أطروحة دكتوراه من إعداد الباحث: محسن الصالحي، وحدة تكوين اللغة العربية وعلومها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، تاريخ المناقشة: 3 رجب 1444 الموافق 25 يناير 2023، وتكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: مولاي ادريس ميموني رئيسا، مولاي علي سليماني مشرفا، يوسف ادروا عضوا ومقررا، محمد صغيري عضوا، وقد حصل الطالب الباحث على درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التنويه.
تقرير البحث:
الحمد لله حمدا كثيرا، والشكر له شكرا وفيرا، أحمده على سوابغ نعمه، وفضائل مننه، وأشكره على جميل لطفه، وكريم عنايته، وأصلي وأسلم على النبي المجتبى، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
ثم أما بعد:
فإن كتاب الله عز وجل هو الكتاب الذي لا تندرس حروفه، ولا تنفد كلماته، ولا يدرك شأوه. وهو الذي عجز العرب والعجم على أن يأتوا بمثله؛ بعدما بهرهم نظمه، وحيرهم رصفه. وجر بعض فصحاء العرب وعليتهم إلى الإيمان بالله، بعدما أثر فيهم سماعه، وجر آخرين إلى الاعتراف بفضله، والانفراد بأسلوبه.
هذا وإن القرآن الكريم ـكما جاء عن الله في كتابه العزيز نزل ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖۖ﴾؛ لهداية الناس إلى الطريق السوي؛ ولإخراجهم من الضلالة إلى الهدى، ومن الجهل إلى العلم، ومن الجور إلى العدل، ومن العبودية إلى الحرية، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ولما نزل هذا الكتاب العظيم باللسان العربي؛ فلا محالة إذا رمنا فهمه وإفهامه، والامتثال بأوامره واجتناب نواهيه، واستجلاء أحكامه وحِكمه، وإدراك بعض من مقاصده، نحتاج إلى فهم اللسان العربي، والبحث في أساليبه، وتقصي فنونه؛ إذ إن فهمه فهم للقرآن، الذي هو المطلب الأسمى، والغاية الكبرى.
وكل العلماء مجمعون على أن العلوم العربية: معجمها وصرفها ونحوها وبلاغتها… علوم من علوم التفسير، لا يمكن بأي وجه الاستغناء عنها وقت البحث عن معاني الآيات القرآنية، بل إن بعض هذه العلوم علوم مختصة بالقرآن ولها مزيد فضل؛ لأنها المسبار الذي يغور إلى مستودع النكت القرآنية واللطائف الربانية؛ فيظهرها بادية جلية.
ولذلك ظهرت تفاسير جعلت المداخل اللغوية همها الأول للبحث عن المعنى القرآني. فمنها ما اتخذ النحو مدخلا لفهم القرآن، ككتب المعاني: معاني القرآن للفراء، ومعاني القرآن للنحاس…، ومجاز القرآن لأبي عبيدة، وهذا لا يعني أنها غيبت العلوم الأخرى؛ لكنها قليلة بالمقارنة مع علوم النحو، وكذلك تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي الذي طغى عليه الجانب النحوي في شقه الوظيفي…
وظهرت كتب أخرى اعتنت بالشق اللغوي للمفردات القرآنية؛ كغريب القرآن لأبي عبيدة، وغريب القرآن للصنعاني، وغريب القرآن لابن قتيبة، ومفردات القرآن للراغب الأصفهاني…
وتفاسير أخرى وهي تتوخى فهم الآي القرآني سلكت المسالك البلاغية لتلك الغاية، وعمدتها في ذلك؛ الكشاف للزمخشري، ومنها أيضا أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي، وروح المعاني للآلوسي، ومفاتيح الغيب للرازي، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور…
ولمّا كان كشاف الزمخشري كتابا راسخ القدم، طويل الباع، عجيب التأليف، متفرد الباب، من جهة الإضاءات اللطيفة، والتأويلات البلاغية الغريبة، للخطاب القرآني، فإنّ العلماء الأفذاذ ممّن سلبهم قصده وبهرهم فعله؛ انبروا إلى فك رموزه، وحلِّ ألغَازه، وتفصيل وجيزه، وبيان إشاراته، وتقييد تلميحاته، فكان أنْ وُضعت حواشٍ كثيرة حول هذا التفسير؛ لأجل ما أشرنا إليه.
ولعل أهم هذه الحواشي وأعلاها مرتبة، من اللواتي أسهمن في بناء التفاسير البلاغية بنمط جديد، وتعمق سديد؛ حاشية الإمام الطيبي على الكشاف المسماة ب: “فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب”؛ فالإمام الطيبي عالم من علماء العربية، والفقه والحديث، والقراءات… سخَّر البلاغة للذود عن القرآن، ضد المد الاعتزالي المتمثل في الزمخشري، ولتوجيه المعاني القرآنية وفق ما يراه أهل السنة لا على ما يراه أهل الاعتزال، وقد وفق في ذلك كما ذكر العلامة ابن خلدون في المبتدأ والخبر.
والذي يُبدي جِلَّة هذه الحاشية وتفرُّدها قول صاحب كشف الظنون وهو يورد أصحاب الحواشي التي على الكشاف، بعد أن ذكر قطب الدين الرازي: “… والعلامة شرف الدين الحسين بن محمد الطِّيبي، وهي أجلُّ حواشيه في ست مجلدات ضخام”[1].
وعلاوة على اهتمامه بالبلاغة وجعلها محورا لاشتغاله، فهي كما يقول متحدثا عن القرآن الكريم: “وهو المختص من بين سائر الكتب السماوية بصفة البلاغة، التي تقطعت عليها أعناق العتاق، وونت عنها خطى الجياد في السباق. والموفق من العلماء الأعلام وأنصار ملة الإسلام؛ من كانت مطامح نظره، ومسارح فكره؛ الجهات التي تضمنت لطائف النكت المكنونة، واشتملت على أسرار المعاني المصونة”[2]، فإنه لا يفتأ يستعين بالنحو والصرف واللغة والقراءات… في سبيل كشف الحجب عن معاني الآيات، وإيضاح دلالاتها، ولعل النص الجامع لذلك قوله: “فقد استخرت الله ـمع قلة البضاعة وقصور الباع في الصناعةـ لتصدي شرح مجمله، وحل معضله، وتلخيص مشكله، وتخليص مبهمه، وفسْر عويصه، وفك عقوده المُوَرَّبة، وتبين قيوده المُكَرَّبة، وانتهاض إحراز قصبات عيون التفاسير، للعلماء النحارير، وخلاصة أفكار المحققين، ونقاوة أنظار المتبحرين؛ المتقدمين منهم والمتأخرين، لتسهيل وعره، وتيسير صعبه، بعد تتبع مظان العلمين المختصين بالقرآن آونة من الأزمان[يقصد علم المعاني والبيان]، والإتقان على الأساليب البديعية، والأفانين البيانية، وتحصيل غرائب اللغة ما لا يُكاد إحصاء، ولطائف الإعراب ما لا يضبط إملاء، وعلى نُكت علم أصول الدين: فقهه وكلامه، واستنباط فروعه وأحكامه، ولم آل جهدا في جهات المنقول، استنادا إلى الأصول، وانتساب القراءات المشهورة والشاذة، وبيان وجوهها، وكشف ستورها...”[3].
وقد دفعنا ما سبقت الإشارة إليه إلى البحث في بلاغة القرآن؛ ذلك أنها قطب الرحى، والعمدة التي تقوم عليها الأسرار، والمنفذ الذي ينفذ منه إلى اللطائف والنكت، وبها يُدرك الإعجاز، ثم ما تعضد به من علوم لغوية، وعلوم سياقية، مما يُكسب معناها صلابة ومتانة واتساعا ورجاحة… جاعلين “فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب” للإمام الطيبي متنا للاشتغال، ومنطلقنا في الاستدلال، وذلك لاعتقادنا الجازم أن التعاضد بين هذه العلوم يصل بالمعنى القرآني إلى درجة الوثاقة والوجاهة، وبأن استخلاص المعنى بالمجموع، أنجع من استخلاصه بالمفرد. وهذا ما جعلنا نعنون البحث بــ: “البلاغة المُعضّدة في حواشي الكشاف، حاشية الإمام الطيبي نموذجا“.
ويكتسي هذا الموضوع -في تقديرنا- أهمية بالغة تتجلى في كون الإمام الطيبي أخرج البلاغة من حيز التنظير إلى ساحة التطبيق (وهو ما يدرك أثناء البحث)، إذ جعل من العلوم اللغوية عامة، وعلم البلاغة خاصة؛ مدخلا هاما لفهم خطاب الله عز وجل، وتحري مقاصده، كما أننا سنلمس من خلال هذه الدراسة التوجيه السني للبلاغة القرآنية والعلوم اللغوية الأخرى، في مقابل التوجيه الاعتزالي، ومسالك كل واحد منهما في تأويل الخطاب القرآني والثمار الناتجة عنه.
وقد استحثنا وبعث فينا همة البحث في هذا الموضوع، واختياره دون غيره؛ دوافع موضوعية وذاتية. فالدوافع الموضوعية تتجلى في:
ـ توجيه أستاذي بارك الله جهده وعلمه الدكتور مولاي علي سليماني؛ فقد حَصَرْنا نيَّتنا في أن نبحث في تكامل العلوم عند الإمام الطيبي، ولكن لَـمّا كانت البلاغة عنده العمدة والركيزة في توجيه المعاني القرآنية، وجهنا أحسن الله إليه إلى البحث في البلاغة المعضدة بالعلوم اللغوية والسياقية؛
ـ إبراز جهود الإمام الطيبي فهو على جلال قدره من العلماء الذين لم ينالوا القدر الكافي من البحث؛ ولهذا نبتغي من خلال هذا البحث تسليط الضوء على هذا العالم الفذ، وعلى مجهوداته البلاغية واللغوية، خاصة ما كان منها في فتوح الغيب؛
ـ تَضَلُّعُ الإمام الطيبي في علوم اللغة والبلاغة خاصة، توظيفًا وتطبيقًا، وذلك في زمن أُهمل فيه الجانب التطبيقي للبلاغة؛
ـ رغبتنا في ربط الدرس اللغوي بالخطاب القرآني؛ ذلك أن قوته وحياته تعود إليه؛
ـ حداثة التأويلية العربية تنظيرا، وأصالتها تطبيقا، عند علماء التفسير خاصة، ولا شك أنّ الطيبي يُعد واحدا منهم، ولذلك تبنيناها، لنبحثها عنده، على النحو الذي بيناه في البحث؛
ـ صرامة الإطار النظري الذي نتبناه، واتصاله الوثيق بموضوع البحث والمتن المشتغل عليهما؛ إذ هو مستوحى من التفاسير وشروح الشعر وكتب علوم القرآن، وما دَوّنه العرب إجمالا، وهو ما يهبه قدرا عاليا من الصِّدْقِيَّة والواقعية والمرونة والنجاعة في التطبيق؛
ـ ندرة الدراسات حول “فتوح الغيب”، باستثناء ما قام به محقق الكتاب، الذي أورد إشارات بلاغية للإمام الطيبي لم ترق إلى مستوى البحث والاستقصاء، ولعل سبب ندرة الدراسات حول الحاشية، هو أنها حديثة الطبع، ذلك أنها – على حسب ما وصل إليه علمنا- لم تُطبع طبعتها الأولى إلا سنة ثلاث عشرة وألفين…
أما الدوافع الذاتية فتظهر في الآتي:
ـ تخصيص وقت البحث لما ينفع دينا ودنيا، وهو البحث في القرآن الكريم؛
ـ الرغبة في تعميق البحث في العلوم اللغوية، وهي تشتغل داخل القرآن الكريم؛ لأنّ فهم العلوم اللغوية يتأتى من خلال معاينتها والاحتكاك بها في مصدرها المحكم؛
ـ إتمام هذا المشروع البلاغي، إذ بقي في النفس منه الكثير، من الإحاطة بالنتائج الكلية للحاشية، بعدما حصَّلنا النتائج الجزيئة لها، في الإجازة والماستر؛
ـ الولوع بالبحث في التأويلية العربية، النابع من القناعة الراسخة بفعاليتها؛
ـ اكتساب الذوق البلاغي؛ ذلك أنه سبيل إلى الإعجاز، الذي لا وصول إليه إلا بالذوق؛ ومسلك اكتسابه هو تعَهُّدُ علم البلاغة وطول خدمته؛ ثم إنّ البحث في العلوم اللغوية داخل كتب التفسير غزير وكثير، خاصة الجانب النحوي منها، لكن الأمر في هذه الحاشية مختلف، لكونها حديثة الطبع كما ذكرنا، والبحث في الجانب البلاغي وما يعضد معناه من العلوم اللغوية، والعلوم السياقية، مما هو شأن التأويلية العربية، على هذا الشكل الذي نبحث فيه طبقا لِـما انتهى إليه علمنا- نادر إن لم نقل غير موجود – والله أعلم -، اللهم ما كان من بحوث في الإجازة لبعض طلبة كلية اللغة العربية بمراكش، التي عنونت بـ: التوجيه البلاغي للمداليل القرآنية في فتوح الغيب، على شكل مشروع، خُصِّصت لكل طالب سورة أو سورتان أو ثلاث سور، تحت إشراف الدكتور محمد الفرجي، وكان من ضمنها بحثنا الذي درسنا فيه سور: الأنبياء والحج والمؤمنون. هذا من الجانب البلاغي فقط. ومن الدراسات أيضا ما أنجزناه في بحث الماستر المعنون بـ: بـ“البلاغة المعضودة عند الإمام الطيبي من خلال حاشيته على الكشاف سورة البقرة نموذجًا”. فهو بحث قمنا فيه بتعضيد البلاغة بالعلوم اللغوية الأخرى في سورة واحدة وهي البقرة. أمّا هذا البحث فانفرد باتخاذه العلوم اللغوية والعلوم السياقية ككل موضوعا للدراسة عند الإمام الطيبي، وليس في سورة واحدة فقط بل في الحاشية كلها، على ما وضحناه في مدخل هذه الأطروحة.
وتمثل إشكال بحثنا هذا في بيان تعاضد العلوم اللغوية(صوتها ومعجمها وصرفها ونحوها)، والعلوم السياقية(أسباب النزول، الأحاديث النبوية، تفسير الصحابي، التفسير الإشاري، الشعر العربي وشرحه، …) مع علوم البلاغة؛ لأجل بناء خطاب تفسيري محدد، عند الإمام الطيبي، خلال تعليقاته على الزمخشري، أو في كيفية تعضيد العلوم البلاغية بباقي العلوم اللغوية، والعلوم السياقية، من قبل الإمام الطيبي(في حاشيته على الكشاف)، وهو يروم استنباط المعاني القرآنية، واستجلاء بعض مقاصد الله عز وجل من كلامه، والتعقيب والاستدراك… على تأويلات الزمخشري، الذي يخالفه في مذهبه العقدي.
ويمكننا أن نوزع هذا الإشكال إلى مجموعة من التساؤلات، نوردها على الشكل الآتي:
ـ كيف تعامل الإمام الطيبي مع كشاف الزمخشري – علما بأن الزمخشري معتزلي المعتقد، وهو سنيه- من جهة التحليلات البلاغية واللغوية؟
ـ ما الإضافات التي أضافها الطيبي للدراسات البلاغية واللغوية، التي حظي بها القرآن الكريم؟
ـ كيف عضد الطيبي البلاغة بالمعجم، والصرف، والنحو… حين استخراج المعاني القرآنية؟
ـ ما أهم العلوم السياقية التي يستدعيها الطيبي، لدعم تخريجاته وتوجيهاته البلاغية، في حاشيته على الكشاف؟
ـ ما ملامح التأويلية العربية في خطاب التفسير عند الإمام الطيبي؟
ـ كيف تشتغل العلوم اللغوية داخل خطاب التفسير عند الإمام الطيبي، وهي تجاور غيرها من علوم التفسير، وما هي مكانتها ضمن تلك العلوم؟
وقد اعتمدنا في هذا البحث ـ على قدر الجهد والطاقةـ المنهج الاستقرائي التحليلي؛ إذ تتبعنا التوجيهات البلاغية المعضدة بالعلوم الأخرى، اللغوية والسياقية؛ التي توسل بها الطيبي للإفصاح عن المعاني واللطائف القرآنية، ولكون الإمام الطيبي لم يدل بدلوه في كل التوجيهات البلاغية التي عضدها بالعلوم الأخرى؛ فإننا رمنا تأويل ما تجاوز تأويله، وتوجيه ما لم يوجهه ويوسع البحث فيه، على قدر المستطاع. كما حاولنا أن نوازن بين توجيهات الزمخشري وتوجيهات الطيبي؛ بغية الوقوف عند انفرادات الطيبي، وإضافاته، وردوده على الزمخشري من النواحي اللغوية.
ثم إنَّنا بنينا البحث ـ لأجل حل إشكاله والإجابة عن تساؤلاته ـ على خطة تضمّنت هذه المقدمة، بما عُهد فيها من ديباجة، وإفصاح عن الموضوع، وذكر دوافع اختياره، والدراسات السابقة فيه…، ومدخلا، أوضحنا فيه ما انبهم من مشكِّلات العنوان، وتحدثنا فيه عن النظرية التأويلية، كونها إطارا نظريا للبحث، وثلاثة فصول.
الفصل الأول تناول علم المعاني ومعضداته؛ وقسمناه إلى تسعة مباحث:
اعتنينا في المبحث الأول منها بالإسناد ومعضداته، وأفردنا الثاني بالخبر ومعضداته، واهتممنا في الثالث بالإنشاء الطلبي ومعضداته، وتعرضنا في الرابع للتقديم والتأخير ومعضداته، وتناولنا في الخامس الفصل والوصل ومعضداته، وفي السادس بحثنا في الإيجاز والإطناب ومعضداتهما، وخصَّصنا السابع للقصر ومعضداته، أمّا الثامن فدرسنا فيه الاستدراك ومعضداته، وتناول التاسع الإضراب ومعضداته.
الفصل الثاني خُصص لعلم البيان ومعضداته؛ وقسمناه إلى أربعة مباحث:
المبحث الأول منها خصصناه للتشبيه ومعضداته؛ والمبحث الثاني درسنا فيه الاستعارة ومعضداتها، واعتنينا في الثالث بالمجاز المرسل ومعضداته، وتناولنا في الرابع الكناية ومعضداتها.
أما الفصل الثالث فاهتم بعلم البديع ومعضداته؛ وقسمناه إلى ستة مباحث:
بحثنا في أولها في القسم ومعضداته، واعتنينا في الثاني بالالتفات ومعضداته، ودرسنا في الثالث الترقي والتدرج ومعضداته، وتناولنا في الرابع الإدماج ومعضداته، وخصَّصنا الخامس لتأكيد الذم بما يشبه المدح ومعضداته، وتصدينا في السادس لحُسن الخاتمة ومعضداته.
ثم خاتمة تضمنت أهم النتائج التي انتهى إليها البحث، ولائحة المصادر والمراجع، وفهرس الموضوعات، وفهرس الشواهد القرآنية، وفهرس الشواهد الحديثية، وفهرس الشواهد الشعرية.
وقد جرت العادة بأن كلّ بحث لا بد أن تعترضه صعوبات ومشاق، ومن ضمن الصعوبات التي واجهناها في هذا البحث:
ـ جزالة اللفظ وصعوبة العبارة عند الإمام الطيبي، ففي مواضع كثيرة يُحتاج إلى وسائط لفهم المغزى من كلامه؛
ـ تداخل السجال بين الطيبي والزمخشري في أمور عقدية، ممّا يجعل التخلص إلى المعنى صعبا، خصوصا عند البحث في العلوم اللغوية والوظائف الناتجة عنها؛
ـ عُسر الحصول على ما يعضد الكثير من المباحث البلاغية في الآيات القرآنية؛ ذلك أنّ الطيبي لا يُوردها كاملة، وقد يُورد بعضها دون الإشارة إلى وظائفها؛
ـ صعوبة التنسيق بين المباحث البلاغية وما يعضدها من العلوم اللغوية الأخرى من جهة الوظائف المعنوية؛ لأنّ ذكر المعنى البلاغي يستلزم في هذا البحث ذكر ما يُقويه من المعضدات اللغوية، وهذه المعضدات اللغوية ليست مرتبة على النحو المطلوب، بل لا بد من البحث عنها داخل التفاسير والمصادر اللغوية، ويلزم لأجل ذلك جهد لترتيبها وانتقائها وفق ما يخدم معنى الظاهرة البلاغية في الآيات القرآنية؛
ـ وكذلك القول بالنسبة للعلوم السياقية، إذ إنّ كثيرا من المواطن لا يُوردها الإمام الطيبي لتعضيد المعنى البلاغي، ما يجعل الجهد منا مضاعفا، للبحث عما يُناسب المعنى البلاغي ويقويه أو يرجحه أو يُشبعه…
وقد بلغنا خلال هذا البحث جملة من النتائج، لعل أهمها ما يأتي:
ـ إن علم البلاغة علم له اختصاص بالقرآن الكريم، أكثر من غيره من العلوم العربية، لبحثه في الأسرار، وتقييده للطائف، وغوصه إلى النكت، وتجليته لإعجاز القرآن الكريم…
ـ يستند الإمام الطيبي في كثير من تفسيراته وتعليقاته في حاشيته؛ إلى علم البلاغة، لاختصاصه بالقرآن الكريم، واختصاصه هو بها، دون سائر الكتب السماوية، وقد تجلت لنا براعته في هذا العلم خلال مدة البحث؛
ـ يُعضِّدُ الإمام الطيبي تخريجاته البلاغية بكثير من العلوم اللغوية منها المعجم، ويستند في هذا المعضد إلى الراغب الأصفهاني في غالب الأحوال، والنحو، ويعود فيه إلى كتب معاني القرآن، كمعاني القرآن للزجاج، وكتب النحو؛ كالمفصل للزمخشري والكتاب لسيبويه، وعلم البلاغة نفسه، وفيه يتسند إلى مكنته في هذا العلم في توجيهات كثيرة. كما يعضدها بالعلوم السياقية، كالقرآن نفسه، والحديث النبوي، وهنا يكون معتمده على الصحيحين وكتب الحديث، والشعر العربي، وقد لفتتنا قدرته القوية على فك غوامض ألفاظه والاتجاه إلى شرحه في أغلب تعضيداته، والتفسير الإشاري، وفي هذا المعضد رأينا أنه يعتمد فيه إشارات أبي حفص السهروردي، أو السلمي في حقائق التفسير أو الإمام الرازي أو تأويله هو… وقد نشير نحن إلى هذه الإشارات، إذا لم يستدعها الطيبي، مستندين في ذلك إلى القشيري رحمة الله عليه في لطائفه؛
ـ يدل اعتماد الإمام الطيبي على تلك العلوم بنوعيها على سعة اطلاعه، وتبحره في علوم شتى، وعدم رضاه عن معنى يتيم، بل يحشد من المعضدات ما يسد باب المسألة التي يطرقها، في مواطن عديدة من تفسيراته وتعليقاته وتوضيحاته؛
ـ إن قوة المعنى تتمثل في توطيده بجهات معنوية فسيحة، دون الاقتصار على جهة واحدة، وهو ما لمسناه في الحاشية، بحيث يتقوى المعنى البلاغي إذا عُضِّدَ بالمعنى اللغوي والمعنى السياقي؛
ـ معالم التأويلية العربية بارزة عند الإمام الطيبي من خلال اعتماده -وهو يتقصَّى المعنى، أو التعليق على توجيهات الزمخشري- على علوم القرآن: اللغة وأسباب النزول والتفسير بالقرآن والحديث والشعر…
ـ عدم اتكالنا على كل تعليقات الطيبي في حاشيته، يدل على مرونة في التأويلية العربية الإسلامية خاصة في التفسير، ذلك أنّ الجزء الكبير من المعضدات سواء اللغوية أو السياقية إنما نستدعيها نحن، استنادا إلى بعض التفاسير والمعاجم اللغوية والكتب البلاغية والنحوية وغير ذلك، وهذا ما يجعل باب التأويل والبحث عن المعنى مفتوحا؛
ـ تصدي الإمام الطيبي للزمخشري في توجيهاته الاعتزالية، التي يتخذ فيها اللغة عامة والبلاغة خاصة سلاحا لإثباتها، إذ لا يدعها حتى يبين موطن الاعتزال فيها، بل يأتي بأدلة لغوية وسياقية تنصر المذهب السني، الذي يمثله الطيبي في هذه الحاشية، وتبطل المذهب الاعتزالي، الذي يمثله الزمخشري؛
ـ إنصاف الإمام الطيبي للزمخشري واعترافه بفضله البلاغي، وثناؤه عليه، وهذا يدل على رحابة صدره وعدله، ذلك أن الاختلاف العقدي بينهما لم يدعه يسلبه حقه، في الأماكن التي يستأهل فيها ذلك؛
ـ تفوق الإمام الطيبي على الزمخشري في الكثير من التوجيهات البلاغية، خاصة ما رأيناه في علم البيان ومعضداته، وعلم البديع ومعضداته؛
ـ محدودية مباحث علم البيان مقارنة بغيره، وبراعة الزمخشري فيه؛ جعل الطيبي يتجاوز العديد من المواطن التي نبغ فيها الزمخشري؛ وسيلحظ القارئ صغر حجم الفصل المخصص لعلم البيان ومعضداته؛ فالسبب في ذلك ما أشرنا إليه؛
ـ حرص الطيبي على إضافة المعاني والوظائف الناشئة عن الأساليب، المستخلصة من الآيات القرآنية، وعدم اكتفائه بشرح الوظائف التي استنبطها الزمخشري، أو التعليق عليها؛
ـ اعتماد الطيبي على النظم في الكثير من المقامات، وذلك لأجل ترجيح المعنى الذي يرتضيه، ويحدث هذا عندما يختلف مع الزمخشري في تقرير معنى من المعاني، المستخرجة من الآيات القرآنية؛
ـ ثراء المادة التفسيرية وغناها وتنوعها واختلافها وغزارتها، مما ألَّفه المسلمون قاطبة، وتجلى لنا ذلك في رجوع الإمام الطيبي إلى كثير من المفسرين كالرازي والبيضاوي والزمخشري…، وفيما ألَّفه هو من خلال حاشيته على الزمخشري، التي تقع في سبعة عشر مجلدا، بعد تحقيقها؛
ـ النماذج التي اشتغلنا عليها فيما يخص الأساليب البلاغية، انتقيناها بعدما استنبطنا الكثير منها في الحاشية، فما هو وارد منها في البحث، إنما هو أمثلة ليتضح نهج الأطروحة، وإلا فما زال في الخزانة العديد من الظواهر البلاغية، التي آثرنا الاستغناء عنها، هربا من تضخيم حجم الأطروحة، ولعل فرصة البحث العلمي تسمح لنا بنشرها في قوابل الأيام؛
ـ اشتغالنا على البلاغة كان منصبا على الجوانب الوظيفية التأثيرية البيانية، وليس على الجوانب التقعيدية التعليمية؛
ـ إمكان الزيادة في المعضدات بنوعيها، عند البحث عن المعنى البلاغي في القرآن الكريم وما يعضده، إذ لا يُوقف في هذا الأمر في الذي توقفنا عنده، بل يمكن الاستدراك والاستزادة، وفتح آفاق جديدة للتأويل والبحث.
والحمد لله وقت البدء وأوان الختام، والصلاة والسلام على خير وشفيع الأنام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لمصطفى بن عبد الله حاجي خليفة، تح: محمد شرف الدين يالتقيا، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، ج2/269.
[2]ـ ينظر فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، شرف الدين الطيبي، ج1/610.
[3]– فتوح الغيب، ج1/611.
زر الذهاب إلى الأعلى