الباحث الدكتور يوسف المتوكل
عرف العالم العربي والإسلامي، منذ احتكاكه بالغرب الحديث محاولات للنهوض الحضاري، اتخذت شكل مشاريع فكرية، عمل روادها على الإحاطة بأسباب وعوامل تخلف العرب والمسلمين وتقدم الغربيين. وقد تميزت هذه المشاريع بتنوع مراجعها الفكرية والفلسفية، وتعدد خلفياتها الأيديولوجية والسياسية إلى حد التناقض. ومع كل مظاهر التناقض والاختلاف، إلا أن القاسم المشترك الذي يجمع بينها هو اختيارها لمسالك التبعية الغربية، في محاولة للالتحاق بمنظومته الفكرية ومدارسه العلمية، فكرا ومنهجا. فصارت المشاريع الفكرية العربية، تُنجز وتشيّد على أرضية المدارس الفلسفية الغربية، وتُفصّل على مقاس نظرياتها وأطروحاتها العلمية، وتخلُص إلى نتائج تتماشى ورؤاها الفلسفية للإنسان والكون والوجود، حتى لو تناقضت في كثير من الأحيان مع المقتضيات والمبادئ التي تؤثث المجال التداولي الثقافي والعقدي للأمة العربية والمسلمة.
في بداية فجر الاستقلال طفت على سطح الوجود العربي تحديات جسام وأسئلة عظام، حول قضايا وإشكالات مختلفة، مست الركائز والمقومات الأساسية التي تقوم عليها نهضة الأمة العربية، من أبرزها:
ــ مقوم التراث الإسلامي العربي، وطبيعة التعاطي مع نصوصه، ورموزه، وعلومه ومعارفه، منهجيا ومعرفيا؛
ــ مقوم الفكر الفلسفي العربي، والكيفية التي تم بها استشكال قضايا الفلسفة، والمسالك التي انتهجتها الفلسفة الإسلامية والعربية لتحقيق الإبداع سواء في المنقول منها أو المأصول؛
ــ مقوم الفكر الديني، وطبيعة العلاقة به، وبفلسفته، فكرا ومنهجا.
وعلى ظاهر اختلاف مواضيع هذه القضايا وتشعب إشكالاتها إلا أنها تشكل منظومة مقومات متكاملة متظافرة، يجمع بينها إشكال رئيسي، ستكون الإجابة عنه، محور هذا البحث، مفاد هذا الإشكال، هو: كيف السبيل إلى إبداع أنموذج فكري مستقل ومتحرر عن الآخر؟ وماهي المقتضيات المعرفية والشروط المنهجية للنظر الفكري والفلسفي المبدع، وفق الخصوصية الثقافية لمجال التداول الإسلامي العربي.
انقسمت النخب العربية المثقفة، في محاولة لرفع بعضا من هذه التحديات إلى اتجاهات مختلفة، ورؤى أحيانا متناقضة، تروم استشكال هذه القضايا المصيرية، التي تهم إشكالية المنهج في تقويم التراث الإسلامي العربي، وقضايا الفلسفة العربية وارتباطها بالتحرر والاستقلال عن المنقول الغربي، وإشكالية تجديد الفكر الديني، بمنهج ورؤية معينة.
فمن منتصر لفكرة ربط الحاضر بالماضي، وإعادة الاعتبار للتراث الثقافي والفكري، طمعا في تحقيق النهوض والإقلاع؛ ومن عامل على ربط حاضر الأمة بحاضر الغرب، طلبا للوصول إلى ما وصل إليه، عن طريق النسج على منواله. وبقدر ما اغتربت الفئة الأولى المنتصرة للماضي، بقدر ما اغتربت الفئة الثانية وهي تجتهد في تقليد الآخر، جاعلة من حاضره المشهود مستقبلها المنشود. فلا تزال كل فئة تنشد الفناء إما في الذات المفقودة، تارة، وإما في الآخر الموعود تارة أخرى. ولعل المتأمل في تاريخ الفكر العربي المعاصر، يلمس كيف بلغت المشاريع الفكرية الذروة في شقها المبجل للذات أو للآخر، حتى غدت لغة الإقصاء للفكر المخالف تكلل بها الدراسات والأبحاث، وتتوج بها المشاريع والإنجازات.
في خضم هذه التجاذبات الفكرية، وما أفرزته من إنتاجات ودراسات علمية وفلسفية غزيرة، لم يجد كثير من الباحثين والمفكرين المعاصرين في الخطابات العلمية المعاصرة الجادة، من يتصدى لمثل هذه التحديات بجواب أوفى من الجواب الذي انتهض لتحريره الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن.
هذا الرجل، الذي فتح من خلال مشروعه الفكري جبهات متعددة، حاول فيها الانتصار لمنهجه، الذي يجمع بين التحليل المنطقي والتشقيق اللغوي، والارتكاز على مبادئ الحوار والمناظرة، في إطار العمل على تقديم مفاهيم ومصطلحات مستقاة من حقل التراث الإسلامي، ومستندة إلى آخر ما توصل إليه الفكر الغربي المعاصر على مستوى نظريات الخطاب، والمنطق الحجاجي والفلسفة، وهو الأمر الذي جعله ينتصر لمبادئ المجال التداولي المؤسس على مقومات العقيدة واللغة والمعرفة، باعتبارها أنساقا معرفية ومنهجية، ينبغي إعمالها في البحث والنظر والتفلسف.
أهمية البحث وإشكالاته الكبرى
تكمن أهمية البحث في مشروع طه عبد الرحمن، من حيث أنه يشكل لدى بعض الدارسين لحظة زمنية فارقة ومتميزة في الوعي الإسلامي العربي المعاصر. فقد كانت الأهمية القصوى تنبع من جانب راهنية الدرس الطهاوي، من حيث إسهامه الكبير والوازن في بلورة رؤية جديدة في الساحة الفكرية العربية والدولية، ومحاولته إنجاز وإنتاج أنموذج فكري فريد ومبدع.
وتستند الأعمال العلمية التي عمل طه على بلورتها منذ ما يزيد عن أربعين سنة من العمل العلمي الجاد إلى مقومات رئيسية، تنزل منزلة الأنموذج الفكري (براديغم Paradigme)، أو النظريات، التي سلك فيها منهجية ورؤية محددة، تهدف إلى إعادة النظر في القضايا والإشكالات التي يخوض فيها الفكر العربي المعاصر، يحاول فيها إثبات جملة من الحقائق العلمية، تُسهم في بناء أنموذج فكري فلسفي، ينهل من معين الخصوصية الثقافية للأمة العربية والإسلامية، وينفتح على أحدث المناهج العلمية المعاصرة في العلوم الإنسانية.
تتوزع أعمال هذا الأنموذج، على ثلاث قضايا أو نظريات أساسية، أراها جديرة بالبحث والدرس والتحليل، ضمن أعمال الفيلسوف طه العلمية.
أما النظرية الأولى، وهي التي عنونتها بـ: النظرية التكاملية دعوى إعمال المنهج التكاملي في تقويم التراث
انشغل الفكر الإسلامي العربي المعاصر بالبحث العلمي المكثف في قضية التراث الإسلامي العربي، من خلال سؤال المنهج، قراءة وفحصا وتقويما. وهو السؤال الذي تفرقت حوله النخب الفكرية وانقسمت إلى اتجاهات متعددة من بيئات ومشارب مختلفة، أعادت طرح أسئلة النهضة والتحرر، التي بقيت معلقة عبر التاريخ الحديث والمعاصر، وفي مقدمها سؤال التراث، وإشكالية التعاطي مع نصوصه ورموزه، بين التبجيل إلى حد التقديس، وبين التبخيس إلى حد القطيعة.
ومع انخراط الفكر العربي في الحداثة، وتبنيه لمناهج النقد الغربية، بآلياتها ومفاهيمها ومصطلحاتها غير المألوفة في التداول الفكري العربي، التي شغلت اهتمام المفكرين العرب، ما دفعتهم إلى مزيد من الانخراط في المشاريع النقدية، حتى غدا النقد عنوانا عريضا يكلل الإنتاجات الفكرية المعاصرة. فما كان من نتائج هذا النقد، أنها نحت منحى مجانبا لحقيقة التراث، وللمنهجية العلمية التي بنيت بها نصوصه.
وعليه، فإننا اليوم بحاجة إلى إعادة قراءة التراث الإسلامي العربي، قراءة تتسم بالأصالة والدقة العلمية والمنهجية، في التعاطي مع أشكاله ومضامينه، ومختلف أحداثه وشخصياته، وتتجاوز كل التحيزات الأيديولوجية الإسقاطات المنهجية التي تتم على مستوى التاريخ والثقافة. وفي سبيل الوقوف على المنهج الجديد في تقويم التراث، عملت على تعقب القراءة ومنهج التقويم الذي اضطلع به طه عبد الرحمن، بشيء من العمق، واقتربت أكثر من منهجية نقده واعتراضه على منهجيات التقويمات المعاصرة.
تقول فكرة التكامل: إن تقويم التراث، لا ينبغي أن يكون إلا بفقه المنهج التكاملي، الذي ميز علومه ومعارفه؛ فتحقيق الإبداع، الذي يوصلنا إلى التحرر الفكري، لا يتم إلا بواسطة استخراج المنهجية التي نظر لها من تقدمنا من النُّظار المسلمين، ممن حافظ على الخصوصية التداولية لثقافته الإسلامية الأصلية، وكرس في كتاباته استقلالية عقل المسلم.
هذه المنهجية المستنبطة من التراث، ينبغي إعمالها عند تقويم عطاء العلماء المتقدمين، في مختلف المجالات التي خاضوا فيها، وهو الأمر الذي يوجب الابتعاد عن الأحكام والدعاوى المسيسة، التي أطلقها بعض من خاض في تقويم التراث من المعاصرين. وكان محمد عابد الجابري في نظر طه من أبرز المفكرين الذين انتهجوا هذا السبيل في تقويمهم للتراث، بحيث أنه اعتمد مفاهيم غربية مستمدة من مجال تداولي غريبة عن الثقافة العربية الإسلامية، من قبيل القطيعة المعرفية، وغيرها من المفاهيم، ذات التوجه الانفصالي عن الترات.
لذلك، فإن تقويم التراث موقوف على قراءة جديدة، بمنهج يقوم عند طه على دعامات أساسية، يمكن إجمالها في ثلاث: أولاها، ضرورة الكشف عن الآليات التي أنتج بها التراث، لفهم وتقويم مضامين نصوصه؛ ثانيها، التزود بالعدة المنهجية لإعمالها في قراءة التراث، ثالتها، إعمال منهج التقريب التداولي الذي يمحص المنقول من التراث الأجنبي، ليصير ملائما للمجال التداولي الإسلامي العربي.
إن المقاربة التكاملية بين النص التراثي والآليات المشكلة لمضامينه، ستكشف للباحث عن البنية المعرفية والقيمية للتراث؛ أي، عن نظام معرفي متماسك، يقضي بتلازم آليات إنتاج المعرفة ومضامينها. فالتقويم الذي يتولى استكشاف الآليات والوسائل المنهجية التي بني بها النص التراثي، والنظر في بُناها المنطقية واللغوية والمنهجية التي تأصلت وتفرعت بها مضامين التراث، كما يتولى استعمالها في نقد هذه المضامين، يصير إلى الأخذ بالنظرة التكاملية.
أما النظرية الثانية فهي التي عنونتها بـ: النظرية التداولية في الفلسفة دعوى الإبداع في الإنتاج الفلسفي العربي
فقد تولى طه في مشروعه الفلسفي الاشتغال أيضا على الآليات المنهجية، والمضامين الفكرية، لتحصيل القدرة على الإبداع في القول الفلسفي العربي، وكيفية الّنهل من معين الفلسفة الإسلامية القديمة، والتراث العربي، كما ينهل الآخرون من تراثهم في إبداع فلسفتهم. وقد كان صدور مشروع فقه الفلسفة، بالنسبة لكثير من الباحثين انعطافا حقيقيا له وزنه في الدرس الفلسفي المعاصر.
تقتضي الدعوى التي بسطها طه في مشروعه الفلسفي، بأن النهوض بالفكر والفلسفة، قولا وعملا، لا يُتوصل إليه إلا بفقه ودراية آليات التداول الفلسفي الخاصة بثقافة الفيلسوف. فإذا كان للتراث الإسلامي العربي إبداعه الخاص، الذي نهض به علماؤه ومنظروه، وتفرد بذلك عن باقي الإنتاجات الثقافية الأخرى، فإن للتراث الغربي كذلك إبداعه الخاص الذي يميزه عن غيره. ومن منطلق الدعوة إلى الانفتاح المعرفي والتلاقح الفكري بين الأمم، فإن استكشاف المنهجية الفلسفية التي اتبعتها ثقافة الغرب، لإنتاج وإبداع نموذجها الخاص في القول الفلسفي، يكون شرطا ضروريا لاستئناف مسيرة الأمة العربية الفلسفية.
تأسيسا على هذه الدعوى، تولى طه مهمة تنهض بمجال الإبداع الفلسفي العربي، بدءا من نقد الترجمة السائدة، وتقويم آلياتها وتصحيح مساراتها، ومراقبة كيف تتم ترجمة النص الفلسفي اليوناني وغير اليوناني، عبر مراحل الترجمة التي تبتدأ بالترجمة التحصيلية، فالترجمة التوصيلية، ثم الترجمة التأصيلية، جاعلا أفق الترجمة المبدعة، أن تكون ترجمة أصيلة إبداعية، تلامس هموم الفيلسوف وخصوصيته الفكرية والثقافية؛ انتهاء بمرحلة مهمة من مراحل المشروع، وهي كيفية خروج الفلسفة العربية من التقليد والتبعية، بإنشاء وإبداع الفيلسوف لمفاهيمه ومصطلحاته، ونحتها وفق مجاله التداولي.
وقد كان العمل في هذا البحث على تعقب مظاهر ما سمي بالانقلاب الفلسفي على المشاريع العلمية المعاصرة، واستجلاء ما ينحته الرجل من شروط النهوض الفكري والمعرفي الجديد، بما يمكن أن يجعل الباحثين مقتدرين على إنتاج فكر فلسفي مبدع، وتأسيس ما سمي بالفلسفة الحية، التي تأخذ بخصائص أساسية في مشروع فقه الفلسفة وهي: خاصية الشمولية النموذجية، والمعنوية القصدية، والعقلانية الاتساعية، ثم التبعية الاتصالية، هذه الخصائص تعتبر مناط دعوى النظرية التداولية في الفلسفة، وتقتضي مراجعة المنتوج الفلسفي العربي السائد، وإعادة إنتاجه وفق مبادئ وقواعد محددة.
أما النظرية الثالثة فقد عنونتها بـ: النظرية الائتمانية في أفق التأسيس لفلسفة إسلامية خالصة
تتعلق هذه النتظرية بأنموذج يتأسس على وضع لبنات فلسفة إسلامية خالصة، تستمد أصولها المعرفية من الوحي، وتتكشّف فيها أبعاد المسؤولية الفردية والجماعية الملقاة على عاتق الإنسان والمجتمع. وهذه الرؤية هي محاولة من الرجل لدرء الآفات الخُلقية والأزمات الروحية، التي تعصف بالمجتمع البشري، والإسهام، من ثم، في بناء إنسان أكمل وعالم أفضل.
وتنبني فلسفة النظرية الائتمانية عند طه على نقد شامل للحداثة الغربية نقدا أخلاقيا، يُقوّم في هذا النقد أزمات النمط الفكري والمعرفي والتقني الحديث، ويبين ضيق أفقه، ما جعله يبلور في سياق هذا النقد الأخلاقي مفاهيم فلسفية مستقاة من المنظومة المفاهيمية للوحي والتراث الإسلامي، ليصل إلى وضع أصول وقواعد فلسفة ذات نسق أخلاقي سميت بالفلسفة الائتمانية.
يستمد مفهوم الائتمان مرجعيته المؤطرة من مصطلح الأمانة؛ والتي هي في مفهومها العام هو ذاك العرض الذي تلقاه الإنسان، وتحمّل على إثره أمانة اختياره، وهو محفوظ في ذاكرة الإنسان الغيبية، يجد أثره في عالم الشهادة، كما كان في عالم الغيب. ويتأسس هذا العرض أو الميثاق الغيبي على عنصري حرية الاختيار وتحمل المسؤولية؛ وبناء عليه، فإن تمتع الإنسان بالحرية في الاختيار، راجع إلى تحمل مسؤولية هذه الأمانة وتبعاتها. إذن منطلق الدعوى الائتمانية هو أصل واحد، وهو تحمل الأمانة التي تقتضي في مضمونها، أن الإنسان تحمّل حفظ الأحكام الإلهية، لا في ظاهرها كأوامر وحسب، بل أيضا، في باطنها كشواهد، سعيا إلى توسيع وجوده إلى أقصى مداه؛ وهو ما يعني أن الأوامر الإلهية والتكاليف الشرعية، ينبغي أن يُنظر إليها على أنها أمانات، يتحمل الإنسان مسؤولية حفظها في الوجود، شاهدا على نفسه بأدائها على أكمل وجه، مرتقيا بهذا الأداء إلى درجات ومنازل يرى فيها وجوده المرئي يتسع فضاؤه ويعلو أفقه.
ويسعى طه في هذا التأسيس إلى تجديد الخطاب في الفلسفة الدينية، بحيث أضحى خطابا فلسفيا أخلاقيا بالدرجة الأولى، ما جعله يعيد طرح رؤية جديدة في كيفية إحياء الإنسان المعاصر، انطلقا من نظرية الحياء، قصد تذكيره بالميثاق الأول الذي كان بينه وبين خالقه، في محاولة لانتشال الإنسان من ظلمات الحالة العقدية، (نسبة إلى العقد الاجتماعي لجون جاك روسو وقبله طوماس هوبز)، هذه الحالة التي يعتقد طه أنه خان فيها الأمانة، لينقله إلى الحالة الميثاقية الائتمانية.
دوافع البحث وصعوباته
تشكل الإطار العام لأطروحة هذا البحث، من داخل الهمّ الذي أعيشه كإنسان عربي مسلم، ومن همّ أحمله كباحث ينشد العلم والمعرفة؛ فهذا الهم، يُحملني المسؤولية أكثر، في إمكان المساهمة في رفع مستوى الوعي العلمي المنهجي والمعرفي، من خلال الالتفات إلى المشاريع العلمية التي بصمت بحق آثار الجد والاجتهاد، في الخروج بنا من آفات التبعية والتقليد، إلى التحرر والتجديد.
إن الاهتمام المتزايد، بدراسة المشاريع والأفكار النهضوية المبدعة، التي تنبع من معين الهوية الإسلامية العربية، والمستندة إلى منهج علمي دقيق، تسترشد بأحدث ما جد في الدرس الإنساني والاجتماعي، كانت مسألة حاسمة بالنسبة لي في تحديد الوجهة وتعبيد المسار العلمي. حيث حاولتُ قدر الإمكان، البحث من داخل اهتماماتي العلمية، في القضايا والإشكالات المتعلقة بالنهضة الحضارية، لاسيما المتعلقة بإشكالية المنهج. فكان البحث في عمومه، متصلا بأبرز هذه القضايا، التي لازالت تؤرق الباحثين والدارسين على اختلاف توجهاتهم.
وبناء عليه، فقد نبعت دوافع الاهتمام بفكر طه عبد الرحمن، لما عرفته مدرسته العلمية من متابعة واسعة في الساحة الفكرية العربية، ولما لفكره المتجدد من تأثير علمي كبير، مما لا يسع الباحث إلا أن ينهمك في دراسة هذا المشروع، والانكباب على تفحص أطروحاته العلمية، علّه يستقي منها أسباب الوعي للخروج من بوتقة التقليد، إلى فضاء الإبداع والتجديد.
وقد واجهتني صعوبات جمة في هذا العمل، وأنا أحاول أن أقدم العمل تقديما جيدا، وأعرض أفكار الرجل عرضا مبسطا، يستطيع القارئ من خلاله أن يُلم إلماما ولو جزئيا، بأهم أفكار ودعاوى مشروع طه عبد الرحمن. ذلك أن تقديم الموضوع، وعرض الأفكار برؤية واضحة ومنسجمة، لم يكن أمرا سهلا؛ فقد تعلقت هذه الصعوبات أساسا، بوعورة في المتن الطهاوي، وصعوبة في اللغة، وتشعب في المسالك والمناهج. يرجع ذلك كله إلى أن طه اختار مدخل اللغة لبسط نظرياته، إلا أنه توغل في هذا الباب كثيرا حتى غالى أحيانا في التشقيق والتفريع اللغوي، واعتماده منظومة اصطلاحية شاقة وشائقة، الأمر الذي جعل متابعة الأفكار والتنسيق فيما بينها يصعب علي في كثير من الأحيان، وهو ما احتجت معه إلى جهد جهيد، وصبر طويل.
منهج البحث وخطته
سعيت قدر الإمكان في هذا البحث إلى تقديم صورة عامة وشاملة عن الإنجاز الفكري لطه عبد الرحمن، وقد تطلب ذلك معرفة واستعمالا لأكثر من منهج من مناهج البحث في الفكر والعلوم الإنسانية، كي نخرج بالقيمة العلمية المرجوة.
ويأتي المنهج الوصفي في طليعة المناهج المعتمد في هذا البحث، من حيث ما يتطلبه العمل العلمي من وصف شامل، وتفصيل دقيق وعميق للأفكار والدعاوى والأطروحات التي اعتنى بها طه. واعتمدت أيضا، المنهج التحليلي، الذي هو بمثابة منهج مكمل، يأتي بالتشارك أو التداخل مع المنهج الوصفي. ويمكن القول، أن البحث اعتمد منهجا وصفيا تحليليا؛ استندت فيه على تحليل الأفكار، وتفكيك القضايا والإشكالات، ثم تجميعها وتقويمها، ونقدها في بعض الأحيان. والتمست بهذا الصدد، منهجا نقديا، لمساءلة بعض الأفكار والأطروحات، التي قررها الرجل في أعماله العلمية، ومناقشة جوانب قوتها العلمية والمنطقية.
بناء على هذا التصور المنهجي جعلت مدار هذا البحث، على مقدمة وثلاثة أبواب، يضم كل واحد منها فصولا معلومة، وخاتمة.
أما المقدمة، فقد كانت عرضا شاملا، لموضوع البحث وأهميته، والإشكالات التي طرحت إزاءه، مبرزا فيها، معالم نظريات أنموذج طه عبد الرحمن الفكري.
الباب الأول: احتوى على أربعة فصول، تعلق مضمونها بتقويم القراءات المعاصرة للتراث الإسلامي، ونقد أطروحاتها، وببيان أركان النظرية التكاملية في تقويم التراث الإسلامي العربي.
فتفرد الفصل الأول، بتسليط الضوء على المقدمات المنهجية، التي ينبغي اعتبارها عند تقويم التراث؛ كما تولى الفصل الثاني، بيان النزعات النقدية التي تولت تقويم التراث، والوقوف على المسالك والآليات التي اعتمدت في نقد مضامينه؛ وتعرض الفصل الثالث، لطرح معالم النظرية التكاملية في تقويم التراث، والاشتغال على الآليات الإنتاجية، ومبدأ التداخل المعرفي؛ في حين بحث الفصل الرابع، مظاهر تكامل التراث، ومبدأ تقريب العلوم المنقولة إلى المجال التداولي الإسلامي العربي.
الباب الثاني: فقد ضم أربعة فصول، تعلقت مضامينها بالنظرية التداولية في الفلسفة، المتمثلة في إنشاء علم فقه الفلسفة، والإجابة على إشكالية العلاقة بين الفلسفة والترجمة.
فتميز الفصل الأول، ببيان معالم مشروع فقه الفلسفة، ومدى ارتباطه بالإبداع والتجديد؛ وتفرد الفصل الثاني، بتوضيح قلق الصلة بين صفات الفلسفة التقليدية، وخصائص الترجمة؛ كما اختص الفصل الثالث، بمراجعة المفاهيم الفلسفية التقليدية السائدة، وبيان الصفات التجديدية للفلسفة؛ أما الفصل الرابع، فقد تطرق إلى استشكال سؤال الترجمة العربية للفلسفة اليونانية، وبيان ضروبها، المتمثلة في الترجمة التوصيلية، والتحصيلية، والتأصيلية، ومقتضياتها، من خلال النموذج النظري للترجمة العربية للنص الفلسفي، وتطبيقاته على نموذج الكوجيتو الديكارتي.
الباب الثالث: فقد احتوى على خمسة فصول، دارت مضامينها على النظرية الائتمانية، والنقد الأخلاقي للحداثة الغربية، والتأسيس لفلسفة إسلامية خالصة.
توقف الفصل الأول، لبيان أسس ومبادئ النظرية الائتمانية، ومقتضياتها العلمية والمعرفية؛ وتطرق الفصل الثاني، لارتباط النظرية الائتمانية بمسلمة توسيع الوجود الإنساني، غيبا وشهادة، ونقد الدعوى العلمانية التي تفصل بين الغيب والشهادة؛ فيما كشف الفصل الثالث، عن مفهوم الفلسفة الائتمانية في ارتباطها بقضية العقلانية الإسلامية العملية، المؤيدة بالنصوص المؤسسة للتراث الإسلامي؛ في المقابل، اعتنى الفصل الرابع، بمبادئ عقلانية التأييد، التي تُجاوز آفات العقل المجرد، التي أصابت الفلسفة الغربية الدهرانية، وكيف تم نقد مشاريع الأنموذج الدهراني؛ بينما ركز الفصل الخامس، على فلسفة الحياء، وشروط إحياء الإنسان المعاصر، في مواجهة التحديات الأخلاقية المعاصرة.
أما خاتمة البحث، فقد توقفت فيها، على عرض الخلاصات التي خرجت بها نهاية كل باب من أبواب الأطروحة، والتي شكلت عُصارة أفكار نظريات الأنموذج الفكري الطهاوي، الذي تعقب في مجمله أطروحة النظرية التكاملية، والنظرية التداولية، والنظرية الائتمانية.
زر الذهاب إلى الأعلى