ملخص: مقدمــة: الحمد لله الذي حَدَّ للبشريّة الحدودَ حتّى لا تَتِيه، والصلاة والسلام على مَن ليس له في البشرية شَبيه، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: لقد أَسْفر الاحتكاكُ المبكّر لعلماء الإسلام بالتراث اليوناني عن تأثر واضح بالمنطق الأرسطي([1])، نتج عنه صوغ آليات وأدوات جديدة، مكّنت من وضع مناهج مُحكمة للاستدلال والاستنباط. بدا هذا الأمر جليّاً في جملة من العلوم الإسلامية، لا سيما علم أصول الفقه، الذي عرف تطورا مهمّاً في مباحثه ومصطلحاته ومفاهيمه. ومن أبرز المصطلحات التي تمّ الاعتناء بها، ودمجها في المدوّنات الأصولية، مصطلح الحدود والتعريفات. هذا المصطلح الذي تعرّض له الأصوليون في كلّ مباحثهم تقريبا، وناقشوا جملة من المسائل المتعلّقة به. ــ كتعريف الحدّ، أو حدّ الحدّ ([2]). ــ ترجيح جواز تحديد الأمر المحدود بحدّين، أو أكثر. ــ تأثير الزيادة والنّقصان في الحدود وأقسامها. ــ تقرير عدم جواز استعمال التجوّز في صناعة الحدود([3]). وإذا كان اعتناء المناطقة بتحديد مضامين المصطلحات ــ للوصول إلى نتائج سليمة ــ من الأمور المؤكدة؛ فإن اعتناء الأصوليين بذلك أمر آكَدُ؛ لأنه السبيل إلى استثمار الحكم الشرعي؛ إذ كيف يُحكم على شيء بالنفي أو الإثبات دون تحقيق ما هو عليه. فلابدّ إذاً من تحقيق النظر في معاني المصطلحات، وتمييز بعضها عن بعض، فرُبَّ مُخْبِر باسْم ” وهو يريد أحدَ المعاني التي تحته، فيحمله السامعُ على غير ذلك المعنى الذي أراد المُخبِر، فيقع البلاء والإشكال. وهذا في الشريعة أضرُّ شيء وأشدُّه هلاكا لمن اعتقد الباطل، إلاّ من وفّقه الله تعالى” ([4]). فحَسْماً لأيّ خلاف ينتج عندما لا تُحدّد المصطلحات، بادر علماؤنا إلى تقرير صناعة الحدود في كُتبهم، وأوْلَوها أهمّية بالغة. إشكالية البحث: إذا كان احتكاك علماء الأمة الإسلامية بالتراث اليوناني ــ المُترجم والمعرّب ــ قد خلّف تأثّرا واضحا بالمنطق الأرسطي، نتج عنه تحقيق النظر في معاني المصطلحات، كمصطلح “الحد”، فإنه يبقى السؤال المطروح: هل ظلّ تقرير علماء الإسلام لصناعة الحدود في حُلّته الأرسطية، من غير فحص ولا تعديل؟ أم أنّه تعرّض للفحص، وأُعيد النّظر فيه؟. ثم عندها نستطيع الإجابة على السؤال الجوهري لهذا المقال، وهو: ما وجه الاشتراك والتمايز بين الحدّ الأصولي والحدّ المنطقي؟ أهداف البحث: جاء هذا البحث ليُذكّر بالانفتاح والتفاعل الذي عرفه علم أصول الفقه مع علوم الحضارات الأخرى، مع محافظتة على خصوصيته المنهجية والاستدلالية. كما جاء ليُرسخ في أذهان الباحثين أن فكرة “الحدّ” في الثقافة الإسلامية لم تتعرّض للرفض المجمل ولا للقبول التام، وذلك من خلال الوقوف على أوجه الاشتراك والتمايز بين الحدّين الأصولي والمنطقي. أوّلا: معنى الحد لغة. قبل أن نلج في المعنى اللغوي والاصطلاحي لمفهوم “الحد”، يحسن بنا أن نُذكّر بتقسيم العلم بحسب متعلّقه، والطريق الموصل إليه، فنقول: العلم[5] ينقسم إلى قسمين: ضروريّ، ونظريّ: فالضروري: “هو الذي لا يتوقّف على دليل”[6]، كالعلم بمعنى الحرارة والبرودة، وبالألم واللّذة. والنّظري: وهو المتوقّف على دليل[7]، وهو قسمان: تصوُّري وتصديقي. فالتّصوّري: هو العلم بالمفردات كالبيع، والشراء، والكاتب، والناطق. والتّصديقي: هو العلم بنسبة([8]) المفردات بعضها إلى بعض، كقولنا: الصدقُ مَنْجاة، والكذب مهواة. ولا يمكن إدراك شيء من المفردات إلاّ بــــ “الحدّ”. فما هو الحدُّ إذاً؟ قال ابن فارس: (حَدَّ): الْحَاءُ وَالدَّالُ أَصْلَانِ: الْأَوَّلُ الْمَنْعُ.. فَالْحَدُّ: الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَفُلَانٌ مَحْدُودٌ، إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا. وَيُقَالُ لِلْبَوَّابِ حَدَّادٌ؛ لِمَنْعِهِ النَّاسَ مِن الدُّخُولِ. قَالَ الْأَعْشَى وهو يصف الخمر والخمّار: فَقُمْنَا وَلَمَّا يَصِحْ دِيكُنَا “” إِلَى جَوْنَةٍ عِنْدَ حَدَّادِهَا[9] يَعْنِي صَاحبهَا الَّذِي يحفظها ويمنعها. والجَوْنة: الخابية.[10] وحدَّ الشيءَ مِنْ غَيْرِهِ يَحُدُّه حَدًّا، وحدَّدَه: مَيَّزَهُ. وحَدُّ كُلِّ شيءٍ: مُنْتَهَاهُ؛ لأَنه يَرُدُّهُ وَيَمْنَعُهُ عَنِ التَّمَادِي([11]). ثـانيا: معنى الحدّ في الاصطلاح. وهو عند المناطقة: ” قَوْلٌ يُعرِّفُ ماهيةَ الشَّيء المحدُود بالأمور الذّاتية التي بها قِوامُه” ([12]). ويقال في المُعرّف بأنّه: هو الذي يستلزم تصوُّره تصوّرَ ذلك الشيء. يعني أنّ المعرِّف هو الذي يلزم من العلم به العلمُ بالمعرَّف([13]). والتّصور: هو إدراك المفردات، بمعنى حصول صورة الشيء في الذهن. ثم التّعريف إمّا أن يكون دالا على حقيقة الشيء وماهيته، وإما أن يكون مُميّزا له عن غيره، فالأول هو الحدّ التّام، والثاني هو الحدّ الناقص([14]). ويتألف الحدّ التّام من الجنس والفصل القريبين، ويُسمّى حقيقيا، كتعريف الإنسان بأنه: حيوان ناطق (أي المفكّر بالقوّة العاقلة). أمّا الحدّ الناقص فهو المؤلف من فصله القريب فقط، أو بذكر فصله القريب مع جنسه البعيد، كتعريف الإنسان بأنه: الناطق، أو بأنه: نامٍ ناطق([15]). والجنس هو أساس التعريف ومادة الماهية المنطقية، أمّا صورتها فهي الفصل النوعي، يقول تريكو: ” الماهية إذاً الكلّ، أي الجنس معينا بالنوع”([16]). فلا وجود للجنس في عالم الأشياء، بل وجوده في الذهن، بخلاف النوع الذي لابدّ أن يكون له وجود فعلي؛ إذ الكلي لا يقع كليا إلا في الذهن، أما في الخارج فلا يقع إلا جزئيا. فالتّعريف بـــ “الحدّ” ليس مجردَ تعريف لفظٍ بآخَرَ، ولا أداةَ تعيين في عمليّة البحث، بل هو معاودة الرؤية بمعناها الحرفي، لما يكون به العنصر هو ما هو. فبحْثُ المنطقي فيما تعنيه الكلمات ــ لا عن تعاريفها ــ من خلال تصورات تشير إلى حقائق ثابتة، لتُصبح معرفة في إنجاز، يمكن أن تعرف الأشياء من خلال الخبرة ([17]). لا شكّ أنّ تعقّل أمرٍ مّا والإحاطة بجوهره على هذه الطريقة، ممّا يشق على المرء إدراكه، يقول الغزالي ــ رحمه الله ــ ” استعصاء الحد على القوة البشرية إلا عند غاية التّشمير والجهد” ([18]). يُحكى أنّ أرسطو كان”يقضي نصفَ وقته في تعريف مصطلحاته، فإذا فرغ من هذا شَعَر بأنّه حلّ المسألةَ التي يبحث فيها”([19]). أمّا الحدّ عند الأصوليين فهو: ما يُميّز الشيءَ عمّا عداه، وهو بمعنى قول الباقلاني وغيره: الحدّ: الجامع المانع، أي جامع لأفراد المحدود، مانعٌ من دخول غيرها فيه. ويقال: المطّرد المنعكس، أي كُلّما وُجِد الحدُّ وُجد المحدود، وكلما وُجد المحدودُ وُجد هو([20]). فالحدُّ لدى الأصوليين شامل لما يحصل به التّمييز بين المحدود وغيره، سواء كان بالذاتيات أم بالعرضيات. ثـالثا: مبنى نظرية الحدّ. تُعتبر الكلّيات([21]) مادّة الحدود، أو قل: هي الأُسُس الرئيسية التي تقوم عليها نظرية الحدّ. وقد استقرأ المناطقة الكلّيات فوجدوا أنها خمسٌ، وهي: 1 ــ الجنس،2 ــ النوع، 3 ــ الفصل،4 ــ الخاصة،5 ــ العرض العام. ووجه الحصر في هذا العدد المعيّن، أنّ الكلّي إما أن يكون تمام ماهية أفراده أم لا. الأول: النّوع، كالإنسان، والثاني: إما داخل في ماهية أفراده بأن يكون جزءا منها، وإمّا خارج عنها، فالداخل في الماهية جنس إن كان أعمّ منها، كالحيوان الداخل في ماهية الإنسان، وفصل إن اختصّ بها، كالناطق([22]). والخارج عن الماهية إما محمول يخص الموضوع كالأكل بالنسبة للحيوان، أو يعم الموضوع وغيره كالنمو يعم الحيوان والنبات، فالأول العرض العام وهو الخاصة، والثاني العرض العام.[23] وهذه الكليّات هي أعلى المعاني على الإطلاق، وإليها تتوجه الأشياء. فالحيوان مثلا في حدّ الإنسان يمثل الجنس الذي هو المادة، التي لا بداية لها ولا نهاية، وتكون موجودة دائما لا تفسد ولا تتكوّن، وإنّما تتكوّن الأشياء من خلالها، وتكون هي علة الأشياء ومصدرها. أما الناطق(المفكر) فهو يمثل الفصل، الذي هو الصورة، ويكون هو الوجود بالفعل؛ لأن “الجنس” هو الوجود بالقوّة. وإذا كان الجنس هو علة الأشياء ومصدرها، فـــ”الفصل” هو مصدر الحيوانية؛ لأن الحيوانية تشتاق لأن تلتحق في فصل؛ ليتحقّق لها الكمال والوجود تماما، كما يشتاق الجنس لأن يتكوّن في فصل، ليحقق شيئا ما([24]). وبهذين تتحقّق الماهية للأشياء، ويتميّز الشيء عن غيره، ونكون قد عرّفنا ” الحقيقة الكلّية العامة بالأجزاء العقلية لتلك الحقيقة”([25]). فهذا هو الحدّ المنطقي. وعلى هذا الأساس فكلّ ما توصّل إليه العقل البشري بعد النظر الصحيح يكون مطابقا لهوّية الأشياء. وهذا عين القول: بأن العقل مبدأ الوجود.[26] رابـعا: الاشتراك والتمايز بين الحدّين الأصولي والمنطقي. وجه الاشتراك: يُعتبر توظيف نظرية “الحدّ” في علم أصول الفقه أبرز مظهر من مظاهر الاشتراك بين الحدّين الأصولي والمنطقي، فكما أنّ كلاّ من المناطقة والأصوليين يعدُّ (الحد) قِسْما من المُعرِّفات([27]). فإنّ كلاّ منهما لا يُسوّغ أن يُذكر في الحدّ ما يعمّ المحدود وغيره. وجه التّمايز: أمّا وجه التّمايز بين الحدّين فهو: أنّه عند المناطقة لا يحصل “الحدّ” إلاّ بذكر الجنس([28]) والفصل([29])المتضمن لجميع ذاتيات المحدود، سواء أ”ذكرت فيه أجزاء الجنس مفصّلة، كتعريف الإنسان بأنه: الجسم النّامي الحسّاس المتحرّك بالإرادة الناطق، أو مُجملة، كتعريفه بأنه: الحيوان الناطق”([30]). فالمسمّيات كيفما كانت لابدّ أن تخضع إلى هذا المعيار، بناء على أن للعقل إحاطةً شاملة بالأشياء؛ فليست هناك معرفةٌ يمكن أن تتجاوز العقل. ولهذا كان التّعريف بالحدّ عند المناطقة مُنْصبّاً على صورة الشيء الذهنية، دون الجانب الإسموي([31]) الكمّي. فهو عملية ذهنية تتمثل في تحديد المفهوم الخاص بتصور ما. جاء في كتاب الحدود لجابر بن حيان: اعلم أن الغرض بالحدّ هو الإحاطة بجوهر المحدود على الحقيقة ([32]). أما عند الأصوليين الذين لا يشترطون في الحد الجنس ولا الفصل، فهو عندهم: الجامع المانع مطلقا، سواء كان فصلا أو خاصة؛ إذِ القصد منه تحصيل صورة الشيء في الذهن أو توضيحها، وليس التّعريف بالماهية؛ لأن اللّفظ الجامع المانع يكون تابعا للماهية بالضرورة. وعليه: “فيصحّ أن يُحدّ الشّخص عند الأصوليين دون المناطقة “([33]). فنظر الأصولي للشخص المُميَّز إنما هو باعتبار تعداد الخواص، لا باعتبار المفارقة الخصوصية([34]). إن الإحاطة بحدود الأشياء ومقوّماتها وجواهرها أمر جدّ متعسّر، ذلك أن الألفاظ التي يكثر استعمالها يقع الالتباس في معانيها؛ لعدم مجيئها على نمط واحد، فتارة يكون اللفظ محكما أو متشابها، وتارة جليا أو مبهما..، إضافة إلى السياق المعرفي للفظ، والبيئة المعرفية للحادّ، ممّا يُعرّض”الحدّ” ــــ غالبا ــــ للانتقاد، إمّا جملة، أو على سبيل التعديل والإضافة. فعلى سبيل المثال الاختلاف الحاصل في حدّ القياس، حتّى عدّ له بعضهم بضعة وعشرين حدّاً كلّها معترَضة([35]). وفي هذا أكبر دليل على خروج الأصوليين عن الحدّ الأرسطي؛ إذ “الحدّ الحقيقي لا يتصور أن يكون إلا واحدا؛ لأن الذاتيات محصورة”([36]). كما أنّه ليس كلّ المسمّيات المُسْتفهَم عنها يمكن أن تُعرّف بالحقيقة والماهية، بل منها” ما يمكن معرفة حقيقته وبعض خواصه، ومنها ما لا يُمكن معرفة حقيقته، كــ(الروح) أو(الكهرباء)، أو غيرها، ومنها ما يُمكن معرفته بذكر جميع صفاته المشتركة أو بعضها، حسب حاجة السائل وقوّة فهمه، والقدر المطلوب معرفته. وقد تحصل المعرفة بالتجربة الحسّية، أو عن طريق المعامل الكيميائية أو الفيزيائية أو بتشريح الجثّة، أو بغير ذلك”([37]). هذا إذا كان المستفْهِم عالما بالاسم والمسمّى، أمّا إن كان جاهلا بالإسم والمسمّى “فهذا يمكن تعريفه بذلك عن طريقين: التّعيين أو الوصف. وإن كان عالما بالمسمّى جاهلا بالإسم وحده، فهذا يمكن تعريفه بذلك عن طريق التّرجمة، وهي الحدود اللّفظية” ([38]). إن عدم مُسايرة الأصوليين للمناطقة في حدّ “الحدّ” راجع بالأساس إلى سببين رئيسين: أ ــ سبب لغوي: فاتّساع اللسان العربي واشتماله على الحقيقة والمجاز والاشتراك..، حال دون تحقيق “الحد”. ب ــ سبب عقدي: فبناء الحدود على الذاتيات مُفضٍ إلى فكرة التّعليل المؤثر، الممكن من إدراك الأشياء وأحكامها، من غير رجوع إلى خالقها([39])، فالجنس والفصل في المنطق ليسا سوى مبدأ القوّة والفعل، الموجود في الطبيعة، فهما يمثلان الجانب العقلي، بينما المادة والصورة تمثلان الجانب الطبيعي. والعلاقة بينهما علاقة شوق، فالجنس يشتاق لأن يلتحق في فصل ليتحقق له الكمال والظهور، كما تشتاق القوة للفعل. قال الإمام الغزالي رحمه الله: “الشيء له في الوجود أربع مراتب: ــ الأولى: حقيقته في نفسه. ــ الثانية: ثبوت مثال حقيقته في الذهن. ــ الثالثة: تأليف صوت بحروف تدل عليه. ــ الرابعة: تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر. إلا أن الأولين وجودان حقيقيان، لا يختلفان بالأعصار والأمم، والآخرين يختلفان بالأعصار والأمم؛ لأنهما موضوعان بالاختيار” ([40]). إن إِيرادِي لنصّ الغزالي هنا ليس فقط للتَّدْليل على عُسْر الإحاطة بالحدود، وإنّما لأُبرز السبب في وصف المناطقة للحدّ الأصولي بأنه مجرّد مُعرّف عامّ. فوصف الغزالي رحمه الله للمرتبة الأولى والثانية بأنهما وجودان حقيقيان” يُفيد أنّ نظرة المنطقي لماهية الحدّ من حيث إن لها وجودا في الخارج، لا من حيث هي أمور ذهنية. وفي هذا إشكال كبير؛ إذ كيف يُقال إنّما تُنال التّصورات بالحدود، علماً بأنّنا نُحصّل المعارف من غير أن نلجأ إلى الحدود. وهذا دليل على أن الحدود إنّما هي أقوال كُلّية، لها وجود في الذّهن دون الخارج “فَمَا في الْخارج لَا يَتعيَّنُ، ولا يُعْرفُ بِمجرّد الْحَدِّ وما فِي الذِّهْن لَيْس هو حقائق الْأَشْيَاءِ. فَالْحَدُّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ حَقِيقَةٍ أَصْلًا“([41]). فالماهية التي تحملها أذهاننا، كالإنسانية والفرسية..، ليس لها وجود في الخارج، وإنّما الذي لها هو الأفراد، كزيد وفرس مثلا. خاتمة: من خلال ما تقدم يمكننا استنتاج ما يلي: أولاّ: أن احتحاك علماء الأمّة الإسلامية بتراث الأمة اليونانية لم يُسفر عن تلك التّبعية والنقلية الحرفية لمفهوم “الحدّ” ــ كما توهّمه البعض ــ، وذلك لسببين رئيسيين هما: السبب الأول: اللغة: فاللسان العربي واسع، فيه المترادف والمشترك، وفيه المتردّد بين الحقيقة والمجاز..، ولاشكّ أنّ هذا يتنافى مع اشتراط تحقيق كمال الماهية. السبب الثاني: العقيدة: وهو سبب يقف في وجه الأخذ بفكرة “الحد”، واستيلامها من غير فحص أو نقد. أضف إلى ذلك أن المسلم يستجيب لداعي الفطرة، الذي يدعوه إلى الاهتمام بظواهر الأشياء وأوصافها، دون ماهياتها وذواتها([42]). ثانيا: أنّ توظيف نظرية “الحدّ” في علم أصول الفقه يعدّ أبرز مظهر من مظاهر الاشتراك بين الحدّين الأصولي والمنطقي، فكما أنّ كلاّ من المناطقة والأصوليين يعدُّ (الحد) قِسْما من المُعرِّفات. فإنّ كلاّ منهما لا يُسوّغ أن يُذكر في الحدّ ما يعمّ المحدود وغيره، ولا أن يخرج منه ما هو منه. هذا من جهة الاشتراك أمّا من جهة التمايز فنجد المناطقة يشترطون في “الحدّ” أن يكون بالجنس والفصل المتضمن لجميع ذاتيات المحدود، سواء أذكرت فيه أجزاء الجنس مفصّلة، أو مُجملة. فيما نجد الأصوليين لا يشترطون فيه ذلك، فهو عندهم: الجامع المانع مطلقا، سواء كان فصلا أو خاصة؛ إذِ القصد منه تحصيل صورة الشيء في الذهن أو توضيحها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ [1]ــ وكما كان هذا التأثر عن طريق الاحتكاك بكتب الأمة اليونانية المترجمة والمعرّبة، كان كذلك عن طريق الحوار الذي كان يدور بين علماء المسلمين ورجال الكنائس المنتشرة في البلاد المفتوحة، كالعراق والشام، وعن طريق تردّد بعض طلاّب العلم على المدارس الفلسفية الملتحقة بالكنائس، والتي كانت تعرف باسم “الأسكول”. ينظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، للنشار 1/108. [2] ــ ولا يقال يلزم من هذا تفسير الشيء لنفسه، لأنّ “دلالة المحدودِ مِن حيث الإجمال، والحدّ مِن حيث التفصيل، فليس عَيْنَه مِن كل وَجْهٍ”. الفوائد السنية، للبرماوي 1/159. [3]ــ ينظر: التقريب والإرشاد، للإمام أبي بكر الباقلاني 1/174 ــ 1/200 ــ 2/29. [4] ــ الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم 8/101. [5] ــ اختُلف في العلم، فقال الإمام فخر الدين: هو ضروري، أي تصوره بديهي؛ لأن ما عدا العلم لا يعرف إلا به، فيستحيل أن يكون غيره كاشفا له، ولأني أعلم بالضرورة كوني عالما بوجودي، وتصور العلم جزء منه، وجزء البديهي بديهي، فتصور العلم بديهي. تشنيف المسامع بجمع الجوامع، للزركشي 1/223. [6] ــ حاشية الشيخ احمد السجلماسي على شرح سعيد قدورة على السلم المرونق ص: 33. [7] ــ المرجع نفسه ص: 33. [8]ــ معنى النسبة هو: ثبوت المحمول للموضوع، كثبوت القيام ــ مثلا ــ لزيد، في قولنا: زيد قائم. [9] ــ مقاييس اللغة، لابن فارس 2/3. [10] ــ تهذيب اللغة، للأزهري 3/271. [11]ــ لسان العرب، لابن منظور 3/140. [12] ــ أرسطو ما بعد الطبيعة، تلخيص ابن رشد 2/22، منطق أرسطو، عبد الرحمن بدوي 3/721. [13] ــ ينظر: موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب، فريد جبر وآخرون. ص: 928، وحاشية علي قصارة على شرح البناني على متن السّلم، ص: 97، وحاشية العطار على شرح المحلّي على جمع الجوامع 1/57. [14] ــ ينظر: موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب، فريد جبر وآخرون. ص: 928. [15]ــ ينظر: غاية الأمل في علم الجدل، للآمدي، ص: 128، كتاب الجدل، لابن سرور الحنبلي، ص: 79، شرح البنانيعلى متن السُّلّم، ص: 102. [16] ــ المنطق الصوري، علي سامي النشار، ص: 190. [17]ــ ينظر: المنطق ونظرية البحث، John Dewey/جون ديوي. ترجمة: زكي نجيب محمود، ص: 248، الأسس الميتافيزيقية، مدحت محمد نظيف، ص: 103 ــ 114. [18] ــ معيار العلم، ص: 281. [19] ــ قصة الحضارة، will Durant/ويل ديورانت. ترجمة: زكي محفوظ ـــ محمد بدران 7/496. [20]ــ ينظر: التقريب والإرشاد، للباقلاني 1/199، شرح المحلّي على جمع الجوامع 1/135، التعريفات، للجرجاني، ص: 83، معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم، للسيوطي ص: 34، التوقيف على مهمات التعاريف، ص: 137. [21] ــ هي جمع كلّي، وهو: كلّ مفهوم ذهني لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن كان لا يصدق في الواقع إلاّ على فرد واحد فقط، أو لا يوجد منه في الواقع أيّ فرد. كــ إنسان ــ حيوان ــ قمر ــ عنقاء. ضوابط المعرفة، عبد الرحمن حبنكة، ص:34. [22] ــ ينظر: شرح البناني على متن السلم، ص: 84، المنطق التطبيقي، العربي اللوه، ص: 46. [23] ــ ينظر: مثلا معيار العلم ص: 98 ـ 99. [24] ــ ينظر: رؤية نقدية لنظريات أرسطو طاليس المنطقية، علي بن محمد السويلم. ص: 65. وهذا الكلام الأرسطي لا يمكن قبوله من قبل الأصوليين ولا من عموم المسلمين على ظاهره، فمصدر الأشياء وعلتها في الحقيقة هو الله عز وجل بداهة، والله وحده هو الذي لا بداية له ولا نهاية أما المادة فلها بداية بدليل التغير، وكل ما له بداية فله نهاية بداهة أيضا؛ ولا يُقال إن الكلي لا يتغير؟ لأنا نقول لا وجود للكلي في الواقع، وإنما وجوده صوري ذهني أما في الواقع العيني الخارجي قلا يكون إلا جزئيا مشخصا. [25] ــ المنطق العربي، محمد وهبة الشربيني، ص: 100. [26] ــ أي إدراكا لا إيجادا، أو إيجادا ذهنيا تصوريا، لا إيجادا عينيا خارجيا. [27] ــ القصد بالمعرفة هنا التصوُّرُ مطلقا. [28] ــ وهو الكلّي المقول على كثيرين مُخْتَلفين بالحقائق فِي جَوَاب مَا هُوَ؟ ينظر: شرح ايساغوجي، للشيخ زكريا الأنصاري، ص: 34. [29] ــ وهو الكلي المقول على الشيء في جواب أي شيء هو في ذاته. ينظر: المصدر السابق، ص: 39. [30] ــ الحدود الأنيقة، لزكريا الأنصاري، ص: 72. [31] ــ نسبة إلى الإسم. [32] ــ المصطلح الفلسفي عند العرب، لعبد الأمير الأعسم، ص: 165. [33] ــ كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم 1/485، مناهل العرفان في علوم القرآن، لعبد العظيم الزرقاني 1/22. [34] ــ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، ص: 45. قال العلامة المحقق سعد الدين التفتازاني “والحق أنه يمكن أن يُحدّ بما يفيد امتيازه عن جميع ما عداه بحسب الوجود، لا بما يفيد تعينه وتشخصه، بحيث لا يمكن اشتراكه بين كثيرين بحسب العقل، فإن ذلك إنما يحصل بالإشارة لا غير”. شرح التلويح على التوضيح 1/50. [35] ــ ينظر: الرّد على المنطقيين، ص: 50. [36] ــ المستصفى، ص: 24. [37] ــ رؤية نقدية، لعلي السويلم، ص: 87. [38] ــ نفس المرجع، ص: 87. [39] ــ ينظر: الانسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، ابراهيم الجيلي ص: 5، تلخيص منطق أرسطو، ابن رشد 1/109. للوقوف على فكرة “التعليل المؤثر”. ينظر: مناقشة الإمام الباقلاني للمعتزلة في مسألة “حد السكران”، التقريب والإرشاد 1/244. [40] ــ المستصفى، ص:18. [41] ــ مجموع الفتاوى، لابن تيمية 9/48. [42] ــ لاشكّ أن دعوة الوقوف مع ما هو محسوس دعوة قرآنية ــ طالما تكرّرت ــ، غايتها صرْفُ نظر المخلوقِ إلى كلّ معرفة نفعية. كقوله عزّ وجل: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”. سورة العنكبوت، الآية: 20.
لائـحة المصادر والمراجع: ــ الإحكام في أصول الأحكام، أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري، تحقيق: الشيخ أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت. ــ الأسس الميتافيزيقية، مدحت محمد نظيف، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1419ه. ــ الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، ابراهيم الجيلي، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء المغرب. الطبعة الأولى، 1997م. ــ تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ــ القاهرة، 2012م. ــ تشنيف المسامع بجمع الجوامع، بدر الدين الزركشي. تحقيق: د سيد عبد العزيز – د عبد الله ربيع، مكتبة قرطبة للبحث العلمي وإحياء التراث، الطبعة: الأولى، 1418هـ/1998م. ــ التعريفات، الشريف الجرجاني، تحقيق: جماعة من العلماء بإشراف الناشر. دار الكتب العلمية ــ بيروت. الطبعة الأولى، 1403هـ. ــ التقريب والإرشاد، الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، تقديم وتحقيق وتعليق: عبد الحميد أبو زنيد، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1418ه. ــ تلخيص منطق أرسطو، ابن رشد، دراسة وتحقيق: جيرار جهامي. دار الفكر اللبناني ــ بيروت، الطبعة الأولى، 1992م. ــ تهذيب اللغة، محمد الأزهري الهروي، تحقيق: محمد عوض مرعب. دار إحياء التراث العربي ــ بيروت، الطبعة الأولى، 2001م. ــ التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين المناوي، عالم الكتب 38 عبد الخالق ثروة ــ القاهرة، الطبعة الأولى، 1410هـ. ــ الحدود الأنيقة والتعريفات الدّقيقة، زكريا الأنصاري، تحقيق: مازن المبارك. دار الفكر المعاصر ــ بيروت، الطبعة الأولى، 1411ه. ــ حاشية الشيخ احمد السجلماسي على شرح سعيد قدورة على السلم المرونق(مطبوع مع شرح البناني على السلم). دار المعرفة، البيضاء، المغرب. بدون تاريخ. ــ رؤية نقدية لنظريات أرسطو طاليس المنطقية، علي بن محمد الدخيل الله السويلم، عمادة البحث العلمي (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) الرياض. 2010م. ــ شرح إيساغوجي، الشيخ زكريا الأنصاري. المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، 1328ه. ــ شرح البناني على متن السُّلّم، محمد بن الحسن البناني. دار المعرفة، 1318ه. ــ شرح التلويح على التوضيح، سعد الدين الفتازاني، مكتبة صبيح بمصر، بدون طبعة وبدون تاريخ. ــ شرح المحلّي على جمع الجوامع، جلال الدين المحلي، مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر. 1420ه. ــ غاية الأمل في علم الجدل، سيف الدين الآمدي، تقديم وتحقيق: عبد الواحد جهداني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1437ه. ــ قصة الحضارة، ول ديورانت William James Durant، ترجمة: زكي محفوظ ــ محمد بدران. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ــ تونس. ــ كتاب الجدل، ابن سرور المقدسي الحنبلي، تقديم وتحقيق: عبد الواحد جهداني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1436ه. ــ موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد بن علي التهانوي. تحقيق: د. علي دحروج. الناشر: مكتبة لبنان ناشرون – بيروت، الطبعة: الأولى1996م. ــ لسان العرب، جمال الدين ابن منظور الأنصاري، دار صادر ــ بيروت، الطبعة الثالثة 1414هـ. ــ لوامع الأنوار البهيّة، أبو العون السفاريني، مؤسسة الخافقين ومكتبتها ــ دمشق، الطبعة الثانية، 1402هـ. ــ ما بعد الطبيعة(أرسطو) تلخيص ابن رشد، المطبعة الأدبية ــ مصر، الطبعة الأولى، 1318ه. ــ المصطلح الفلسفي عند العرب، عبد الأمير الأعسم. دار التنوير ــ بيروت، الطبعة الثالثة، 2009م. ــ المستصفى، الإمام أبو حامد الغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي. دار الكتب العلمية ــ بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ. ــ معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم، جلال الدين السيوطي. تحقيق: محمد إبراهيم عبادة. مكتبة الآداب ــ مصر، الطبعة الأولى، س: 1424هـ. ــ مقاييس اللغة، أحمد بن فارس القزويني، تحقيق: عبد السلام محمد هارون. دار الفكر1399هـ. ــ مناهل العرفان في علوم القرآن، الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني. دار ابن حزم ــ بيروت، الطبعة الأولى، 1427ه. ــ منطق أرسطو، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات الكويت ودار القلم بيروت، الطبعة الأولى، 1980م. ــ المنطق ونظرية البحث،John Dewey/جون ديوي، ترجمة: زكي نجيب محمود، دار المعارف ــ السلسلة:مكتبة الدراسات الفلسفية، الطبعة الثانية، 1969م. ــ المنطق التطبيقي، العربي اللوه، مطبعة النور، تطوان ــ المغرب. الطبعة الثانية، 1987م. ــ المنطق الصوري منذ أرسطو حتى عصرنا الحاضر، علي سامي النّشار، دار المعارف ــ القاهرة، الطبعة الثالثة، 1956م. ــ المنطق العربي، محمد وهبة للشربيني، دار الفكر العربي، الطبعة الاولى، 1367ه. ــ المنهاج في شعب الايمان، أبو عبد الله الحليمي الجرجاني، تحقيق: حلمي محمد فودة. دار الفكر، الطبعة الأولى، 1399هـ. ــ موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب، فريد جبر وآخرون. مكتبة لبنان ناشرون – بيروت الطبعة: الأولى 1996م. ــ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، علي سامي النشار، دار المعارف ــ القاهرة.