الأنساق الثقافية في الشعر الصوفي الشعبي بالزاوية الوزانية

تقرير مناقشة أطروحة الدكتوراه للباحث الدكتور عمر شهبي، إشراف الدكتورة فاطنة الغزي

      احتضنت كلية اللغات والآداب والفنون بالقنيطرة صباح يوم الجمعة 24 دجنبر2021، مناقشة أطروحة أعدها الباحث الدكتور عمر شهبي تحت عنوان: “الأنساق الثقافية في الشعر الصوفي الشعبي بالزاوية الوزانية”. وقد تشكلت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: 
ـ دة. نزهة بوعياد: رئيسة
ـ دة. ربيعة بنويس: مقررة
ـ د.ادريس الذهبي: مقررا
ـ د. عبد المجيد شكير: مقررا
ـ دة. فاطنة الغزي: مشرفة.
  وبعد مناقشة علمية مثمرة نال الباحث شهادة الدكتوراه في الآداب، تكوين: اللغة والمجتمع، بميزة مشرف جدا مع تنويه اللجنة.
وفيما يلي تقرير المناقشة الذي قدمه الدكتور عمر شهبي أمام اللجنة:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما ….
1) الموضوع:
      إن أعز ما تطلبه هذه الدراسة هو استجلاء أبرز الأنساق الثقافية المنغرسة في الشعر الصوفي الشعبي لدى الطوائف الصوفية الشعبية الوزانية، وكشفُ فعلها المضاد للوعي وللحس النقدي. وهي مغامرة – ولا شك- محفوفة بالعديد من العوائق، وذلك بالنظر لطبيعة الموضوع والمقاربة النقدية المعتمدة. فالخوض في الموضوعات التي تتصل بالتصوف بما هو فرع من فروع المعرفة الدينية، يعني بالضرورة الخوض في بعض جوانب المقدس الديني، الذي لا يملك المرء معه أن يتصرف بحرية كاملة، لاسيما في مجتمعاتنا التي يحتل فيها المقدسُ مكانة خاصة، وله سطوة عظيمة على القلوب والنفوس لما يبعثه من مشاعر الإجلال والرهبة. فالمقدس يكاد يكون على الدوام كما يقول روجيه كايوا:”مالا يستطيع المرء أن يقرُبه”.[1]
إن الزوايا الصوفية – كما كشفت الدراسة- ليست فضاءات للتربية والتزكية والأعمال “الإحسانية” فحسب، بل هي رافد أساسي كذلك، تُصنع فيه الأنساق الثقافية وتنتقل إلى الخطابات والفنون والأشكال الأدبية، ومنها إلى المستهلك الثقافي. ذلك أن الزوايا الصوفية كانت في مراحل تاريخية سابقة – ولازالت رغم بعض الانحسار- مشاتلَ للمعرفة الدينية، ومحاضنَ للإبداع، وفضاءات للاختلاط الاجتماعي، وهذا ما أهلها لكي تكون مؤسسات اجتماعية وثقافية، توفر لأعضائها ما يسميه بيير بورديو (بالملاذ الثقافي)، بما يعينه ذلك من إنتاج لوعي جمعي وطرائق لمعرفة العالم وتصوره تنشأ عن العلاقات الاجتماعية داخل الجماعة الثقافية، مما يفرز عددا من التقاليد والعلامات والأنساق.
      من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة، ذلك أن فهم الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية للمجتمع المغربي، ينبغي أن يتأسس على دراسة عميقة للأنساق الثقافية الدينية المنغرسة في خطابه الثقافي وأدبه الشعبي على الخصوص، هذا الأدب الذي امتص القيم الثقافية والدينية في المجتمع، فأعاد المتخيل الثقافي صياغتها على شكل مضمرات ثقافية نسقية فاعلة، تسربت إلى خطاباتنا وتصرفاتنا، وأنماط تفاعلنا، وطبيعة علاقاتنا وتصوراتنا الجمعية.
2) الاختيار:             
      إن البحث في هذا الموضوع يترجم إلى حد ما مسارا شخصيا انطلق من وزان، هناك حيث تشكلت – من جهة – شخصيتي العاشقة للذكر والسماع الصوفيين، المشدودة إلى المنابع الصافية للتدين المغربي المتصالح مع قيم الوسطية والاعتدال والجمال. هذه الشخصية المتطلعة من جهة أخرى إلى مساءلة بعض الطقوس والممارسات، والنبش في أفكار وتصورات، هي عند البعض من المسلمات.
      ويأتي هذا كذلك استجابة لمسار أكاديمي ومشروع علمي انطلق ببحث في الإجازة تحت إشراف الأستاذ الفاضل محمد الصمدي. هذا البحث الذي اشتغلت فيه على موضوع التصوف عند ابن خلدون من خلال كتابه شفاء السائل وتهذيب المسائل، ثم بحث الماستر تحت إشراف الأستاذة الكريمة ربيعة بنويس، الذي اشتغلت فيه على جمع المتون الشعرية التهامية ومقاربة خصوصياتها الموضوعاتية والفنية. ليتوجَ هذا المسارُ بأطروحة الدكتوراه تحت إشراف الأستاذة الفاضلة فاطنة الغزي. هذه الأطروحة التي تشكل امتدادا لما سبقها من بحوث لاسيما بحث الماستر، الذي اشتغلت فيه على الجماليات في الشعر الصوفي الشعبي، غير أنني في سلك الدكتوراه وانسجاما مع مقاربة النقد الثقافي، يممت وجهي شطر الأنساق المضمرة المنغرسة في الشعر الصوفي الشعبي.
3) إشكالية البحث:
      لم يحظ الشعر الصوفي الشعبي بدراسات متخصصة كتلك التي حظي بها الشعر الصوفي الفصيح، الذي اشتغلت عليه بحوث ودراسات عديدة. أما الدراسات التي اشتغلت على أنساقه الثقافية فتكاد تكون منعدمة. وهذه اعتبارات دعتني إلى أن أختط مسارا تحليليا ذاتيا بناء على قراءة ثقافية فاحصة للمتون الشعرية، أسفرت عن رسم ملامح أنساق ثقافية ظهر لي أنها مهيمنةٌ على الذهنية الثقافية الصوفية الشعبية، ومنغرسة في الخطاب الصوفي الشعبي على وجه الخصوص. وقد انطلقت هذه القراءة من إشكالات أرى أنها جديرة بالفحص والتمحيص والمدارسة، يمكن صياغتها على النحو الآتي:
      ما هي الأنساق الثقافية التي يستبطنها الشعر الصوفي الشعبي بوصفه أحد أهم الخزانات الثقافية والإبداعية الشفهية المغربية؟ كيف تشكلت هذه الأنساق الثقافية المضمرة؟ وماهي أبرز المرجعيات والخلفيات الثقافية التي أسهمت في رسم ملامحها ومدها بمضامينها وأسباب وجودها واستمراريتها؟ وإلى أي حد أسهمت الثقافة الطرُقية في استنبات هذه الأنساق في بواطن الشعر الصوفي الشعبي؟ وكيف عمل المتخيل الصوفي الشعبي على صياغة هذه الأنساق وضمان تسربها إلى خارج أسوار الزاوية لتنغرس في خطابات وسلوكيات ومظاهر ثقافية مختلفة؟
4) المقاربة النقدية ومتن البحث:
      لقد شكلت هذه الأسئلة قادحا يستحثنا على الحفر المعرفي في أعماق النصوص الصوفية الشعبية، واجتراح قراءة ثقافية اعتمادا على مقاربة النقد الثقافي بوصفها نظرية لا تهتم بتحليل الأعمال الأدبية واكتشاف قوانينها الداخلية وأبعادها الجمالية، التي تعتبرها أنساق ظاهرة مخاتلة تخفي عيوبا نسقية مضمرة عديدة. هذه المقاربة التي تقوم على خلق عدد من التداخلات المعرفية التي تستند إلى حقول وروافد ثقافية مختلفة، من أجل استنطاق النصوص ومواجهة البياضات ومناطق الصمت، وذلك بهدف ملامسة الأنساق المضمرة وكشف فعلها المضاد للوعي النقدي.
      وقد تشكل متن الدراسة أساسا من أشعار صوفية شعبية قمت بجمعها طوال سنوات، سواء إبان الإعداد لبحث الماستر، حيث جمعت عددا معتبرا من أشعار الطائفة التهامية، أو أثناء الاشتغال على أطروحة الدكتوراه التي قمت فيها بتوسيع دائرة الاهتمام والبحث ليشمل طوائف صوفية أخرى. وقد استدعى ذلك مني الانتقال إلى وزان مرات عديدة، وتنظيمَ الكثير من اللقاءات والمقابلات مع مريدي الطوائف الصوفية الشعبية، بل والمشاركة في العديد من محافلها وأنشطتها لاسيما في عيد المولد النبوي الذي تشهد فيه مدينة وزان حضورا مميزا للذكر والمديح والسماع.
5) تصميم البحث:
      في ضوء التوضيحات والاعتبارات السالفة الذكر، اتخذ هذا البحث الموسوم تصميما يستجيب لرؤية تحليلية ينظِم عناصرَها الوليُ الصوفي بوصفه البؤرةَ الدلاليةَ والثقافيةَ في الخطاب والممارسة الصوفييْن. وهي رؤية مفادها أن الوليَّ المتسلطَ و”المخلّصَ”، يتوسل في ممارسته الصوفية وبناء مصداقيته الشعبية بالكرامة والبركة، ويستند إلى القداسة التي لا تتجلى في شخصه فحسب، وإنما في المكان الذي يحل به، فيغدو تبعا لذلك مكانا مقدسا في المتخيل الثقافي الصوفي الشعبي. وهكذا تأسس العمل على مقدمة ومدخل وثلاثة فصول.
ـ المدخل:
      تناولنا فيه بالإضاءة الاعتبارات المعرفية الأكاديمية والمسوغات العلمية، التي تؤسس للقراءة الثقافية للشعر الصوفي الشعبي، بوصفه أكثر الأشكال الأدبية انسجاما مع الرؤية المنهجية التي تتبناها نظرية النقد الثقافي.
ـ الفصل الأول:
      ويتألف من مبحثين، خصصنا الأول لفحص مفاهيم التصوف والطريقة والزاوية في اللغة والاصطلاح، ثم التعرفِ على المنابع الصوفية للطريقة الوزانية. فيما تناولَ المبحثُ الثاني التعريفَ بالشعر الصوفي الرسمي والشعبي، موضِّحاً نشأةَ الشعر الصوفي الرسمي وتطورَه وأهمَّ موضوعاته، ومعرِّفا بالطوائف الصوفية الشعبية الوزانية، مع تأسيس وتأصيل لمفهوم الشعر الصوفي الشعبي، وتعيين للأسس التي يتشيَّد عليها، قبل أن يتم الكشف عن خصوصيات الشعر الصوفي الشعبي الوزاني.
ـ الفصل الثاني:
      ويتفرع هذا الفصل بعد التوطئة، إلى ثلاثةِ مباحثَ تَوَلَّى أوَّلُها التعريفَ بمقاربة النقد الثقافي لاسيما في علاقتها بالثقافة الشعبية، ثُمَّ تقديمَ إضاءة حول مفهوم النسق الثقافي سواء من حيث اللغة أو الاصطلاح أو في ضوء نظرية النقد الثقافي. أما المبحث الثاني فتناول نسق التسلط في الشعر الصوفي الشعبي من خلال إضاءة تعريفية لمفهوم السلطة، ثم محور أول يتصل بتشكل هذا النسق وعلاقته باللغة والمريد والثقافة الصوفية الطرقية. في حين اهتم المحور الثاني بإبراز مصادر الشرعية، التي يستند إليها نسق التسلط، وهي مصادر دينية وأخلاقية ومعرفية وتراتبية. أما المحور الثالث، فانشغل برصد آليات السيطرة الناعمة، التي يتوسل بها نسق التسلط، وهي آليات ترتبط بصناعة نموذج نسقي للتفوق، ثم آلية التقريب والاستبعاد، وآلية الاحتفالات الشعبية. وقد خصصنا المبحث الثاني للاشتغال على دونية المريد في الشعر الصوفي الشعبي، من خلال محور أول اهتم بآليات صناعة الدونية حددناها في أخذ العهد، وخدمة الشيخ، وآداب المريد. ثم محور ثان تَوَلَّى الاشتغالَ على إعادة إنتاج التسلط، التي تتم من خلال تماهي المريد مع نموذج الشيخ المتسلط، واعتماد الوعظ بوصفه قناة لتصريف التسلط. أما المبحث الثالث والأخير ضمن هذا الفصل، فقد عالج نسق الخلاص في الشعر الصوفي الشعبي، وذلك من خلال لحظة تنوير لمفهوم الخلاص، ومحاورَ تتصل أولا بمفهوم “الضَّمانْ” بوصفه مقابلا نسقيا وزانيا للخلاص، ثم الكشف عن مضامين وخلفيات الخلاص الدنيوي والأخروي في الشعر الصوفي الشعبي.
ـ الفصل الثالث:
      ويتشكل هذا الفصل بعد التوطئة من ثلاثة مباحثَ، تولى أولها الاشتغال على الكرامة بوصفها نسقا ثقافيا عجيبا، وذلك من خلال محور أول خصص لإضاءات تعريفية حول مفاهيم الكرامة والعجيب والعجائبي والغريب، ثم محور ثان آثرنا فيه كشف مسوغات وجود النسق العجيب في الكرامة الصوفية، ومحاور أخرى انشغلت بكشف تداخل النسق العجيب بالسلطوي والديني، ومقاربة الكرامة من خلال قضية تواحد البطل الصوفي مع البطل الديني، وعلاقتها بالعلاج الروحي، وكذا “الزيَّارة” – أو الهبة بالمفهوم الأنتربولوجي- في النسق الطقوسي الصوفي المغربي. وقد اهتم المبحث الثاني في هذا الفصل باستجلاء خصوصيات نسق البركة بوصفها القوة الخارقة الداعمة لانبثاق الكرامة الصوفية، وذلك عبر الوقوف أولا، على سمات مفهوم البركة العصي عن التعريف والترويض، ثم الاقتراب من نسق البركة في علاقته بكرامات المال، وقضية الانحدار النسبي من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا كرامات التحريك. أما المبحث الثالث والأخير ضمن هذا الفصل، فقد تناول دار وزان بوصفها نسقا مكانيا مقدسا، معرٍّفا -من خلال توطئة- بسماتها كمدينة زاوية، وكاشفا لسيرورة تشكلها، لينتقل بعد ذلك إلى رصد اشتغال النسق المكاني المقدس في الشعر الصوفي الشعبي، وذلك عبر محور أول خصص لإبراز العلاقة بين المقدس والنسق المكاني المقدس، ومحور ثان اهتم بنشأة الزاوية بوصفها انبثاقا للمقدس في المكان، ثم محور ثالث تناول دار وزان كجغرافية مقدسة.
ـ خاتمة
      وشكلت لحظة إجمال لأهم منعطفات رحلتنا المعرفية في بواطن الأنساق الثقافية، ولأبرز ما أفضت إليها من نتائج وخلاصات.
فما هي إذن أهم النتائج والخلاصات الأساسية التي انتهى إليها هذا البحث؟
6) خلاصات ونتائج
      لقد انطلقت رحلتنا المعرفية على هدى رؤيةٍ منهجيةٍ تقوم على عبور الحدود بين التخصصات المعرفية والمرجعيات الثقافية، وقد أفضت إلى مجموعة من الخلاصات من أهمها المساهمة في تأسيس وتأصيل مفهوم الشعر الصوفي الشعبي بوصفه أحد أهداف هذه الدراسة كذلك، بالنظر إلى الشقوق والبياضات التي تتخلل هذا المفهوم، والتي تحتاج إلى من يسدها ويملؤها، ولهذا انصرفت عنايتنا إلى إضاءة مناطق الوصل والفصل بينه وبين باقي الأشكال الشعرية الشعبية، وهو ما أسفر عن بلورة مقاربة لخصوصية الشعر الصوفي الشعبي، الذي ينتجه مريدو الطوائف الصوفية الشعبية – تأليفا وأداء وتلقيا – بوصفه ممارسة تعبيرية تعكس رؤيتهم ومعتقداتهم الصوفية، وتندمج مع طقوسهم وممارساتهم وشعائرهم.
      لقد أسفر تحليل نسق التسلط عن كشف طبيعة التحول الثقافي الذي طرأ على التصوف بتأسيس الطرق الصوفية، والذي كان بمثابة البذرة، التي أنبتت المتسلط في الذهنية الثقافية الطُرقية، إذ تحولت الممارسة الصوفية من نزعة روحية أخلاقية فردية، إلى ممارسة ذات أبعاد سلطوية طبعت القيم والسلوكيات ومختلف الخطابات الثقافية والفنية والأدبية. فظهر الشيخ المتسلط كنسق ثقافي تشكلَ شعريا ضمن النصوص، التي تنتمي للمديح الولوي. هذا الشيخ الذي يبدو في هذه النصوص كشخصية خارقة ذاتِ حضورٍ متميزٍ وقدرات استثنائية تخلع عليه رداءً ساحرا مفعما بالقداسة، وتضمن له الولاءَ والتعظيمَ والسيطرة المطلقةَ على أتباعه، الذين يحرصون على إغداق صفات التفرد والهيمنة والتحكم المطلق على الشيخ، إلى درجة الإعلاء من فوقيته على جميع البشر بمن فيهم المالكون للسلطة الزمنية، وذلك في عملية سحق معنوية للآخر، يقوم بها المريد \ الشاعر فقط من أجل تمجيد شيخه الذي تشرب روحه، فصار لا يرى سلطانا فوق الأرض غيره.
      لقد أظهر تناول مبحث الدونية في الشعر الصوفي الشعبي أن هذا المسارَ ينطلق منذ لحظة أخذ العهد، التي تؤشر على فقدان المريد لإرادته والتحكم في نفسه بشكل كلي، لتتعمق هذه الدونية من خلال آلية الخدمة، التي لا تظهر في الشعر الصوفي الشعبي كعلامة على المسافة الاجتماعية، التي تفصل بين المتسلط والمريد فحسب، بل كسيرورة مُهينة له، وكأن على المريد أن يؤدي ثمن ولوج المشيخة مستقبلا من كرامته وحريته.
      غير أن المريد، كما بَيَّن التحليل، قد يعمد – عبر تقمص شخصيةِ شيخه – إلى إنتاج خطاب وعظي سلطوي يحشد فيه عددا من الطلبات، فيأمر وينهى ويزجُر، وهذه أفعال تنضح بعلاقات السلطة مادام أنها تضمر إحساسا بالقدرة على التأثير. وهو الأمر الذي يسمح للمريد “بالارتقاء” من الوضعية الدونية، ليعيش مؤقتا “حلم” التسلط، الذي يدغدع مشاعرَه. إذ يتحول إلى “متسلط صغير” يمارس نوعا من الاستعلاء والهيمنة على أقرانه أو من هم دونه، في محاولة منه لاستعادة شيء من الاعتبار الذاتي، الذي نخره الخضوع والتذلل للشيخ.
      أما تحليل نسق الخلاص في الشعر الصوفي الشعبي، فقد أسفر عن تجذر مفهوم الضمان في الذهنية الصوفية الشعبية الوزانية. هذا المفهوم الذي يمثل المقابلَ النسقيَّ للخلاص في صيغته الوزانية. وهو يرتبط بالولي بوصفه صمام الأمان ومنبعَ الضمان، الذي يتم اللجوء إليه إذا واجه الفرد أو المجتمع شرورا أو قوى لا قبل له بها. بيد أن تدخل الولي، في المنظور الصوفي الشعبي، لا يقتصر فحسب على العالم الواقعي، وإنما يمتد تدخله للعالم الأخروي، بحيث يظهر كمخلص روحي أخروي من أوزار الذنوب والخطايا والعذاب الإلهي. ويكتسي نسق الخلاص في الشعر الصوفي خصوصية لدى الجماعة الصوفية الطرُقية بالمقارنة مع جماعات دينية وسياسية أخرى تنتظر مخلصا يأتي في آخر الزمان، له تسمية مخصوصة ومواصفات معروفة. فالمخلص في الخطاب الصوفي الشعبي ليس شخصا بعينه، وإنما هو مقام صوفي إذا بلغه ولي من الأولياء أصبح بإمكانه التدخل من أجل نصرة مريديه وإغاثتهم. هذا المقام الذي يسمى في الأدبيات الصوفية “بالغوث” والذي يمثل المقابل الصوفي النسقي للمخلص، الذي لا يملك، كما كشف تحليل الخطاب الصوفي الشعبي، مشروعا سياسيا يستهدف القضاء على الخصوم، وإقامة دولة يحكمها المُخلص استنادا إلى كاريزميته ومشروعيته الدينية، كما هو الأمر عند بعض الحركات الدينية كالشيعة على سبيل المثال. فالأولياء في الذهنية الصوفية الشعبية يُنظر إليهم كسلاطين، لكنهم يحكمون دولة خيالية لا وجود لها إلا في مخيلة بعض شعراء الطوائف الصوفية الشعبية.
      لقد أتاحت لنا القراءة الثقافية النفاذ داخل شقوق النصوص الكرامية والتسربَ إلى بواطنها من أجل إضاءة تلك الجوانب المظلمة العميقة فيها، ورفعِ الغِلالة الظاهرة، التي تحجب الرغبات السحيقة، والتصورات المضمرة، والمواقف الباطنة. هذه الغِلالة التي يستثمرها نسق العجيب من أجل مخاتلة المتلقي عبر محاولة محاكاة النماذج النبوية لإضفاء المشروعية على وجوده وحركيته وفعله وتأثيره، فلا يلتفت المتلقي إلى سمات نسق العجيب الكامن في الكرامة، التي تتمحل الطابع الرباني المتعالي. هذا النسق الذي يقود الذاتَ الصوفية الجريحة واقعيا والمتعطشةَ لإنجاز أو انتصار، إلى تلمس الخلاص في الخارق واللامعقول، لأن ذلك يتيح لها التخلص من قيود الشروط الموضوعية الصارمة، والاعتبارات المادية القاهرة، وإكراهات المكان والزمان.
      إن نسق العجيب الصوفي بالرغم من محاصرة الكثير من تجلياته اليوم، على مستوى الممارسة والسلوك بفعل التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع، لا زال يتحرك داخل بعض الذهنيات وخلف بعض الخطابات، يقود الوعي مستغلا تلك الرواسب الثقافية المتراكمة في اللاشعور الثقافي، والتي تهيئ الأرضية لتقبل كل الممارسات، التي تدعي خرق العادات ومعانقة اللامعقول. فالكرامة لا زالت حية اليوم داخل اللاوعي الثقافي تقاوم كل عوامل الطمس والاستئصال وتتلون حسب الظروف والسياقات.
      وإذا كانت الكرامة تتصل أساسا بالقداسة بما هي تجل لبلوغ الصالح مقام الولاية، فإنها مشروطة كذلك بامتلاكه لقوة عظمى “مقدسة” وهي البركة، التي تشكل المادة الخارقة الرئيسية المسؤولة عن انبثاق الكرامة، ومصدرَ بناء الولي لمشروعيته الصوفية، ومصداقيته الشعبية، ودليلا على حظوته ومنزلته وقربه من الحضرة الإلهية.
      لقد أماط تحليل تجليات نسق البركة في الشعر الصوفي الشعبي، اللثام عن المدلول الذي تتخذه في باطن النسق الثقافي الصوفي. هذا المدلول الذي يتمايز عن المنظور الديني الإسلامي الذي يجعل البركة متصلة بالنماء والخير. ففي النسق الصوفي الطرُقي تتجلى البركة في تلك القوة الخارقة الجبارة، التي تعد العاملَ الأساسَ في انبثاق الكرامات الصوفية. وهي فعالية خارقة قد يحركها الولي بإرادته، وقد تتحرك دون إذن منه، لكنها تخدم بطبيعة الحال غاياته وأهدافَه ورغباته التي تراودُه. هذه البركة التي قد تتجلى في البشر، أو تلتصق بالأشياء، أو تنغرس في الأماكن والفضاءات. وهو الأمر الذي يجعل المريدين يقبِلون على زيارة الأضرحة من أجل تشرُّب هذه البركة المنشرة في الأجواء والأرجاء.
      أما بالنسبة للنسق المكاني المقدس، فقد أسفر التحليل عن كشف التصور النسقي المنغرس في الشعر الصوفي الشعبي الوزاني. هذا التصور الذي يجعل من وزان مكانا مقدسا يتسم بكل سمات “الجلال والعظمة”، الناجمة عن نشأتها “المقدسة”، التي تتصل بلحظة الفتح الصوفي و”الإذن النبوي”، بما هو “ترجمة” عملية “للإرادة الإلهية”. وهذا ما يجعل تأسيس وزان بوصفها مدينة زاوية يصطبغ برمزية عالية، على اعتبار أن هذا الفعل يحاكي إقامة المدن المقدسة، الذي ينزع الأرض من طابعها المجهول ليضفي عليها سمات القداسة، فتغدو مكانا مأهولا ومنظما يتسم بخاصية التجانس. وهذا الأمر لا يمكن أن يتم بطبيعة الحال إلا من خلال تدخل الولي، الذي يقوم بنثر قداسته وتصريف بركته في المكان، فيتحول من مكان خال وموحش ومدنس، إلى مكان مأهول وطاهر ومبارك.
      إننا لا ندعي أن هذه الدراسة- وإن أضاءت منطقة أدبية ونقدية معتمة في أدبنا الشعبي- قد جاءت بالقول الفصل في موضوعها، أو أنها أحاطت بكل جوانبه وحيثياته، أو أنها تناولت كل الأنساق والبنى المضمرة في الشعر الصوفي الشعبي. ذلك أن ثمة مساحات ثقافية وجمالية وروحانية مازالت بحاجة إلى الاستكشاف في هذا الشعر وغيره من الأشكال الأدبية الصوفية الشعبية، وثمة كذلك أسئلة معرفية متعطشة للدراسة والبحث والتمحيص، لم تستطع بالتأكيد هذه الدراسة أن ترويَ ضمأها. وهذا ما يدعونا، إلى الإقرار بنسبيتها وبقابليتها للتعديل والمراجعة. وهو الأمر الذي يفتح الباب مستقبلا لارتياد آفاق معرفية وبحثية أخرى تعزز الخلاصات المتوصلَ إليها، وقد تقوِّم وتصحح بعضها، لكنها بالتأكيد ستتوجه إلى أسئلة معرفية أخرى ستطوح بنا في فضاءات ثقافية وعوالم معرفية رحبة. مما يجعل من هذه الدراسة مجرد خطوة أولى متواضعة على درب طريق معرفي طويل نرجو أن يجود علينا بمتعة كشف الحقيقة وتجلي المخبوء.
      ولا يفوتني في هذا المقام أن أتوجه بشكري وامتناني لأستاذتي الفاضلة الدكتورة فاطنة الغزي التي أشرفت باقتدار على هذه الأطروحة، وللجنة العلمية الموقرة على تفضلها بقراءة البحث ومناقشته وعلى ما ستقدمه من ملاحظات علمية حصيفة مؤكدا لهم اعتزازي المسبق بتوجيهاتهم الرشيدة، وتصويباتهم السديدة التي سأفيد منها حتما في تجاوز ما قد يكون اعتور البحثَ من نقص أو قصور. وخالص الشكر والعرفان لعائلتي، والشكر موصول لمختبر التراث الثقافي الذي احتضننا، ولكل الأطر التربوية والإدارية بكلية الآداب واللغات والفنون.
      أختم هذا التقرير بالترحم على روحَيّْ والدَيَّ الكريمين وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي هذا في صحيفتيهما وأن يجازيهما عني وعن إخوتي خيرا الجزاء.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]كايوا روجيه، الإنسان والمقدس، تر سميرة رشا المنظمة العربية للترجمة- بيروت، ط.1، سنة 2010، ص.37

Print Friendly, PDF & Email

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى