الحوار الإسلامي ـ المسيحي

طموحات وتحديات

رابط التحميل والقراءة

تقديم
بسم الله العلي العظيم والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحابته المجتبين الأخيار والتابعين لهم ومن سار على دربهم إلى يوم الدين.
لا خلاف بين أصحاب الفكر والرأي حول أهمية الحوار، في الارتقاء بواقع الاجتماع البشري، وفي دوره الكبير لتبديد الكثير من المشاكل، وتذليل الصعاب بين أفراد الدين الواحد، وبين الديانات والحضارات والثقافات المختلفة بصفة عامة، وبين أهل الأديان السماوية خاصة، والذين تربط بينهم وشائج الإيمان بالرسائل الإلهية الكبرى، المنزلة على أنبياء الله: موسى وعيسى ومحمد، عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وفي هذا الصدد نقدم لقرائنا الأعزاء هذا الكتاب في موضوع “الحوار الإسلامي- المسيحي؛ طموحات وتحديات، لصاحبه الدكتور الباحث السيد سعيد النقشي، والذي حاول فيه بحث هذا الموضوع الشائك بموضوعية وحس نقدي، إذ رصد فيه أهم العوامل والمبادرات، التي تمت تعبئتها في اتجاه توفير الاستعدادات اللازمة، لدى الطرفين الإسلامي والمسيحي لتحقيق الطموحات التواصلية المشتركة، كما أبرز كبرى التحديات الذاتية والموضوعية المعوقة لانطلاق حوار جاد، قادر على تحقيق الأهداف المرسومة؛ من قبيل التعارف والتفاهم والتعاون والتضامن، من أجل تعزيز دور الدين وتأثيره الإيجابي والتوجيهي، في ترشيد الحياة المعاصرة والإسهام في تخليقها.
ولكي نمضي قدما في طريق حوار إسلامي مسيحي، يحرز قدرا كبيرا من السداد والنجاح، ويحقق طموحات الجميع ويتغلب على التحديات المعترضة، يكون لزاما على الطرفين تبين مسؤولية الحوار ومكانته في نظام ربنا لاستخلاف بني الإنسان على الأرض، وهو ما يستدعي تعميق النظر وإدامة التفكير، في أحداث تحميل آدم وحواء أمانة الاستخلاف، والتي يتحملها بعدهم ذرياتهم على امتداد الوجود البشري على الأرض. ومعلوم أن القرآن والإنجيل تعرضا لإثبات الاستخلاف الآدمي على الأرض، وكان واضحا في كل أحداثه المؤسسة للسلوك الإنساني، أن الحوار كان سائدا في مجرياتها بصورة بارزة؛ عبر التخاطب بين الله تعالى وملائكته الكرام وإبليس وآدم وحواء، وهو ما يؤكد مكانة الحوار، الذي سيظل ثابتا وأساسيا بين البشر في الممارسة الاستخلافية، التي تحتمل الصلاح والفساد على حد سواء.
فكان الحوار ابتداء بين الملائكة ورب العالمين مثيرا للاستغراب؛ لأنهم ملتزمون خلقة بطاعة الله، والامتثال لأمره وإرادته وحكمه، دون أي اعتراض ولو في حدوده الدنيا، ليؤصل لما سوف يكتسيه الحوار من أهمية في نظام الاستخلاف على الأرض، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [سورة البقرة، الآيات 29- 32].
وأهم ما يمكن استنتاجه من هذا الحوار القرآني الاستثنائي، هو كونه استشرافا للدور الأساسي الذي سيضطلع به الحوار بين الله وعباده من الإنس والجن، وفيما بينهم بعضهم مع بعض في الحياة الدنيا ويوم القيامة.
ويأتي الحوار بين الله وإبليس بعد ذلك، لينطلق عندما قابل الشيطان بالرفض والعصيان أمر الله له بالسجود لآدم، فكان هدف الحوار استيضاح الله لإبليس عن سبب عصيانه العنيد، وهو الذي ما كان يجهل ما يترتب عن مخالفة أمر الله من لعنة وعذاب في الجحيم.
ويستفاد من هذا الموقف مشروعية الحوار وضرورته، كلما طرأ اختلاف أو استجد تعارض، أو حصل التباس في التعامل بين طرفين متنازعين، رغم ما يمكن أن يكون بينهما من تفاوت في القدر وتعارض في المنهج؛ كأن يكون أحدهما مؤمنا والآخر كافرا، أو محقا والآخر مبطلا، أو شريفا والآخر وضيعا.
كما نجد إبليس العدو اللدود لآدم، يسيء توظيف الحوار مع آدم، حيث كان باعثه عليه هو الإيقاع به في مخالفة نهي الله عن الأكل من شجرة محددة في الجنة، مستخدما تزيين القبيح والحلف الكاذب. ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)﴾ [سورة الأعراف، الآيات 18- 20].
ويستنتج من هذا الحدث بأن العداوة المؤكدة بين الطرفين، لم توصد باب الحوار أو تحل دون عرقلته، كما يستفاد منه بأن الحوار قد يكون مضللا من طرف لآخر، وأداة للإصلاح أو الإفساد في الأرض.
ونتعلم من قصة الاستخلاف بأن الحوار قد يكون اضطراريا، وضروريا بين طرفين غير متكافئين، ومختلفين اختلافات جسيمة أو يسيرة، كما يكون بين متقاربين أو متباعدين في اعتقاداتهم وتوجهاتهم الدينية ومذاهبهم الفكرية، وذلك اعتبارا لمصلحة معرفية وتعارفية مشتركة، وتحقيقا لهدف مشروع قياما بمسؤولية بينة، وعلى رأسها: بذل النصح، والدعوة للخير والصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العلم، وإقامة الحجة على الخصم، وتقديم البيان لمن يطلبه، وتحصيل مزيد معرفة، وتصحيح ما شابها من غلط أو خالطها من وهم، وتبديد الخلافات وتوجيهها لرأب الصدع، وتيسير التفاهم والبحث عن عناصر التقارب والوئام، وغير ذلك من المآرب الأخرى.
ولقد اتجهت هذه الحوارات الاستخلافية إلى رسم النموذج الأمثل، الذي يلزم أن تحذو حذوه كل الحوارات الجادة والهادفة في عالم الناس، وهو تحري الصدق والإخلاص، لامتلاك القدرة على الاعتراف بالجهل والغفلة واستحكام الوهم، والوقوع في الخطأ صغر أو كبر، والأوبة إلى الرشد من قريب، ومعانقة الحق متى استبانت دلائله، ونبذ الباطل مهما طال أمده وداع صيته، والإقرار بمسؤولية النفس عن الإفراط أو التفريط دون لف أو دوران، فهذا بالتمام ما كشف عنه حوار الله مع آدم وحواء، عندما اعترفا بظلمهما لأنفسهما بالأكل من الشجرة، دون أن يتذرعا بخداع إبليس لهما وحلفه كاذبا بنصحهما.
﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ(22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ(24)﴾ [سورة الأعراف، الآيات 22- 24].
 فلم يقف الحوار بين إبليس وآدم وذريته عند هذا الحد، وإنما كان جولة أولى مؤسسة لما سيتواصل على الأرض، من خلال استمرار وسوسته في القلب، ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا(63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا(64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا(65)﴾ [سورة الإسراء، الآيات 62- 65].
فحوار إبليس مع الإنسان حوار نفسي إغوائي خفي، كما أن النفس تحاور نفسها لحسم اختياراتها تجاه أي عمل أو موقف، قبل الانتقال إلى التنفيذ الفعلي للإرادات المبيتة، قال تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [سورة يوسف، الآية 53]، فالنفس تقلب أمورها على كل الأوجه، استعدادا لاتخاذ القرار بالإقدام أو الإحجام على فعل أو ترك للطاعات والمعصيات.
إن ممارسة الاستخلاف، تستدعي الاضطلاع بمسؤوليات الحوار على نطاق واسع، وبطرق مختلفة باختلاف الظروف وتعدد أنماط الحاجة إليه، وذلك بقصد الإصلاح والاشتراك مع الآخرين لتبين الصواب وإثبات الحقائق، مهما بلغ علم المرء وتواصلت دراساته واتسعت مداركه، ولو استغنى أحد عن الحوار، لكان هم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، ونذكر على سبيل المثال بأن عيسى عليه السلام، حاور قومه منذ أن كان في المهد صبيا، كما في القرآن الكريم: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [سورة مريم، الآيات 26-32].
فقد شاء الله تعالى أن يكلم الناس بما يؤكد ولادته من غير أب، ويدافع عن براءة أمه وطهارتها من الفاحشة، التي اتهمت بها زورا وبهتانا من لدن قومها. كما أمر تعالى سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم المعصوم من الأهواء، بأن يشاور أتباعه، ويجادل المدعوين للإسلام والمؤمنين به كالمخالفين له بالتي هي أحس، ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [سورة النحل، الآية 125].
فالحوار يكون باستمرار مع النفس، لتصحيح الإرادات في البداية والمحاسبة على تنفيذها في النهاية، ويكون مع الله تعالى من خلال الصلوات والأذكار وتلاوة القرآن، وعند الدعوات والتأمل والتفكر في الظواهر والآيات، ومجريات أحداث الحياة. ويكون مع الآخرين داخل الأسرة ومقر العمل، وفي الشارع ومجالس الشورى والبرلمان، ويكون في مجال العلم والثقافة، والدعوة والإعلام والتربية والسياسة، ويجب على الخصوص بين أهل العلم المتوافقين والمختلفين داخل الديانة الواحدة، ومع أهل الأديان الأخرى السماوية والأرضية على السواء، كلما تيسر ذلك ولاحت في الأفق فوائده.
ويتعين الحوار أكثر ما يتعين بين الاتجاهات والمذاهب المختلفة داخل دائرة الإسلام، لتعزيز الاتفاق حول الثوابت الاعتقادية والأخلاقية، والسعي لحسم الخلافات وتقليصها إلى حدودها الدنيا. أما خارج هذه الدائرة، فإن الإسلام أسس للانفتاح على الديانات الكبرى على وجه الخصوص، باعتبارها منطلقة من رسالات سماوية مختلفة، لدين واحد ممتد عبرها وهو الإسلام، كما جاء على لسان جميع الأنبياء من نوح مرورا بإبراهيم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [سورة البقرة، الآيات 129- 131].
ولقد أكد الإسلام القرابة الدينية، بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، واشترط لصحة الإسلام الإيمان بجميع الرسل، وحبهم وإجلالهم دون استثناء، ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ [سورة البقرة، الآية 284]، وأباح للمسلمين أكل طعام أهل الكتاب، ونكاح نسائهم، وخصهم بالوصية بهم برا وإحسانا إليهم، ما لم يعتدوا ويظلموا؛ ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة الممتحنة، الآيتان 8- 9].
ويلزم أن يكون التحاور تواصلا مع المقربين والخصوم، ومع الموافقين والمخالفين في المعتقد والقناعات والتوجهات. ويكون تعارفا وتعاونا بين الدول والشعوب ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [سورة الحجرات، الآية 13]، ولتحقيق التعارف يلزم اعتماد التحاور في مختلف المجالات الحياتية الدينية والدنيوية.
وقد وظف خطاب الوحي الحوار، في القرآن والسنة في أجلى وأروع صوره، مع المؤمنين والكافرين على حد سواء، محددا للمسؤوليات وموجها للصواب في اتباع شرع الله، ومقوما للعوج في الفهم والسلوك على نهجه، ومنفتحا على كل اعتراض، ومفندا للادعاءات والاعتراضات، ومستوعبا للرأي المخالف مهما بلغت حدته.
ويشغل الحوار حيزا كبيرا في التنمية المعرفية والإبداع الفكري، من خلال المناقشات العلمية والدراسات النقدية والمناظرات الفكرية، إذ البحث في إشكاليات معينة عن طريق الحوار، تجتمع له خبرات ووجهات نظر متقاربة أو مختلفة ومتكاملة، مما يحفز التفكير وينشط التأمل، ويوسع دائرة النظر، ويعمق التركيز في موضوع النقاش، ويولد أفكارا جديدة.
ونرى أن الشرط الأساسي لنجاح أي حوار، هو اعتباره مسؤولية عظيمة ليست بالهينة، وأنها تُلزم المتحاورين بما يلي:
1- استحضار جسامة أمانة الكلام، وكثرة ما يكون الزلل بسببه، فالمحاور مسؤول عما يقول كما هو مسؤول عما يسمع من الطرف الآخر.
2- تحري الإخلاص في طلب الحقيقة، والحرص على تبيانها والتعريف بها بصدق وتجرد عن الأنانيات الخفية والتحيزات السافرة، والإقرار بها حال اتضاحها على لسان الطرف الآخر دون تقاعس أو مراوغة، ودون إنكار أو استكبار.
3- امتلاك العلم التام بموضوع الحوار، مما يكسب القدرة على إبراز الحجة ناصعة دون غبش أو ارتباك أو تلعثم، ويمنع الظهور في صورة من تعوزه قوة الدليل واستنارة الفكر. وقد أعاب القرآن على مجادلة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم فيما ليس لهم به علم، إلى جانب ما لهم به علم فقال تعالى: ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآيتان 65 – 66]. ويلاحظ هنا كيف أن القرآن اعترف لأهل الكتاب بما كان لهم من العلم بموضوع الجدال، ثم نبه على كونهم جادلوا أيضا فيما ليس لهم به علم، وهو ما يجب تفاديه ليكون الحوار مثمرا وبناء.
4- حفظ حق المحاور في التعبير عن رأيه وقناعته ووجهة نظره، والاعتراف له بحقه في الاختلاف، وحريته الثابتة في اختيار الانصياع للحق وأدلته، أو اختيار رفضه ورد أدلته بما يراه مناسبا، وإن كان بادي التهافت في نظر محاوره.
5- التذكير بالمسؤولية الكاملة في قبول أو رفض الحقائق والأدلة، والتفسيرات المقدمة لها خلال الحوار، ونقدها بما يتأتى من الإمكانيات المنهجية والمعرفية والخبرات الشخصية، وفي إطار الأدب والاحترام، والحفاظ على مواصلة الحوار لغاية تحقيق أهم نتائجه وأغراضه.
6- اعتبار نسبية الأفهام والإدراكات في غير القطعيات، وعدم تحميلها فوق ما تحتمل، وأن كل صواب في الظاهر قد يحتمل قدرا من الخطأ الخفي عن النظر، وكل خطأ حسب الظاهر قد يحتمل قدرا من الصواب يحتاج من يكشف عنه، وذلك ما يضطلع به الحوار العلمي الرصين.
وفي الختام أعتقد أن استحضار ثقل أمانة الحوار من لدن علماء الديانتين الإسلامية والمسيحية، والتقيد بمقاصده العليا، والتزام آدابه وأخلاقه الرفيعة، واستيفاء شروطه العلمية والمنهجية، هو الكفيل وحده بتحقيق طموحات الطرفين المشروعة، والانتصار على التحديات السابقة والراهنة. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

ذ. عبد السلام محمد الأحمر
رئيس مركز الأمانة للأبحاث والدراسات العلمية

 

 

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى