الأستاذ الدكتور اليزيد الراضي رئيس المجلس العلمي بتارودانت الإسلام والفكر ونظرا لأهمية الفكر، ودوره الكبير في توازن الإنسان، واستقامة حياته على الأرض، وقف الإسلام منه موقفا إيجابيا، وأولاه عناية خاصة، تجلت أكثر ما تجلت فيما يلي: 1ـ إيجاب المحافظة على العقل: ليبقى جهازا صالحا للاشتغال، نطمئن إلى سلامته، ونثق بصدق نتائجه، ونرتاح إلى صحة أحكامه، ولذلك حرم الإسلام كل ما يفسد العقل، ويطفئ نوره، من مسكرات ومخدرات، وكانت المحافظة على العقل إحدى الضروريات الخمس، التي اتفقت بشأنها كل الديانات السماوية. 2ـ الأمر باستخدام العقل: باستغلال ما أودع الله فيه من قدرة على التفكير والتدبر والموازنة والاستنتاج، ويكفي هنا أن نعلم أن الآيات القرآنية التي تدفع إلى العلم والفكر والنظر والبحث، تربو على ثمانمائة آية[1]. 3ـ ربط التكليف بالعقل: باعتباره أداة فهم أوامر الله ونواهيه، ووسيلة إدراك مقاصد الشرع، وأهداف التشريع، قال صلى الله عليه وسلم: “رفع القلم عن ثلاثة:… وعن المجنون حتى يفيق”. 4ـ التنويه بالعقلاء المفكرين، باعتبارهم المؤهلين لفهم ما يعرض عليهم في القرآن والحديث، من قضايا وحكم وأسرار: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] 5ـ ذم الذين يعطلون عقولهم، ولا يستغلون إمكانياتهم الفكرية، ويرتمون في أحضان التقليد الأعمى، الذي يطمس البصيرة، ويحول دون الفهم والإدراك، ويكرس الأخطاء، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. وقال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:22-23]. 6ـ غنى المعجم العقلي في القرآن الكريم: ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى أن الآيات التي تشير إلى العقل ومشتقاته ومرادفاته، تفوق ثلاثمائة آية. وهذه العناية الفائقة التي أولاها الإسلام للعقل، ترد ردا واضحا مفحما، على منتقصي دورالعقل، ورحم الله العقاد الذي ألف في الرد على أمثال هؤلاء كتابه النفيس: “التفكير فريضة إسلامية”. أزمتنا الفكرية عرفت الأمة العربية والإسلامية في وقتنا الراهن، أزمة فكرية حادة. وعانت ضائقة ثقافية خانقة، تمثلت في كثرة المفكرين الذين لا فكر لهم، والمثقفين الذين لا ثقافة لهم، والعلماء الذين لا علم لهم، كما تمثلت في انتشار الحيرة والتردد والقلق، والشعور بخيبة الأمل، وتفاهة الحياة، والتراجع المستمر للإيمان بكرامة الإنسان، وتفوقه العقلي، وتميزه الخلقي والخلقي، والاجترار، والاكتفاء بحشو الأدمغة بمعلومات غير متجانسة، وزحف الغرور والإدعاء والجهل المركب، والهروب من المسؤولية، والجهل التام بالهدف من الحياة. وهذه الوضعية الفكرية المأساوية، تحتم على المربين والمدرسين، أن يبذلوا قصارى جهدهم، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتدارك ما يمكن تداركه، وإلا أدى هذا التدهور المطرد إلى الإفلاس والموت. وقد يتساءل المرء عن أسباب هذه الأزمة، فتقدم لـه أجوبة متناقضة متضاربة، ونحن لانشك في أن عوامل هذه الأزمة الفكرية متشعبة ومتشابكة ومتداخلة، ولكننا مع ذلك واثقون من أن على رأس تلك الأسباب ما يلي: 1ـ البعد عن منابعنا الفكرية الأصيلة، التي تتمثل في الكتاب والسنة، وهذا البعد جردنا، من حيث نشعر أو لا نشعر، من قاعدة فكرية أصيلة، ارتكزت عليها ثقافتنا وحضارتنا، و انبنت عليها تصوراتنا للإنسان والكون والحياة. 2ـ الغزو الفكري، الذي أوقعنا في شركه، وجردنا من مقوماتنا الفكرية والحضارية، وأمعن في حشو أدمغتنا بأفكار سامة، ونظريات ملغومة، خدرت عقولنا، وأفقدتنا وعينا، وجعلتنا في وضع فكري لا نحسد عليه، والغزو الفكري – كما هو معلوم – إذا استحكم في أمة، نسف هويتها الفكرية، ودمر شخصيتها المعنوية، واجتث جذور حضارتها وأصالتها، وألقى بها في متاهات الاستلاب والاغتراب؛ وأصبحت هياكل فارغة وأدمغة خاوية. 3ـ وسائل الإعلام السمعية والبصرية، التي استخدمها أعداء الأصالة والفكر المتزن، للتضليل والتشويه والتحريف، وهي ورقة رابحة في لعبة المكر والدهاء، التي استهدفت الإنسان المعاصر عامة، والشباب بصفة خاصة، وهي وجه كالح من وجوه التحديات الكثيرة. وقد كثر ضحاياها، لأنها غزتنا في عقر دورنا، واقتحمت علينا بيوتنا، ولاحقتنا في كل مكان، بهدف استغلالنا واستعبادنا والسيطرة المطلقة علينا. 4ـ ارتماؤنا في أحضان الثقافة الأجنبية، واعتقادنا أنها المثل الأعلى، الذي يعكس النضج الفكري، والعمق المعرفي، والتفوق الحضاري، فسقتنا سمومها القاتلة وأربكتنا بتناقضاتها وتفاهتها، وأفقدتنا القدرة على تمييز النافع من الضار والحق من الباطل، وكأننا لا نعلم “أن أصول الحضارة الغربية ليست مخالفة لتاريخنا ووجودنا الحضاري فقط، بل هي متجهة إلى معاداتنا وإهلاكنا حضاريا. أي أنها تستهدف اعتصار كل قيمنا وخيراتنا وقوانا، وصبها في أقنية المصالح الغربية، حتى وإن اقتضى ذلك أن تحيل هذه الأمة بكاملها إلى حثالة أو ركام. 5ـ خضوع برامجنا التعليمية والتربوية للتوجيهات الأجنبية، ولا شك أن ذلك يشكل خطرا كبيرا على حاضرنا ومستقبلنا، لأن أجيالنا الناشئة لم تعد تُصنَع على أعيننا، بل أصبحت تُصنَع على أعين أعدائنا، كما يريدونها لا كما نريدها نحن. وخضوع برامجنا للتوجيهات الأجنبية شر ما ابتلي به العرب والمسلمون، لأن ذلك يجعل التأثير الأجنبي مشروعا رسميا، وينقله إلى آفات عريضة تمثل أمل الأمة وعدة مستقبلها. 6ـ ثقتنا بالمؤسسات التعليمية الأجنبية، وإرسال وفود من طلابنا للتعلم فيها، ذلك أن هذه الوفود قامت بأكبر الأدوار وأخطرها في نقل ميكروبات الحضارة الغربية، وسمومها الفكرية والنفسية والخلقية والاجتماعية، إلى عالمنا العربي والإسلامي. وقد عرف الغربيون الدور الاستراتيجي لهؤلاء الطلاب، فرحبوا بهم في مدارسهم وجامعاتهم، وصاغوهم بالكيفية التي يريدون، وعلى الشكل الذي يحبون، فكانوا بعد عودتهم إلى أوطانهم، رسل الحضارة الغربية، يبشرون بها، ويحومون حولها وقد أعرب ماسينيون عن مهمة جامعات فرنسا تجاه الطلاب المسلمين، فقال “إن هؤلاء الطلاب المسلمين، الذين يصلون إلى فرنسا يجب أن يصاغوا صياغة غربية خالصة، حتى يكونوا أعواننا في بلادهم[2]، وقال هِيكل: “التعليم أعظم عمل يقوم به المجتمع الذي يرغب في التخلص من الأديان”[3]. وصدق من قال: “إن الرجل الشرقي يقتل عدوه بشرخ رأسه، وأما الغربي فبتغيير طبيعته وقلبه”[4]. 7ـ الازدواج اللغوي والثقافي، وما أدى إليه عند العرب والمسلمين من تناقضات فكرية صارخة، وقد نتجت عن هذا الازدواج، نتائج سلبية خطيرة، على رأسها: أـ انصراف الكثيرين عن اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية، وذلك ينطوي على خطر مزدوج، يتمثل في: ـ أن بعدنا عن العربية، يحرمنا من الاستمداد من ثقافتنا وحضارتنا، ويبعدنا بذلك عن أصالتنا وهويتنا. ـ أن ارتماءنا في أحضان اللغات الأجنبية، يزج بنا في غياهب التصورات الغربية وأيديولوجياتها، “وعجمة اللسان ـ كما قيل ـ تقود إلى عجمة الفكر”[5] ومن الخطأ الفادح، الزعم بأنه لا مانع من إسلامية التفكير مع أعجمية التعبير[6]. ب ـ تمزيق الوحدة الثقافية في العالم العربي والإسلامي، فقد أدت هذه الازدواجية اللغوية والثقافية إلى تمزيق وحدة العالم الإسلامي والعربي، وذلك لأن هذه الازدواجية ولدت بين المسلمين صراعا فكريا، صار معه التقاء المسلمين على فكر واحد وثقافة واحدة أمرا في غاية الصعوبة[7]. 8ـ عدم ضبط المصطلحات، مما أساء إلى فكرنا، وساهم في تفاقم أزمتنا الثقافية، أننا لا نضبط المصطلحات المستعملة ضبطا دقيقا، فنؤولها على غير حقيقتها، ونستهلك بعض الشعارات دون تحديد مفاهيمها، فنخدر بها الأفكار ونسمم الجو الثقافي ونميع القضايا، ويصدق علينا في استعمالنا الكثير من هذه المصطلحات والشعارات قول الإمام علي رضي الله عنه: “كلمة حق أريد بها باطل”. ومن هذه المصطلحات والشعارات، التي نجازف في استعمالها، ونغامر في استهلاكها، “حرية الفكر” و “التسامح” و “التفتح” و “المرونة”، و”العقلي” واللاعقلي”، و “الغيبية ” و”التزمت” و “التقدم” و”الرجعية” و “التطرف” و “المثالية”، و “الأصولية”… ألخ. ورحم الله العالم الجليل سيدي أحمد العدوي الذي قال يوما لأولاده على مائدة الغداء ناصحا ومحذرا، “احذروا الحاءات المسمومة: حقوق الإنسان، وحرية التعبير، والحوار بين الأديان”. وقد أدى انتشار هذه المصطلحات والشعارات ـ التي تعني كل شيء، ولا تعني أي شيء ـ إلى الفوضى الفكرية، والتعمية والتعتيم، وانتشار الأوهام، وتمييع المعرفة الإنسانية، وكثرة البلبلة والتشويش. البناء الفكري ضرورة تربوية ملحة لا شك أن التربية الموفقة الناجحة، هي التي تهتم بالإنسان كله، وتتعهد بالرعاية والصقل والتهذيب، جوانب شخصيته المختلفة، فلا تهتم بجانب وتغفل جانبا آخر، لأن التربية الشاملة المتكاملة، هي التي تكون الإنسان السوي المتوازن، المنسجم مع نفسه، ومع الكون من حوله، أما التربية الجزئية المبتورة، فلا تُكَونُ إلا إنسانا ناقصا مختلا غير متوازن وغير منسجم. ومن هنا كان من واجب المربين: أن يهتموا بالجانب الفكري في الإنسان، كما يهتمون بالجوانب الأخرى، لأن إغفال الفكر، وإسقاطه من الحساب وإلغاءه من الاعتبار، يعني إلغاء جزء مهم في الإنسان، وإسقاط عنصر أساسي من عناصر شخصيته. والإنسان ـ كما هو معلوم ـ وحدة متكاملة لا تتجزأ، وليس فيه جزء زائد، يمكن إهماله أو الاستغناء عنه، وإذا جزئ الإنسان وأهمل جانب من جوانبه، ضاعت شخصيته، وشوهت صورته، واختل توازنه. وضرورة اهتمام التربية بالبناء الفكري للإنسان، نابعة لا من كون الفكر جزءا من الإنسان فقط، وإنما هي نابعة أيضا من كون الفكر هو الموجه الرئيسي للإنسان، وهو النور الذي ينير الطريق، ويبين مواقع الخطأ، فإذا روعي حق الرعاية، وقدم له الغذاء الكامل المناسب، نما وازدهر، ووجه الإنسان إلى الخير، وقاده إلى المصلحة العامة والخاصة، العاجلة والآجلة، وأصبح الإنسان عضوا إيجابيا في أمته، وعنصرا مفيدا في مجتمعه، يبني ولا يهدم، وينفع ولا يضر، ويصلح ولا يفسد. فوائد البناء الفكري ومن فوائد البناء الفكري والنضج العقلي: ـ الشعور بالكرامة البشرية، وتميزه عن الحيوانات والأشياء، وهذا الشعور ضروري ليستعيد الإنسان ثقته بنفسه، ويتحرر مما أحاطته به كثير من النظريات. ـ الشعور بالسعادة والاطمئنان. ـ امتلاك الحصانة الفكرية، التي تحمي من الغزو الفكري، وتمنع الإنسان من أن يكون ريشة في مهب الرياح، وفي الحديث الشريف: ” لا يكن أحدكم إمعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم، وقال عبد الله بن مسعود: “لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: تقول: إنما أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على إن كفر الناس أن لا يكفر”[8]. ـ فهم مغزى الحياة، وإدراك الهدف من استخلاف الإنسان في الأرض، وبذلك يتحرر الإنسان من الحيرة التي انتظمت – وما زالت تنتظم – نفوس الفلاسفة، وهم عاجزون عن إعطاء الأجوبة الشافية عن الأسئلة القديمة الحديثة، من أنا؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وإلى أين أمضي؟. ـ امتلاك معارف يقينية، مبنية، على أسس منطقية متينة. ـ الإحساس بلذة المعارف التي لا توازيها لذة. ـ فهم الخطاب الشرعي فهما سليما، وما يتبع هذا الفهم من الاستجابة له والسير على ضوئه. ـ التفاؤل وحب الحياة، والاستعداد للتضحية وتحمل المسؤولية. إستراتيجية البناء الفكري لا شك أن العملية التربوية والتعليمية، ترتبط بالعناصر الإنسانية الآتية: المربي، التلميذ، المعارف الملقنة، الطريقة المتبعة، وكل عنصر من هذه العناصر له شروط ومقومات، إذا توافرت على الوجه الأكمل، تكون العملية التربوية والتعليمية ناجحة، وتعود بركتها على التلميذ وعلى المربي، وعلى المجتمع كله، وإذا فقدت تلك المقومات الضرورية كلا أو بعضا، فإن العملية التربوية يشوبها النقص، ويحيط بها الإخفاق، وتكون نتائجها إما هزيلة وإما عكسية. ولذلك ارتأيت أن أتناول هذه العناصر واحدا تلو الآخر، في محاولة مركزة سريعة، لرسم الخطوط العريضة للمنهج التربوي المفيد، الذي بإمكانه أن يزود الأجيال الناشئة، بفكر ناضج، وشخصية متكاملة، ووعي تام بالقضايا الهامة التي تعايش الإنسان ويعايشها، وتواجهه ويواجهها. 1ـ المربي المدرس: يعتبر المربي العنصر الرئيسي المتحكم في العملية التربوية، لأنه الموجه المباشر لها، والمشرف عليها، والمسؤول الأول عنها، فهو ربان سفينتها، الذي يستطيع إذا كان ماهرا حكيما، أن يجنبها المزالق والمضايق، ويسير بها نحو شاطئ الإفادة والاستفادة، بعيدا عن الأمواج العاتية، والعواصف الهوجاء، فتحقق أهدافها، وتؤدي مهمتها، وتعود بركتها وخيرها على المجتمع بكامله، وإذا لم يكن في المستوى المطلوب، أمكن أن ينسف كل شيء ويهدر كل شيء. فلا تجني الأجيال من قيادته وريادته إلا التعب والإرهاق، والخيبة والإخفاق. وإذا كان دور المربي المكون للأجيال، بهذا القدر الكبير من الأهمية، فإن من واجبه أن يستشعر خطورة منصبه، وثقل مسؤوليته، وصعوبة رسالته، فيحرص على التحلي بما تتطلبه هذه المهمة الشاقة، من مقومات فكرية وعلمية وخلقية، ولا يغامر ولا يخاطر، ولا يتصدى للتربية إذا لم يجد في نفسه القدرة الكافية على تحمل تبعاتها، والاضطلاع بأعباء أمانتها. وإذا كانت المسلمة المنطقية تقول: “فاقد الشيء لا يعطيه”، فإن معناها في مجال التربية أن الذي يتصدى للتربية، وهو في نفسه غير مُرَبى، لا يربي، وأن الذي ينقصه الفكر لا يكون بمقدوره بناء الفكر، وأن الذي لا علم لـه لا يعلم، وأن الذي لا هدف له، لا يحقق أي هدف، ويسلمنا ذلك إلى الاقتناع بأن المربي الكفء المقتدر، الذي تعلق عليه الآمال، وتنتظر منه جلائل الأعمال، لا بد أن تتوافر فيه شروط كثيرة أهمها: ـ الأمانة: لأنه مؤتمن على فلذات الأكباد، ورجال المستقبل، وشباب الأمة. ـ العلم والفكر: لأنه تصدى للتعليم، وتغذية العقول، وتنوير الأذهان، وبناء الأفكار. ـ التواضع؛ لأنه باب التفاهم، وطريق التعليم والتعلم، والإفادة والاستفادة. ـ الحكمة والمهارة، لأن المربى بمثابة طبيب، ولا طب بلا حكمة، ولا علاج بلا مهارة. ـ العقيدة السليمة، وهي أم هذه الفضائل، وأصل هذه المقومات، واشتراطها في المربي، لا تردد فيه ولا مساومة، لأن حديثنا التربوي موجه أساسا إلى المسلمين، والتربية التي تتجاهل واقع الناس وهويتهم، ولا تقيم كبير وزن لانتمائهم الديني والحضاري، لن تكون إلا تربية مزيفة، وخدعة مبيتة، ثم إن العقيدة هي التي تشعر المربي بالمسؤولية، وتوقظ فيه الضمير المهني الحي، الذي يدفعه إلى الإخلاص، والتفاني في القيام بواجبه، وأداء الرسالة المنوطة به. ومع كامل الأسف، أصبح ميدان التربية والتكوين، في وقتنا الحاضر، حمى مباحا لكل الناس، دون تمييز أو استثناء، ودون ضوابط وقيود، فتسلط عليه كثير ممن ليسوا أهلا له، وتطفل على حرمه المقدس، من لا يملكون المقومات السابقة، فآل أمره إلى ما آل إليه من تدهور وإفلاس، واشتراط مستوى علمي وتربوي تعبر عنه الشهادات العلمية والتربوية، لا يكفي لأن الشهادات الدراسية في عصرنا الحاضر، لا تضمن العلم، ولا تعكس الوجه الفكري والخلقي والمهني لحامليها، والوصول إليها بطرق غير مشروعة أمر ميسور، ورحم الله المختار السوسي، الذي كان يقول لطلبته هازلا وجادا في نفس الوقت “احفظوا علمكم حتى لا تأكله الفئران”. 2ـ التلميذ: إن الحديث عن التلميذ باعتباره عنصرا مستهدفا بالعملية التربوية، طويل وعريض لأنه يتعلق بأكثر من جانب، ويثير أكثر من قضية، ونحن هنا لن نثير سوى قضية واحدة نعتقد أن لها صلة وثيقة بالبناء الفكري الذي هو محور حديثنا، ويتعلق الأمر بالعلاقة التي تربط المربي بالتلميذ، وتحكم تعامله معه، فكيف يجب أن ينظر المربي إلى التلميذ وهو بصدد تكوينه وبنائه الفكري؟. أعتقد أن المربي لا ينجح في مهمته، ولا يوفق في عمله، إلا إذا بنى نظرته إلى التلميذ، وتعامله معه، على الاحترام والتقدير، ويتطلب ذلك من جملة ما يتطلب: 1ـ حسن الظن بالتلميذ، ويشمل ذلك حسن الظن بمستواه وبهمته ونيته، لأن سوء الظن يعكر الجو التربوي، ويمنع المربي من القيام بواجبه المطلوب، وفي القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وفي الحديث الشريف ” إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”[9]. 2ـ اعتبار التلميذ انسانا مفكرا، له قدرات عقلية مهمة تمكنه من الإدراك السليم، والفهم الصحيح. 3ـ اعتباره ذكيا بطبعه، وإذا حدث أن ثقل فهمه، فإنما ذلك لأمر عارض يجب البحث عنه لإزالته. 4ـ اعتباره أهلا للمناقشة والحوار، لو فتح المجال أمامه لأبدى آراءه بمنتهى الصراحة والوضوح، وتمكينه من مناقشة آراء غيره ـ كائنا من كان ذلك الغير ـ بكل وعي ومسؤولية. 5ـ محبته وإرادة الخير له، لأن ذلك أدعى لفائدته والأخذ بيده، والمربي الحق هو الذي يتمنى صادقا أن يكون تلميذه أحسن منه، فإذا حسنت علاقة المربي بالتلميذ، وتبادلا المحبة والتقدير: فإن ذلك يخلق الجو التربوي المناسب، ويمكن كِلاَ طرفي العملية التربوية من القيام بواجبه، فتعم الفائدة، وتكون النتائج جد إيجابية. أما إذا كانت العلاقة بين المربي والتلميذ علاقة متوترة، مبنية على الكراهية والحقد وسوء الظن، فإن الجو التربوي يكون موبوءا خانقا، فيستحيل التفاهم والإخلاص، وقد يمارس المربي في هذه الحالة التجهيلَ – كأسلوب للانتقام والتشفي- باسم التعليم، والتمييعَ باسم التهذيب، والإفسادَ باسم الإصلاح، والتخريب باسم البناء. حـ – المعارف الملقنة: يجب أن تكون المعارف التي تقدم للنشء، معارف صحيحة، تغذي العقل، وتنير الفكر، وترقى بالإنسان في مدارج العلم والثقافة، إلى المكانة التي تليق به، وتناسب تشريفه وتكليفه. وإذا كانت البرامج الحالية، والمقررات الدراسية المعتمدة، تعاني من القصور وضيق الأفق، فإن على المربي أن يتدخل في العملية التربوية، تدخلا إيجابيا، ليكمل النقص، ويتلافى القصور، ويسد الثغرات، ويسير بالمقررات في الاتجاه المطلوب، ولا ينبغي له أن يقف من هذه المقررات موقفا سلبيا، وينحني باللائمة عليها وعلى واضعيها، ويبرئ ساحته ويتملص من المسؤولية، ولا أن يتعامل معها تعاملا آليا، فتوجهه عوض أن يوجهها، وتتحكم فيه عوض أن يتحكم فيها. ومن هنا، يتطلب في هذه المعارف: 1ـ أن تبنى على أسس عقلية متينة، إذا كانت تتعلق بالقضايا العقلية. 2ـ أن تبنى على نصوص نقلية سليمة، إذا كانت مرتبطة بالقضايا النقلية. 3ـ أن تخلو من الشعوذة والخرافة والتدجيل، سواء تعلق الأمر بالخرافات القديمة، التي شابت التراث، وأفقدته كثيرا من وضوحه وصدقه وبهائه، أو تعلق الأمر بالخرافات المعاصرة، التي تحلت بزي العلم والعقل، واندست في غيبة الرقابة بين المعارف البشرية. وتشمل الخرافات القديمة ـ من جملة ما تشمل ـ: ـ الإسرائيليات التي تسربت إلى كثير من مجالات الثقافة العربية والإسلامية. ـ شطحات الصوفية الغلاة ومواجدهم وأذواقهم ورؤاهم، التي سلمها الكثيرون تحت غطاء العلم اللدني، أو الكشف أو المشاهدة أو الباطن أو الحقيقة. ـ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، التي انتشرت بين الناس، وأثرت أثرها السيئ في الأمة. ـ الدعاوي المنسوبة للأولياء، ولم يصح نقلها عنهم، وليس عليها أثارة من علم، ولم تنسجم مع المقاييس الشرعية، التي يجب الاحتكام إليها، لتمييز أولياء الرحمان، من أولياء الشيطان. ـ النظريات الفلسفية المرتبطة بما يسمى ما وراء الطبيعة، ويسميه المسلمون عالم الغيب. أما الخرافات العصرية فتشمل ـ من جملة ما تشمل ـ النظريات العلمية والفلسفية التي لم تتجاوز بعد مرحلة الفرضية، مثل: أـ الداروينية التي تسلب الإنسان كرامته وامتيازه النوعي. ب ـ الفرويدية التي تعلن حيوانية الإنسان، وخضوعه المحموم لسلطان الغرائز والشهوات. ج ـ الماركسية التي تؤله المادة، وتلغي الجانب الروحي من الاعتبار. د ـ الوجودية التي تنشر العبثية والتشاؤم والهروب من الحياة. ولا تكون المعارف المقدمة للناشئة سليمة، ولا تساهم في بناء أفكارهم، وتكوين شخصياتهم إلا إذا التزم المربون بمايلي: 1ـ أن يعلموا تلامذتهم العقيدة الإسلامية الصحيحة، لأن العقيدة هي التي تمثل حجر الزاوية في البناء الفكري للإنسان، وهي التي تؤمنه من المخاطر، وتجنبه المزالق وتضمن له المنعة الفكرية الضرورية. 2ـ أن ينطلقوا – خاصة في القضايا الفكرية الكبرى، المرتبطة بالإنسان والكون والحياة – من القرآن والحديث، وأن يقنعوا تلامذتهم بضرورة الانطلاق منهما باعتبارهما المصدر الوحيد للمعرفة اليقينية في هذه القضايا. 3ـ أن يساعدوا تلامذتهم – بكل الوسائل الممكنة- على أن يكون لديهم فكر سليم، يملك القدرة على الملاحظة، والمقارنة والاستنتاج. وفي هذا الإطار يجب على المربين: أ ـ أن يحببوا إلى تلامذتهم حرية الفكر والمناقشة، وأن يجنبوهم السقوط في هاوية التقليد الأعمى. ب ـ أن لا يقدموا إليهم النظريات والآراء المجردة على أنها حقائق علمية وعقلية مسلمة. ج ـ أن يقنعوهم بضرورة الوقوف بالعقل، عند حدوده المرسومة له، لأن إقحام العقل في المجالات الغيبية، يعرضه للإرهاق والفشل والاندحار. د ـ أن يتعاملوا مع الأفكار المستوردة، بحذر وانتباه ووعي ومسؤولية. وذلك يتطلب: ـ أن يزودوا تلامذتهم بقدر كاف من الثقافة الإسلامية الأصيلة المبنية على الكتاب والسنة، قبل أن يقتحموا بهم غمار الآراء والنظريات المستوردة. ـ أن يخضعوا الآراء المستوردة لميزان النقد النزيه، فيأخذون ما يأخذون، ويذرون ما يذرون بمنتهى الوعي والمسؤولية. ھ ـ الطريقة: إن البناء الفكري، عملية تربوية وتعليمية شاقة، تتطلب من المربي أن يكون خبيرا تربويا، وأن يسلك طريقة فعالة، تمكنه من تحقيق هذا الهدف النبيل، وفي اعتقادي الراسخ، أن الطريقة الأكثر أهمية في هذا المجال، هي التي تنطلق من المرتكزات الأساسية الآتية: 1ـ التزام أسلوب الحوار، الذي يؤدي إلى الإقناع والاقتناع، وتجنب أسلوب التلقين المباشر. 2ـ التزام النزاهة والموضوعية، وذلك يتطلب من المربي: ـ أن يتواضع في حواره مع من يربيهم، فلا يتعالم ولا يتعالى، ولا يصدر منه أي سلوك يشعر التلميذ بأنه الطرف الضعيف. ـ أن يعترف بالخطإ إذا أخطأ “وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”[10] كما في الحديث الشريف، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل كما قال عمر بن الخطاب. ـ أن يقول بملء فيه: لا أدري إذا سئل عما لا يدري، امتثالا لقول الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] ولا أدري نصف العلم” كما صح عن أبى الدرداء. ـ مخاطبة الناس على قدر عقولهم، امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “خاطبوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله”[11]. وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”[12] ـ التزام الوضوح، وتجنب الغموض والتعقيد. ـ التزام التنظيم والترتيب. ـ تعليم التلاميذ التصدي لجميع الآراء والنظريات البشرية بالمناقشة الواعية، والنقد النزيه. وإذا كان بعض الصوفية يطلبون من المريد والمتعلم أن يكف عن مناقشة شيخه، ويتجنب الاعتراض عليه، وأن يثق ثقة عمياء فيما يقدمه لـه: وأن ينقاد لـه، ويكون بين يديه كالميت بين يدي غاسله: فإن ذلك يترك آثارا سلبية على المتعلم، لأنه يربيه على التقليد الأعمى، ويمنعه من أن يكون له فكر متحرر متنور، يناقش عن وعي، ويقبل ويرفض عن اقتناع. ولا شك أن غرض الصوفية هو احترام المتعلم لشيخه، والتلميذ لمعلمه، ولكنهم بالغوا وتجاوزوا الحد، عندما حرموا المريد والتلميذ من حق المناقشة والاستفسار والتثبت، فآل أمرهم إلى التناقض الواضح مع قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ومع قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. ومع قولة تربوية سليمة رددها علماؤنا المسلمون، وهي: “إذا نقلت فالصحة، وإذا ادعيت فالدليل”. ـ ومما يتصل بهذا المعنى: تشجيع التلاميذ على طرح الأسئلة بقصد الفهم والتثبت، لا بقصد الإعجاز والتعنت، لأن السؤال مفتاح العلم، والسكوت على الجهل طريق الخذلان والحرمان، ولعلمائنا أقوال نثرية وشعرية، تدفع المتعلمين إلى التحلي بالشجاعة الأدبية، وطرح الأسئلة كلما كان طرحها ضروريا، ومن ذلك قولهم: ” من رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال”، وقالوا: وليس العمى طـول السـؤال وإنـما تمام العمى طول السكوت على الجهل. وبعد؛ فهذه نظرات سريعة، ألقيتها على موضوع بالغ الأهمية، وهو موضوع التربية، التي تعنى بأصعب صناعة على الإطلاق، وهي صناعة الإنسان الصالح، المؤهل لممارسة الخلافة في الأرض، على الوجه الأكمل، والنمط الأمثل. وركزت في هذه النظرات، على كيفية إسهام التربية في بناء جانب مهم من جوانب شخصية الإنسان هو الجانب الفكري، فإن وفقت فالتوفيق من الله، وإن جرت الريح بما لا تشتهي السفينة، فيكفيني حسن النية، ونبل المقصد، وشرف الهدف، والله ولي التوفيق إلى أقوم طريق، والحمد لله أولا وأخيرا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] ـ انظر مقال العلم في رسالة الإسلام ” للدكتور عبد الفتاح محمد سلامة ) منار الإسلام ع 12 س 5 ذو الحجة 1400). [2] ـ أنظر مجلة الأمة ع 1 س 2 محرم 1402 هـ / نونبر 1982م ص: 80. [3] ـ أنظر مجلة الأمة ع 29 س 3 جمادى الأولى 1403هـ/ فبراير 1983 م – ص: 14 [4] ـ أنظر مجلة الأمة ع 24 س 2 ذو الحجة 1402هـ / أكتوبر 1982 م ص: 65. [5] ـ المصدر السابق36. [6] ـ نفسه. [7] ـ أنظر مجلة الأمة ع1 في محرم 1402 هـ/ نونبر 1981م – ص: 78. [8] ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين على بن أبي بكر الهيتمي 1/245، تحقيق محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الثانية 2009م. [9] ـ رواه مسلم. [10] ـ رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد وقال الترمذي حديث غريب. [11] ـ أورده الإمام مسلم في مقدمة صحيحه. [12] ـ نفسه.