداية إلى أن حيرة المسلمين وقلقهم الفكري في بناء المعرفة، كان دافعا إلى تحري المنهج الأسلم في إقامة المستند، الذي على أساسه تشيد نظرية المعرفة في حقولها الدينية والإنسانية والكونية والسننية. ولا شك أن المرجع الأول في ذلك هو الدليل، إذ عليه سيؤسسون صرح معرفتهم، سواء تعلق الأمر باستنباط الحكم الشرعي وتحرير فهمه، أو تعلق بتأصيل المعرفة، أو إقامة المنهج وما يتعلق به من وظائف استدلالية واستنباطية وبرهانية وقياسية وترجيحية.
ولا ريب أن وظيفة كهذه ليست باليسيرة، ولا يستقيم أن يكون مدخلها الظنون والتخمينات، سيما وهم يتعاملون مع أصل هو أصل الأصول، ومرجع التنظير المعرفي والتشريعي.
ولذلك لم يكن لعلماء المسلمين سبيل في طرق ذلك كله غير مدخل الاستقراء، الذي يعتبر مسلكاً إلى تحصيل العلم واليقين، وضابطا للقول، وقانوناً للاستدلال الصحيح لصيانة الفكر عن الوقوع في الخطأ عند تعرفه على الحقائق، وتحرير الإنسان من قيود الوهم والهوى المفضيين إلى الضلال. ولذلك استطاعوا تسييج هرم معرفتهم، وعلومهم الإسلامية والإنسانية، بما يتناسب ووحدة تصورهم العقدية، ومنهجيات تفكيرهم، ونظام عقولهم بالصيغة التي تمكن هذه العقول من التعامل مع قضايا الكون والعالم والوجود، درءاً لأي وثنية يمكنها أن تتسرب إلى سلوكهم المعرفي، وإبعاداً لأي نظرة تبسيطية تسطيحية تفقدهم العمق المعرفي، والوحدة المنهجية والموضوعية في التحليل والتفسير والتقعيد، وتجنبا لأي اصطدام أو تعارض بين النصوص.
ولقد كان من نتيجة ذلك تفتق علم أصول الفقه –الذي كان جزءاً من المنهج العام- تغيوه منهجاً إسلاميا لقراءة النص صيانة لمقتضياته الدلالية، وحفظا لنظامه الداخلي المعرفي من الهدم والانحراف والشطط، الذي كان ديدن القراءات الطائشة قديمها وحديثها، واعتبرت قواعده وقوانينه مساطر يحتكم إليها في كتب الفقه المقارن والخلاف العالي.
هذا المنهج الأصولي شكل عمارته عنصران أساسيان: الأول: الأصول التشريعية، والمصادر المعرفية التي هي مجال توجه النظر، ومناط اشتغال العقل. والثاني: مجموع الخطط التشريعية، والقواعد الاجتهادية، وآليات البحث والنظر المعدة لاستثمار الخطاب الشرعي.
ولقد كانت أول الإشارات الملفتة إليه والمنبهة إلى أهميته، ما أشار إليه الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”، من أن علم أصول الفقه يجسد منهجا لقراءة النص الشرعي، ويشكل النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى[1].
ثم أعقبت هذه المحاولة مساهمة تلميذه الدكتور علي سامي النشار الذي قدم رؤية معرفية متميزة واضحة، تجسدت في محاولته العلمية التأصيل لهذا المنهج، والتعريف به واصفا إياه بأنه النموذج الأعلى للفكر الإسلامي، و”النموذج الوحيد المعبر عن روح الحضارة الإسلامية، والمنبعث في تدفق سيال من روح القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم”[2]. بل دفع به يقينه واطمئنانه لهذا المنهج إلى أن أخذه كاملا غير مجزئ، واعتبره هو مصدر “البعث الحقيقي للروح الإسلامية وللأمة الإسلامية”[3]. وبذلك يكون كتابه هذا، الذي وصف فيه علم أصول الفقه بأنه منهج إسلامي أصيل، استمد أصالته من ارتباطه المباشر بأصول بنائه الإسلامية، برهانا ساطعا ودليلا مدحضا لمزاعم المفكرين الغربيين الذين قالوا: “إن الحضارة الإسلامية لم تكن سوى صورة مشوهة لحضارة اليونان، أو لم تكن غير جسر عبرت عليه هذه الحضارة إلى أوربا. كانت حضارة الإسلام إذن، وفكر الإسلام إذن -في رأي هؤلاء- ذيلا لحضارة اليونان، وترديدا لها. وقد تابع أوربا في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين هذا الجيل المأفون ممن دعوا بالمجددين وقادة الفكر ورجال الرأي”[4]. تابع مستدلا على أصالة هذا المنهج الإسلامي قائلا: “أما صوغ الشافعي للأصول في منهج عام متصل فقد صدر فيه عن فكر خاص. أما معرفة الشافعي لليونانية فليست برهانا واضحا على دخول المنطق الأرسططاليسي في أصول الشافعي، وأسلوب الرسالة وطريقة البحث فيها لا يشعران بوجود أية علاقة بينهما وبين أية دراسة أجنبية عن التفكير العربي واللغة العربية”[5].
وإلى جانب النشار نجد الدكتور طه جابر العلواني لا يقف عند اعتبار المنهج الأصولي منهجا موضوعا للاستنباط والاستدلال الشرعي فحسب، ولكن يعتبره أيضا منهجا للبحث والمعرفة في العلوم الإسلامية، بما يملك من مصادر معرفية غنية، ويزخر به من أدوات وآليات متعددة في البحث. ولهذا وجد فيه المنهج البديل عن المناهج المعاصرة، لأنها في نظره مأزومة، وفي ذلك يقول في مقدمة كتابه “أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة”: “وحين أعد هذا البحث كان يمثل في نظري مقدمة لبحث موسع، أو لعدة بحوث ودراسات تعالج أزمة أو إشكالية المنهج الراهنة. أو تقدم منهجا بديلا عن مناهج البحث المأزومة توظف فيها الخبرة الفكرية الإسلامية، والتراث الإسلامي بشكل مناسب”[6].
هذا الدور المنوط بالمنهج الأصولي نجده عند الدكتور علي جمعة الذي يرى أن هناك علاقة وطيدة بين المنهج الأصولي والمنهج العلمي، فيقول: “ويمكن أيضا تشغيل المنهج الأصولي كمنهج في استفادة العلوم الاجتماعية في ذلك المنهج”[7].
بل لقد دفع إعجاب علي جمعة بالمنهج الأصولي، إلى أن يؤكد في موضع آخر على الصلة العلمية بين المنهج الأصولي والمنهج العلمي، فكلاهما في نظره أداة لإدراك الوجود. بل دفع به الأمر إلى أكثر من ذلك، حينما اعتبر المنهج الأصولي شبيها بالمنهج العلمي في الفيزياء بقوله: “علم أصول الفقه هو المنهج الذي يوازي المنهج التجريبي في عالم الفيزياء، فأصول الفقه هو منهج المسلمين في الوصول إلى الحقيقة أو الحق في مجال الوحي”[8].
وبهذا نؤكد توجه الأصوليين إلى تلمس منهج بناء المعرفة في دليل الوحي بداية، بحيث لوحظ أن الدليل كان حاضرا وبقوة في بنائه ورصه، وقد نبهنا القرآن الكريم في أولى آياته إلى خطورته وأهميته في حركة الإنسان الفكرية والحضارية عموماً، سيما وأنه يحتل في جسم الأمة موقع الرأس من الجسد، إذ هو جوهر المشكلة، فإذا استقامَ استقام كل شيء وإذا اعوج انحرف كل شيء. اكتفي بالإشارة إلى قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]، وهي آية حاوية في طياتها وبين كلماتها ما يغمز إلى صلب المنهج، وهو وجوب دراسة الأشياء دراسة تركيبية، غير منبتة عن نسقها العام، وغير معزولة ومنفكة عن كينونتها ووظيفتها الوجودية ربطا للأسباب بالمسببات، والعلل بالمعلولات، والنتائج بالأمارات درءا وتفنيداً لمنطق الصدفة المعبر عن عجز العقل، وضعف الرؤية والإبصار، وانعدام التأمل والتفكر.
س2: أين تكمن علاقة أصول الفقه بباقي فنون العلوم الشرعية الأخرى؟
إذا تأكد أن علم أصول الفقه، يجسد ملتقى العلوم الإسلامية النقلية والعقلية، فإن هذا هو ما جعل قواعده تركيبا نسقيا لما اجتمع من الشرع واللغة والكلام والمنطق والعقل في بعدها المعرفي والمنهجي، ولذلك استطاع أن يخلق لذاته نسقا في التفكير استثمارا لقوانينه ومسلكا في الفهم والقراءة، تثويرا للنص الشرعي واستثمارا له على أوسع نطاق. ومنهجا به تحقق التطابق بين الجانب المضموني والجانب المنهجي، الذي ساعد على تقنين قواعد الاجتهاد، وطريقا إلى توسيع دائرة ومجال الأحكام والمعرفة، عبر مقاصد وأسرار الشريعة توسلا بمجموع الأدوات والوسائل، والأساليب البحثية العلمية المتاحة، المحققة لتكامل المسالك النصية منها والاجتهادية.
ولكم ساعد هذا المنهج على توظيف المناهج البحثية للعلوم الاجتماعية، في جوانب المعرفة في العلوم الإسلامية، بناء ونقدا للمفاهيم والقضايا في بعدها المعرفي والمنهجي، سبرا لنضجها الاصطلاحي ولمقتضياتها الدلالية وآثارها التشريعية، واستشرافا لمآلات أحكامها في النفس والمجتمع، والعمران الروحي والمادي.
ومما يجسد حقيقة كونه ملتقى للعلوم الشرعية واللغوية على العموم، أنه استمد من علوم مجاورة (الكلام، المنطق، اللغة)، وأعاد صياغة أصول الكثير من العلوم لتنسجم مع غاياته وأهدافه “فالمصطلحات الأصولية الصرفة التي تمثل صلب علم أصول الفقه، ليست دائما أصولية النشأة، بل منها كثير مما هو من المصطلحات (الرحل)، هاجرت إلى علم الأصول من علم آخر حتى كان علم أصول الفقه ملتقاها.
ويمكن بيان هذه الروابط بينه وبين غيره فيما يلي:
أولا: وجود مصطلحات متعددة المشارب منها:
1ــ مصطلحات ذات مصدر كلامي: إذ كثير من المقدمات الكلامية تتصدر مجموعة من القضايا الأصولية بغية تقريرها ومن ذلك قول الشاطبي: “لو جاز جعل الظني أصلاً في أصول الفقه لجاز جعله أصلا في أصول الدين وليس كذلك باتفاق”.
ومن أبرز المصطلحات ذات الأصل الكلامي مصطلح: المصلحة والمفسدة، والعلة، والحكمة والأسباب والقصد، والإرادة ونحوها…
2ــ مصطلحات ذات مصدر منطقي: كالاستقراء، والكلي، والجزئي، والقطع، والظن، والمقدمات، والنتائج، والبرهان…
3ــ مصطلحات ذات مصدر فقهي: كالأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح. ثم الأحكام الوضعية كالرخصة، والعزيمة، والسبب، والمانع، والشرط… وغيرها من المصطلحات الأصولية ذات الأصل الفقهي “إذ عبر عنهما أحياناً بـ (أصل الرخصة، وأصل العزيمة) للدلالة على المعنى الكلي، الذي هو المقصود بالدراسة في النسق الأصولي”[9].
4ــ مصطلحات ذات مصدر لغوي: كالأمر والنهي، والعموم، والخصوص، والإطلاق والتقييد والبيان، والإجمال.
ثم إن هناك مصطلحات يرجح أنها جاءت من فقه اللغة والبلاغة، وذلك نحو مصطلحي، الوضع، واللفظ، أو الألفاظ، وما يُولد عنهما من ضمائم: كاللفظ المشترك، والوضع الاستعمالي، والوضع العربي، والوضع الأصلي، والوضع الإفرادي، والوضع التركيبي، والوضع الخطابي، والوضع الشرعي، والوضع اللغوي،…
5ــ مصطلحات ذات مصدر صوفي: كالكرامات والأحوال، والمكاسب، وقصد الحظ، وقصد التعبد، وقصد الموافقة وقصد المخالفة… وإن جاءت في سياق النقد والتمحيص والتوجيه.
6ــ مصطلحات ذات مصدر قرآني، المكي والمدني، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول…
7ــ مصطلحات أصولية أصيلة: وهي أصولية ابتداء: كالاجتهاد، والإجماع، والقياس والاستصلاح، وسد الذرائع، وتخريج المناط، وتنقيح المناط، وتحقيق المناط، والضروريات والحاجيات…”[10].
ثانيا: تجسيده لما يجمع بين صحة النقل، وصفاء العقل، وهذا هو مصدر شرفه قال الغزالي «وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم أصول الفقه من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد، ولأجل شرف علم الفقه وسببه، وفر الله دواعي الخلق على طلبه، وكان العلماء به أرفع العلماء مكانا وأجلهم شأنا» [المستصفى 1/14]. ولذلك فهو يجمع بين أمرين: مصادر المعرفة والأصول التشريعية التي تشكل وجهته، ومجموع الآليات والقواعد والخطط التي أسسها، والتي بها يستثمر الخطاب الشرعي.
ومما يبين مركزيته أيضا اضطلاعه بالمهمة الكبرى المتمثلة في كونه منطلقا إلى إتقان باقي العلوم الشرعية الأخرى، لأنه هو الأداة الأساسية لفهم النصوص الشرعية ودلالتها التي منها ينطلق علم التفسير وعلم الحديث والفقه.
يقول في هذا الصدد أبو الفتح البيانوي: “إن علم أصول الفقه هو أصل العلوم الشرعية لا يستغنى عنه دارس ولا طالب علم، بل لا تكتمل ثقافة الدارس المسلم إلا به. فلا يستغني عنه طالب علم التفسير، ولا طالب علم الحديث، ولا طالب علم الفقه، حيث إن قواعده محكمة في جميع هذه العلوم…ولقد شعُر بقيمة هذا العلم وأثر فقده كثير من طلاب العلم الذين لم يوفقوا لدراسة علم الأصول في أولى أيامهم، وبدأوا بدراسته بعد أن قطعوا مراحِل في غيره من العلوم، شعروا بذلك عندما رأوه يملأ فراغاً في عقولهم، ويصلح كثيرا من تفكيرهم ومنهجهم في البحث»[11].
ثالثا: إنه علم بمثابة البوصلة التي تنظم تفكير الأمة تصورا وممارسة، عقيدة وتشريعا وثقافة واجتماعا، وتدبر شأنها السياسي، والتعليمي، والفكري، والديني، والاقتصادي، والإصلاحي.. ولذلك لم يغب في أذهان الفقهاء عبر التاريخ، إذ به استطاعت أن تصحح انحرافاتها وسلوكها. ويعبر عن هذه الحقيقة الكثير من العناوين التي عبرت عنها العديد من الكتابات في أصول الفقه كالمنخول، والمنقذ من الضلال، والمستصفى، ومعيار العلم، والموافقات، والبرهان في أصول الفقه وغير هذا كثير.
رابعا: ومما يبين علاقته باللغة العربية، أو بالأحرى اللسان العربي ما تضمنه من قواعد لغوية بها يستقيم فهم الخطاب العربي ويَطَّرد، ومن ثم يستقيم فهم نصوص الكتاب والسنة. ولأجل ذلك نشأ القسم الأكبر من هذا العلم، وهو القسم المسمى “طُرُق الاستنباط”، أو “المباحث اللغوية”، أو “مباحث الألفاظ”، أو “دلالات الألفاظ”…
والذي أوجب فتح هذا الباب والتوسعَ فيه:
ــ ما طرأ من ضعف وخلل في معرفة اللغة العربية وفهم قواعدها ومعانيها، بعد أن دخلت الإسلامَ أعداد غفيرة من غير العرب، وأصبح منهم علماء وفقهاء ومدرسون، بل أصبح العرب أنفسهم يتعجمون ويتباعدون عن بلاغتهم وسلامة لغتهم.
ــ يضاف إلى ذلك ما تتميز به اللغة العربية من تنوع في أساليب الخطاب وتعدد في دلالات الألفاظ، من مقام لآخر، ومن سياق لآخر. وهو أمر يعسر فهمه على غير المتمرس بقانون اللسان العربي وبلاغته وأساليبه التعبيرية.
ثم إن الخطاب الشرعي تميز أيضا بخصائص إضافية، في بعض مصطلحاته واستعمالاته البيانية المنضبطة إلى المعهود العربي، مما هو معرب عن قصد الشارع وإرادته الذي تكون فيه الدلالة تابعة للإرادة. وهو ما قد يغيب عن بعض الدارسين له، الباحثين عن دلالاته ومقاصده.
ولأجل ذلك توجه الأصوليون لضبط هذا الباب وتقعيد قواعده، وإسعاف الأجيال المتلاحقة، ممن قصر باعهم وفسد ذوقهم اللغوي، مما حال دون فهم مقاصد الخطاب العربي الأصيل. وقد وجدنا الإمام الشافعي يُصَدِّر رسالته ومسائلَها الأصوليةَ بعنوان: «باب: كيف البيان؟»[12]. وقد أخذت الأبواب البيانية القسطَ الأكبر من الكتاب.
وفيها أوضح الإمام أن أحكام الشرع: «إما مُبيَّنةٌ في الكتاب المنزل، وإما مجملة في الكتاب وبينتها السنة، وإما أحكام جاءت في السنة دون القرآن»[13].
وكل ما تقدم مصدره الوحي نفسه. وبقيت أمور غير منصوصة، فرض الله الاجتهادَ في طلبها والاستدلال عليها “بالعقول التي ركب فيهم، المميزةِ بين الأشياء وأضدادها…”[14].
وفي هذا السياق توقف الإمام الشافعي عند أهمية المعرفة باللغة العربية، التي هي لغة القرآن والسنة، ذاكرا بعضا من خصائص اللسان العربي وقواعده في الخطاب والبيان والتبين. قال رحمه الله: “فإنما خاطب اللهُ بكتابه العربَ بلسانها، على ما تَعْرِف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا، ظاهرًا، يُراد به العامُّ الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه. وعامًّا ظاهرًا، يُراد به الخاص. وظاهرًا يُعْرف في سياقه أنّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرِه.
وتبتدِئ الشيءَ من كلامها يُبِينُ أوَّلُ لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخرُ لفظِها منه عن أوَّلِهِ.
وتكلَّمُ بالشيء تُعَرِّفُه بالمعنى، دون الإيضاح باللفظ، كما تعرِّف الإشارةُ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جَهَالتها.
وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة…”[15]
وبعد أن أتى على ذكر خصائص اللسان العربي، شرع في التمثيل لما ذكره مجملا. والمهم هنا هو بيان علاقة علم أصول الفقه بباقي الفنون الأخرى. وما يقال عن طبيعة الخطاب العربي في القرآن الكريم ينطبق تماما على السنة النبوية “فرسولُ الله عَرَبِيُّ اللِّسان والدَّار، فقد يقولُ القولَ عامًّا يُريدُ به العامَّ، وعامًّا يريدُ به الخاصَّ…”[16].
خلاصة هذا المقصد، أنه يخدم ــ مباشرةً ــ سلامةَ فهم خطاب الشارع، المتمثل في نصوص القرآن والسنة، وأن ذلك مداره على ثلاثة أمور:
ــ الاحتكام إلى خصائص اللسان العربي ودلالاته.
ــ تفسير النصوص بعضها ببعض، بما في ذلك الاحتكام إلى قواعد الشرع ومقاصده المستمدةِ من النصوص.
ــ اعتماد دلالات العقول والمنطق السليم.
وقد ظلت مكانة اللغة العربية وما ارتبط بها من مباحث الألفاظ – منذ الإمام الشافعي– تحتل الحيز الأكبر والمكانة الأبرز من معظم المصنفات الأصولية. وعن هذا قال الإمام الغزالي: «اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول؛ لأنه ميدان سعي المجتهدين: في اقتباس الأحكام من أصولها، واجتنائها من أغصانها»[17].
وعنه تقول الدكتورة أمينة سعدي: “إن تحصيل الفهم المقصود للشارع في وضع شريعته، متوقف على معرفة أساليب البيان في اللغة العربية، وطرق الدلالة فيها على المعاني، وما تدل عليه ألفاظها مفردة ومركبة”[18].
وعلى الإجمال فإن آثاره وامتداداته محققة في كافة العلوم الإسلامية، وفي كل فكر إسلامي، وهذا ما أشار إليه الدكتور عياض بن نامي السلمي في قوله: “ربما يظن كثير من أن أصول الفقه تقتصر فائدته على الفقه في المسائل العملية، والحق خلافُ ذلك؛ فإن فائدة هذا العلم لا يستغني عنها المفسر والمحدث والمتكلم والباحث في العقائد، وكل من يحتاج إلى فهم نصوص الوحي والاستدلال بها، فإن هذا العلم عبارة عن قواعد للفهم الصحيح والاستدلال الصحيح، والجمعِ بين ما ظاهره التعارض. ولهذا نستطيع القول إن تسميته بأصول الفقه لا يعني اقتصار فائدته على استنباط الأحكام الفقهية…
والناظر في مسائل هذا العلم يجد كلامهم عن أصول التفسير وأصول الحديث، إلى جانب طرق الاستنباط من الأدلة النقلية، التي يستوي في الحاجة إليها المفسر والمحدث وغيرهما”[19]
كما أن آثاره ممتدة إلى مهام ووظائف أخرى يمكن توجيه العلوم بها بشكل عام، وذلك تسديد الفكر وتقنين الاستدلال أشار إلى ذلك الإمام أبو الوليد بن رشد، في مقدمة مختصره لمستصفى الغزالي، فقد اعتبر أن علم الأصول هو أحد العلوم التي غايتها إنتاج قوانينَ تسدد الفكر والنظر، وتعصمه من الزلل. وقد بلغ في ذلك إلى حد تشبيهه وظيفةَ هذا الصنف من العلوم بوظيفة البركار والمسطرة، في ضبط المعارف الحسية والهندسية.
قال رحمه الله: “فلنقدم مقدمة نافعة في غرض العلم المطلوب ها هنا ومنفعته، فنقول: إن المعارف والعلوم ثلاثة أصناف:
ــ إما معرفةٌ غايتُها الاعتقاد.
ــ وإما معرفةٌ غايتُها العمل.
ــ وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن نحو الصواب في هاتين المعرفتين؛ كالعلم بالدلائل وأقسامها، وبأي حال تكون دلائلَ وبأيها لا، وفي أيها تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فلنسمها سبارا وقانونا، فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في ما لا يؤمن أن يُغْلَط فيه.
وبيِّنٌ أنه كلما كانت العلوم أكثر تشعبا، والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها مَن تقدمهم، كانت الحاجة فيها إلى قوانين تحوطُ أذهانهم عند النظر فيها أكثر.
وبهذا الذي قدمناه ينفهم غرض هذه الصناعة[20]، ويسقط الاعتراض عليها بأنه لم يكن أهل الصدر المتقدم ناظرين فيها، وإن كنا لا ننكر أنهم كانوا يستعلمون قوتها. وأنت تتبين ذلك من فتاواهم رضي الله عنهم، بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتاواهم مسألةً مسألة”[21].
ومنهم الفخر الرازي، الذي جعل وظيفة علم أصول الفقه في ضبط علوم الشريعة، بمنزلة علم المنطق في ضبط العلوم العقلية، وبمنزلة علم العروض في ضبط صناعة الشعر وأوزانهِ، واعتبر الريادة التأسيسية للإمام الشافعي فيه مماثلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مقدمة تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ل الشيخ مصطفى عبد الرازق.
[2] مناهج البحث عند مفكري الإسلام ص 5.
[3] المرجع السابق ص6.
[4] المرجع السابق ص 5.
[5] المرجع السابق ص 62.
[6] أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة د طه جابر العلواني ص 7.
[7] الطريق إلى التراث الإسلامي د علي جمعة ص 47.
[8] المرجع السابق ص 78.
[9] المصطلح الأصولي ص170.
[10] المصطلح الأصولي 175.
[11] من مقال بعنوان حاجتنا إلى علم أصول الفقه د البيانوي.
[12] الرسالة ص 21.
[13] الرسالة ص 21-22.
[14] الرسالة ص 24.
[15] – الرسالة ص 50.
[16] الرسالة 1/213.
[17] المستصفى من علم الأصول 2/7.
[18] فصل «الأصول الحاكمة لطرق الاستنباط»، ضمن كتاب (التجديد الأصولي) ص 527.
[19] – أصول الفقه الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه، ص 20.
[20] أي: مقصود هذا العلم، وهو علم أصول الفقه.
[21] الضروري في أصول الفقه (أو: مختصر المستصفى) لأبي الوليد محمد بن رشد الحفيد، ص 34/32.
الجزء الثاني
في الحلقة الأولى من حوارنا مع الدكتور عبد العالي عباسي، تناولنا قضية مهمة وهي أن علم أصول الفقه يشكل فلسفة المسلمين المأصولة، وكذا علاقة أصول الفقه بباقي فنون العلوم الشرعية، وفي هذا الجزء نتساءل مع الأستاذ حول علاقة أصول الفقه بحقل علوم التربية، والعوامل الكامنة خلف نشأة علم أصول الفقه.ففي العلاقة بين علم أصول الفقه وعلوم التربية بيَّن أنها علاقة تكاملية تتحقق على مستويات ثلاثة: فلسفةً: من خلال توحد الأهداف والغايات، والمثل التي تحكم توجهات الأفراد والمجتمعات، وسيطرة العلاقات المثلى التي تسود بين العباد وربهم، والعباد وبعضهم البعض. ومنهجا: من خلال تلاقح المناهج البحثية والتأصيلية بين العلمين (المناهج الأصولية لدراسة الخطاب، المناهج الحديثية لضبط المادة “المتن“، الدراسات الاجتماعية والإنسانية المساهمة في تفسير الظواهر الاجتماعية والنفسية). وموضوعا: من خلال استعانة العلوم الشرعية الدارسة للنص، بالدراسات الاجتماعية والإنسانية الدارسة للمحيط والإنسان، توسلا إلى حسن الربط بين الحكم ومحل تطبيقه. أما عن نشأة أصول الفقه فقد جلى الأسباب العلمية الثاوية خلف ذلك، منتقدا قصرها في الجانب السياسي، وتضخيم دوره بما يتنافى مع المعطيات التاريخية. |