التقديم
الحمد لله الحق المبين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
يسعدنا أن نقدم لقرائنا الأعزاء، كتاب “إسهام علم أصول الفقه في نبذ التعصب المذهبي”، وهو بحث في بيان العلاقة بين علم أصول الفقه ونبذ التعصب المذهبي، والذي سوف نرى أنه يندرج في إطار منهج علمي وعقلي شامل لكل المعارف والعلوم، ويقتضي العمل على إحكام الربط بين الأصل وفروعه أو الكلي وجزئياته، مما يعين على فهم وتحليل كل قضية معرفية أو سلوكية بردها إلى أصلها، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، والرد إلى الأصل تمثل على أحسن حال في علم أصول الفقه على يد الإمام الشافعي وتواصل اكتماله بإضافات من جاء بعده، كما أنه منهج عقلي فطري وعلمي، متبع في كل المعارف والعلوم ويعتمد في التحليل والاستقراء والاستنباط، وتقعيد القواعد واكتشاف الأنظمة والقوانين، في مختلف الميادين المادية والإنسانية، الدينية والفكرية.
فالباحث الشاب الدكتور عبد الفتاح محفوظ، يقدم لنا في هذا البحث مقاربة علمية أصولية لمعالجة آفة التعصب المذهبي والتخفيف من حدتها. باعتبارها متفرعة عن الممارسة الفقهية، وما يتولد عنها من خلاف علمي طبيعي، “اقتضته النصوص الشرعية وتنزيلها على الواقع، واختلاف المدارك العقلية البشرية، فما يستنبطه مجتهد قد لا يصل إليه مجتهد آخر فينتج الاختلاف، وللاختلاف أسباب تحدث عنها كثير من الفقهاء قديما وحديثا، وصنفت فيها مؤلفات ما بين مطول ومختصر، إلا أنها ترجع في مجملها إلى نوعين اثنين هما: إما الاختلاف في النصوص وإما في تنزيلها، كما ذكر ذلك الشيخ الفقيه أحمد البوشيخي حفظه الله، ومن لا يفهم الاختلاف تضيق نفسه وتعجز عن إدارك الحكمة الربانية منه..” وهو سنة إلهية جارية على أساس الابتلاء الذي يواجهه الإنسان، في مجالات الحياة وقضاياها الدينية والفكرية بشتى أنواعها.
وجريا على منهج الرد إلى الأصول أو الكليات الحاكمة على الفروع والجزئيات، نحاول في عجالة، تسليط الضوء على ما نعتبره أصل الأصول، وأساسها المكين الذي يصلح أن ندرس في إطاره الواسع، الكثير من القضايا الإنسانية الشاغلة للفكر والمستحوذة على اهتماماته. وأقصد هنا أصل استخلاف الإنسان في الأرض.
فإذا أمعنا النظر في أحداثه الكبرى، المؤسسة بطبيعتها لما سيجري في واقع البشرية على الأرض، منذ أهبط إليها آدم وحواء عليهما السلام مطوقين بأمانة الاستخلاف، تبينا كيف أساء إبليس التعامل مع الاختلاف التفصيلي بينه وبين آدم، وعشا عن إبصار أن ما يجمعهما أعظم مما يفرق بينهما، إذ إنهما يتساويان بعد صفة العبدية لله في خصيصة الحرية في الاختيار، والمسؤولية عن العمل بين يدي الخالق سبحانه، حيث يكون الأفضل والأكرم عند الله هو الأتقى لله والأطوع لأمره، أما الاختلاف في كون أصل أحدهما من نار وأصل الآخر من طين، فلا ينبني عليه تفاضل في ميزان الله وشرعه .
وهكذا، حمل سوء تقدير إبليس لحقيقة الاختلاف بين الجن والإنس، على الإخفاق في الرد إلى الأصل، فلما تجاهل هذه الحقيقة، ولم يعرها ما تستحق من تقدير ويقظة، أدي به ذلك إلى ارتكاب مخالفة أمر الله، وتعريض نفسه لعذابه المقيم في نار الجحيم؟
ولفهم هذا الموقف المحير من إبليس، علينا استحضار أصل الغاية الإلهية من خلق الجن والإنس أحرارا في قراراتهم، ومسؤولين عن مواقفهم وأعمالهم، لكن هل يختار الحر المسؤول الشقاء على السعادة؟ وهو ما صار حقيقة ماثلة في موقف إبليس تجاه أمر الله له بالسجود لآدم، فامتنع وأبى وهو غير جاهل بعاقبة العصيان، لكن يبدو أن هذا السلوك المستغرب لا يفهم بشكل أوضح إلا عندما نضعه في إطار الابتلاء بالاختلاف المذكور بين الجن والإنس، لأن الابتلاء في حقيقته يكرس ويعزز أصلي الإرادة والأمانة لدى الجن والإنس على السواء، فإبليس فشل في تدبير هذا الاختلاف بالنظر إلى كونه من تقدير الخالق العليم، يلزم تقبله والرضى به لا رفضه والتبرم به.
ولقد كانت أمامه فرصة سانحة، ليتراجع عن رفض امتثال أمر الله، والعدول عن الاستمرار في العصيان لما سأله الله تعالى عن سبب اختياره الخروج عن طاعته، لكن افتتانه بالاختلاف بينه وبين آدم، جعله يرى خطأه صوابا واعتراضه على أمر الله وحكمته حقا مستحقا، إذ كيف يسجد لمن يستوي معه في الحرية والمسؤولية، ويرى أن أصله الناري يفضل أصله الطيني، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [الأعراف: 12]، وفاته أن يدرك بأن قصد الله اتجه إلى تكريم آدم، بسجود الملائكة ذوي الشأن العالي والمكانة الرفيعة أكثر منه. لكن انحرافه في التعامل مع أصل الخلاف، أوقعه على ما يبدو في التعصب المفرط لنظرته الذاتية القاصرة، واعتبره تصرفا عاديا بإمكانه الثبات عليه. فالاختلاف المحدود مع آدم، ما لبث أن تطور لديه إلى خلاف عميق وتعصب مفرط لفهمه الشاذ، وتمرده الأرعن على حكم رب العالمين، وأفضى به ذلك إلى أن يمعن في عداوة آدم، الذي اعتبره مخالفا له، رغم أنه كان دائما محايدا ومسالما، وبريئا من أية مسؤولية عما جناه إبليس على نفسه، من مخالفة أمر الله واستحقاق عذابه، وقد آل على نفسه إغواءه بارتكاب هو الآخر مخالفة لأمر الله تعالى بالأكل من الشجرة الممنوعة، حتى يجعله يتساوى معه في العصيان والطرد من الجنة، ولا يبقى له عليه فضل الامتثال لله دون اعتراض أو جحود، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 116، 117].
ولم يكن عجبا أن أول جريمة على الأرض، ستكون على غرار أول جريمة في السماء، بسبب الاختلاف أيضا، وما نجم عنه من تعصب للرأي وللموقف الذاتي، عندما واجه قابيل ابن آدم، ابتلاء صعبا بحالة اختلاف لم يُسلّم بها، فسار فيها على نهج إبليس، وجلب على نفسه عصيان تعاليم الله والتعرض لسخطه.
فتذكر بعض التفاسير بأن حواء كانت تحمل في أول الأمر بتوأمين ذكر وأنثى، وكان شرع الله حينها يقضي بأن يتزوج ذكر بطن بأنثى بطن آخر، فحصل أن توأمة قابيل التي من حق هابيل الزواج منها كانت جميلة جدا، في حين كانت توأمة هابيل التي على قابيل أن يتزوجها ذميمة، فلما تنازعا واختلفا أمرا بأن يقدما قربانا، فمن قبل قربانه تزوجها، فلما رفض قربان قابيل، عمد إلى تهديد أخيه هابيل بالقتل ليتزوجها بلا معارض. فحاول هابيل أن يصرفه عن عزمه؛ فبين له بأن الله لا يتقبل إلا من المتقين، وأنه لن يبسط يده لقتله دفاعا مشروعا عن النفس، حتى يبوء بالاثمين معا، فما كان لديه أي استعداد للرضوخ للحق الصريح، بل بدل لوم نفسه ومراجعتها، اختار اغتصاب حق أخيه واستباحة سفك دمه، تعاميا عن إبصار الرشد غيا وتعصبا لذاته، ولتقديره الشخصي المنحرف وهواه الجامح. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة:27ـ30].
وبذلك يكون إبليس نموذجا أولا ومثالا أسبق، لكل من يزيغ به الفهم و يسوء تقديره في مواجهة الابتلاءات المتعددة، وعلى رأسها الابتلاء بالاختلاف وما يمكن أن تفتعله النفس الأمارة بالسوء على أساسه من خلاف زيغا عن العدل والإنصاف واستباحا لحق الغير، واقتحاما لحدود الفطرة و الشرع، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213]
إن الاختلاف كان وسيبقى سنة إلهية جارية وابتلاء عاما ليس يسهل دوما التعامل معه، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]، فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يستمر وجود الخلاف في فهم دلالة وحيه، الذي هو أساس التكليف ومنهج الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، حيث يشتد خطر انزلاق المرء إلى التعصب لاجتهاده الشخصي وحظوظ نفسه، أو لرأي من يقلده فردا أو مذهبا، مما يوقع في الخلاف المذموم، الذي يؤدي إلى معاداة صاحب الرأي الآخر المخالف وجحود حقه في الفهم، والانحياز التام إلى النظر العقلي المحدود، والاستيعاب الإنساني النسبي للشرع وأدلته، وإلباسه أوصاف الحق المعصوم من الزلل، المنزه عن الهوى والغلط، وغاية ما يملك العلماء تحقيقه بسعيهم لتدبير الخلاف، هو تأكيد وجوده وبقائه عندما يختار كل واحد أو ثلة منهم فهما معينا، يبدو عندهم راجحا وليس قولا فصلا ولاحقا خالصا، أو صوابا لا يتطرق إليه الخلل والنقص من قريب ولا من بعيد.
ولذلك فإن منتهى ما يبلغه اجتهاد العلماء، هو أن يستخدموا قواعد منهجية لتحديد الخلاف وحسن تدبيره، والحيلولة دون انقلابه إلى تعصب مقيت يشل الفكر، ويمنع إبصار الحق وتبينه داخل دائرة الفقه، وفي كل مجالات العلم الشرعي، وعندما ينتهي ابتلاء العلماء المجتهدين بتحرير محل الخلاف وتضييق هوته، يبدأ ابتلاء من دونهم من المكلفين، هل يسيروا على النهج الذي رسموه وينضبطوا له، أم يتجاوزوه إلى تحكيم عقولهم بدافع الهوى والتشهي، فينتقون من الأقوال المتعددة قول مذهبهم ولوكان مرجوحا ويخطئون ما دونه.
ونحتاج هنا إلى تأكيد أن العلم مع قدرته على تيسير تدبير الخلاف، فإنه لا يحسمه دائما، ولا يمنع التعصب الذي قد يقع في إطاره، وما يترتب عنه من مفاسد كثيرة وأخطار مختلفة، إذا كان الأتباع مصرين على أن الصواب لا يتعدد ولا يمكنهم تصوره خارج مذهبهم.
فيمكن القول بأن خلافات معينة، وجدت لترافق البشرية إلى يوم الدين، وكل جيل من العلماء يواجه نفس إشكالاتها ولا يستطيع حسمها، ولا التخفيف من حدتها أو إنهائها تماما، لأن الله تعالى أرادها ابتلاء عاما للعقل الإنساني على مدى الحياة الدنيا. {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19] وكلمة الله التي سبقت يبدو أنها مشيئة الله بابتلاء الناس فيما اختلفوا فيه من أمور الدين اعتقادا وسلوكا، والتي لن يتم الفصل فيها وإزالة ما اعتراها من التباس إلا يوم القيامة من لدن العليم الحكيم، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25].
فما يلاحظ من توافر الخلافات بين العلماء في كل أمر من أمور الدين والدنيا، وامتناع تعطيلها نهائيا، يعزز حرية الإنسان ومسؤوليته عما يختاره من الأقوال والآراء، وما يرتضيه من الأفكار والتوجهات، وما يراه منها راجحا فيعمل به أو مرجوحا فيجتنبه، ويثري الفكر وينوره ويجعله أكثر قدرة على الموازنة والترجيح وتبين الحِكَم والأحكام التشريعية، كما أن الضيق بالخلاف ورفضه من حيث الأصل، سدا لذريعة الانقسام والفرقة مجاف لمشيئة الله وحكمته. ومن ثم فلكل فرد أن يتعبد الله بما يختاره من الخلافات الفقهية عن وعي بغيرها،” على أن لا يتبع الرخص وينتقل من مذهب لآخر في كل نازلة، وإنما يختار مذهبا يراه باجتهاد منه أقرب إلى الصواب والرجحان، فيلتزم فتاويه” باعتباره الأقرب لروح الشرع ومقاصده، وعليه ألا يتوانى في التماس العذر لمن يختلف معه، فلا يتهم نيته بعدم الحرص على اتباع الصواب، ولايتهم عقله بالضعف والنقصان واختلال التفكير.
كما ينفع في هذا السياق، بيان أن المطلوب شرعا في مجال الخلاف الفقهي، استفراغ الجهد للتوصل إلى الحكم المتاح، دون ادعاء أنه الحق الذي لا يمكن أن يصح غيره.
فالله تعالى هو الذي يقسم الفهم في دلائل شرعه، فيعطي أحدا أكثر أو أقل مما يعطي غيره، بمعنى أن اتخاذ أسباب طلب العلم، لا يضمن لأحد تحصيل الحقائق وبلوغ منتهى السداد فيها، بحيث يدعي العصمة لاجتهاده، وإنما تكون النتائج على حسب توفيق الله وعطائه، وهذه القاعدة مطردة كذلك في مجالات المعرفة المختلفة.
والمكلف مطالب حال تعدد الأقوال والمقاربات الاجتهادية، إذا كان مؤهلا لممارسة الترجيح، باختيار ما اطمأنت إليه نفسه وغلب على ظنه أنه الأصوب والأعدل. كما أنه بإمكانه ألايقتصر على القواعد الأصولية المعهودة، إذا لم تف بالغرض وحاك في نفسه شيء من نتائج اعتمادها.
فقد جاء في الحديث الذي حسنه النووي والألباني، أن وابصة بن معبد رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك”.
ويكون رأي الجماعة ملزما للفرد حتما في المعلوم من الدين بالضرورة، وفي القضايا المجمع عليها، وكلما تعلق الأمر بتقدير المصلحة العامة، وتقريرها من طرف المخولين بذلك، وهو مجال يفسده الاختلاف ولا يصلحه إلا الاتفاق.
وإذا كان الحق واحدا لا يتعدد في غالب الأحوال، فإن أفهام العلماء والمجتهدين هي التي تتعدد وتختلف، ولكل واحد التزام ما يراه راجحا، دون أن يلزم به غيره ممن لا يرى رأيه، لأن الأدلة حين تكون ظنية الدلالة تحتمل أكثر من فهم، ولا يسوغ حصرها في قول أو مذهب مع وجود أفهام أخرى معتبرة، كما لا يصح أبدا جعل الإدراك لمسائل وقضايا شائكة، ومنفتحة على فهوم وتأويلات مختلفة فهما واحدا لا يتعدد أبدا.
وأحسب أن الإقرار بهذه الحقائق والتزامها، من شأنه منع التمادي في بعض الاتجاهات التصورية والسلوكية التي تغذي عادة التعصب المذهبي، المثير للعداوات بين المنتسبين للمذاهب الفقهية، كما تشهد بذلك وقائع التاريخ في القديم والحديث.
فالله تعالى لم يكلفنا دائما بإدراك الحق في كل نازلة أو معضلة، على تمامه وكماله دون زيادة أو نقصان، لكنه سبحانه يحاسبنا إذا قصرنا في طلبه، والاجتهاد في بلوغ أعلى دراجاته الممكنة، بحسب ما منح كل شخص من طاقات العلم والفهم والتفكير، كما أن عملنا وفق إدراكنا، وضمن تراث العلماء ومذاهبهم، إذا اقتنعنا به وارتضيناه بصدق وإخلاص، هو ما يرضاه الله منا ويتوافق مع اضطلاعنا بمسؤوليتنا العلمية والعملية.
فالله نسأل أن يسدد فهمنا للدين ويسدد سيرنا على نهجه
رئيس مركز الأمانة
عبد السلام محمد الأحمر
زر الذهاب إلى الأعلى