الأستاذ الباحث طارق الحمودي
لقد سبق ظهور معالم النهضة الفكرية الحديثة في المغرب إرهاصات أثرت في طبيعتها ومعالمها، ومثلت العمق التاريخي المؤسس، وكان أبو علي الحسن اليوسي J ـ ـ الدلائي هوى ومصيرا ـ أحد أبرز إرهاصاتها في القرن الحادي عشر الهجري الموافق للقرن الثامن عشر الميلادي، وقد عاصر «فترة حاسمة من تاريخ المغرب، تلك التي تعرفها الشعوب عند تفكك وانقراض دولة، وإرهاصات قيام أخرى».
وبدت ملامح فكره الإصلاحي السياسي في رسائله للسلطان المولى إسماعيل الداعية إلى العدل والصلاح، وفي كتابه “المحاضرات في اللغة والأدب”، فقد كان ممن «أخذ العلم على أنه رسالة وأمانة، قوامها الجهاد المتصل من أجل الأخذ بالمفاهيم الأصيلة في الكتاب والسنة، ومن كان حربا على الشعوذة والعقلية الخرافية، والاستغلال والارتزاق بالدين تماشيا مع فهمه الحي الواعي لحقيقة الإسلام، ولتبعاته ومسؤولياته كعالم مسلم».
ووصفه التستاوي بـأنه كان ذا «عقل كبير ونفس تواقة»، وقد كتب رسائل نقدية للتصوف، وأخرى في الرد على طائفة العكاكزة وفي بعض المسائل الكلامية كما في “رسائل أبي علي اليوسي” وكتابه “القانون”، وكان كل هذا منه شبه صيحة إيقاظ من نوم ركود فكري عم وطم.
“هذه الصيحة التي أطلقها اليوسي في مطلع القرن الثاني عشر الهجري، تعد النواة الأولى لتلك الكتابات التنويرية، والشعارات الصادقة التي لوحت بها الحركة السلفية، أو الفكر الإسلامي الحديث، كما يطلق عليها أحيانا، لحث الشعوب العربية على النهوض بعد معاناتها من ليل بطيء الكواكب، خيل معه للبعض أن الصبح ليس بقريب”.
ومثله تلميذه أبو علي برحال، فقد جرى على نهجه، فكان حريصا «على الحوار الفقهي فيما ينجم من النوازل التي تقتضي اجتهاد أهل الفقه واستمدادهم من مصادر الشريعة، ومراعاتهم لما يناسب من أعراف الناس وعاداتهم…
دلت كثير من مواقف ابن رحال واختياراته الفقهية أنه كان مهتما جدا بواقع بيئته، ميالا إلى إصلاح انحرافات عصره، ومثله أيضا تلميذه الآخر أبو الحسن علي العكاري المراكشي الأصل الرباطي القرار الذي يصفه عبد الله السويسي بكونه من أعلام الانبعاث وواضعي أسس النهضة العلمية والمتوفى سنة 1118هـ.
وقد اشتهر بتأسيسه لمدرسة علمية أسهمت في إنعاش الحركة الفكرية بعد ركودها نحوا من قرن من الزمان، وكان بعده المولى محمد بن عبد الله 1171هـ-1204م/1757-1790م والذي يشبه أن يكون ملمحا ملكيا من ملامح اليقظة المبكرة خصوصا في مجال التعليم والثقافة والفكر.
و”كان مفكرا حرا، ومصلحا اجتماعيا ودينيا، وداعيا من دعاة الوحدة الإسلامية”، وكان أول من أعلن المخالفة لما كان عليه الفقهاء المغاربة، واختار لأجل ذلك وسيلتين، “أولاهما اعتناؤه بالحديث ومحاولته استعماله كمصدر مباشر للتشريع، وثانيهما تبنيه العلني للعقيدة الحنبلية”.
فقد ناصر السلطان الفكرة السلفية معللا اختياره لحالتها بكونها «سهلة المرام، منزهة عن التخيلات والأوهام، موافقة لاعتقاد الأئمة كما سبق مع السلف الصالح من الأنام» «لذلك كان السلطان سيدي محمد يدعو إلى نبذ علم الكلام ويفضل الأخذ بظاهر القرآن والسنة ويعتبر أن المنطق وعلوم الفلاسفة بدعة من أهل الأهواء، وهذا الاقتناع هو الذي دفعه إلى مهاجمة الأشعرية ورفض مؤلفات أبي حامد الغزالي الذي انساق حسب سيدي محمد مع المغرضين وأهل البدع عندما شغل نفسه بالرد عليهم»، فأصدر منشورا سنة 1203 هـ بين فيه ما ينبغي الاشتغال به تدريسا وتعليما في المدارس والمساجد، إيجابا ومنعا.
ومن ذلك منعه الاشتغال بالفلسفة وعلم الكلام إلا على من يحسنون ذلك ممن يؤمن عليهم الافتتان بشيء منها، وكان للمنشور «تأثير ظاهر في إحياء علوم التفسير والحديث، وإذكاء الرغبة فيهما… وتأثر الفقه أيضا بروح المنشور فانتعش بعد الانتكاس، وسرت فيه نسمة الحياة، فلم يبق قاصرا على نصوص الفقهاء المجردة، وأقوال الخلافيين غير المسندة، وذلك بفضل انتشار كتب السلف والاطلاع على آثار الأقدمين مع حسن النظر في الكتاب والسنة، والفقهاء النابغون في هذا العصر لا يأخذهم الحصر، إنما نحن نشير لمن كانت لهم يد ظاهرة في تجديد رسوم الفقه، ولا يزال تأثيرهم على العقول قويا ظاهرا حتى وقتنا هذا، كأبي علي برحال والبناني والرُّهوني».
وكان للعلوم العقلية والطبيعية والطب أيضا نصيب من هذا التجديد وكان مما يدل على توجهه الإصلاحي تحبيس كتب جده السلطان إسماعيل وتوزيع ما فيها من كتبت ناهزت اثني عشر ألف مجلد على مساجد المغرب لتعميم الفائدة منها.
ولا يفوتني التنبيه على ما ورد في المنشور من النهي عن دراسة علم أصول الفقه، وسد باب الاجتهاد الفقهي لأن الأمر قد فرغ منه، وهو أمر مشكل، فأصول الفقه آلة الاجتهاد، والاجتهاد مفتاح التوسع في فقه النوازل والأحكام والله أعلم.
واستمرت إرهاصات النهضة تتضح أكثر، فكان “أحمد بن خالد الناصري” أحد أعلامها البارزين، وهو صاحب كتاب “الاستقصا”، والذي ظهرت فيه الشخصية الإصلاحية المنتقدة للأوضاع، فله كتاب “تعظيم المنة في نصرة السنة” الذي انتقد فيه بدعا وخرافات وممارسات شركية كانت منتشرة في أوساط الزوايا الطرقية في المغرب.
فـ«كان في سلوكه سني الطريق، شديد الإنكار على أهل البدع، عاملا على زجرهم وردهم إل الكتاب والسنة، منددا بالطوائف وأرباب الأهواء الذين أدخلوا في الدين الإسلامي ما ليس منه، حتى شوهوا وجهه، معتقدا أن كل تأخر بالإسلام والمسلمين إنما أتى من هاته النزعات والبدع» ولعل أبرز من نالته الدراسات الفكرية والتاريخية باعتباره الإرهاص الأساس لحركة النهضة الفكرية المغربية هو “محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي”، والذي اجتمعت فيه أجزاء نظرية الإصلاح، وخص الدارسون البعد التربوي والثقافي في مشروعه النهضوي التجديدي بالدراسات والأبحاث، فأصدر سعيد بنسعيد العلوي كتاب “الفكر الإصلاحي المعاصر، محمد بن الحسن الحجوي، دراسة ونصوص”، وحميد الصولي كتاب “نظرية التحديث في الفكر المغربي، 1844-1944” مع إيراده لشخصيات أخرى سوى الحجوي.
يقول حسن بن أحمد الحجوي: “كان من بين المهتمين والمنظرين في الميدان العسكري جملة مؤلفين وعلماء حملتهم الحمية الدينية على بث أفكار يقظة في مؤلفاتهم، أمثال الكردودي في كتابه كشف الغمة، وأبو الحسن التسولي في مؤلفه “البسيط”، والمهدي بن سودة ضمن فتاويه حول مشروعية تطوير الجيش والسلاح التي قدمها هؤلاء للسلطان محمد بن عبد الرحمن بطلب من هذا الأخير عقب هزيمة إيسلي، وكلهم ألحوا على إعادة النظر في نظام الجيش المغربي لتقويته وتزويده بالتقنيات القتالية والآليات الخفيفة لنقل السلاح والجرحى.
و”تكاد تجمع الدراسات المؤسسة على تتبع أعمال الحجوي وكتاباته ومحاضراته على أن مشروع الحجوي كان قائما على التوفيق بين العقل والنقل كما يبدو ذلك في محاضرته “التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين”، فكان رحمه الله نموذجا للفقيه الأصيل المعاصر لمقتضيات النوازل والحوادث، ويبدو ذلك في كثير من مؤلفاته ومواقفه.
وتخلص سعيدة سوهال إلى أن مشروع الحجوي الإصلاحي كان قائما على قوانين ثلاث، هي التعليل والاجتهاد والتيسير، وهي معالم مؤسسة لدعوة إصلاحية متكاملة وهادفة، تجعل من الشرع أصلا لكل مشروع نهضة إسلامية بتوظيف العقل في الفهم والتنزيل والملاءمة.
عن موقع هوية بريس
زر الذهاب إلى الأعلى