أطــــروحة من إعداد: جمال موحيب
للحصول على درجة دكتوراه في تخصص الفقه وأصوله
تحت إشراف: عبد الواحد جهداني
جـــامعة ابـــن زهـــر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تكوين الدكتوراه: تراث وتنمية.
اللجنة المناقشة:
ـ د: عبد الله البخاري، أستاذ التعليم العالي(ابن زهر أكادير).
ـ د: حسن بنعبو، أستاذ التعليم العالي(ابن زهر أكادير).
ـ د: عبد الحليم ايت مجوض، أستاذ مؤهل(المركز الجهوي للتربية والتكوين ــ البيضاء/سطات).
السنة الجامعية: 1441/1442. 2020/2021.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المُخلّد دينَه بحفظ آياته، المودع سرّ السعادة في العمل بكلماته، الفاتح أبواب الرحمات بفضله، المرسي قواعد الحقّ بشريعته، فانتصبت قائمة تُرشد الخلق إلى أحكامه. والصلاة والسلام على من أكرمه الله ـ تعالى ـ بمهمّة التّبيين، وجعله خاتم النّبيئين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فلا يخفى على المشتغلين بالدراسات الشرعية أن النّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلاّ بعدما بذر بذرة الاجتهاد في نفوس الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، تنبُّؤاً منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن رقعة العالم الإسلامي ستتّسع، وستتّسع معها دائرة المستجدات والنوازل الحياتية، التي قد لا يُصادف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لها نصّا صريحا في الكتاب ولا في السّنة.
وقد شاء الله ـ سبحانه ـ أن تزكو هذه البذرة، ويتوالى نفعها منذ ذلك الحين إلى يوم النّاس هذا. فكم التجأ أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ إلى معرفة الأمثال وقياس الأشباه بنظائرها؛ ففصَلوا في قضايا لم ترد فيها نصوص بعينها، وكم تصدّى للقضاء بين النّاس عليٌّ ومعاذ وأبو موسى الأشعري ـ رضي الله عنهم ـ بما حصل لهم من فهم لكتاب الله ـ تعالى ـ ولسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلم.
وبفضل هذا الاجتهاد الذي مارسه فقهاء الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، تكوّنت لدى فقهاء التّابعين ملكات اجتهادية، مكّنتهم من القدرة على الاستنباط فيما لا نصّ فيه.
ولم يكن الصحابة والتّابعون في حاجة إلى التّصريح بالأصول التي كانوا يسيرون عليها، حين يستنبطون الأحكام من أدلّتها، بما “أنّ استفادة المعاني من الألفاظ لا يُحتاج فيها إلى أزيدَ ممّا عندهم من الملكة اللّسانية. وأمّا القوانين التي يُحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا، فعنهم أُخذ معظمها. وأمّا الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النّظر فيها، لقرب العصر، وممارسة النّقلة، وخبْرتهم بهم”([1]).
فلمّا انقرض جيل الصحابة والتّابعين، وأتى جيل تابعي التابعين، احتاج الأمر إلى الالتفات “إلى استقراء صور الاجتهاد، كما التفت علماء العربية إلى استقراء أساليب بناء الكلام العربي، فانتقل ما كان مأخوذا أخذ الملكات والسلائق، وأصبح مأخوذا أخذ القواعد والأصول”([2]).
وكانت حركة الاجتهاد تنمو نموّا مترابط الحلقات، إلى أن استوت على سوقها بظهور أئمّة أعلام([3])، “جمعوا علم من سبقهم، فأصّلوا مسائلهم، وقعّدوا نوازلهم، وضبطوا أحكامهم، في مناهج صاغوها، وأصول أبدعوها، فنشأت بهم المذاهب، وترسّم النّاس خُطاهم، وعملوا بمقتضى اجتهاداتهم”([4]).
وهكذا بدأ الأئمة المجتهدون يسيرون على نهج واضح في تدوين الأدلة الشرعية، فكانت الأصول المجمع عليها: القرآن والسنّة، ثم أُلحق بهما الإجماع والقياس. فصارت الأصول المتّفق عليها عند جُلّ المجتهدين أربعة: القرآن ـ السنة ـ الإجماع ـ القياس. لكن مع الاتّفاق على أن الأصول والأحكام تعود إلى تلك الأدلة الأربعة، فقد اختلفوا في التّقدير الجزئي لكلّ دليل من هذه الأدلة المتّفق عليها.
فمع اتّفاقهم على كون القرآن دليلا شرعيا، فقد اختلفوا هل ذلك بمنطوقه ومفهومه معا، أو بمنطوقه فقط؟ فمنهم من قال بحجّية الكتاب مطلقا، نصّا وظاهرا ومؤولا ومنطوقا ومفهوما، ومنهم من فصّل في ذلك. ثم اختلفوا بعدها في صيغة الأمر هل هي للوجوب، أو الندب؟. إلى غير ذلك من الصيغ الأخرى ــ سواء صيغ الأمر أم صيغ النهي ــ التي وقع فيها الخلاف.
وفي السّنة: فبعد اتّفاقهم على أنها دليل، اختلفوا في خبر الآحاد، فمنهم من يرى أنه يُفيد اليقين، ومنهم من يرى أنه لا يفيد إلا الظّن. كما اختلفوا في حجّية الحديث المرسل، فمنهم من قال بحجّيته، ومنهم من لا يراه حجّة.
وفي القياس: اتّفقوا على أنه حجّة في الجملة([5])، لكنّهم اختلفوا هل هو حجّة في الجلي دون الخفي، أو فيهما معا؟، كما اختلفوا في معارضة خبر الواحد للقياس، هل يُقدّم القياس على خبر الواحد؟، أو العكس. وهكذا الحال في حجّية الإجماع.
ثم جاءت إثر ذلك الأصول التّبعية، كالاستحسان والاستصلاح، ــ التي سمّاها الغزالي الأُصولَ الموهومة ــ([6])، وهي أصول مُختلَف في الاحتجاج بها.
هذا وفي الوقت الذي كانت فيه الدراسات الفقهية تسير في مسارها الصحيح، ظهرت المعتزلة، فاستفْحل الخلاف، واندلعت معارك الجدال. فتأثر “الفقه بالأساليب الجدلية الاستدلالية، فكان مظهر أصول الفقه ـ في القرن الرابع وما بعده ـ مظهرا متأثرا إلى حدّ بعيدٍ جدّا بروح الجدل والمناظرة، وظهر ذلك ظهورا بيِّنا في كتب أصول الفقه”([7]). فكان من وراء ذلك أن سار الأصوليون في دراسة أصول الفقه والتّصنيف فيه، في اتجاهين رئيسين:
اتجاه نظري: عُرف بطريقة المتكلمين، واتجاه عملي: عُرف بطريقة الفقهاء.
وسُمّيت طريقة أرباب الاتجاه النظري، بطريقة المتكلّمين؛ لاعتمادها في تقرير قواعد علم الأصول وتحقيقه، طريقة عقلية منطقية، فهي تُقيم البراهين العقلية والحجج النقلية على إثبات القواعد الكلية، ولا تتعرّض للفروع إلاّ نادرا. وعلى هذه الطريقة سار معظم الأصوليين، وبهذا اللّون من ألوان التأليف اشتهر أعلامٌ كُثُر. وفي طليعتهم الإمام أبو بكر الباقلاني رحمه الله.
هذا الإمام الذي يُعدّ واحدا من أساطين علم أصول الفقه، بل من المنتقلين بالتأليف الأصولي إلى مرحلة التّوسع الشمولي، وإلى مرحلة التمازج مع علم الكلام، يقول الزركشي: “حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال. واقتفى الناس بآثارهم، وساروا على لاحب نارهم”([8]).
لذلك فلا غرو إن وجدناه ينفرد بالكثير من الآراء، فهذا شأن الشخصية العلمية المستقلة، التي تربأ بنفسها أن تُرى في رقّ التقليد. هذا التّفرد بالآراء الذي يظهر جليّا لكل من طالع كتب الأصول، لا سيما تلك التي أكثرت من نقل آرائه، إما بالواسطة، أو بالاطلاع مباشرة على كتبه، التي ـ للأسف ـ لم يصلنا منها إلاّ سفر واحد([9])، من كتاب ضخم([10])، موسوم بـ”التقريب والإرشاد”.
ولضخامة هذا الكتاب اختصره الباقلاني ـ رحمه الله ـ مرّتين، اختصره أولا في الأوسط، ثم لمّا شعر ثانية أنه في حاجة إلى اختصار، اختصره في الصغير([11]).
ولمّا كانت آراء هذا الإمام بالمنزلة التي وصفت، أحببت الوقوف عليها، وتسليط الضوء على بعضها، ـ قدر الجهد والطاقة ـ، فسجّلت أطروحتي للدكتوراه تحت هذا العنوان: “اعتراضات الأصوليين على بعض الآراء الأصولية للباقلاني”.
مبرّرات اختيار الموضوع:
انطلاقا من الإثراء الكبير الذي قدّمته آراء الإمام الباقلاني للمدرسة الأصولية، والتأثير الواضح الذي أحدثته هذه الآراء فيمن جاء بعده من الأصوليين، عقدت العزم أن أقف مع هذه الآراء الأصولية المتفردّة، وتسليط الضوء عليها. رغبة منّي في التّعرف على الخصوصية التي امتازت بها مدرسة الباقلاني الأصولية، وعلى منهجية العرض والدراسة للآراء، ثم على طريقة الاستدلال لتلك الآراء، ثم الوقوف على مدى قوة ما اعترض به الأصوليون على هذا الإمام.
الدراسات السابقة:
أوّلا: “آراء القاضي أبي بكر الباقلاني وأثرها في علم أصول الفقه”، للباحث قطب بن مصطفى سانو، وهو بحث قد قدّم لنيل درجة الماجستير، بجامعة الملك سعود بالرياض، 1992م.
وهي رسالة قيّمة استطاع الباحث من خلالها جمع عدد كبير من آراء الإمام الباقلاني، فهي رسالة قرّبت آراء هذا الإمام الأصولية من الباحثين، لمن أراد أن يتناولها بالدراسة والتحليل.
ثانيا: “الآراء الأصولية لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، في المقدمات الأصولية، ودلالات الألفاظ وعوارضها، دراسة مقارنة”، للباحث فراس عبد الحميد الشايب، وهي رسالة قُدّمت لنيل درجة الماجستير، من جامعة آل البيت ـ كلية الدراسات الفقهية والقانونية، 2000م.
وهي رسالة ذات مجهود لا بأس به، رغم أنّها أغرقت في ذكر التعاريف لغة واصطلاحا ـ وقد علمت سابقا أن هذه المنهجية قليلة الفائدة ـ، كما أن الباحث في أغلب المسائل لا تراه يُبدي وجهة نظره، وإن أبداها لا يزيد عن قوله: لقوّة أدلتهم، من غير تجليةِ لتلك القوة.
ثالثا: “آراء الباقلاني الأصولية”، للباحث الجميلي سعدي خلف، وهو بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه من جامعة صدام للعلوم الإسلامية ـ بغداد، 2001م.
وللأسف لم يتيسّر لي الاطلاع على هذه الرسالة، على الرغم من تواصلي مع صاحبها عبر بعض المواقع التواصلية، لكن دون جدوى، كما راسلت جامعة صدام، التي نوقشت فيها رسالة هذا الباحث، لكن دون إجابة.
رابعا: “اختيارات الإمام الباقلاني في الاستثناء والقياس، من خلال كتابه: التقريب والإرشاد”، للباحثة نوال الطاهر الأمين، وهي رسالة قُدّمت لنيل درجة الماجستير، من جامعة أم درمان الإسلامية ـ كلية الشريعة والقانون ـ السودان، 2012م.
وفي الحقيقة هذا البحث ــ حسب رأيي ــ ليس فيه كبير فائدة، إنما هو عبارة عن نُقول تِلو نقول، لنصوص التقريب والإرشاد.
خطة البحث:
وفيها: مقدمة، وبابان، يتقدّمهما باب تمهيدي، ثم خاتمة.
أما المقدمة: فتناولت فيها لمحة تاريخية سريعة عن أصول الفقه، ثم أسباب اختياري لهذا الموضوع، مع تقويم الدراسات التي لها ارتباط بهذا الموضوع، ثم بيان خطة البحث، وفي الأخير بيان المنهج المتّبع.
وفي الباب التمهيدي: وقف الباحث مع عصر الإمام الباقلاني، والظروف التي كانت تكتنفه، سواء منها السياسية أو الاجتماعية أو العلمية، ثم مع حياته: من النشأة إلى الوفاة، ثم تعرض لبعض شيوخه وتلاميذه، مع ذكر مصنّفاته، ثم تناول في الفصل الرابع بعض مناظراته، وأقوال العلماء فيه، وفي الفصل الأخير عرّف ببعض المصطلحات الواردة في عنوان هذه الأطروحة.
وبهذا يكون الباب/ التمهيد قد ضمّ خمسة فصول، تحت كلّ فصل ثلاثة مباحث، إلاّ الفصل الأخير، فجاء في مبحثين.
أمّا الباب الأول: فخصّصته لبعض آراء الباقلاني في مباحث الألفاظ ودلالتها على الأحكام، وجاء مقسّما ـ تبعا للمادة العلمية ـ إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: وهو في بعض آراء الباقلاني في مباحث الأوامر، وتحته أربعة مباحث، المبحث الأول: في رأي الباقلاني في صيغة الأمر، والمبحث الثاني: رأيه في النفي الداخل على الحقائق الشرعية، ثم المبحث الثالث: في رأيه في دلالة الأمر، أما المبحث الرابع والأخير: ففي رأيه في الواحد بالشخص له جهتان.
أما الفصل الثاني: وهو في بعض آراء الباقلاني في مباحث العموم والخصوص، وتحته خمسة مباحث، المبحث الأول: في رأيه في صيغ العموم، والمبحث الثاني: في رأيه في أقلّ الجمع، ثم المبحث الثالث: في رأيه في البحث عن المخصّص، أمّا المبحث الرابع: فجاء في رأيه في تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وأما المبحث الخامس والأخير: ففي رأيه في تعارض القياس مع عموم النص.
وأما الفصل الثالث: فخصّصته لبعض آراء الباقلاني في مباحث الحقيقة والمفهوم، وتحته مبحثان، المبحث الأول: في رأيه في الأسماء الشرعية، أما المبحث الثاني: ففي رأيه في مفهوم المخالفة.
أما بالنسبة للباب الثاني: فخصّصته ـ تبعا للمادة العلمية ـ لبعض آراء الباقلاني في مباحث الأدلة (عموما). وجاء مُقسّما إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: وهو في بعض آراء الباقلاني في مباحث السنّة، وتحته أربعة مباحث، المبحث الأول: في رأيه في خبر الواحد، والمبحث الثاني: في رأيه في تعارض خبر الواحد والقياس، أمّا المبحث الثالث: ففي رأيه في الفعل المجهول الصفة، وأما المبحث الرابع والأخير: ففي رأيه في الاحتجاج بالمرسل.
أمّا الفصل الثاني: فجاء ليكشف عن بعض آراء الباقلاني في مباحث القياس، وتحته مبحثان، المبحث الأول: في رأيه في بعض مسالك العلة، أما المبحث الثاني: ففي رأيه في التعليل بأكثر من علّة.
وأما الفصل الثالث: فخصّصته لبعض آراء الباقلاني في مباحث الاستصحاب والاستصلاح، وتحت هذا الفصل أيضا مبحثان، المبحث الأول: في رأيه في الاستصحاب، أما المبحث الثاني: ففي رأيه في الاستصلاح.
ثم الخاتمة: واشتملت على أهمّ النتائج التي تمخّضت عنها الأطروحة.
المنهج المتّبع:
إن هذه الدراسة تُعدّ دراسة أصولية مقارنة، وإنّ مثلها تفرض على الباحث أن يتّبع فيها منهجا يجمع بين المنهج الاستقرائي، والمنهج التحليلي الاستنباطي، فبعد أن يتتبّع الباحث الآراء الأصولية للباقلاني ـ إما من خلال كتابه التقريب والإرشاد، أو كتاب التلخيص لإمام الحرمين، أو من خلال المصادر التي اشتهرت بكثرة نقلها لآرائه، كالمستصفى، والمحصول، والإحكام للآمدي، والإبهاج، وغيرها ـ، ينتقل إثرها إلى العرض والمناقشة، ثم التحرير فالاستنباط.
والتزمت علاوة على ذلك الخطوات المنهجية الآتية:
أولا: أُمهّد للمسألة بما يوضّحها. ثم أُعرّف بالمصطلح إن كان في حاجة إلى التعريف، وأكتفي بتعريف واحد أو تعريفين؛ ليس ـ فقط ـ لأنّ أغلب التّعاريف لم تسلم من الاعتراض، وإنما لكون الخلاف في التعريف ـ غالبا ـ خلافا لفظيا؛ إذْ قد أُعرّف الشيءَ باعتبار صيغته، ويُعرّفه غيري باعتبار دلالته ومعناه. ولهذا فإذا كان القصْد هو إظهار المعنى، فلا مشاحة في الاصطلاح.
ثانيا: أُحرّر محل النزاع في المسألة، ثم أعقد مطلبين: الأول لرأي الباقلاني، مع أدلّته، والثاني: لاعتراضات الأصوليين عليه. ثم أذكر بقية الآراء في المسألة، من غير تعريج على ما استدلّ به كلُّ فريق، إلاّ في أربع مسائل، بدا لي فيها ضرورة ذكر بعض أدلة كلّ فريق. وقبل أن أختم المسألة بذكر سبب الخلاف فيها، مع إبراز ثمرتها الفقهية، أقوم بمحاولة استنتاج، على ضوء ما تقدم من أدلّة واعتراضات.
ثالثا: أنّي لا أتعرّض لرأي الباقلاني في المسألة إلاّ إذا نقل عنه ذلك الرأي ثلاثة من الأصوليين فما فوق.
رابعا: أعرضت عن مجموعة من آراء الباقلاني، التي تمّ اعتراض الأصوليين عليها؛ للأسباب التالية:
ــ إمّا لأن المسألة التي أعرضت عنها لها شبه كبير ببعض المسائل التي تعرضت لها، فيقتضي ذلك تكرار الأدلة، كمسألة: عدم صحة الترجيح بين مسالك العلة؛ لتشابهها مع مسألة: تعارض خبر الواحد والقياس. والقاسم المشترك بين المسألتين هو أن الظنون متقاربة فلا ترتيب فيها، بل إنها على حسب الاتفاقات. وكذا مسألة: قول الصحابي أَمَر الرّسولُ ـ صلّى الله عليه وسلم ـ بكذا، ونهى عن كذا؛ لتشابهها مع مسألة: مرسل الصحابي. والقاسم المشترك بينهما هو التثبت والاحتياط، كما عليه الباقلاني.
ــ وإمّا لأن المسألة المعروض عنها ليست من أصول الفقه، إنّما هي من علم الكلام. كمسألة: هل يُعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال؟، وكمسألة: التّكليف بما لا يُطاق، وكمسألة: حكم الأفعال قبل ورود الشرع، وكمسألة: عصمة الأنبياء.
ــ وإمّا لأنّ المسألة المعروض عنها قليلة الفائدة، أو ليست لها ثمرة فقهية. كمسألة: هل المباح متعلِّق للحكم الشرعي، أم لا؟، وكمسألة: التّبحر في علم الكلام، هل هو شرط من شروط الاجتهاد أم لا؟، وكمسألة: مُنكر القياسِ، هل يُفسّق، أم لا؟. وغير هذا كثير.
هذا من حيث المضمون أما من حيث الشكل.
ــ اعتنيت بضبط الألفاظ، وبخاصة تلك التي يترتّب على عدم ضبطها شيء من الغموض، أو إحداث لبس، أو احتمال.
ــ لا أُعرّف بالأعلام الواردة في البحث؛ لعلمي أن ذلك سيجرُّنا إلى تسويد العشرات من الصفحات.
ــ عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها من السور، وخرّجت الأحاديث والآثار من مظانها الأصلية، وحرَصت ـ قدر المستطاع ـ على بيان درجة الحديث، إن لم يكن مخرجا في الصحيحين.
ــ التزمت في التوثيق وثبت المصادر والمراجع بالطريقة التي تُقدّم اسم الكتاب، على اسم المؤلف.
ــ بالنسبة للمعلومات المتعلقة بالمصادر والمراجع (الناشر، ورقم الطبعة، ومكانها…) اكْتفيت بذكرها في قائمة المصادر والمراجع، إلاّ أن أكون قد اعتمدت طبعة ثانية للكتاب، فإني أذكر معلوماته في الهامش.
ــ وضعت أثباتا عامة للآيات القرآنية، وللأحاديث والآثار، والأبيات الشعرية، والمصادر والمراجع.
وفي ختام هذه الأطروحة ــ التي تناول الباحث فيها بالدّرس والتحليل إحدى وعشرين مسألة ــ أستعرض أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة. وهي كالآتي:
ــ يُعدّ الباقلاني واحدا من الشخصيات المهمّة التي أسهمت في بناء علم أصول الفقه وتطويره، ذلك أنه لم يكن متابعا، لمن سبقه من الأصوليين في كلّ شيء، بل جاء في وقت كان فيه علم الأصول بحاجة ماسّة لتطوير مباحثه، فقام بجهد مشكور من هذه الناحية. يتّضح ذلك من خلال انفراده بآراء كثيرة لم يُسبق إليها.
ــ أنّ للباقلاني تأثيرا كبيرا فيمن جاء بعده، فقلّما تجد كتابا في أصول الفقه لم يتعرّض لنقل آرائه أو لبعضها، والإفادة منها والاستدلال لها، أو الاعتراض عليها، والتّنبيه على موطن الزلل فيها.
ــ أنّ للإمام الباقلاني قدما راسخة في علم الكلام ـ بدليل مؤلفاته التي مرّت معنا ـ ومقاما محمودا في الدّبّ عن عقائد المسلمين، من خلال عرضه لعقائد أهل الزيغ والضلال، وإظهار فسادها وبطلانها، ودحض الشبهات والتصورات الخاطئة، كلّ ذلك بمنهج علميٍّ رصين.
ــ أن الإمام الباقلاني أصوليّ مجتهد، بعيدٌ كلّ البعد عن التّعصب المذهبي، يؤكد هذا ما قرّره في أحد مباحث كتابه، مِن: “أنه لا يَجب نُصرة أصول الفقه على أصل فقيه من الفقهاء وموافقة مذهب من المذاهب…إنما يجب أن يقال بالمذهب؛ لأن الدليل قد دل عليه، لا لأجل أن صاحبه قال به وذهب إليه”([12]).
ــ أن تأثر الإمام الباقلاني بعلم الكلام، أبعده في كثير من الأحيان عن الاستشهاد بالسّنة النّبوية، بل إن إيغاله في الاستدلال بالمعقول ساقه إلى ردّ بعض الأخبار الصحيحة، كردّه ـ رحمه الله ـ، لحديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ، الذي يقول فيه: “البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم”([13])؛ معلّلا ردّه للحديث بأنّه لا معنى لجلد الثّيب، وهو يُدقّ بالأحجار إلى الموت، “وهذا الذي ذكره القاضي لا يسوغ التعلق بمثله في رد روايات الثقات”([14]).
وكردّه لحديث “إنما خيَّرني الله، وسأزيده على السبعين”([15])، بدعوى أنه ضعيف، وغيرُ مُدوَّن في الصحاح.
ــ أن الغوص وبلوغ الأقصى في تحرير وتحبير القواعد الأصولية، دون مسْكها وربطها بالفروع الفقهية، أو دون أن تكون لها ثمرة عملية، يُفقد علم أصول الفقه حيويّته واستمراريته. فالقواعد الأصولية لم تُوضع لذاتها، إنما لترسم الطريق للمجتهد، حتى لا يضلّ وهو يستخرج الحكم الشرعي.
ــ من خلال تتّبعي لآراء الإمام الباقلاني ـ لا سيما التي خالف فيها السواد الأعظم من الأصوليين ـ، والتوقف عند استدلالاته، ألفيت أنّ مُنْطلقه في ذلك تبنِّيه لنظرية التّفْرقة بين الدليل والأمارة، هذه النظرية التي تُخصّص اسمَ الدليل بما هو قطعي، واسمَ الأمارة بما يُفيد الظّن. والحقّ أن هذه التّفرقة ليس عليها دليل، بل جاءت مخالفة لما تواضع عليه الفقهاء والأصوليون، وإن ادّعى الباقلاني أنها: “تواضع من الفقهاء والمتكلمين”([16])، بدليل أن القاضي أبو يعلى، وابن السمعاني، والشيرازي ـ وغيرهم ممّن عاصر الباقلاني، أو عاش في قَرنه ـ، ردّوا هذه التّفرقة، وخطّؤوا من خصّص اسم الدليل بما يُفيد القطع، قال أبو إسحاق الشيرازي: “لأن العرب لا تفرق في التسمية بين ما يؤدي إلى العلم أو الظن، فلم يكن لهذا الفرق وجه”([17]).
أضف إلى ذلك: أنه لو كان اسم الدليل خاصا بما هو قطعي، لما كان لتوصيفه بالقطعي معنى، ولكان توصيفه بالظنّي من باب الجمع بين وصفين متناقضين.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن في اشتراط قطعية أدلة أصول الفقه، تحجير لما وسّعه الشرع؛ حيث سنُخرج كثيرا من الأدلة، كالعمومات، والقياس، وأخبار الآحاد، والاستصحاب، وغير ذلك. بخلاف إذا نحن لم نشترط ذلك، فنكون حينها قد وسّعنا على المكلّف، فلا ينحصر في مذهب واحد. ولنضْرب مثالا على هذا حتّى نقف على سقوط القول باشتراط وجوب العلم في النّقل، فها هو النّبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ بيّن صفة الحجّ لأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ، ثمّ لم يُنقل إلينا نقلا يوجب العلم، حتّى اخْتلف القولُ في صفة إجرائه.
ــ تأثر الباقلاني ـ رحمه الله ـ ببعض الآراء الأصولية للمعتزلة، كمسألة: التّفرقة بين الدليل والأمارة ـ وقد علمت ما فيها ـ، ومسألة: عدم رؤية العمل بالراجح، وهي مبنية على أنه ليس في الظنون مطلوب هو مقصود الطالبين، وإنما هي بحسب الاتفاق. ولا يخفى ما يؤول إليه هذا الرأي، من أنّه لا أصل للاجتهاد. وكمسألة: هل للأمر صيغة تخُصّه؟، ومسألة: النفي الداخل على الحقائق الشرعية، وإن اختلف معهم في تقرير الإجمال فيها.
ــ أن بعض استدلالات الباقلاني التي حاول طرحها على أنها أدلة، ليست بأدلّة، إنما هي من باب المطالبة بالدليل، وهو لا يليق عند المناظرة؛ إذْ لا يلزم من عجز الخصم عن الاتيان بالدليل، صحة دعواه هو.
ــ أن من الخطأ أن ننشأ على اصطلاح حادث، ثم نُحاول إخضاعَ اللّسان العربي لذلك الاصطلاح، كصنيع بعض المتكلمين، حينما اصطلحوا اسم “الدليل” على ما يُفيد القطع، واسم “الأمارة” على ما يُفيد الظّن.
وأخيرا:
لِيعلم القارئ الكريم أن اجتهادات الإمام الباقلاني ــ رحمه الله ــ في هذه المسائل التي خالف فيها السواد الأعظم من الأصوليين لا تحطّ من مكانته العلمية، ولا تنتقص من قدره، بل إنه فيها مرحوم مأجور؛ لأنه كان ينشد الصواب ويتحرّاه.
وصلّى الله وسلم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ المقدمة، لابن خلدون ص: 426.
[2] ـ المحاضرات المغربيات، محمد الفاضل ابن عاشور ص: 65.
[3] ـ من أشهرهم: أبو حنيفة النعمان (80هـ ـ 150هـ)، ومالك بن أنس (93هـ ـ 179هـ)، ومحمد بن ادريس الشافعي (150هـ ـ 204هـ)، وأحمد بن حنبل (164هـ ـ 241هـ)، وداود بن عليّ (200هـ ـ 270هـ).
[4] ـ محاضرات في أصول الفقه، إلياس دردور ص: 35.
[5] ـ هذا ما عليه الجمهور، ولا اعتداد بمن أنكره مطلقا جليّه وخفيّه.
[6] ـ ينظر: المستصفى ص: 165.
[7] ـ محاضرات في أصول الفقه ص: 47.
[8] ـ البحر المحيط 1/5.
[9] ـ هذا السفر الذي انتشله من براثين الضياع الباحث عبد الحميد أبو زنيد. وهو الموسوم بين الباحثين بـ”التقريب والإرشاد(الصغير)”.
[10] ـ ذكر أبو المظفر الاسفراييني أنه يشتمل على عشرة آلاف ورقة. ينظر: التبصير في الدين ص: 193.
[11] ـ ينظر: التقريب والإرشاد(الصغير)، تحقيق: عبد الحميد بن علي أبو زنيد 1/99. ويمكن أن يُستدلّ للقول باختصار هذا الكتاب مرّتين، بما أورده الباقلاني نفسه، قال رحمه الله: “وقد ذكرنا في الكتاب الكبير والأوسط في الأصول تفسير أضعاف هذه الحروف..”، التقريب 1/420.
[12] ـ التقريب والإرشاد(الصغير) 1/305.
[13] ـ الحديث أخرجه الإمام مسلم في باب: حد الزنى، رقم: (1690) ـ 3/1316.
[14] ـ البرهان 1/255.
[15] ـ الحديث أخرجه البخاري من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، باب: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم..) رقم: (4670) ـ 6/67.
[16] ـ التقريب والإرشاد(الصغير) 1/222.
[17] ـ اللمع ص: 5. وينظر أيضا: العدة 1/135، قواطع الأدلة 1/33، التمهيد 1/61.
زر الذهاب إلى الأعلى