أطروحة دكتوراه من إعداد الباحث محمد الطاهري، تحت إشراف الدكتورة ربيعة كاوزي، والدكتور محمد غوردو. وضمت لجنة المناقشة إلى جانبهما كل من الدكتورة نزيهة أمعاريج، والدكتور محمد شاكر الموذني، والدكتور الحسان حالي.
وتمت المناقشة يوم السبت12 شعبان 1444موافق 4 مارس 2023 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة.
تقرير الأطروحة:
لا يخفى أن الجمال أصيل في النفس البشرية، وهو أحد الأبعاد الأساسية في تكوين الشخصية الإنسانية، لأنه يعمل على إعادة صياغتها معرفيا، ووجدانيا، وسلوكيا، ومن ثم كان له دور كبير في التأثير على الأفراد والمجتمعات، وفي ترسيخ القيم وتثبيتها، وله كذلك وظيفة في عملية التدافع، والتربية على الذوق، فإما يُوَجَّهُ بتوجيهِ الدين فيكون سببا مساهما في نهضة المجتمع، وبناء الحضارة، أو يترك للفلسفات والآراء الضالة فيكون سببا للتخلف والهدم.
ومما لا شك فيه أن تعميق النظر في الجمال، وسبر أغوار علاقته بالإسلام، أخذا بيد الإنسان إلى مقامات الكمال، لهو من أفضل ما تصرف له الجهود والأوقات، وإن الحاجة اليوم إلى ذلك أشد، فبين الصور الجمالية المشرقة في التصور الإسلامي والحضارة الإسلامية، وبين واقعها اليوم بون شاسع.
فتكمن إذا أهمية هذا البحث في تسليطه الضوء على الجمال، من خلال عرض فلسفته في الإسلام، وإبراز عناية القرآن والسنة والتراث الإسلامي به، والتعرف على تجلياته في بعض فنون الحضارة الإسلامية، استثمارا لأدواره في واقعنا اليوم.
وإني أعتقد أن البحث في تصور الإسلام للجمال، من شأنه أن يعيد للإنسان جماله، وأن يزيل عنه ما علق به من شوائب تفسد أو تضعف قيمته، فيكون بذلك كما أراده الله منه؛ عبدا جميلا في قوله وفعله وحاله.
ومادام كثير من الناس اليوم في ارتباطهم بالجمال بين إفراط وتفريط، فلا شك أن تسليط الضوء على الجمال ورده إلى أصوله، سيمكن من ضبط ميزانه على الوسطية والاعتدال، وتمييزه من غيره، ولا شك أن الحاجة إلى ذلك ماسة، خاصة في ظل بروز المظاهر الجمالية المختلة، سواء على المستوى النظري أو التطبيقي.
ودوافع اختياري لهذا الموضوع، ترجع بالأساس إلى أمور موضوعية وذاتية، فقد وجدت أن البحث العلمي في الأبعاد الذوقية والجمالية، لم ينل حظه الكافي من الاهتمام، كما نالته العلوم الشرعية في غالبها الأعم، وتبين لي أن الوحي قرآنا وسنة قد أسسا لممارسات وعلاقات اجتماعية، وربيا من بين ما ربيا الذوق العام والبعد الجمالي، الذي كان في كثير من الأحيان عاصما من قواصم انزياح الحياة عن هدي الوحي، ولا شك أن التربية الجمالية المستهدية بالوحي تجعلنا نسعى للحلال ونبتعد عن الحرام تلقائيا، وهذا ما نحتاجه اليوم في ظل المنافسة التي تعرفها نماذج جمالية غربية للنماذج الجمالية الإسلامية، فكل هذا كان من الدوافع الموضوعية لاختيار البحث.
كما أني أحسست بأهمية الجمال، واستشعرت -وأنا أبحث فيه- خطورة إغفاله وعدم إيلائه ما يستحقه من اهتمام، وكان لاهتمامي بأنشطة جمالية وفنية متنوعة منذ كنت صغيرا – وكذا مزاولتي لها- أبلغ الأثر الذي جعلني أبحث في هذا المجال وأخالط أهله، الأمر الذي مكنني من التعرف على أبرز إشكالاته وقضاياه، والاقتناع بضرورة الإسهام في إيجاد حلول لها بقدر الإمكان، ولعله من المفيد أن أذكر أهمها، وهي أن تصور كثير من المسلمين اليوم للجمال لا يرقى إلى أن يجعلهم مقبلين عليه ومهتمين به وبإشاعته، لذلك وجدت الاشتغال العلمي في هذا المجال مشروعا، وهو ما انتدبت له نفسي، فكانت البداية ببحث تخرجي من سلك الماستر، والذي عنونته ب: “الجمال في الإسلام.. دراسة في المفهوم والضوابط والتجليات”.
وبالنسبة لإشكالية البحث وأسئلته فأعرضها كالآتي:
تختلف وتتباين وجهات النظر في موضوع الجمال، وقد يكون السبب هو كونه قضية تتصل بالوجدان أكثر من اتصالها بالعقل، فما أراه جميلا قد يراه غيري أقل جمالا، أو قبيحا، والعكس بالعكس، و قد يكون السبب راجعا إلى عدم تحرير مفهومه ورده إلى أصوله لتبين فلسفته ، لذلك وجدتني من خلال هذا البحث أتساءل عن تصور الإسلام للجمال، وهو ما تطلب مني البحث في مفهومه وأصوله وأسسه، وفي بنيته و أبعاده وأدواره ومقاصده، وكل هذا شكل عندي إشكالا نظريا كبيرا جر إلى إشكال آخر مرتبط بالجانب التطبيقي، والذي وجدتني عبره أتساءل عن تجليات الجمال في ما أنتجه المسلمون في حضارتهم، سواء في الأدب أو الموسيقى والغناء أو في التصوير والخط أو في العمارة أو غير ذلك.
ويهدف هذا البحث إذا إلى عرض البعد النظري والتطبيقي، الذي تأسس عليه الجمال في التصور الإسلامي، ويتخذ لتحقيق هذا الهدف إبراز فلسفة الجمال في الإسلام، وعرض تجلياته في بعض فنون الحضارة الإسلامية.
وقد اعتمدت في البحث مناهج عدة، تنقلت بين كثير منها لتحقيق أهداف البحث والإجابة عن إشكالاته، ومن بين هذه المناهج أذكر:
ـ المنهج الاستقرائي لجمع النصوص المرتبطة بالجمال، والتي لها علاقة بالمباحث المدروسة.
ـ المنهج التحليلي أثناء دراسة بعض الإشكالات العلمية في بعض المباحث، من خلال الطرق التي يتضمنها، كالتركيب والتقويم والتفكيك.
ـ المنهج الوصفي عبر جمع المعلومات وتلخيصها وتصنيفها وتقسيمها.
ـ المنهج التاريخي من خلال عودتي إلى الموضوع الجمالي في أخبار السابقين والدول والأيام، سواء في الحضارة الغربية أو الإسلامية.
هذا واعتمدت في تخطيط البحث تقسيما حاولت من خلاله معالجة عناصر الموضوع، والوقوف عند إشكالاته، وقد تنوعت الفصول والمباحث بتنوع مصادر ومراجع البحث، فجاءت هيكلته العامة على الشكل التالي:
مقدمة عرضت فيها لأهمية البحث، ودواعي اختياره، وإشكاله، وأسئلته، وأهدافه، والدراسات السابقة فيه، وإضافاته، والمناهج المعتمدة فيه، وخطته، وخاتمة تضمنت أهم خلاصات البحث، واستنتاجاته، والآفاق التي يمكن استثمارها ضمن مشاريع بحثية قادمة، وملحق للفهارس.
وبين المقدمة والخاتمة عرضت لفصل تمهيدي، يشتمل على مدخل مفهومي، بحثت فيه الجمال في الإسلام.. مفهومه ومفرداته، وبابين، يتضمن كل واحد منهما أربعة فصول، فأما الباب الأول؛ فقد عنونته بفلسفة الجمال في الإسلام، عرضت فيه لأصول الجمال وأبعاده وأدواره ومقاصده، وكذا لعلم الجمال عند المسلمين والغربيين.
وأما الباب الثاني؛ فقد عنونته بتجليات الجمال في بعض فنون الحضارة الإسلامية، وتناولت فيه الخط العربي.. الجمال والوظيفة، وجمالية العمارة الإسلامية.. دراسة للأسس والخصائص والعناصر، وجمالية الصوت في الإسلام، وجمالية الأدب الإسلامي: التعريف، والخصائص، والوظائف، والآثار.
وخلصت إلى نتائج هامة أذكر منها:
ـ انعكاس العقيدة المستمدة من القرآن الكريم، على الأعمال الجمالية في الحضارة الإسلامية.
ـ قصد الجمال في التصور الإسلامي إلى التوحيد، والتقويم، والإحسان والاستمتاع، تهيئة للانتقال إلى معرفة الله، والإيمان به.
ـ تركيز التصور الإسلامي بالأساس على جمال الباطن ليكون الجمال الظاهر أثرا له.
ـ قيام التصور الاسلامي للجمال على تناسق وتناغم وتكامل مجموعة من العناصر، كالدين والفطرة والعرف والعلم والذوق.
ـ سعي الحضارة الإسلامية إلى إضفاء الجمال على كل شيء.
وأكتفي بهذه النتائج، وأرجو أن أكون في مقاربتي للموضوع -بالرغم من شساعته وتعدد مجالاته- قد ساهمت في تأصيل المحتوى المعرفي والجمالي لمدوناتنا التراثية ذات الصلة بالجمال، حتى تتضح معالمه وأركانه.
وأخيرا بعد أن وضعت هذا الجهد المتواضع بين يدي القراء الكرام، أرجو أن يحصل به النفع، وأشكر كل من له فضل فيه، والحمد لله رب العالمين.
زر الذهاب إلى الأعلى